الشيخ حسين المصطفى
قال أمير المؤمنين : " وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ " [نهج البلاغة: خطبة ١٣٦].
إن الحديث عن الإمام علي في حجم الزمن كله؛ لأنّ علياً كان إمام الزمن، عاش للإسلام كله، وعاش مع الله بكلِّه.
الحديث الأول: كيف هي آفاق علي مع الله؟
هناك كلمة للإمام علي يقول فيها: " ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله " [شرح أصول الكافي: ج ٣ ص ٨٣]، وهذه عظمة الإمام علي ، أنّه كان دائماً مشغولاً بالله، حتى باع نفسه لله، ونزلت فيه الآية عندما بات على فراش النبي ليلة الهجرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: ٢٠٧]، وكانت كل حياته لله سبحانه وتعالى. وإذا ما أمعنا النظر في آفاقه مع الله فهو كالتالي:
لقد أحب الله كما لم يُحبه شخص إلا الأنبياء، وهو القائل: " فَهَبْنِي يا إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ.. ". وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته، حباً له وشوقاً إلى ما عنده، وبأنّ هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من أي عذاب، فإنّ المحب لا صبر له على هذا الترك، فهذه الفقرات تأخذ بنا إلى أنّ هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه.
كان يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل كل أوقاته عامرة بذكره وخدمته.. " حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وَأَوْرادِي كُلُّها وِرْداً وَاحِداً، وَحالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً.. ".
يطلب من الله أن يعطيه القوة لا ليرتاح بالقوة، ولكن ليخدم الله: "قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحِي، وَاشْدُدْ عَلى العَزِيمَةِ جَوانِحِي، وَهَبْ لِيَ الجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ".
كان يعتبر الحياة ساحة للسباق، يتسابق فيها كل إنسان مع الآخر إلى الله، لا إلى المال: "وأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي المبادرِينَ، وَأَشْتاقَ إِلى قُرْبِكَ فِي المُشْتاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ المُخْلِصِينَ، وَأَخافَكَ مَخافَةَ المُوقِنِينَ".
هكذا كان برنامج الإمام علي مع الله، ولهذا كان يعيش حالة فريدة مع ربه، بحيث كان لا يلتفت إلى النّاس من حوله أثناء عبادته.
من عمق هذا التفكير الدائم بالله انطلقت هذه الكلمة التي تدل على الأفق الذي اتّسع لعلي في رحاب الله: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"؛ لأنه عاش كلَّ عمره وهو يبصر الله في كل شيء حوله. ففي دعائه يقول: "ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار أني أحبّك" [مصباح المتهجد: ص ٥٩٥].
ولذلك، عندما نريد أن نحب الإمام علي بن أبي طالب ، علينا أن نحب الله، ونحبه في علي؛ لأنّه الإمام الذي "يحبه الله ورسوله"..
ومما ينقل في سيرة الإمام علي أنه كان في حرب صفين ليلة الهرير، عندما اصطدم الجيش مع بعضه البعض، واستفقدوا علياً ، وعندما بحثوا عنه رأوه يصلي بين الصفين، فاستغربوا، وقالوا له: يا أمير المؤمنين هل هذا وقت صلاة ونحن نخاف عليك؟ فقال لهم: علام قاتلناهم، إنّما نقاتلهم على الصلاة.
لذلك نرى بعض الناس يقولون نحب علياً ولكنهم لا يصلّون ولا يطيعون الله في ما أمرهم، وهذا عكس ما أراده الإمام علي ، فقد أرادنا علي أن نحبّه لنحب الله سبحانه.
وفي هذا يقول الإمام الباقر : "حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلاهُ ثُمَّ لا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً، فَلَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ، فَرَسُولُ اللهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ ، ثُمَّ لا يَتَّبِعُ سِيرَتَهُ وَلا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً... مَنْ كَانَ للهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ للهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَا تُنَالُ وَلايَتُنَا إِلا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ" [الكافي: ج ٢ ص ٧٤، وأمالي الصدوق: ص ٦٢٥، وأمالي الطوسي: ص ٧٣٥]. يعني الورع عن محارم الله، وهذا هو خط الاستقامة.
الحديث الثاني: وصايا علي الأخيرة:
في التاسع عشر من شهر رمضان، وفي محراب المسجد الجامع بالكوفة، ضرب عبد الرحمن بن ملجم الإمام أمير المؤمنين ، وهو يصلّي في محرابه.
