وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
التفسير الموضوعي لنهج البلاغة – الرابع

السيد محمود الهاشمي

تطبيقات للمنج الاستقرائي

في خطبة للامام (ع):

(واصطفى سبحانه مِنْ ولَدِهِ أنبياء أخذ على الوحي ميثاقَهم وعلى تبليغ الرّسالة أمانَتَهم، لمّا بَدَّل أكثرخلقهِ عهد الله اليهم فجَهلِوا حقَّه، واتّخذوا الأنَداد معَهُ، واجتالتْهُم الشّياطين عن معرفة، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتراليهم أنبياء ليستادوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته، ويحتجوّا عليهم بالتّبليغ، ويشيروا لهم دفائن العقول، ويروهمُ آيات المقدرة: مِن سقف فوقَهم مرفوع، ومِهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنیهم، وأوصاب تُهرِمُهُم، وأحداث تتابَع عليهم، ولم يُخْلٍ الله سبحانه خلقه من نبّي مُرسل، أوكتاب مُنزل، أوحجّة لازمة، أومحجّة قائمة رسل لا تُقصًّر بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم: من سابقٍ سُعَّيَ له مَنْ بَعْدَهُ أوغابرعرّفَهُ مَنْ قبله: على ذلك نَسَلَتِ القرون ومَضتِ الدّهور، وسَلَفَتِ الآباء وخَلَقَتِ الأبناء). (نهج البلاغة: الخطبة الأولى )

في هذه الخطبة يجمع الامام (ع) بنحوالأشارة بين ألوان الاستدلال على اثبات وجود الله سبحانه وتعالى من الفطرة والعقل والمنهج الاستقرائي بلحاظ العالم وما فيه من آيات المقدرة والابداع الالهي،.. وبلحاظ الأنبياء ومعاجزهم وعددهم وسلوكيتهم وصفاتهم وأخلاقهم، فأن هناك تطبيقات عديدة للمنهج الاستقرائي اولها واهمها، التطبيق الذي شرحناه حتى الآن، واستعرضنا فيه الآیات الکریمة، وكلمات الامام (ع) من نهج البلاغة.

وهناك تطبيقات أخرى لهذا المنهج، بلحاظ الأنبياء (عليهم السلام) الذين هم رسل الله سبحانه، وحججه وآياته التي تدل عليه يشير اليها الامام في هذه الخطبة،.. وهذه التطبيقات لهذا المنهج على الأنبياء، تكون بأحد ثلاثة وجوه:

التطبيق الأول

معاجز الأنبياء

الاستدلال بالمعجزة - هوفي الحقيقة - من تطبيقات المنهج الاستقرائي، فأن الله سبحانه يجري على أيدي أنبيائه الكثير من المعاجز، واثبات صدق دعوى مدّعى النبوة، وهوالنبي الذي تجري علي يديه المعجزة،..

والمعجزة لا تعني ايجاد مالا يمكن أن يكون، وتحقيق أمر يكون محالا عقلا - فمثل هذا المحال لا يمكن أن يقع سواء عن النبي أوعن غيره - فهي في حقيقتها ايجاد واجراء نتيجة وحدث على يد النبي، وهذا الحدث مما لا يمكن أن يحصل ويتحقق بحسب حسابات الاحتمال الاّ بنكتة خارجة عن الحسابات الطبيعية، فليست المعجزة، بمعنى ان يقع شيء من دون علة، فأنه محال، والمحال لا يمكن ان يتحقق من أي شخص، وانما المعجزة تعني ان يكون هذا العمل أوالحدث الذي حرى على يد النبي خارقا للعادة والمألوف، وكونه خارقا للعادة، يعني انه بحسب حسابات الاحتمال، لا يمكن ان يكون هذا الحدث الذي يأتي به النبي، قد حصل على اساس الطرق الطبيعية المعروفة والمألوفة لدى الناس، فلابد من نكتة اخرى لحصوله، وهي التي يدعيها صاحب المعجزة من اراده الله سبحانه وتعالى،.. ارادة عالِم الغيب.

والاستدلال بالمعجزة على صدق دعوى صاحبها تارة يكون على أساس قاعدة عقلية، هي من مدركات العقل العلمي، وهي أن الاعجاز لا يمكن أن يجريه الله سبحانه على يد انسان كاذب وهذا المنهج من الاستدلال الذي انتهجه بعض العلماء، أنما ينتج ويفيد على تقدير صحته في نفسه لأثبات النبوة لا الايمان بالله سبحانه لأنه بنفسه متوقف على افتراض وجود الله سبحانه وتعالى في المرتبة السابقة.

