زينب فخري
شكك البعض في نهج البلاغة ونسبته إلى الإمام علي (عليه السلام)، كلّه أو بعضه، وربما قصدوا أكثر من مجرد التشكيك ، وأتهم الشريف الرضي – جامع الكتاب- بأنّه مؤلفه وواضعه. ولأنّ هذا الكتاب جزء من التراث الإسلامي والعربي فالاهتمام بمسألة "الشك" والبحث فيها ودراستها لها بالتأكيد قيمة علمية استثنائية.
ولعلّ أوّل من بذر بذرة التشكيك في نسبة النهج إلى الإمام عليّ عليه السلام وفي جمعه هو ابن خلّكان (٦٠٨-٦٨١ هـ)، صاحب كتاب (وفيّات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان) حيث قال في ترجمة سيرة وحياة السيّد المرتضى: "وقد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، هل جَمْعُهُ أم جَمْعُ أخيه الرضيّ؟ وقد قيل: إنّه ليس من كلام عليّ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هو الّذي وضعه، والله أعلم". إنّ ابن خلّكان قد اتبع الظن وبذر بذرة التشكيك ولم يأت على ذلك بأي دليل، وأعجب من ذلك أنه نقل اختلاف الناس فيمن هو الجامع أو المؤلّف هل هو السيد المرتضى أو الرضي؟ مع أنّه لم يختلف اثنان إلى عصر ابن خلكان في أنّ الجامع هو الرضي وقد صرح به في غير واحد من آثاره.
ثمّ جاء من بعد ابن خلّكان من يتابعه على هذا الرأي الفاسد، فنسج على منواله شُبهاً وأوهاماً هي أوهى من بيت العنكبوت، ومن هؤلاء : ابن تيميّة (المتوفي سنة ٧٢٨هـ) في (منهاج السنّة) إذ يقول: "وهذه الخطب المنقولة في نهج البلاغة لو كانت عن عليّ ومن كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنّف (أي كتاب نهج البلاغة)، منقولة عن أعلى الأسانيد".
ثمّ الذهبي (المتوفي سنة ٧٤٨هـ) الذي قال في كتابه ( ميزان الاعتدال): "من طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فأنّ فيه السب الصريح والحط من السيدين أبي بكر وعمر". وكذلك ابن حجر العسقلاني (المتوفي سنة ٨٥٢هـ) الذي شكك في نسبة نهج البلاغة لأمير المؤمنين (ع)، إذ أتهم الشريف الرضي بنحل نهج البلاغة، إذ قال: "وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة, ومن طالع نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين ففيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القريشيين الصحابة ونفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل".
وتابعهم على هذا الرأي الباطل آخرون كالصفدي (ت ٧٦٤هـ)، واليافعي (ت ٧٦٨هـ)، وجرجي زيدان (١٣٣٢هـ).
وعلى مرّ العصور والأزمان يظهر من يشكك بنسبة نهج البلاغة للإمام علي (ع)، فمن بين المشككين في الوقت الحاضر : أحمد أمين (ت ١٩٥٤م) في كتابه ( فجر الإسلام) ، أحمد حسن الزيات ( ت ١٩٦٨م) في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، وآخرون غيرهم من سلكوا هذا المسلك التشكيكي والطعن بهذا الأثر الإسلامي الخالد.
ويستندون هؤلاء في تشكيكهم على جملة أمور منها :
أوّلاً: إتهام ابن حجر العسقلاني بأن فيه التناقض وركاكة العبارة.
ثانياً: إتهام الشريف الرضيّ بأنّه واضعه وليس جامعه.
ثالثاً: من الشُبه الّتي حامت حول "نهج البلاغة" شبهة الزيادات فيه، فقد زعم بعضهم أنّ الشريف الرضيّ بعد فراغه من جمع نهج البلاغة ترك أوراقاً من البياض في آخر كلّ باب من أبوابه الثلاثة "لاقتناص الشارد واستلحاق الوارد"، فلم يبقَ "النهج" على ما وضعه الرضيّ بل تعرّض لإضافات وزيادات حتّى بلغ إلى هذا الحدّ من الضخامة.