وبقي الإمام ثلاثة أيام وهو يعاني من جرحه، حتى كانت شهادته في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك.
في هذه الأيام الثلاثة العصيبة على الأمة أراد الإمام أن لا يحرم أمته من وصاياه، فلم تشغله جراحاته عن التفكير في شأن الأمة، لكي يربطها بالله، ويربطها بكلّ القواعد الأساسية في علاقاتها مع بعضها البعض.
لقد كان يرسل وصيته في آخر لحظات حياته لولديه الحسن والحسين ، باعتبار أنهما المسؤولان من بعده عن رعاية أمور المسلمين، ولجميع ولده ولمن بلغه كتابه. بل هذه الوصية هي أمانة علي التي حمّلها لكل المسلمين في كل الأجيال.
قال في هذه الوصّية: " أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ وَأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلا تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولا بِالْحَقِّ، وَاعْمَلا لِلأَجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً، أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ .
اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ، وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ، وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ؛ لا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاةِ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ، وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ؛ لا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا، وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ، لا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" [نهج البلاغة: خطبة ١٥٧، والكافي: ج ٧ ص ٥١، من لا يحضره الفقيه: ج ٤ ص ١٨٩، والتهذيب: ج ٩ ص ١٧٦].
المبدأ الأول: تقوى الله:
قال " أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ وَأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلا تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا ".
أن تراقبوا الله في كلّ شيء، وأن تعملوا على أن تحسبوا حساب الله في كل شيء، وأن لا تطلبوا الدنيا حتى لو جاءت الدنيا لتقديم نفسها إليكم، ولا تأسفوا على شيء منها فاتكم.
على الإنسان أن يعتبر من أنّ الدنيا - حسب طبيعتها - تعطيه شيئاً اليوم وقد تسلبه إيّاه غداً، وقد تعطيه شيئاً من جانب وتسلبه إيّاه من جانب آخر، فعندما يخسر شيئاً من الدنيا فإنّ عليه أن لا يعيش روح الأسف والألم والحسرة على فوات ذلك.
فعلى الإنسان أن يتقبّل الدنيا بشكل طبيعي، بحيث لا يفرح بما آتاه الله من الدنيا، ولا يأسف أو يتألّم على ما فاته منها، بل يتقبّل ما أتاه من الدنيا بشكل طبيعي، ويتقبّل أيضاً ما خسره منها بشكل طبيعي، ويعتبر أنّ قضيته في الدنيا هي أن يطيع الله سبحانه، وليست قضيّته أن يحصل على المال والجاه.
فلو نقصت دنياكم وخسرتم بعض الأشياء مما يتطلبه الناس في الدنيا، ولو فقدتم بعض الفرص أو بعض الشهوات، فلا تسقطوا أمام ذلك، لأنّ الدنيا ليست دار الخلود، بل هي تتحرك بين ربح وخسارة، فلا يغريكم الربح ولا تسقطكم الخسارة؛ ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [القصص: ٦٠].
المبدأ الثاني: قول الحق
قال : "وَقُولا بِالْحَقِّ".
على المسلم أن يحمل هذا المبدأ؛ أن يتحدث بالحق والصدق، وأن يلتزم أيضاً بالحق والصدق، فلا يقول الكذب ولا يلتزم الباطل في كل موقع من مواقع حياته.
هكذا كانت سيرة علي بن أبي طالب ، حتى قال: "ما ترك لي الحق من صديق". فقد كانت قولة الحق في كل القضايا هي شعاره في كل مجالات حياته.
وقد ورد عن النبي في تأكيده علاقة علي بالحق وعلاقة الحقّ بعلي أنّه قال: " علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار".
فإذا كنّا نريد أن نكون شيعة علي وأتباعه، فعلينا أن نعمل على أساس أن نبحث عن الحق أينما هو، سواء في حياتنا الخاصة، في داخل بيوتنا، أو في حياتنا العامة في كل مجتمعاتنا، وأن لا نصدر حكماً في أي جانب، ولا نتبنى موقفاً في أي جانب، إلا إذا عرفنا أنّه الحق.
يجب أن لا تكون العداوة والصداقة هي الأساس في تأييدنا للمواقف، بل أن يكون الحق هو الأساس في ذلك، فإذا قال عدونا الحق وكان الحق معه، فعلينا أن نقول الحق معه، وإذا كان صديقنا مع الباطل والكذب، فعلينا أن نواجهه لنكون ضدّه في هذا المجال.
