أمرُ علي (علیه السلام) بعد النَهروان
«وأمر علي (علیه السلام) النّاس بالرحیل من النهروان فقال لهم: إنّ الله قد أعزَّکم وأذهب ما کنتم تخافون عنکم؛ فامضوا من وجهکم هذا إلی الشّام. فقال الأشعث بن قیس: یا أمیرالمؤمنین نفدت سهامنا وکلّت سیوفنا ونصلت رماحنا؛ فلو أتینا مصرنا حتی نریح ونستعدّ ثمَ نسیر الی عدونا. فرکن النّاس إلی ذلك...
وسار علي حتّی أتی المدائن، ثمّ مضی حتّی نزل النخیلة، وجعل أصحابه یدخلون الکوفة حتی بقي في أقلّ من ثلاثمائة، فلمّا رأی ذلك دخل الکوفة وقد بطل علیه ما دبّر من إتیان الشام قاصداً إلیها من النهروان، خطب النّاس»[١] ونصحهم مرّة وعاتبهم ووبخهم مرّة أخری، فترکهم أیّاماً حتّی إذا یئس منهم خطبهم فحمدالله وأثنی علیه وصلّی علی نبیّه (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، ثم قال:
أُفٍ لکم! لقد سئمت عتابکم، أرضیتم بالحیاة الدُّنیا من الآخرة عوضاً؟ وبالذلَّ من العزَّ خلفاً؟ إذا دعوتکم إلی جهاد عدوَّکم دارت أعینکم کأنکم من الموت في غمرةٍ ومن الذهول في سکرةٍ! یرتج علیکم حواري فتعمهون، وکأن قلوبکم مألوسة فأنتم لا تعقلون.
مَا أَنْتُمْ لي بِثِقَة سَجِيسَ اللَّيَالي، وَمَاأَنْتُمْ بِرُكْن يُمَالُ بِكُمْ، وَلاَ زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ. لَبِئْسَ، لَعَمْرُ اللهِ، سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ، لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَة سَاهُونَ، غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ!
وَأيْمُ اللهِ إِنِّي لاََظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِب انْفِرَاجَ الرَّأْسِ . وَاللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ، وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَيَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ماضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ . أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ؛ فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَالاَْقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ[٢].
«قالوا: وخطبهم بعد ذلك خطباً کثیرة، وناجاهم وناداهم فلم یربعوا إلی دعوته ولا التفتوا إلی شیءٍ من قوله»[٣].
أمر مصر ومقتل محمد بن أبی بکر
«لمّا بویع علي دعا قیس بن سعد الأنصاري فولّاه المغرب، فشخص إلی مصر ومعه أهل بیته حتّی دخلها فقرأ علی أهلها کتاباً من علي إلیهم...فقام الناس فبایعوا عليّاً واستقاموا لقیس...وسار علي إلی الجمل وقیس بمصر، وصار من البصرة إلی الکوفة وهو بمکانه، فکان أثقل خلق الله علی معاویة»[٤] فدسَ علیه معاویة وتظاهر بمبایعة قیس إیّاه. بلغ الخبر عليّاً (علیه السلام) فعزله «وولی محمّد بن أبی بکر مصر؛ فلمّا ورد محمّد مصر غضب قیس وقال: والله لا أقیم معك طرفة عین، وانصرف إلی المدینة... ثمَ إنّ قیس بن سعد خرج وسهل بن حنیف جمیعاً قدما علی علي بالکوفة؛ فخبره الخبر وصدّقه ]علي[ وشهد معه صفین وشهدها سهل ایضاً.
ولمّا قدم محمّد بن أبی بکر ـ رضي الله تعالی عنهما ـ مصر قرأ عهده علی أهلها»[٥]:
«...وَاعْلَمْ ـ يَا مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْر، أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ، وَأَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ، وَلاَ تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَى أَحَد مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ»[٦].
«وخرج معاویة بن خدیج الکندي ثمّ السکوني فدعا إلی الطلب بدم عثمان، وذلك إن معاویة دس إلیه في ذلك وکاتبه فیما یقال وأرغبه، فأجاب إبن خدیج بشرٌ کثیر، وفسدت مصر علی محمد بن أبی بکر، وبلغ عليَاً فساد أمره وانتشاره.