رابعاً: التشكيك بنسبته للإمام علي (عليه السلام) بعضه أو كلّه لافتقاره للسند
خامساً: إنّ نهج البلاغة فيه مطالب كلامية وفلسفية لم تكن معروفة في ذلك الوقت
سادساً: فيه أخبار غيبية يستحيل أن تصدر عن رجل مثل الإمام علي (عليه السلام
سابعاً: بعض الخطب فيها سب للخلفاء ولبعض الصحابة
ثامناً: بعض كلمات الإمام (ع) مثيرة للجدل حتى عند بعض الإمامية
تاسعاً: موقف الإمام (ع) من المرأة ووصفها بأوصاف سلبية
الردود على هذه الإتهامات :
أولاً : الرّد على ابن حجر العسقلاني وقوله أنّ نهج البلاغة فيه تناقض وركاكة قول مهمل فاقد الدليل. فالكثير من المتقدمين والمتأخرين يصفونه بأنّه السبيل إلى البلاغة ويكفي أن نستشهد بقول الإمام الشيخ محمد عبدة وهو أحد شراح النهج، إذ يقول: "فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها، وليصيبوا بذلك أفضل غاية وينتهوا إلى آخر نهاية"
ثانياً: الرّد على اتهام الشريف الرضي بأنّه واضعه
أ- إنّ الشريف الرضي وهو : محمد بن الحسين بن موسى ، أبو الحسن الرضي نقيب العلويين ببغداد أخو المرتضى والمتوفى ٤٠٦هـ ، لم يكن أوّل جامع خطب أمير المؤمنين (عليه لسلام)، فقد سبقه كثيرون في هذا المضمار، نورد على سبيل المثال لا الحصر أسماء من تصدّوا لذلك، منهم:
- زيد بن وهب الجهني الكوفي (المتوفي سنة ٩٦ هجري)، صاحب الذريعة الذي شهد صفين، وهو أوّل من جمع خطب الإمام علي (ع) التي ألقاها على المنابر في الجمع والأعياد.
المدائني الأخباري وسماه ابن النديم "خطب علي وكتبه إلى عماله". -
مسعدة بن صدقة العبدي الكوفي الراوي عن الإمام الكاظم المتوفي سنة ١٨٣ هجري، وكان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام).
- الواقدي
ب- واعتمد الشريف الرضي على كتب عدّة ، نذكر منها
- خطب أمير المؤمنين ; لأبي يعقوب إسماعيل بن مهران بن محمد السكوني الكوفي، المتوفّى بعد سنة ١٤٨ هـ (ذكره النجاشي والطوسي
خطب علي; لأبي إسحاق إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي المفسر من رجال القرن الثامن
كتاب الخطب; لأبي إسحاق إبراهيم بن سليمان بن عبد الله بن خالد النهمي ـ نسبة الى منهم، بطن من همدان الكوفي الخزاز، وله مقتل أمير المؤمنين من رجال القرن الثاني
كتاب رسائل علي وحروبه; لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي (المتوفّى ٢٨٣ هـ)، وله كتاب كلام علي في الشورى، وله كتاب بيعة أمير المؤمنين، وله كتاب مقتل أمير المؤمنين (ذكرها الطوسي).
طب أمير المؤمنين ; لأبي الخير صالح بن أبي حمّاد الرازي، المتوفّى بعد سنة ٢١٤ هـ ، من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) . (ذكره النجاشي) .
