الشيخ محمد باقر المحمودي[١] (ت ١٤٢٧هـ)
إذ لم أجد ـ ولن يوجد أبداً ـ مثل كتاب نهج البلاغة حقيقة نيّرة أوقدت من شجرة طيبة مباركة علوية، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، ويوشك نورها أن يعبق العالم، ويفيق قاطنية من الإغماء ، ويخلصهم من الدواهي واللأواء، وهو مع هذا مورد النقاش والاستنكار،!! وكيف يمكن النقاش فيه وقد اكتنفته الشواهد الداخلية والخارجية، وحفّت به المعاضدات اللفظية والمعنوية، ولفّت به القرائن الحالية والمقالية، وجلّ ما فيه مما أجمع واتفق على روايته علماء السنة والإمامية، وهل يمكن ستر الشمس بالكف، أو يتيسر إخماد نور الله بالنفث، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الفاسقون، وكيف لا يستعجب الفطن الخبير المنصف من ذلك، مع أنّه لم يعرف ـ ولن يعرف أبداً ـ بعد القرآن الكريم مظير كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) عزاً عربياً سرمداً ومع ذلك يقع في معرض الإنكار، ويكون هدفاً للنقاش، ويقابل بالمكابرة والمجادلة، وكيف لايتعجب اللبيب ولم يعهد ـ ولن يكن معهوداً لأحد ـ بعد الفرقان المجيد مثيل نهج البلاغة أساساً أدبياً مخلداً قد تمثل بصورة الاعجاز، ومع الوصف يجهل قدره؟! لا يقدّره ذووه، ولا يصدّقه أهلوه؟!!
وكيف لايعجب الحكيم ـ أو يلام على ذلك ـ ولم يشاهد ـ ولن يشاهد أبداً ـ بعد تنزيل العزيز الحميد ، عديل نهج البلاغة بياناً جامعاً للحقائق، وكاشفاً عن الغرض من إيجاد العالم وتشريع القوانين الإلهية ، وبعث الأنبياء والسفراء، ومحاسبة العباء في يوم المعاد، وهل يترقب مثله كلاماً شارحاً للإسلام ومزاياه الراقية؟!
وهل ينتظر شبهه بياناً سائقاً إلى الإيمان ودرجاته السامية، وثمراته الطيبة، وبركاته العظيمة ، ولوازمه الرغيبه الحبيبة الحميدة؟! أنّى يترقب مثله وهو معجزة الخلاقة؟! أو أنّى ينتظر شبهه وهو من أنوار الإمامة!! [٢] .
الشيخ محمد تقي بن كاظم التستري[٣] (ت١٤١٥هـ)
فإنّ علماء الإسلام الخاص منهم والعام، وإن صنّفوا من الصّدر الأول في كل فنّ إلاّ لم يُؤلّف أحد مثل كتاب الشريف الرضي هذا [٤] ، فإنّ أهمية كل كتاب بمقدار فائدته، وقيمته بقدر عائدته، ولم يبلغ بكتابه هذا بعد كتاب الله تعالى كتاب فإنّه تاليه في الفصاحة والبلاغة، وفي الاشتمال على كلّ نصح وحكمة [٥] .
السيد محمد تقي بن محمد باقر النقوي القايني [٦]
إنّه لايخفى على الناقد البصير والمطّلع الخبير، إنّ كتاب نهج البلاغة لايقاس بغيره من الكتب الموجودة، والزّبر المسطورة من الأوّلين والآخرين إلاّ كتاب الله تبارك وتعالى الذي هو الأصل وهذا فرعه أو هو البذر وهذا ثمرته، لكونه متضمّناً من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربيّة، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، مالا يوجد مجتمعاً من كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب [٧].
الشيخ محمد جعفر ابن الشيخ إبراهيم الكرباسي [٨]
لقد أضحى تطوّع (الشريف الرضي) ـ السالف ذكره ـ حقيقة واقعة مشهودة أمام الأبصار في كتاب جدا نفيس قد جمعه لأثقف الناس عقولاً وأصدقهم إعجاباً بالروائع العربية الخالدة، والقرائح المرشدة والسمدّدة إلى معاريض الخير والبشري العام في الدنيا.