تلك وصية علي بن أبي طالب ، لأننا إذا خسرنا شيئاً على أساس الحقّ فإننا سنربحه في مجال آخر.
قد يرى بعض النّاس أنّ الحق يعرّضهم للخسارة، ولكن الواقع أنّ الحقّ يكسبهم الربح في الدنيا وفي الآخرة.
المبدأ الثالث: العمل على طريق الأجر الإلهي:
قال : " وَاعْمَلا لِلأَجْرِ".
في كل عمل من أعمال الإنسان يجب أن يفكر هل هناك أجر من الله على هذا العمل، أو ليس هناك أجر. إنّ الله يريد للإنسان المسلم دائماً، في كل موقع من مواقع حياته، أن يفكر برضا الله سبحانه وتعالى، وأن يفكر بثواب الله، فالله لا يريد للإنسان أن يقوم بأي عمل على أساس العبث، أو على أساس المزاج.
إنّ الإنسان عندما يعمل في أي موقع من مواقع العمل، ليجلب الرزق لعياله، فإنّه إذا أتى بالعمل قربةً إلى الله، وسار على أساسه في طريق الله، فإنّ الله سيجعل عمله في سبيل عياله عبادة.
وعندما يزور الإنسان مؤمناً من رفقائه، أو من أقاربه، فإذا قصد وجه الله، في زيارته له وإدخال السرور عليه، فإنّ ذلك يعتبر عبادة تقرّبه إلى الله سبحانه وتعالى.
المبدأ الرابع: نصرة المظلوم:
قال : "وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً".
هذا المبدأ يشمل الجانب الاجتماعي في علاقات الناس بعضهم ببعض، أو الجانب السياسي في علاقة الحاكم بالمحكومين، والمحكومين بالحاكم، وعلاقة الناس بعضهم ببعض.. وهو أن يكون الأساس في معاونة الإنسان شخصاً على شيء، أو في الوقوف ضد شخص، هو أن يكون الشخص الذي تعاونه مظلوماً، وأن يكون الشخص الذي تقف ضده ظالماً.
ولهذا لا بدّ للإنسان دائماً من أن يحدد في مستوى الحياة الاجتماعية، من هو الظالم ومن هو المظلوم، وذلك بالتدقيق في ما يعمله هذا ويعمله ذاك، وفي ما يقوله هذا ويقوله ذلك، لا أن يكون تحديدنا للظالم والمظلوم منطلقاً من الإشاعات، أو من الكلمات غير الموثوقة، أو من القضايا التي تحمل أكثر من وجه، بل أن نحدد الظالم من موقع اليقين، ومن موقع الثقة، ومن موقع الاطمئنان، حتى نواجهه على أساس متين، لا على أساس منهار.
وهكذا عندما نريد أن نحدد المظلوم، أن لا يكون تحديدنا ناشئاً من هوى النفس، أو ناشئاً من العاطفة، أو ناشئاً من الصداقة أو القرابة أو المزاج. فبعض الناس يتحرك على أساس أن أقاربه هم دائماً المظلومون على طول الخط، ويعتبر أنّ البعيدين عنه ظالمون على طول الخط..
لا بد لنا من أن نحدد مسألة المظلومية والظالمية من غير جهة العداوة والصداقة، ومن غير جهة القرابة والبعد، ومن غير جهة التحزب.
المبدأ الخامس: تنظيم الأمور:
" أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ ".
عندما نستمع إلى وصية الإمام علي في آخر أيامه، فنحن معنيّون بهذه الوصية، لأنّ الإمام يقول كل من سمع هذا الكتاب فأنا أوصيه بهذه الوصيّة، وعليه أن يتحمّل مسؤوليته في تطبيق هذه الوصيّة، على واقعه وواقع النّاس من حوله.
فتقوى الله هي الأساس؛ لأنّها تعني مراقبةَ الله، وكلما راقبنا الله أكثر كلما ضبطنا مواقع خطواتنا في الحياة أكثر.
ثم إنّ الإمام يخاطب النّاس ويقول لهم: حاولوا أن تنظّموا أموركم وعلاقاتكم وأوضاعكم في القضايا التي تختلفون فيها، وأن تنظّموا أوضاعكم في القضايا التي تتفقون فيها، حتى تستطيعوا أن تواجهوا علاقاتكم ببعضكم البعض، من موقع التنظيم الواعي لأموركم، في كل ما تلتقون عليه، وفي كل ما تفترقون فيه.