- خطب عليّ; لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي الأزدي البصري المتوفّى سنة ٣٣٢ هـ ، وله كتاب شعر علي، وله كتاب ذكر كلام عليّ في الملاحم، وله كتاب قول علي في الشورى، وله كتاب ما كان بين علي وعثمان من الكلام، وله كتاب الأدب عن عليّ، وكتب أُخرى فيها آثار الإمام (عليه السلام) : رسائل علي، ومواعظ علي، وخطب عليّ. (ذكرها النجاشي
خطب وكتب أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ; لأبي المفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار، المتوفّى سنة ٢١٢ هـ ، (ذكره النجاشي)
خطب عليّ (عليه السلام) ; لأبي منذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، المتوفّى سنة ٢٠٦ هـ ، كان والده محمد من أصحاب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ، وله تفسير القرآن، توفّي سنة ١٤٦ هـ ، وجدّه السائب، وأخوه عبيد وعبد الرحمان، وأبوهم بشر شهد الجمل وصفين مع أمير المؤمنين (عليه السلام) . (ذكره النجاشي).
ج- تصريح الشريف الرضيّ نفسه بأنّه هو الجامع للنهج وأنّه من كلام الإمام عليّ عليه السلام، وإنّ نهج البلاغة اسم وضعه الرضي لكتاب جمع فيه المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه، وجعله يدور على أقطاب ثلاثة:الخطب والمواعظ، والعهود والرسائل، والحكم والآداب. وقد بيّن ذلك الرضي نفسه في مقدّمة الكتاب وقال: «علماً بأنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب.
د- اتفاق محقّقي العلماء والمؤرّخين على أنّ نهج البلاغة من جمع الشريف الرضيّ وحده، لا من جمع غيره، بحيث إنّه انفرد وحده في القيام بهذا العمل ولم يشترك أحدٌ معه في ذلك. وعليه لا يضرُّ بذلك ما يقوله بعض الشُذَّاذ.
ه- إجازات تلاميذ الشريف الرضيّ وسلسلة تلاميذه من بعدهم خلفاً عن سلف بما يصل إلى حدّ التواتر. وهذه الإجازات تتضمّن نسبة هذا الكتاب إلى الشريف الرضيّ وحده.
ويبدو أنّ الشريف الرضي قد اختار محاسن كلام الإمام علي (ع) مما يعني أنّه جمع القليل وترك الكثير، إذ يقول المسعودي (المتوفّى ٣٤٦ هـ) صاحب كتاب مروج الذهب: "والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة. وتداول الناس ذلك عنه قولاً وفعلاً".
وقد أنصف الأستاذ علي العرشي الحنفي في كتابه «استناد نهج البلاغة»بقوله: «ليس بخاف على أبناء العلم والمولعين به أنّ معظم محتويات نهج البلاغة توجد في كتب المتقدّمين ولو لم يذكرها الشريف الرضي، ولو لم يعر بغداد ما عراها من الدمار على يد التتر، ولو بقيت خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كلّ مقولة مندرجة في نهج البلاغة» .
ومن المفيد جدّاً أن نذكر هنا ما قاله الأمير شكيب أرسلان (المفكر والكاتب اللبناني، المتوفي ١٩٤٦) عندما سُئل عن رأيه فيما ذكره أحد الجالسين في محضره من أنّ نهج البلاغة موضوع على لسان الإمام عليّ عليه السلام حيث قال:إذا كان نهج البلاغة موضوعاً فمن هو واضعه؟ هل هو الشريف الرضيّ؟ فقالوا له: نعم. فقال: إنّ الشريف الرّضي لو قُسِّم أربعين رجلاً ما استطاع أن يأتي بخطبةٍ واحدة قصيرة من خطب نهج البلاغة، أو جملةٍ من جمله، ونهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام دون شكٍّ أو ريب، ولكنّ الّذي أوجب الشكّ فيه اشتماله على القدح في الصّحابة الّذين هم مقدّسون في أنظار الناس..
ثالثاً: الرّد على شبهة الإضافات في نهج البلاغة
وهذا الاتهام يشبه القول بان نهج البلاغة من وضع الشريف الرضيّ، وهي مردودة لأمور:
إنّ النسخة الّتي بخطّ الرضيّ كانت موجودة في زمن ابن أبي الحديد المتوفّى سنة (٦٥٥ أو ٦٦٦) هـ، والّذي ألّف شرح نهج البلاغة ما بين سنة (٦٤٠) و (٦٤٤)هـ. "فالنهج" إلى هذا الحدّ سالم من التغيير والإضافة، بل وإلى زمن كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى سنة ٦٧٦هـ .