وکان علي قد ولّی قیس بن سعد ـ بعد أمر النهروان ـ آذربیجان وولّی الأشتر الجزیرة فکان مقامه بنصیبین، فقال: ما لمصر إلّا أحد هذین الرجلین، فکتب إلی مالك الأشتر[٧]...وأخبره بأمر ابن أبی بکر، وشرحه له، وأمره أن یستخلف علی عمله بعض ثقاته وتقدم علیه، ففعل فولّاه مصر»[٨].
«قالوا: لما ورد علی علي خبر الأشتر؛ کتب إلی محمّد بن ابي بکر، وقد کان وجد من تولیة الأشتر مکانه»[٩]:
«أمّا بعدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الأشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ، وَإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الجَهْدِ، وَلاَ ازدِياداً لَكَ فِي الْجِدِّ؛ وَلَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ، لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلاَيَةً.
إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً، وَعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً؛ فَرَحِمَهُ اللهُ! فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، وَلاَقَى حِمَامَهُ، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضونَ، أَوْلاَهُ اللهُ رِضْوَانَهُ، وَضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ، فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ، وَامْضِ عَلَى بَصيرَتِكَ، وَشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ، وَادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ، وَأَكْثِرِ الإسْتِعَانَةَ بِاللهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ»[١٠].
«قالوا: ولما انصرف الحکمان وتفرقا وبویع معاویة بالخلافة، قوي أمره واستعلی شأنه، واختلف أهل العراق علی علي؛ فلم یکن لمعاویة همة إلا مصر، وقد کان لأهلها هائباً، لقربهم منه وشدتهم علی من کان یری رأیه. فدعا عمرو بن العاص فولّاه إیّاها علی ما کانا افترقا علیه... فلمّا أراد ]عمرو بن العاص[ الشخوص إلی مصر تقدم إلیه معاویة في محاربة محمد بن ابي بکر. وکتب ابن أبي بکر إلی علي؛ یعلمه ولایة عمرو بن العاص مصر من قبل معاویة، ویقول له: إنّه توجه في جیش لجب، وبمن قبلي من الفشل والوهن مالا انتفاع بهم معه، فإن کانت لك في مصر حاجة فأمدّني بالأموال والرجال...
وخطب علي أهل الکوفة ودعاهم إلی إغاثة محمد بن أبي بکر ومن معه من أهل مصر، فتقاعدوا عنه، ثمّ انتدب منهم جُنید أنفذهم إلی مصر، مع کعب بن مالك الهمداني؛ فلم یبلغوا حتّی أتی عليّاً مقتل محمد بن أبی بکر، فردّهم من بعض الطریق، وخطب فقال»[١١]:
«مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً؛ فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الأمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ؛ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاَْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاَْدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)[١٢].[١٣]
وکتب علي إلی عبدالله بن عباس بمقتل محمد بن أبي بکر[١٤].
«وأتت معاویة عیونه بشخوص الأشتر والیاً علی مصر، فبعث إلی رأس أهل الخراج بالقلزم فقال له: إنّ الأشتر قادم علیك؛ فإن أنت لطفت ـ لکفایتي إیّاه ـ لم آخذ منك خراجاً ما بقیت، فاحتل له بما قدرت علیه. فخرج الأشتر حتّی إذا أتی القلزم ـ وکان شخوصه من العراق في البحر ـ استقبله الرجل فأنزله وأکرمه... فأتاه بشربة من العسل قد جعل فیها سمّاً، فلمّا شربها قتلته من یومه أو من غده.
و بلغت معاویة وفاته فقال: کانت لعلي یدان ـ یعني قیس بن سعد والأشتر ـ فقد قطعتُ إحداهما. وجعل یقول: إنّ لله لجنداً من عسل»[١٥].
وقد جاء نعي الأشتر رحمه الله إلی أمیرالمؤمنین (علیه السلام) فقال:
«مَالكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَاللهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً، وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً، لاَ ]يَرْتَقِيهِ[ يلتقیه الْحَافِرُ، وَلاَ يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ[١٦].