أن لا تعيشوا الفوضى في أموركم الاجتماعية، وفي أموركم السياسية، وفي الجوانب الاقتصادية والأمنية وغير ذلك، بل أعطوا كل إنسان حقه، كونوا المجتمع المنظم الذي يعرف فيه كل إنسان موقعه ودوره، أن لا يكون مجتمعاً فوضوياً يتحرك فيه كل الناس على هواهم ووفق رغباتهم وشهواتهم، لأنّ ذلك يشغل الأمة عن القضايا الكبرى والحيوية.
وهذه هي المشكلة التي لا يزال المسلمون يعيشون فيها على مستوى كل مجتمعاتهم، فإنّهم يتحركون كأفراد، ولا يتحركون كمجتمع، بحيث إنّ كل فريق يتصور نفسه كل شيء، أو كل شخص يتصور نفسه أنّ الحياة له، وليس لأحد حق الحياة معه، وأنّ الساحة له وليست لأحد غيره.
الكل يريد أن يلغي وجود الطرف الآخر، وبذلك يتصرف كما لو كان الطرف الآخر ليس موجوداً.
ولهذا نرى ما يقوم به الاستكبار العالمي من نخر عظام الأمة بحيث تخطط وتضع السيناريو تلو السيناريو وبمعونة عبيدها المستأمرين لإلهاء الأمة في مشاكلها وعذاباتها.
إنَّ ما شهده العراق من موجة تفجيراتٍ وحشيَّة طالت المئات من الأبرياء في عددٍ من مدنه، يمثِّل قمّة الوحشيّة التي تتحرّك فيها جهات تمتهن الجريمة والعدوان، ولا تنظر إلى المستقبل الذي يتطلّع إليه الشّعب العراقيّ بشغف، ليرى البلاد وقد تحرّرت من القوّات المحتلّة التي لا تزال تتحكّم بمفاصل الحركة السياسية والأمنيَّة في العراق، وتسعى لمواصلة ذلك في المدى المنظور.
إنّنا نخشى أن تكون هذه التّفجيرات، مقدمةً لعمليّاتٍ عدوانيةٍ أوسع تستهدف الشعب العراقيّ في كلّ مكوّناته السياسيّة والدينيّة والعرقيّة، لتكون عنواناً لمرحلةٍ جديدة يدخل فيها العراق في المعترك الإقليميّ وفي لعبة الأمم التي تدور رحاها على مستوى المواقع المتعدّدة في المنطقة، ليشكّل ذلك المنطلق لمرحلةٍ داميةٍ تهبّ فيها رياح الفتنة المذهبيّة والسياسيّة على العراق وجواره، وتنتقل فيها شرارة النار إلى مواقع جديدة، لتكون الشعوب العربيّة والإسلاميّة هي الوقود لهذه الفتنة الّتي يُراد لها أن تلوّن الرّبيع العربيّ بألوانها الدامية.
إنّ على المرجعيّات الإسلاميّة الواعية، أن ترفع الصوت في مواجهة هؤلاء، وفي مواجهة الجرائم التي يقترفونها، حتّى لا يستمرّ العبث بالوضع العراقيّ تحت عناوين معروفة، وحتّى يُصار إلى كشف هؤلاء ومنعهم من مواصلة هذا المخطّط الّذي يمثّل رغبةً أمريكيّةً وإسرائيليّةً قبل كلّ شيء..
وليس الصومال ببعيد فما يجري فيها من مجاعة تجتاح بلاد القرن الأفريقي، فلا تترك رطباً ولا يابساً إلا وتقضي عليه، وباتت تهدد حياة حوالي ٤ ملايين إنسان، بعد أن قضى حوالي ٢٩ ألف طفل صومالي في الأشهر الثلاث الأخيرة، على مرأى من العالم الأصم الأبكم تجاه كل ما يتعلق بإنسانية الإنسان. كل ذلك هو امتداد لسياسة الحروب التي نفذها أذيال الاستكبار في هذا البلد الغني بموقعه الاستراتيجي وبموارده الطبيعية.
الحديث الثالث: نحن ومبادئ الإمام علي :
هناك أشياء كثيرة تتغير بتغير الزمان، في ما يستحدثه الناس من طريقة اللباس، والأكل والشرب، والتدفئة والتبريد، وطريقة الحياة، وطبيعة العلاقات، هذه أمور تتغير.. وهذا ما يؤكده الإمام علي عندما قال: " لا تقسروا أولادكم على آدابهم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم " [شرح نهج البلاغة: ج ٢٠ ص ٢٦٧]. فليس من الضروري للأب أن يعوّد ابنه على عاداته وطريقته وعمله.