كما إنّ العادة كانت جارية بأنّهم يروون "نهج البلاغة" خلفاً عن سلف، ولا يكتفي بعضهم بروايته من طريق واحد. هناك نسخ خطيّة من "نهج البلاغة" لا تزال موجودة تختلف تواريخها ولا تختلف محتوياتها. فمن أين تسرّبت هذه الزيادات؟ ولماذا لم يُعثر على نسخة واحدة خالية من هذه الإضافات المزعومة؟! ولماذا لم يقل بهذا أحدٌ من القدامى حتّى الّذين يذهبون إلى أنّ في (النهج) شيئاً "منحولا"ً؟ وكيف تواطأ ناسخو النهج وشرّاحه ورواته مع اختلاف أوطانهم وأزمانهم، بل واختلاف مذاهبهم ومشاربهم على الإضافة والتغيير؟
رابعاً: الرّد على التشكيك بنسبته للإمام لحذف أسانيده
في معرض رده على من يشك بنسبة نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: " إن كثيراً من أرباب الهوى يقولون أنّ كثيراً من نهج البلاغة محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة, وربما عزوا بعضه إلى الرضي وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بينات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام. وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول إلا يخلو أما أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه, والأوّل باطل بالضرورة لأننا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين(ع)، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض من ذلك، والثاني يدل على ما قلنا لأن من أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بدّ أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد.. وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً أو نفساً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه في الماهية.
إذن ابن أبي الحديد استدل على صحة نسبة نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين(ع) بدليلين: الأوّل: التواتر والثاني: الأسلوب الواحد والنسق الواحد والنفس الواحد. والتواتر الذي استدل به ابن أبي الحديد هو لبعض نهج البلاغة وليس لجميعه، فيبقى البعض الآخر خارج التواتر، لذلك احتاج الدليل الثاني لإثبات مدعاه.
والتواتر هو أحد وسائل الإثبات في نسبة كتاب أو كلام إلى قائله، لذلك هو يفيد العلم واليقين بصدوره ونسبته إلى صاحبه لكثرة الذين تداوله لدرجة أصبح معروفاً ومشهوراً.
وما لم يثبت بالتواتر نثبته إضافة إلى ماذكره ابن أبي الحديد – بشخصية الشريف الرضي (٣٥٩ – ٤٠٦هجري)، فلقد كان ملتزماً بالشرع وزاهداً ومعروفاً بالتقوى والعفة وكرامة النفس والوفاء... فكيف يجمع خطباً ورسائل ومواعظ لم يتحقق أنّها لأمير المؤمنين؟ هذا ناهيك عن بطلان تهمة أنه مؤلفها.
إذ يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه عبقرية الشريف الرضي حول دعوى كذب نسبة كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين(ع): "أما ضمير الشريف الرضي فهو عندي فوق الشبهات وهو قد خدم التشيع بصدق لا بافتراء، فأن كان في جمع آثار علي بن أبي طالب خدمة سياسية لمذهب التشيع، فهو ذلك. ولكنها خدمة أديت بأسلوب مقبول هو إبراز آثار أمير المؤمنين ولا يعاب على الرجل أن يخدم مذهبه السياسي بجميع الوسائل والأساليب مادام في حدود العقل والذوق.