غاراتٌ علی العراق بأمر معاویة
اضطرب حینئذ أمر علي (علیه السلام)؛ ما کانوا یسمع أمره ویطیعه أهل العراق للقیام علی العدو، أو عود إلی المرب بصفّین، أو قیام آخر، عصوا وخذلوا الإمام من جانب؛ وشجّع معاویة وتنمّر من قل محمد بن أبی بکر ومالک الأشتر وحکم الحکمین وخذلان العراقیّن عليّاً (علیه السلام)، من جانب آخر ولما ظهر علی مصر قوي أمره وکثرت أمواله، وازداد اصحاب علي (علیه السلام) تفرّقاً علیه وکراهیّة للقتال؛ فحدثت بعدئذٍ حوادث نشیر إلیها إجمالاً:
ـ کان الخریّت بن راشد السامي مع علي بن أبی طالب في ثلاثمائة من بني ناجیة... فلما حکم الحکمان رکن إلی الخوارج وعصی أمر علي، ثمَ أتی قومه وسار من تحت لیلته من الکوفة ومعه قومه وتوجّه نحو کسکر... وقد وجّه علي زیاد بن خصفة وعبدالله بن وال التیمي في طلبهم نحو البصرة في کثف... فأتبعهم زیاد ولحقهم زیاد بالمرار فاقتتلوا، ثمّ أفلت خریّت وقومه، وکتب علي إلی معقل بن قیس، فاقتتلا، وقَتَل النعمانُ بن صهبان الخریّت، وقُتِلَ اکثر ذلك الجمع وهرب فُلّهم یمیناً وشمالاً[١٧].
ـ أشخص معاویة، بعد مقتل محمّد بن أبي بکر، عبدالله بن عامر الحضرمي إلی البصرة لدعوة أهلها في الطلب بدم عثمان. بلغ ذلك عليّاً وأرسل علي جاریة بن قدامة إلیهم؛ فاقتتلوا ساعةً ثمّ هزموهم واضطروهم إلی دار فحصروهم ذلك الیوم إلی العشيّ، فحرّق جاریة الدّار علیهم، فهلك ابن الحضرمي ومن معه في الدّار[١٨].
ـ ثمّ جعل معاویة یغیر علی العراق منها:
دعا معاویة الضحّاك بن قیس الفهري وقال له: سِر حتّی تمرّ بناحیة الکوفة وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر علیه... فأقبل الضحّاك یأخذ الأموال ویقتل من لقی من الأعراب حتّی مرّ بالثَعلبیّة فأغار خیله علی الحاجّ فأخذ أمتعتهم، ثمّ أقبل فلقی عمرو بن عمیس بن مسعودٍ... فقتله في طریق الحاجّ وقتل معه ناساً من أصحابه.
قال أبو روق: فحدّثني أبي أنّه سمع عليّاً (علیه السلام) وقد خرج إلی النّاس، وهو یقول علی المنبر: «یا أهل الکوفة اخرجوا إلی العبد الصالح عمرو بن عمیس وإلی جیوش لکم قد أصیب منها طرف؛ أخرجوا فقاتلوا عدّوکم وامنعوا حریمکم إن کنتم فاعلین».
قال: فردّوا علیه ردّاً ضعیفاً ورأی منهم عجزاً وفشلاً فقال»[١٩]:
«أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ! كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاَْعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ. أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، وسألتموني التطویل، دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ المَطُولِ. لاَ يَمنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ!...»[٢٠].
استمّرت هذه الغارات من قبل عمّال معاویة وبأمره وقصّتها طویلة، نوردها هنا إجمالاً وإشارة حذراً عن الإطناب والإسهاب:
ـ غارَ سفیان بن عوف الغامدي علی الأنبار وقتل أشرس بن حسّان البکري عامل علي ثم انصرف، وأتی عليّاً الخبر «وکان علیلاً لا یمکنه الخطبة، فکتب کتاباً قریء علی الناس... وکانت نسخة الکتاب»:[٢١]
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ...»[٢٢].
ثمّ إنّ عليّاً أتبعه سعید بن قیس الهمداني، فبلغ صفّین ثمّ انصرف.
ـ غارَ النعمان بن بشیر الأنصاري علی عین التمر: قاتله مالك بن کعب عامل علي علی عین التمر حتی رفعه عن القریة، فانهزموا حتی لحقوا بمعاویة.
وقد کان علی حین أتاه خبر النعمان بالکوفة؛ خطب الناس فقال:
«كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيَابُ الْمتَدَاعِيَةُ! كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جَانِب تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ. كُلَّما أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُل مِنْكُمْ بَابَهُ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ في جُحْرِهَا، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا...»[٢٣].
