وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
كلمات حول نهج البلاغة

كتاب جمعه الشريف الرضي محمد بن أبي أحمد الحسين الهاشمي العلوي (ت٤٠٤هـ) واختاره وانتخبه من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويدور على ثلاثة أقطاب، أولها: الخطب والأوامر، ثانيها: الكتب والرسائل، ثالثها: الحِكَم والمواعظ. .
وهذا الكتاب بحاجة إلى أن يقف عنده الدارسون لنثر صدر الإسلام للأسباب التالية:
١ــ بخس كثير من مؤرخي الأدب حقّ هذا الكتاب، بعد أن شكّكوا في صحة انتسابه إلى علي(ع) وبذلك فوّتوا على الدراسين فرصة الاطلاع على مصدر عظيم من مصادر الأدب العربي.
٢ــ لم يُدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشرُ ولانصفُ العشر مما دُوّن لعليّ بن أبي طالب.
٣ــ إن الأدباء والكتّاب قديمًا وحديثًا اعترفوا بعظمة أسلوب الإمام وتأثيره فيهم. عبد الحميد بن يحيى الكاتب (الذي يقال إن الكتابة بدأت به) سُئل عمّا مكّنه من البلاغة فأجاب: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (أمير المؤمنين علي) فغاضت ثم فاضت». وعبد الحميد هذا من الموالين لبني أمية.
وقال ابن نباتة: «حفظت من الخطابة كنزًا لايزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب».
وقال ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة: «أما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيّد البلغاء».
وقال الأديب الشاعر العالم الشريف الرضي: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) مَشرَع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل خطيب وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدّم وتأخّروا، لأن كلامه الكلام الذي عليه مَسْحة من العلم الإلهي، وفيه عَبقة من الكلام النبوي. إلى أن قال: إن هذه الفضيلة انفرد ببلوغ غايتها من جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثَر عنهم منها القليل النادر، والشاذ الشارد. فأما كلامه (عليه السلام) فهو البحر الذي لايُساجَل، والجمّ الذي لا يُحافَل.
وقال الشيخ محمد عبده: لا أعلم اسمًا (نهج البلاغة) أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه.
وقال: إن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة.. إلى أن قال: وإن مدبّر تلك الدولة وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب».