وأخرى يكون على اساس ان ما وقع وجرى على يد النبي، لا يمكن أن يكون الا بافتراض وجود الله سبحانه، والا كان من قبيل وجود حادث بلا علة له، فلابد أن تكون علة ارادة الله ومشيئة، والا كان من الصدفة المنفية بحكم المنطق الاستقرائي والعقلي معا.

وعلى اساس هذا التقدير تكون المعجزة بنفسها دليلا على اثبات الصانع، والمبدأ الأعلى جل وعلا.

التطبيق الثاني

تواتر الأنبياء

أنّ استقراء التأريخ يوضح لنا العدد الضخم للأنبياء في المسيرة البشرية وكذلك وحدة كلمتهم ومدّعاهم، ويلحق به أيضا الترابط الموجود بين ما بشّروا به من الرسالات والديانات.

فهذا التواتر للأنبياء، بنفسه حجّة ودليل على صدق دعوى بعثهم من قبل الله سبحانه وتعالى، هذا وأنّ الأنبياء (ع) كانوا من خيرة الناس وأفضلهم وأكملهم، وعيا وادراكا ورشدا وابتعادوا عن الأهواء والحيل، فعندما ينظرالانسان لهؤلاء الأنبياء، هذه الكثرة الكاثرة التي تمتاز بالعصمة والكمال , وكلهم يدعون دعوى واحدة ويبشرون بوجود اله واحد وينقلون عن هذا الاله الواحد، الشرائع والرسالات حينئذ كل عقل سليم، ومنطق استقرائي غيرمظلل، يقف أمام هذا الركب الهائل من الأنبياء - الذي يمثّل الصّفوة البشريّة، والمنادية بحقيقة واحدة - موقف المؤمن بصحة المدّعي اليه.

فعندما نُخبَر من قبل عشرة أشخاص ثقات مثلا، بوقوع أمرما نؤمن ونعتقد بهذا القول، فكيف بمئة وأربعة وعشرين ألف نبي، هذا الركب المبارك، والذي يمتاز بأروع الخصال الأنسانية وأكملها وعيا ورشدا وعقلا، وهم ينادون بالتوحيد، وأن هناك الها لهذا العالم، وهوفوق هذا العالم ومن ورائه، وانه هومبدأ الوجود وأصله وبارئه، كيف لا يحصل اليقين والتصديق والايمان هنا بصحة ما يقولون ؟!!

فالمنهج الاستقرائي، يجري هنا ايضا لاثبات حقيقة المبدأ الأول جلّ وعلا.

التطبيق الثالث

سلوكية الأنبياء

أنّ ملاحظة مجموعة الخصال والصفات الحميدة المتجسدة في شخص النبي، أيا كان والتي تنظلق بالصدق والصلاح والكمال في كل جوانبها، وكذلك ملاحظة ما تدعيه هذه الشخصية من دعوى، وما تؤمن به من مبادئ وقيم ومثل، تكفي الدلالة على صحة ما تقول من وجود الله سبحانه وتعالى.

فهذه الشخصية الفذة، والتي بلغت الذرورة في تطبيقها للكمالات الممكنة بحق البشر، تكفي للدلالة من خلالها، ومن خلال دعواها، الى اثبات وجود الله سبحانه وتعالى، والتي ما انفكت تركزعلى الأيمان به والاعتقاد بوجوده جلّ شأنه.

وأكثرالذين آمنوا بصحة الرسالات والديانات، كانوا ممن تأثروا بهذا الجانب من شخصية الأنبياء والرسل وعن طريق معايشتهم لسلوكيتهم، وما رأوه من حميد الصفات والخصال والاخلاق، ومن دلائل والصلاح فيما يدعونه، ومن دلائل العظمة والرقي فيما جاؤا به من شرائع وكتب ومقولات فلقد لمسوا من خلال معايشتهم لركب الأنبياء، وما كانوا يجدونه في رمزهم المبارك، مما يدعم صحة ما يدّعونه والاّ فالأدلة الفلسفية النظرية والبرهانية التي يقيمها الفلاسفة وان كان كثير منها - أوبعضها - أدلة صحيحة منطقيا وعقليا إلاّ أنّ الناس لا يركنون الى الأيمان بهذه المبادئ الغيبية من خلال تلك البراهين فقط، وانّما أكثر الأدلة شيوعا، هوهذا الدليل الاستقرائي، وخصوصا بالنسبة الى الأنبياء، فأن الأنسانية قد تربّت وصنعت على الأيمان والاعتقاد بالله سبحانه من خلال الانبياء (ع) وعن طريق التماس مع سلوكيتهم وأقوالهم وآثارهم.