غارة عبدالله بن مسعدة الفزاري إلی تیماء: فندب علي (علیه السلام) المسیّب بن نجبة الفزاريّ في طلبه، فالتقی هو وابن مسعدة فاقتتلوا قتالاً شدیداً؛ أصابت ابن مسعدة جراحات... فلجأ إلی حائط حول حصن تیماء... فلمّا جنَّ علیه اللّیل خلّی ]عبدالرحمن بن أسماء الفزاري[ سبیلهم فمضوا حتّی لحقوا بمعاویة[٢٤].
ـ مسیر بسر بن أبي أرطاة وغارته علی المسلمین وأهل الذمّة وأخذه الأموال ورجوعه إلی الشّام: «بعث معاویة بسر بن أبي أرطأة... فمرّ بالمدینة فأخاف أهلها وأذعرهم، ثم إلی مکّة، والطائف، ومضی بسر حتی إذا شارف الیمن؛ هرب عبیدالله وسعید... فلحقا بعلي... فلمّا قدمها بسر قتل عبدالله بن عبدالمدان الحارثي وابنه مالك بن عبدالله، وقتل جماعة من شیعة علي.
وسار جاریة بن قدامة السعدي حتی أتی الیمن... وطلب بسراً فهرب منه ـ فأتبعه إلی مکّة، وظفر بقوم من أصحابه فقتلهم...»[٢٥].
ـ غارة الحرث بن نمر التنوخي علی أهل الجزیرة.
ـ غارة عبدالرحمان بن قباث بن أشیم الکناني علی الجزیرة.
عند ماکان یسمع خبرها أمیرالمؤمنین کان یدعو أهل الکوفة إلی إغاثة اخوانهم، ولکن لم یجیبوهم، وأخیراً قال لهم:
«أَحْمَدُ اللهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْر، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْل، وَعَلَى ابْتِلاَئِي بِكُم أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ، وَإذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ. إنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ، وَإنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إمَام طَعَنْتُمْ، وَإنْ أُجِبْتُمْ إلَى مُشَاقَّة نَكَصْتُمْ. لاَ أَبَا لِغَيْرِكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَالْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ؟ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ! فَوَاللهِ لَئِنْ جَاءَ يَوْمِي ـ وَلَيَأْتِيَنِّي ـ لَيُفَرِّقَنَّ بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَأَنا لِصُحْبَتِكُمْ قَال، وَبِكُمْ غَيْرُ كَثِير. لله أَنْتُمْ!
أمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ! وَلاَ حَمِيّةٌ تَشْحَذُكُمْ! أَوَلَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَة وَلاَ عَطَاء، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ ـ وَأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الإسْلاَمِ وَبَقِيَّةُ النَّاسِ ـ إلَى الْمَعُونَةِ أَوطَائِفَة مِنَ الْعَطَاءِ، فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ؟
إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضىً فَتَرْضَوْنَهُ، وَلاَ سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَإنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لاَق إِلَيَّ الْمَوْتُ! قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ، وَفَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ، وَعَرَّفْتُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ، وَسَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ؛ لَوْ كَانَ الاَْعْمَى يَلْحَظُ، أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ! وَأَقْرِبْ بِقَوْم مِنَ الْجَهْلِ بِاللهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ! وَمُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ[٢٦].
روي عن نوف البکالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أمیرالمؤمنین علي (علیه السلام) بالکوفة، وهو قائم علی حجارة، نصبها له جعدة بن هبیرة المخزومي وعلیه مدرعةٌ من صُوف وحمائل سیفه لیفٌ، وفي رجلیه نعلان من لیفٍ، وکأنّ جبینه ثَفِنةُ بعیر. فقال (علیه السلام):
«الْحَمْدُ لله الَّذِي إلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الاَْمْرِ... ثمَ نادی بأعلی صوته:
الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا؛ فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ!»
قال نوْفٌ: وعقد للحسين (عليه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد(رحمة الله) في عشرة آلاف، ولابي أيوب الانصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفّين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر، فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان![٢٧].
