علي حسين الخباز
يعتبر الاستفهام أحد أهم المداخل لإضاءة النص الخطابي لكونه فضاءً مثقلاً بالأحداث والشخصيات ويتكون من لغة مكثفة وتفاعل وتداخلات جملية ولابد من إدراك لماهية الاستفهام التي تعد محاولة من محاولات تشخيص رؤية تجذ ب الاهتمام صوب المرتكز القصدي كقوله عليه السلام: (متى اعترض الريب لي مع الأول منهم حتى صرتُ اقرن الى هذه النظائر) ويعتبره البعض الاستفهام استنطاقا واعيا للحدثي ليحتفظ بهيمنة التأثر حيث يدفعه الى واجهة الارتكاز فيرسم لمتلقيه تحريضا نحو توجه ما مقصود وأما لمتلقي اليوم تداعيات تاريخية مرتبطة بأفعال وشخصيات ونتائج كقوله عليه السلام (أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟) ليبقى محافظا على حيوية التأثير ولذلك يرى اغلب النقاد إن ما ينهض وراء السرد يعد مجازا؟ لكونه ينفتح على الكثير من الإيحائية ولأن نصوص نهج البلاغة تشكل منعطفا ولائيا حيث تقرن بمنشئها صاحب التبجيل الروحي فالاستفهام يبحر في العمق التآلفي مع متلقيه..
كقوله عليه السلام (لقد بلغني أنكم تقولون علي يكذب ــ قاتلكم الله فعلى من أكذب؟ أعلى الله وأنا أول من آمن به بعد الرسول (ص)؟ أم على نبيه وأنا أول من صدقه؟ كلا والله إنها لهجة غبتم عنها) أي بعد الكلام عن معناه .. يرى البلاغيون إن الاستفهام يعمق المعنى وقد لا يحتاج بعضه الى إجابة بل الى تصور فيمنح ما يمكن أن يخرج مجازيا وتلك ظاهرة جمالية تعتبر من أجمل أنماط التصوير الإيحائي كقوله عليه السلام (وإن لكم في القرون السالفة لعبرة .. أين العمالقة ؟ وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة؟ وأبناء الفراعنة ؟ أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفئوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارة وأين الذين ساروا بالجيوش وهزموا الألوف) والرس نهر أذربيجاني اعتمروا ضفافه أقوام تعبد شجرة صنوبر فأرسل الله لهم نبيا يدعوهم الى عبادته فرموه في شفير يسمى دوشاب) واجتمعوا يسمعون أنينه حتى مات فعاقبهم الله بعاصفة ومواد متقدة سلقت أبدانهم وأذابت أجسادهم وانقلبت مدنهم.. ونجد في الاستفهامية تشكيلا نفسيا فكريا واجتماعيا بترفع عن الزمانية الآنية..
كقوله عليه السلام لمن حذره الخروج الى النهروان في هذه الساعة تحسبا لحسابات علم النجوم (أتزعم انك تهدي الى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدق بهذا فقد كذّب القرآن واستغنى عن الإعانة بالله..) فالاستفهام مقترب خصب يحدد اتجاهاته وفق منظور يمارسه المبدع نفسه في ضوء ما أثاره الواقع كقوله عليه السلام (أما دين يجمعكم ؟ ولا حمية تشحذكم ؟ أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء ..
وأنا ادعوكم- وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس ـ الى المعونة وطائفة من العطاء فتفرقون عني وتختلفون علي) ولا غرابة أن قلنا إن الاستفهامية هي أحد المفاصل الأساسية التي ارتكزت عليها معظم نصوص نهج البلاغة ومنها استفسارية كقوله عليه السلام وهو يستفسر عن قوم من جند الكوفة يريدون اللحاق بالخوارج (أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا) ومنها استنكارية فحين اتهم بقتل عثمان قال (أولم ينه أمية علمها بي عن قرفي؟ أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي؟) قرفه عابه ووزع بمعنى كف ..
وهناك استفهام وعظي كقوله عليه السلام (أفلا تائب من خطيئته قبل ميتته ؟ إلا عامل لنفسه قبل بؤسه ؟) فالاستفهام يشكل بؤرة بث موضوعية مركزية تأسس المعنى النصي قسم منه يبث عبر حروف الاستفهام مثلا بالهمزة كسؤاله عليه السلام (أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟) أو(أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا أعز أوليائه عنده) أو كسؤاله عليه السلام (هل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب) ومنها ما يأتي عبر أسماء الاستفهام مثل أين ،ماذا، بعد ، متى ، وكيف كقوله عليه السلام (كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة) كما تجد إن بعض الاستفهامات تأخذ مناحي خبرية وأخرى وصفية وسردية وأخرى استعراضية وفي كل الأحوال لابد أن ندرك إن البحث في الدلائل الاستفهامية يساهم في قراءة جادة لاحتواء جميع المحاور التكوينية في نهج البلاغة .