فالإنسان لديه طريقة في اللباس وفي الأكل، لأنّه عاش في زمن يحتاج إلى ما هو فيه، ولكن ولده يحتاج إلى طريقة مختلفة في الكلام والتخاطب، وفي العلاقات وفي الحياة. ليس من الضروري أن يكون الأبناء على صورة آبائهم..
لكن الأمر يختلف مع المبادئ؛ لأنّ المبادئ لا تتغيّر، فحرام الله لا يتغيّر؛ لأنه لم ينطلق من حالة زمنية محدودة، حتى إذا تقدَّم الزمن انتهت تلك الحالة، وكذلك الحلال لم ينطلق من حالة زمنية محددة، حتى إذا تغيّر الزمان تغيّرت تلك الحالة.
يقول الإمام علي في نهج البلاغة: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً ".
يجب على الإنسان أن يؤكّد حريّته كشيء يعيش في ذاته، مما لا حقّ له أن يتنازل عنه لأحد، أن يتمسّك بحريّته أمام كل النّاس.
من لا يكون حراً لا يكون شيعياً؛ لأنّ الحرية هي عمق خط علي في واقعه وحركته. وعندما يقول الإمام علي : " قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ "، فهذا يعني أنّ قيمة كلّ إنسان بمقدار ما يكون صاحب فكر وعلم ووعي وثقافة.
إنّ الإمام علي يريد لشيعته أن تكون الجماعة التي تتحرك في خط تصاعدي مع كل حركة التطور العلمي، ولا يريد لهم أن يكونوا الجاهلين الذين يلتقطون فتات موائد الآخرين في ما يريدون أن يأخذوه أو يتعلّموه.
أيها الأحبة...
إنّ انتماءنا لعلي يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأمناء، وأن نكون المحقّين، الذين يتحرّكون مع أهل الحق. فعلي ليس كلمةً نهتف بها، بل هو موقف ورسالة، لا بد أن نلتزمها ونتبعها.
وعلى هذا الأساس، فإذا أردنا أن نقف مع علي ، فلا بدّ من أن نواجه الباطل كله، كما واجه الباطل كله.
لقد واجه علي الباطل في الكفر، فوقف ضد الكفر، وحارب كل الكافرين. وواجه علي الباطل في داخل المسلمين، فوقف ضد أهل الباطل منهم، في ما كانوا يتحركون فيه من فكر، ومن ممارسات ومناهج..
وقف علي ضد ذلك كله، فكيف يمكن أن يكون موقفنا في كل ما يثار حولنا من قضايا، وفي كل ما يتحرك عندنا من أوضاع؟
ولنستمع إلى أحد أصحابه، وهو «ضرار بن غمرة»، حيث قدم على معاوية الذي طلب منه أن يصف علياً ، فامتنع، ولكن معاوية أصر عليه.
فقال: إذا كان لا بد من وصفه:
" فَكَانَ وَاللهِ بَعِيدَ الْمَدَى، شَدِيدَ الْقُوَى يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاجِذِهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا، وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ مِنَ اللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ، وَكَانَ وَاللهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، وَيُقَلِّبُ كَفَّهُ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا قَصُرَ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا خَشُنَ، كَانَ فِينَا كَأَحَدِنَا، يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ، وَيُنَبِّئُنَا إِذَا اسْتَنْبَأْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ إِيَّانَا وَقُرْبِهِ مِنَّا، لَا نَكَادُ نُكَلِّمُهُ لِهَيْبَتِهِ، وَلَا نَبْتَدِيهِ، لِعَظَمَتِهِ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَقَدْ مثل فِي مِحْرَابِهِ، قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَيَبْكِى بُكَاءَ الْحَزِينِ، وَيَقُولُ: يَا دُنْيَا غُرِّي غَيْرِي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، قَدْ بَايَنْتُكِ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهَا، فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ حَقِيرٌ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ.
فَقال مُعَاوِيَةُ: فَكَيْفَ حُزْنُكَ عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟
قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا.
لقد كان علي الصابر الذي عاش الألم كأقسى ما يكون، وعاش نكران الجميل كأقسى ما يكون، ولكن علياً كان حبيب الله، وكان ولي الله، وهو القائل: " أَلا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ" [نهج البلاغة: كتاب ٥٤].
هل نحفظ وصية علي ، ونحن أوصياؤه، ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ وسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.