أمر ابن ملجم ومقتل أمیرالمؤمنین علي بن أبی طالب (علیه السلام)
المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هعند، عن الشعبي قال: حجّ ناس من الخوارج سنة تسع وثلاثین، وقد اختلف عامل علي وأصحاب معاویة، فأصطلح النّاس علی شیبة بن عثمان، فلمّا انقضی الموسم أقام الخوارج مجاورین فقالوا: کان هذا البیت معظَّما في الجاهلیة، جلیل الشأن في الإسلام، وقد انتهك هؤلاء حرمته، فلو أن قوماً شروا أنفسهم فقتلوا هذین الرجلین اللّذین قد أفسدوا في الأرض، واستحلّا حرمة هذا البیت استرحنا واستراحت الأمة، واختار الناس لأنفسهم إماماً، فقال عبدالرحمن بن ملجم: أنا أکفیکم عليّاً؛ وقال الحجاج بن عبیدالله الصریمّي، وهو البرکة: أنا أقتل معاویة؛ وقال داذویه مولی بني حارثة بن کعب بن العنبر، واسمه عمرو بن بکر: والله ما عمرو بن العاص بدونهما فأنا له. فتعاقدوا علی ذلك، ثُمّ إنّهم اعتمدوا عمرة رجب.
فقدم ابن ملجم الکوفة وجعل یکتم أمره؛ فتزوج قطام بنت علقمة من تیم الرباب ـ وکان علي قتل أخاها ـ فأخبرها بأمره، وکان أقام عندها ثلاث لیال، فقالت له في اللیلة الثالثة: لشدّ ما أحببت لزوم أهلك وبیتك وأضربت عن الأمر الذي قدمت له! فقال: إنّ لي وقتاً واعدت علیه أصحابي ولن أجاوزه. ثمّ إنه قعد لعلي فقتله؛ ضربه علی رأسه، وضرب ابن عم له عضادة الباب، فقال علي حین وقع به السیف: فُزتَ وربِّ الكعبة[٢٨].
قالوا: لم یزل ابن ملجم تلك اللیلة عند الأشعث بن قیس یناجیه حتّی قال له الأشعث: قم فقد فضحك الصبح. وسمع ذلك من قوله حجر بن عدي الکندي، فلما قتل علي قال حجر: یا أعور أنت قتلته[٢٩].
المدائني عن یعقوب بن داوود الثقفي، عن الحسن بن بزیع: إنّ عليّاً خرج في اللیلة التي ضرب في صبیحتها في السحر وهو یقول:
اُشدد حیازیمك للموت |
|
فإنّ الموت لاقیك |
ولا تجزع من الموت |
|
إذا حلّ بوادیك |
فلمّا ضربه ابن ملجم قال: فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَة. وکان آخر ما تکلم به: «مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ[٣٠]»[٣١].
قال (علیه السلام) في سحرة الیوم الّذي ضرب فیه:
«مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَأَنَا جَالِسٌ، فَسَنَحَ لي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فقلت: يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الأوَدِ وَاللَّدَدِ؟ فَقَالَ: ادْعُ عَلَيْهِمْ. فَقُلْتُ: أَبْدَلَنِي اللهُ بِهمْ خَيْراً لي مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي»[٣٢].
ووصَّی (علیه السلام) الحسن والحسین (علیهما السلام):
«أوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وَألاَ تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا. وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ للآخرة[٣٣] ]لِلاَْجْرِ[، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً.
أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا، (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَامِ».
اللهَ اللهَ فِي الاَْيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ. مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقْكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لاَ تُخْلُوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا.
وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ. لاَ تَتْرُكُوا الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ َشْرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ.
ثمّ قال:
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي! انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ تُمثِّلوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ»[٣٤].
قالوا: ومکث علي یوم الجمعة ویوم السبت، وتوفي لیلة الأحد لإحدی عشرة لیلة بقیت من شهر رمضان سنة أربعین.
فلمّا بلغت عائشة خبره أنشدت قول البارقي:
فألقت عصاها واستقرت بها النوی |
|
کما قرّ بالإیاب المسافر |
وقال أبو الأسود الدؤلي:
ألا أبلغ معاویة بن حرب |
|
فلا قرّت عیون الشامتینا |
قتلتم خیر من رکب المطایا |
|
واکرمهم ومن رکب السفینا |
ومن لبس النعال ومن حذاها |
|
ومن قرء المثاني والمئینا |
وقد علمت قریش حیث کانت |
|
بأنّك خیرهم حسباً ودینا[٣٥] |