وعليه فما كان يجده المجتمع المعاصر للنبي محمد (ص) بالخصوص، من آيات الرشد والصدق والأمانة والنزاهة، تلك الصفات الطاهرة النقية، والسلوك الكاملة المكملة والممارسات التي فوق قدرة الناس، كلها تؤيد صحة ما يدعيه النبي (ص) من المقولات التي يطرحها حول الحقائق الكبرى في الوجود، من التوحيد والنبوة وسائرالمعارف الحقة.

فقد كان ذلك بنفسه دليلا وآیة تدل على صدق دعواه، بل على عظمة ما يقوله ويبشّربه.

هذه العظمة مستفادة ومستخرجة من خلال تلك السلوکیة الصادقة الطاهرة التي يلمسونها في شخصه المبارك.

فالتاريخ يروي لنا، أن الرسول (ص) في بداية دعوته، قد استفاد من هذه الحقيقة، لتأييد دينه ورسالته.

وقف ذات يوم على مرتفع ونادى: يا أهل مكة، اذا أخبرتكم ان وراء هذا الجبل عدوا يريد العدوان أوالاغارة عليكم فهل تصدقون،.. قالوا بلى، وانت الصادق الأمين،.. فقال: اني رسول الله اليكم،..

هذا التصديق من قبل القوم، جاء مباشرة ودون أدنى تردد، اعتمادا على تلك السلوكية الكاملة المجسدة في شخصه الكريم، ورمزه الطاهر.

فالملاحظ هنا، انه (ص) لم يطرح لهم أسسا عقائدية، توضح ماهية دعوته، بل اعتمد على الرصيد الضخم الذي يمتلكه عند الأمة، من سموالخلق، وكمال السلوك، وجعل هذه السلوكية بابا لدعوته ورسالته، دون الادلة والبراهين والاستدلالات.

(أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّة إن هوإلاّ نذير مبين ) الأعراف: ١٨٤ ).

ولا يقتصرهذا التطبيق على سلوكية النبي (ص) الشخصية بل على سلوكيته الرسالة والسياسة ايضا، فأن المسلمين من خلال تفاعلهم مع النبي كقائد وكصاحب رسالة مهمة اجتماعية تغييرية، وما كان يطرحه في هذا المجال من مقولات وقيم سياسية واجتماعية يسعى الى تحقيقها وانجازها في واقع الأمة، وواقع الحياة، وما كان يتبنى تجاه مستقبل الرسالة والتجربة الرسالية، بل ما كان يمارسة في القيادة على أفضل وأحكم صورة، وما كان يراه الناس من واقعية في الارتباط بينه وبين الله سبحانه وتعالى في خضم التجربة الدقيقة، كل ذلك أوجب اذعان لا بصدق واخلاص النبي (ص) فيما يدعيه فحسب، بل بعظمته واعجازه في كل تصرف من تصرفاته واثرمن آثار وجوده المبارك.

والواقع ان هذه المعايشة والمشاهدة هي اساس ايمان البشر بالأنبياء، ورسالتهم.

فالناس يتفاعلون مع الواقعيات ويتأثرون بالتطبيق والتجسيد اكثرمما يتأثرون بالادعاءات والنظريات، ولا اشكال في ان نجاح الأنبياء وموفقيتهم في ايجاد التحولات والتغيرات الأجتماعية الكبرى في تأريخ البشروانتصارهم في صراعهم السياسي مع الباطل والطاغوت، وتحقق طموحاتهم ومدعياتهم في حياتهم اوبعد وفاتهم واصرارهم البليغ على متبنياتهم، كل ذلك له الأثرالا بلغ في كسب الناس لهم، وايمانهم بهم وبمدعياتهم ومقولاتهم.

المنهج الفلسفي

المنهج الفلسفی للاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى، له تقريبات وبيانات عديدة، ينطلق كان بيان منها من نقطة خاصة بالرغم من اشتراك كل هذه التقريبات في روح الاستدلال وجوهرة الاساسي، حيث تعتمد جميعا على مبدأ العليّة.