خامساً: الرّد على أن نهج البلاغة فيه مطالب كلامية وفلسفية لم تكن معروفة في ذلك الوقت :
أوّلاً: الإمام علي (عليه السلام) وصف علاقته بالرسول (ص وآله) بقوله:"ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص وآله) وخديجة وأنا ثالثهم، أرى النور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة". كان إتباعه لرسول الله (ص وآله) لأخذ العلم الذي كان الرسول يتلقاه عن طريق الوحي الإلهي، والإمام علي (ع) هو القائل:" سلوني قبل أن تفقدوني"، وأن أمره (ع) بسؤاله دون أن يحدد نوع المسؤول عنه بعلم خاص، لدليل واضح على أنّه سيد الفلاسفة وإمام الحكماء. وقد قال عنه رسول الله (ص وآله): "أنا مدينة العلم وعلي بابها". ثانياً: لقد تكلم الإمام علي (ع) بالمسائل الفلسفية والكلامية عندما خرج من المدينة ودخل بلاد ما بين النهرين التي كانت تمتاز بقدمها التاريخي لعدّة آلاف من السنين، ووجود حضارات معاصرة للإسلام في بلاد فارس والرومان واليونان... لذا تهيأت الأرضية المناسبة لطرح المسائل الكلامية والفلسفية في وسط يمتاز بحضارة عريقة. وحول هذه الآراء والأفكار الفلسفية والكلامية التي طرحها الإمام علي (عليه السلام)، قال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي: "إنّ عامة ما ذكرنا من كلامه – وما لم نذكره في التوحيد والثناء على الله وتذكيره ومواعظه قد تحلى بها أكثر المتكلمين..، وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من كلامه فهو المشهور مذكور عند أهل الرواية وبالأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف".
وقال الأديب اللبناني جورج جرداق:"والحكمة بما هي نظر نافذ وعقل محيط وحس أصيل وقوة على الحصر والاستنباط والإيجاز ثمّ جهد دائب على ذلك جميعاً، أنما هي من آثار الإمام علي... وقد كان لهذه الحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الإسلامية في طبعها بطابع إنساني... وقد أكثر الإمام في النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري، وفي أمور التوحيد والإلوهية والتطلع إلى ما وراء الطبيعة، فكان كما مرّ معنا مؤسس علم الكلام وفلسفة الإلهيات في الإسلام وكان أستاذاً اعترفت برشده وأصالته كلّ من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات وهو له أتباع وشارحون، وفي كتابه العظيم نهج البلاغة فيض من فرائد الحكمة التي يجلس بها في الصف الأوّل بين حكماء الأمم... ومن هنا نشأ علم الكلام ، فأنّ الأوائل من أصحاب هذا العلم لم يسبقوا إلا من معين علي بن أبي طالب ولم تتوفر لديهم أسباب إلا عن طريقه، وأنّ الأواخر ظلوا يهتدون به ويعتبرونه إمامهم وإمام الأولين...".
سادساً: الرّد على اتهام أن فيه أخبار غيبية يستحيل أن تصدر عن الإمام (عليه السلام
يقول الشيخ يوسف علي السبتي في كتابه (نهج البلاغة في دائرة التشكيك؟!) لقد أخبر الإمام علي (عليه السلام) في مناسبات عدّة عن أحداث غيبية سوف تحدث في المستقبل، وأشار بعض الباحثين إلى أنّ بعضها قد حدث فعلاً، وبعضها بقي في دائرة الاحتمال في تطبيقه على هذا الحدث أو ذاك. السؤال هو لماذا تحدث الإمام (ع) عن هذه الأمور الغيبية؟ وما الدوافع لهذه الاخبارات الغيبية؟
ويمكن أن نقول إنّ الهدف منها أمران:
الأوّل: تثبيت قلوب الشيعة وأنصاره وجيشه الذي كان خليطاً من فئات شتى، لأنّ العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين وأكثرهم يحاربون معه من أجل الحمية والنخوة العربية. فالمعارك التي حدثت في عهد خلافته كانت بين المسلمين، خصوصاً معركة الجمل، ولم يكن الأمر هيناً، لكن عندما يسمع أحد أفراد جيشه أن قائده يتحدث عن أمور غيبية لم يعتد سماعها من أحد من الناس، ثمّ يرى أن هذه الاخبارات تعود إلى علم تعلمه من رسول الله (ص وآله) فسيحصل له العلم واليقين والإطمئنان بأن صاحب هذه الراية صاحب حق والآخرون على باطل خصوصاً أن بعض هذه الاخبارات الغيبية قد حصلت وراءها الناس كقوله (ع) حول مصير الخوارج: "لا يفلت منهم إلا عشرة".