أهمّ موضوعات نهج البلاغة
١ ـ التربية الدينية العامة
لاشك أن اهتمام الإمام انصبّ في حياته عامة وبعد عصر النبوة خاصة على تربية الأمة وشدّها بالله وتذكيرها باليوم الآخر، فهي مهمّة الإمامة الأولى. وفي النهج فقرات منقطعة النظير في وصف الله سبحانه ونبيه الكريم وفي تحليل عالم الفناء وتصوير ماوراء هذه الحياة. وهذه الموضوعات ــ وإن لم تكن جديدة ــ قد خَلَعَ الإمام عليها من الجلال والرونق مايثير دهشة الناقد وإعجابه كما يقول الدكتور محمد مهدي البصير .
وأفضل مثال على هذا اللون من كلام علي الخطبة الأولى في نهج البلاغة، حيث يقول الإمام:
« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَلا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَلا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِي لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَلا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَلا وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَلا أَجَلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاصُ لَهُ وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ...».
ثم يذكر بعد ذلك خلق العالم وخلق الملائكة وخلق الإنسان وإرسال الأنبياء.. في تسلسل متقن وتعبير رائع تكثر فيه ألوان الفنون البلاغية، ويصل به سياق الحديث إلى ذكر خاتم الأنبياء، فيذكّر الناس بفضل النبي ومكانته وبمسؤوليتهم تجاهه.
ولايمكن لدراس في أسلوب الإمام التربوي أن يغفل عن خطبة ألقاها بعد تلاوة ]ألهاكم التكاثر[ قال:
«يَا لَهُ مَرَامًا مَا أَبْعَدَهُ وَزَوْرًا مَا أَغْفَلَهُ وَخَطَرًا مَا أَفْظَعَهُ لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَادًا خَوَتْ وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ وَلأَنْ يَكُونُوا عِبَرًا أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَرًا وَلأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ ذَهَبُوا فِي الأَرْضِ ضُلالاً وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالا تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ وَتَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَتَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وَإِنَّمَا الأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ...».
وعلّق الناقد الدكتور البصير على هذه الخطبة بالقول:
«إننا نستطيع أن نقول في وصف هذه الخطبة أنها فصيحة الألفاظ، قصيرة الجمل، كثيرة المجاز والطباق، عامرة بالاستعارات والتشابيه، على أنها بريئة كل البراءة من التعمّل والتكلّف، ولكن قد تجتمع هذه العناصر كلّها في كلام دون أن تكسبه هذه الروعة التي نجدها في هذه الخطبة; وذلك هو فيض العبقرية الذي يقصر عنه النقد، ولايحيط به التحليل..» .
٢- تربية الولاة والحكّام
هذا موضوع يكاد ينفرد فيه الإمام، ويمثّل قمة من قمم فكر الإسلام ونهجه الحضاري في مجال الحكم والإدارة. ولأهمية دور الحاكم في سلامة المسيرة الاجتماعية يشدّد الإمام في عهوده إلى ولاته على كسر ذاتياتهم الضيقة، والذوبان في ذات الله، والانغمار في الخدمة الاجتماعية، ويحذّرهم من الظلم والطغيان، والاستئثار، والإفراط والتفريط. وأروع مثال على ذلك كتابه للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر وأعمالها يقول الإمام في بداية كتابه:
« هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلا بِاتِّبَاعِهَا وَلا يَشْقَى إِلا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ اللَّهُ ».
ويعلّم الإمام واليه سبلَ التعامل مع الناس ويقول:
«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ..»
«اِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْبًا حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَلَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَلِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ..»
« وَلا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيدًا لأهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ وَتَدْرِيبًا لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ كُلاً مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ...»
« وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ..».
٣ــ الشكوى والعتاب
من الطبيعي أن يَكثر في كلام علي النقد والتعريض والشكوى والعتاب، فالظروف قد عاكسته، وكان يشعر بالألم ممّا يراه من انحرافات بدأت بالظهور في المجتمع الإسلامي، ثم من الفتن التي برزت في عصر خلافته.
يذكر إصرار الناس بعد مقتل الخليفة عثمان على مبايعته بالخلافة، ثم تفرّق «الناكثين» و«المارقين» و«القاسطين» عنه، ويقول:
«فَمَا رَاعَنِي إِلا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ ألاّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ لالْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ».
ويبيّن الإمام حيرته تجاه ماحدث بعد الرسول أيعلن رفضه أم يسكت. ولكنه آثر السكوت كي لاتنشب فتنة تهدّد وجود المجتمع الإسلامي الوليد، وحين خاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعا له بالخلافة نهى عن الفتنة، وأكد أن سكوته ليس عن خوف بل عن علم عميق وفهم مستوعب لمصلحة الإسلام والمسلمين وقال:
«أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.
فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي وَاللَّهِ لابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ».
وأشدّ شكوى تصدر عن الإمام حين يسمع بنبأ اعتداء قوات معاوية على المناطق الإسلامية وانتهاكهم حرمات المسلمين دون أن تستثير هذه الأنباء غيرة المسلمين ودون أن تدفعهم إلى صدّ المعتدين يقول:
«أَلاّ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَارًا وَسِرًّا وَإِعْلانًا وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ».
وفي النهج أيضا يشكو الإمام من خيبة أمله في الإصلاح المطلوب، ومن رعاء الناس الذين يتبعون كل ناعق، ومن انتقاض أحكام الله وعهوده، ومن سيطرة بعض الولاة الظلمة على أجزاء من بلاد المسلمين.
٤ــ الوصف
يمثل الوصف أروع جانب أدبي في نهج البلاغة. والإمام في وصفه يتحرّى الدقة والجمال والتأثير. وخطب الوصف «تبوّئ عليًّا ذروة لاتُسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث» كما يقول الدكتور صبحي الصالح .
يصف المتقين وصفًا يصقع له همام صعقة كانت نفسه فيها، يبيّن في خطبته فضائل المتقين: منطقهم، وملبسهم، ومشيهم، وأبصارهم، وأسماعهم، وخشيتهم، وسلوكهم، وقيام ليلهم، وعلاماتهم، نورد مقتطفات منها:
«.. فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَلَوْ لا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقًا إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ..»
ويصف المنافقين بدقّة متناهية تستوعب كل خصالهم العملية والنفسية ويقول:
«...قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَمُؤَكِّدُو الْبَلاءِ وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا..».
على أن المهم في أدب الإمام (عليه السلام) تصويره الحسيات، كما يقول الدكتور صبحي الصالح. وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات كما في تصويره البارع للنملة والجرادة والطاووس.
يقول في النملة:
«انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَلا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَلا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَبًا وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَبًا..».
ويقول في الجرادة:
«.. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَلا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَتَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لا يُكَوِّنُ إِصْبَعًا مُسْتَدِقَّةً...».
يضم نهج البلاغة موضوعات أخرى مثل الحثّ على الجهاد، والالتزام بالقرآن والأحكام الشرعية، والوصايا، والأمور العسكرية... وغيرها من الموضوعات التي تمثل بمجموعها شخصية علي في جوانبها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والإدارية والأدبية.
وكلها تستحق دراسة مستفيضة معمقة في الأسلوب والمضمون.

****************************