التقريب الأول

دليل الأمكان

وهوان الشيء أما واجب الوجود اوممتع الوجود أوممكن الوجود، ولا اشكال في وجود الأول وامتناع الثاني، واما الثالث وهوممكن - الذي يكون كل من وجوده وعدمه سواء - فوجوده بحاجة الى مرجّح يخرجه عن الأمكان الى الوجوب بالغير، أي بالعلة والاّ يلزم الخلْف، وهذا هومعنى القاعدة المعروفة (ان الشيء ما لم يجب لم يوجد )، فأذا ثبت في حق موجود أنّه ممكن الوجود، ثبت أن له موجودا قد أوجده، والعالم بما فيه من تغيرات وحدوث بعد عدم، ممكن الوجود لا محالة، لأن الواجب لا يكون متغيرا، فلابد له من موجد وعلة وهذه العلة يستحيل أن تكون لها علة أخرى وهكذا، لأنه يلزم أما الدورأوالتسلسل وكلاهما محال،..

فالدليل الأول يتألف من الصغرى والكبرى، الصغرى ان العالم وما فيه من المشهودات والمحسوسات، عالم متغيرفهوممكن. والكبرى ان كل ممكن لابد له من علة، حسب قانون العليّة.

واستفاد من هذا التقسيم الثلاثي للأشياء (الواجب، الممكن، الممتنع )، فلابد أن يكون لكل ممكن علة أوجدته وأوجدت كل هذه الممكنات المتغيرة.

التقريب الثاني

دليل الحركة

وينطلق في اثبات وجود الله سبحانه وتعالى، من صغرى أخرى وكبرى مشتركة بين نفس الكبرى في دليل الامكان. وهوان كل ممكن بحاجة الى علة،.. الا ان الصغرى تختلف هنا، حيث تطبق الكبرى - كبرى دليل الامكان - التي هي عبارة عن مبدأ العلية على الحركة، فلا اشكال ان في عالم الوجود ألوانا متعددة من الحركة، اما حركة مكانية، اوحركة زمانية، اوحركة كيفية، اوحركة نوعية،.. فالوجود المادي الممكن يزخر بانواع من الحركة، وهذه الحركة لا يمكن ان تكون من دون محرك، فلكل حركة محرك، وهذا يكشف ويدل عقليا وفلسفيا على وجود محرك وهوالله سبحانه وتعالى.

التقريب الثالث

دليل التكامل

ينطلق هذا الدليل، من قاعدة بديهية ومصادرة عقلية، وهي ان فاقد الشيء لا يعطيه، فهذا القاعدة الفلسفية، يستند اليها في اثبات الله سبحانه وتعالى بتقريب ان الموجودات متكاملة، ومتفاوتة في سلّم التكامل، فالكائن العضوي أكمل من الكائن غيرالعضوي، والنبات أكمل من الجماد، والحيوان أكمل من النبات، والانسان أكمل من الحيوان،..

هذه الحركة التكاملية هنا بحاجة الى علة، فالتقدم والتكامل في سلّم النمووالحركة، لا يمكن ان يصدرعفويا، فهوتكامل هادف، ويستحيل ان يتحقق من دون توجيه وتخطيط من مبدأ الكمال ومصدره وهوالله جل شأنه، فالكائنات والموجودات غيرالعضوية مثلا لا يمكنها ان تهب الحياة والتكامل نحوالافضل، لانها في نفسها فاقدة للحياة، فكيف تولد مرتبة أسمه وأرقى ؟!!

اذا بحسب قاعدة ان فاقد الشيء لا يعطيه، نستدل على وجود كائن آخر، هوالذي يهب هذه الحركة التكاملية، ويأخذ بزمام الممكنات نحومدارج أكمل، ومنازل أرقى، وأسمى تتناسب والحكمة الموضوعة،.. وهذا الكائن هوعين الكمال، وعين الحياة، وعين الحكمة والعلم والقدرة.

ما تقدم من التقريبات والادلة، تعتمد نقطة مركزية، ومقدمة اساسية، وهي ان الوجود بمختلف مراتبة لا يمكن ان يحدث من لاشيء، وقد عبّرالامام (ع) عن هذه النكته بقوله:

(هل يكون بناء من غير بان، أوجناية من غير جان). وهي اشارة الى مبدأ العلية في قاموس الوجود.