الثاني: إلقاء الحجة على الخصم وتذكيره بأن مثل هذا الذي يتصف بخصوصية أن يخبره الرسول الأكرم باخبارات بعضها سوف تحصل معه مباشرة، كيف لا تكون رايته راية الحق؟ وقد قوبلت هذه الأخبارات الغيبية بالتكذيب وبلغ ذلك الإمام علي (ع) فقال: "... وقد بلغني أنكم تقولون علي يكذب، قاتلكم الله، فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيه؟ فأنا أوّل ن صدقه. كلا والله لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها...". وقال (ع) في موضع آخر: "أتراني أكذب على رسول الله (ص وآله)؟ والله لأنا أوّل من صدقه، فلا أكون أوّل من كذب عليه".
قال ابن أبي الحديد: "هذا كلام قاله (ع) لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم عن النبي، من أخبار الملاحم والغائبات وقد كان شك منهم جماعة في أقواله ومنهم من واجهه بالشك والتهمة". فهذه الاخبارات الغيبية هي عن الله تعالى بواسطة رسول الله ، فلو كان كلامه كذباً فهذا يعني أنه يكذب على أحدهما وهذا يتنافى مع كونه أوّل مؤمن بالرسالة المحمدية.
سابعاً: الرّد على اتهام أن بعض الخطب فيها سب للخليفتين ولبعض الصحابة
أوّلاً: يقول الشيخ يوسف علي السبتي في كتابه (نهج البلاغة في دائرة التشكيك؟!): " أننا نتحدث عن رجل عاش ظروفاً استثنائية شهدت تحولات استراتيجية قلبت الأمور رأساً على عقب فيما يتعلق بنظام الحكم والخلافة. أننا نتحدث عن رجل كان طرفاً في صراع دموي استمر سنوات اضطر فيه لأخذ جانب الدفاع عن الإسلام والخلافة، وأتهم من أطراف الصراع باتهامات خطيرة، وانقلب عليه بعض الصحابة بسبب تلك الاتهامات. فهل يعقل أن لا يكون له رأي أو كلام يبين فيه حقيقة الحال؟ أليس من الطبيعي والمنطقي لقائد يجد في موقع المسؤولية أن يبين لأمته حقيقة بعض الأحدث وتوضيح موقفه من الآخرين، هل من المفروض أن لا يتكلم بأي موضوع صغيراً كان أو كبيراً؟ أننا نتحدث عن أمير المؤمنين الذي كان خطيباً مفوهاً وكاتباً وبليغاً، لا يعقل أن يبقى ساكتاً أمام الأزمات التي مرّت بها الأمة الإسلامية؟".
ثانياً: وكان للخلافة نصيب في نهج البلاغة ويبيّن الإمام (ع) في كلامه وخطبه ومواقفه حقيقة الخلافة والخلفاء وعلاقته بالخلافة ودوره فيها. وكلامه في الخطبة الشقشقية واضح ومعروف. إذ ترى الإمامية والمعتزلة أن الخلافة واجبة وجوب عقلي إلا أن المعتزلة توجب الرئاسة على المكلفين لتأمين مصالحهم الدنيوية ودفع المضار الدنيوية عنهم أيضاً فيما ترى الإمامية وجوب الإمامة على الله تعالى، تماماً كالنبوة – بإعتبارها لطف منه، فقاعدة اللطف من شؤون الحكمة الإلهية لإرشاد المكلفين إلى الكيفية المناسبة والسليمة لتأمين المصالح الدنيوية ودفع المضار.