إنّ كتاب نهج البلاغة حافل كامل بضروب من الفوائد السياسية، والشروح الفقهية أو القضائية ، مع التوجيهات الأسرية الرائعة والتبصر في الأسرار العسكرية، ومحاسن الحياة المدنية في الأسواق التجارية والصناعية، وإرشادات خلقية لمحامد الحضور في مجالس العلماء والأدباء ، وإيثار الخيرات الصناعية والتجارية جميعها، وتحذيرات الناس من عواقب المعاداة السلالية بين الأسرات والقبائل.
وأيضاً بثّ الدعوات الجليلة إلى إيثار السجايا الإسلامية على ما سواها في التعاضد والمناصحة والانسجام النزيه بين سائر المجتمعات أينما تكون من المسكونة [٩].
الشيخ محمد جواد مغنية [١٠] (ت١٤٠٠هـ)
إنّ كل كلمة من كلمات نهج البلاغة تعكس في وضوح روح الإمام وعلمه وعظمته في دينه وجميع صفات الجلال والكمال، ولولم يحمل نهج البلاغة اسم الإمام، ثم قرأه عارف بسيرته وشخصيته لا يتردد في القول بأنّه كلام الإمام من ألفه إلى يائه [١١] .
الشيخ محمد حسن آل ياسين [١٢] (ت١٤٢٧هـ)
فسيظل نهج البلاغة نبراساً مشعّاً يهتدي بنوره السائرون، وينهل منه المنهلون، ولن يستطيع الضباب مهما تكاثف حجمه واتسع امتداده أن يحجب الشمس عن العيون [١٣].
الشيخ محمد حسن بن حسن المعروف بـ (الوحيد الخراساني) [١٤]
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي".
قد اعترف بصحّة هذا الحديث أساطين وعلماء الرجال من الفريقين العامة والخاصة، بل ونُقّاد الرجاليين من العامة أيضاً اعترفوا بصحته.
فقه هذا الحديث ومضمون ما بيّنه النبي الخاتم فوق ما تحتمله أمثال هذه المجالس والمحافل، ونحن لانتمكن من معرفة مغزى هذا الحديث إلاّ بعد معرفة القرآن، والقرآن عبارة عن خلاصة ما أفيض على جميع الأنبياء والمرسلين(عليه السلام)، وما أنزل في جميع الكتب السماوية، وعصارة جميع الأسرار التي أفيضت على من أرسلهم الله وجميع العلوم النازلة فيما أنزله الله.
وهو الكتاب الذي قال الله تعالى لنفسه لأجله: (تَبَاركَ) فقال: (تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلعالَمينَ نَذِيراً) [١٥]، فأثنى الله على نفسه لأجل نزوله من قبله.
وهو الكتاب الذي قال في مقام بيان عظمته: (يس* والقُرآنٍ الحكيمِ) [١٦]، ويأمرنا باتباعه بقول مطلق: (وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ) [١٧]، هذا النبي(صلى الله عليه وآله)قد قال بأنّ علياً(عليه السلام) مع القرآن، والقرآن مع علي(عليه السلام)، وأنّهما لن يفترقا، ولا يمكن أن يفترقا .
نتيجة الحديث وخلاصته:
ونتيجة لهذا الحديث هي: أنّ نفس العصمة الثابتة للقرآن: (لا يَأتِيهِ الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ) [١٨]، ثابتة لعلي(عليه السلام) أيضاً، ونفس الطهارة الثابتة للقرآن ثابتة لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أيضاً، فهو الذي مع القرآن والقرآن معه.
تأملوا هذا الحديث ففيه جملتان عن القرآن، وجملتان عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وانظروا بمن يبدأ الحديث وبمن يختم، إنّه يبدأ بعلي ويختم بعلي(عليه السلام): "عليٌ مع القرآن والقرآن مع علي"، وإذا عرفنا معنى هذا الحديث عرفنا مدى عظمة (نهج البلاغة)، فهذا الكتاب قطرةٌ من بحر ذلك العلم المحيط بجميع أسرار القرآن المجيد، إلاّ أن قدر هذا الكتاب مجهول في الأمة، ومن تكليف كل مسلم من أي مذهب كان ـ بحكم هذا الحديث الصحيح، والذي هو من سنّة خاتم النبيين(صلى الله عليه وآله) ـ أن يجعل من (نهج البلاغة) برنامجاً لحياته المادية والمعنوية كما أنّ القرآن برنامج لحياته أيضاً.