حقيقتان.. هما الجوهر

الحقيقة الأولى إنّ هذه المناهج الثلاثة - الفطري والاستقرائي والفلسفي - توجب حالة من اليقين والتصديق بوجود الله سبحانه وتعالى لكل متأمل ومتعلق صادق، همّه البحث عن الحقيقة والكنه.

إنّ هذه المناهج الثلاثة - الفطري والاستقرائي فهي تدّله يوضوح على مبدأ الكمال.. على الأزل والحكمة والقدرة،.. الاّ ان هذا ليس كل الهدف، وكل الايمان والمعرفة، فأن الاسلام لا يريد من الموحدين سبرغور الادلة والبراهين على وجود الله سبحانه، كالذي يبتغيه الفلاسفة والمتكلمون، بل يريد حقيقة الأيمان، تلك التي تستقطب آمال وتوجهات الانسان، أي ان يعيش الأيمان بقلبه وروحه، لا بفكره وعقله فقط، ان يخالط هذا الاعتقاد كل جوانحه، فلا يتفاعل ويتجاذب الا من خلال هذا النافذة، أي الهي في الفكر والاعتقاد، والهي في السلوك والمواقف والآمال.

ومثل هذا الايمان، هوالذي يصنع الانسان ويربيه على حقيقة مقولات السماء، وبه يستكشف بواطن الحقائق، ويسير ماهية الوجود، ليصل الى منهل المعرفة الحقة،..

وهذا ما أكدت عليه الشرائع والرسالات السماوية في محاولتها لربط الانسانية بهذا البعد الثاني من المعرفة،.. فأن هذا اللون من المعرفة هوالضمان الوحيد لاستقامة المسيرة البشرية، لأنه يرتبط بالجانب الحي من الحقائق، الجانب الذي يؤثر سلبا أوأيجابا على كل مفردات الحياة في حاضرها ومستقبلها فالرسالات وحملتها الابرار، لا تريد معايشة نظرية للمفاهيم والمبادئ، ساحتها الذهن المجرد، بل تريد للمفاهيم والحقائق، أن تفترش بيداء القلب، وتملك عقال المشاعر،.. فيعيش الانسان الفكرة، نظريا ويتجاذب ويتفاعل معها عمليا، اي تكون فكرة اعتقادية وسلوكية تحاكي عقله وتناغي مشاعره واحاسيسه.

الانبياء ((عليهم السلام)) يضمنون لنا هذا البعد، فهم يدلّون السائرين على المعرفة الحقة بالله سبحانه، ويرسون أمامهم السبل بوضوح، ليرتفعوا سلّم العرفان،.. بخلاف الفلاسفة، فهم يتعاملون ويتجاذبون مع العقول، لا مع القلوب، وأحكام العلاقة مع العقل دون القلب، أمر خطير سرعان ما يفصل الأمة عن حقلها العلمي في ممارساتها الحياتية، فتكون أمة معتقدة، لكنها خاوية راكدة، ضعيفة الارادة والموقف،..أمة تدرك الاطار دون المحتوى والمضمون، أي أمة قشرية جوفا،.

الحقيقة الثانية هناك هناك حقيقة أخرى جليّة، تشكل نقطة فارقة بين منهج الأنبياء (ع) في التربية والصنع، وبين منهج الفلاسفة مفادها ان الأنبياء (ع) لا يطرحون فكرة وجود الله والأيمان بالغيب طرحا جافدا حديّا، بل تطرح بشكل عاطفي عملي،.. بخلاف الفلاسفة، فهم يطرحون المقولات، بشكل فلسفي، تشعر المرء ان هذه المقولات من سنخ آخر مجردة عنه وعن عالمه، بعيدة عن الاثر العلمي، في حين ان الأنبياء يضيفون الى علاقة المعرفة، علاقة المحبة والود،.. والقرآن يجعل الصلة بين الانسان المؤمن الموحد وبين الله سبحانه، صلة محبة (( يحبهم ويحبونه ))،..

ولا يكتفي القرآن والأنبياء (ع) بان تطرح المبادئ، طرحا نظريا مجردا، بل تطرح مع علاقات انسانية وروحية خاصة، هذه العلاقات تجعل لهذه المعارف والقيم والنظريات مدلولا عمليا، لأنّ الانسان في الواقع لا يدفعه الى الأعمال والمواقف، النظريات المجردة، فالانسان ليس عقلا مجردا، تخضع حركاته وسكناته ومواقفه لهذا العقل المجرد فحسب، بل تنشأ أيضا من مجوعة العواطف والاحاسيس والمشاعر،.. المدركات العقلية، لابد أن تنزل لعالم القلب والرغبة والميل، كما تحرك الانسان الى اتخاذ موقف معين، ولهذا يقول الفلاسفة، ان الارادة تعني الشوق المؤكد،.. هذا الشوق المؤكد لابد أن يكون وراء كل حركة وفعل وموقف وسلوك يصدرعن الانسان، فاذا بقيت النظريات التوحيدية، مجردة وبعيدة عن عالم القلب والعاطفة، عندها لا تكون مربية وصانعة للانسان، بل مجرد أفكارعالقة في الذهن.