ثالثاً: في بعض كتب الإمام (ع) التي وجهها إلى عماله فيها توبيخ وتعنيف شديدين، كالكتاب الذي وجه إلى العامل الذي والياً على البصرة، صحيح أن الإمام لم يذكر اسم العامل صراحة، لكن المشهور أنه الصحابي عبد الله بن عباس، وقيل أنّه غيره. لذا اتهم النهج أنه منحولاً لأنّ فيه تأنيب لهذا الصحابي الجليل. وسواء كان هو ابن عباس أو غيره، أليس من حق الإمام أن يوجه عماله ويرشدهم حتى لو كان بالتأنيب أو التوبيخ؟ أليس من حق الإمام أن يحذر عماله من عواقب أعمالهم وسيئات أفعالهم؟ أليس في ذلك درساً للآخرين وحتى لا يقال أنّه لين مع أقربائه وشديد مع غيرهم؟
ثامناً: الرّد على اتهام أن بعض كلمات الإمام مثيرة لجدل حتى عند بعض الإمامية
- كان بعض كلام الإمام (ع) مثيراً للجدل مثل قوله (ع):" فأني لست في نفسي بفوق أن أخطيء" التي تدل في ظاهرها على اعترافه (ع) بعدم عصمته، مما حدا بالبعض – رداً من يقول بعدم عصمته (ع) إلى القول أن الخطبة غير صحيحة السند. وهذه العبارة موجودة في خطبة قالها الإمام في معسكره في صفين، وتحدث (ع) فيها عن الحقوق والواجبات القائمة بين الوالي من جهة والرعية من جهة أخرى، ثمّ بيّن (ع) الفوائد العظيمة والجليلة المترتبة على أداء هذه الحقوق، فالواجب على كلا الطرفين هو التناصح والتشاور وحسن التعاون.
إذن ليس الإمام (ع) في هذه الكلام في مقام إثبات عصمته أو نفيها، فهو يتحدث عن نفسه كحاكم يرسي القواعد الأساسية التي يجب أن يكون عليها الحاكم، فالحاكم وأن كان معصوماً ليس مستبداً أو جائراً أو ظالماً، وليس من حقه شرعاً ولا عقلاً أن يكون مستبداً، وبيّن الإمام (ع) حقوق الرعية، فمن حق الرعية أمام الحاكم أن ترشده إلى الحق لا بمعنى أنّه قد زاغ عن هذا الحق بل بمعنى إعطاء الرأي والمشورة.
ومن كلامه (عليه السلام) الذي أثار جدلاً أيضاً، قوله (ع): "لله بلاء فلان، فقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال ولا يستقين المهتدي". فمن هذا الذي عناه الإمام بكلامه؟ ولماذا كناه فلان ولم يذكر اسمه الصريح؟ وهل هو الخليفة الثاني عمر بن أبي الخطاب أم والي كان عادلاً في سيرته وأفعاله؟ والأشهر أنّه الخليفة الثاني. فكيف يمتدح الإمام (ع) خصمه السياسي والذي حرمه من حقوقه التي لا تقف عند الخلافة التي هي حق شرعي له (عليه السلام)؟ وسواء كان هو الخليفة الثاني أو غيره، فأن الإمام (ع) أبدى رأيه بكلّ واقعية بعيداً عن التحامل وبعيداً عن أي دافع شخصي. وإذا كان مقصوداً الخليفة الثاني فلا تناقض بين امتداحه هنا وذمه في خطب عندما يبيّن (ع) حقه في الخلافة، إذ أن هذه الخطبة في مقام بيان السياسة العامة التي كان يتبعها الخليفة الثاني مقارنة مع الساسة غيره، فلقد كانت سياسة عمر بن أبي الخطاب أفضل من غيره وأقرب إلى السياسة الرسول (ص وآله)، إذ كانت قائمة على أساس العدل والمساواة، وفي هذه الخطبة نفسها يبيّن الإمام (ع) الخطـ السياسي الذي ارتكبه وراءه أي "الفتنة".
هذه هي أهم الإشكالات والتشكيكات التي تورد على نهج البلاغة ولقد بينا وهنها وضعفها وكيفية الرّد عليها، أما أقوال الإمام (ع) في المرأة فسنخصص لها بحثاً مستقلاً إن شاء الله.