أضف الى ذلك ان الفكر المجرد، لا يجعل المؤمن به يُقْدِم على صنوف التضحية والفداء لمجرد الايمان بالفكرة،.. إنّما يضحي ويجاهد ويكافح، عند تكون الفكرة مشحونة بالمود والحب،.. ولقد ورد في بعض الروايات أنّه:

(هل الدين الاّ الحب ).

فلابد أن يكون لهذه المعارف رصيد حقيقي قلبي لدى كل انسان موحّد، ولولا هذا لَما رَبّي الركب البشري الصالح، ولَما قدّموا كل تلك التضحيات من أجل رسالتهم ومن أجل البشرية.

اذا فالفارق بين مجوعة الانبياء (ع) والفلاسفة، يمكن في اسلوب العرض والمخاطبة، فبينما تراعي المجموعة الاولى مخاطبة ومناجاة العقل والقلب الانساني، ومحكاة العواطف والمشاعر، يتجه الفلاسفة لمناغاة العقل والفكردون القلب والرغبة والميل، فاستطاعت الاولى تربية وهداية الانسان بينما عجزت الثانية عن ذلك بارغم من ان لها المريدين والاتباع، وأخفقت في تربيتهم وصنعهم.

وهناك قصة تشير للمعنى المتقدم: -

يقال: ان أحد تلامذة ابن سينا، سأله يوما، ما الفرق بين الفلاسفة والأنبياء الانبياء انما جاءوا من أجل ان يبشروا بفكرة التوحيد، ويجعلوا الناس موحّدين ومؤمنين بالله سبحانه وتعالى، والفلاسفة الموحدون قاموا ايضا بنفس هذا الدور، فما الفرق بينك وأنت من كبار الفلاسفة الموحدين، الذين اثبتوا نظريات التوحيد بأفضل وأدق البراهين والاستدلالات، وبين النبي (ص) وكيف انك لم تصبح نبيا،..؟ الاّ انّ ابن سينا لم يجب على سؤال تلميذه الا بعد فترة، كانا معا في سفر للذهاب الى بيت الله الحرام، في فصل الشتاء، وقد كانوا في ليلة من الليالي في كبد الصحراء، قد ركنوا الى مكان ليس ببعيد عن قرية من القرى،.. وفي منتصف الليل أوقبيل طلوع الفجر، استيقظ ابن سينا وكان عطشانا يطلب الماء، فأيقظ تلميذه، وسأله أن يجلب الماء له من تلك القرية فتماهل التلميذ، واعتذر بأن البرد شديد..لننتظر حتى الصباح.

أكد عليه ابن سينا كثيرا في الطلب،.. وكان التلميذ يأبى، وبين الاخذ والرد في الحوار بين الاستاذ الفيلسوف والتلميذ أذّن المؤذّن لصلاة الصبح، وارتفع صوته يشق أستارالصمت..، فقال ابن سينا لتلميذه، ان النبي (ص) وبعد هذه القرون الطويلة، وبرغم الفاصل الزمني الكبير، يحرك الانسان المؤمن، على ان يخرج في مثل هذا البرد الشديد، وفي مثل هذه الساعة من الليل من رقدته، ليرتقي المأذنة ويؤذن،.. بينما أطلب منك، وأنا بعد حي، أن تأتيني بالماء، فتعتذر بالبرد الشديد،..

الفارق هنا يمكن في مدى فاعلية المفاهيم والمبادئ في النفس الانسانية، أتكون مجرد مفاهيم تفترش ساحة الذهن، وتمتطي العقل في التناول والتفاعل كما يريد الفلاسفة أم تكون فاعلة حيّة في العقل والقلب والعاطفة، تمتلك اعتقاد وسلوك وتوجهات وآمال الانسان نحوالاهداف السامية، كما يبتغيها الانبياء (ع) في منهاجهم التربوي.

انتهى.

****************************