نحن لم ندرك عظمة هذا الكتاب، وحتى ندرك جانباً من ذلك علينا أن نتأمّل في هذه النقطة: أنّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) هو ذاك الإنسان الذي لم يتفوّه بشيء ما كان الرسول(صلى الله عليه وآله) حياً تأدّباً واحتراماً له، وبعد ارتحال النبي أيضاً لزم السكوت مدة خمس وعشرين سنة، ولم يتحدّث بشيء إلاّ نادراً، وإنّما تمكّن من إلقاء خطاباته في الخمس الأواخر من عمره الشريف مع كل المشاكل الاجتماعية التي واجهته، و(نهج البلاغة) إنّما جمع جانباً من كلامه وخطبه في هذه السنين القلائل.
على أهل الدقّة وعلماء البشرية أن يتأمّلوا في هذه القضية، فقد كان في هذه المدّة القصيرة، مبتلى بخوارج النهروان، وبحرب الجمل، وحرب صفين، وفتنة الشام، هذا بالنسبة إلى مشاكله الخارجية والحروب، وفي الداخل كان ذلك الحاكم الذي يتسع حكمه حتى للأراضي التي كانت خاضعة لحكم الإمبراطورية الرومانية ومملكة إيران، ولأجل المحافظة على حقوق الناس وعدم ضياع شيء منها قدر الإمكان، كان يتصدّى حتى للأمور التالية بنفسه:
أ ـ يأتي إلى بيت المال ويتولّى تقسيم الغنائم والأموال بنفسه على مستحقيها، ثم كان يصلّي بعد إتمام المهمة ركعتين شكراً لله تعالى على توفيقه لإيفاء الحقوق والأموال إلى أصحابها.
ب ـ ثم وفي نفس اليوم يحضر دكّة القضاء لفصل الخصومات والنزاعات بين الناس، وإرجاع الحقوق لأصحابها، وتحكيم مبدأ العدالة بين الناس.
وعندما يدخل وقت الصلاة نجده ـ وبحكم : (إنّما عَرَضنَا الأمانَةَ) [١٩] ـ يتغيّر لون وجهه فيقف في الصلاة بشكل وحالة تحيّر العقول، وعندما يدخل الليل يتململ كتململ السليم [٢٠] إلى أن يطلع الفجر، مستغرقاً في الخوف والخشية من عظمة ربّ الأرباب بتلك العبادة التي لم يرَ الدهر نظيراً لها بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكان يعبد الله ويقول:
"إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك" [٢١] .
هذا الإنسان مع تلك المشاغل والمشاكل الداخلية والخارجية، الفردية والاجتماعية وجد فرصة للتحدّث خلال خمسة أعوام فقط، وما وصل إلينا منه هو هذه المجموعة من الخطب والرسائل والكتب والكلمات القصار، التي تعتبر بحراً موّاجاً من العلم والحكمة، والتي جمع قسم كبير منها في كتاب (نهج البلاغة).
اسم هذا الكتاب وعنوانه (نهج البلاغة)، ولكن هذا الاسم إنما هو عنوان لقشر هذا الكتاب، وهو اسم لأسلوب الصياغة والتعبير عن تلك الأفكار الواردة في تلك الخطب و...، الأسلوب الذي هو حقاً منهج للفصاحة والبلاغة، ولكن مضامين هذا الكتاب وتلك الخطب و.. هي نهج العلم والحكمة والمعرفة والعبادات، فهذه المجموعة من حيث المضامين والمفاهيم الواردة فيها هي عصارة الحكمة النظرية، وخلاصة الحكمة العملية للأوّلين والآخرين [٢٢].
هذا هو نهج البلاغة، إلاّ أنّ هذه التسمية ليست معبرة عمّا في هذا الكتاب، فهذا الكتاب نهج الحكمة وليس نهجاً للبلاغة والفصاحة فحسب، وهو كتابٌ يتلو القرآن المجيد في بلاغته وفصاحته، وبحسب تعبير ابن أبي الحديد المعتزلي: "دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق"، مع أنّه (المعتزلي) ناظر إلى جانب الفصاحة والبلاغة في الكتاب فقط ، وأما ما في الكتاب من المعارف، وما يتعلّق منه بالمبدأ والمعاد، والنبوة العامة والخاصة، وما يرتبط بتربية الإنسان الكامل، وبإعمار وتنظيم وترتيب البلاد، وتربية المجتمعات البشرية، وإحقاق الحقوق الإنسانية ..
فهو (الكتاب) يمثّل منشور المعارف الربّانية وميثاق السعادة الإنسانية .
على المدققين أن يتأملوا، أنّ المتحدّث بهذه الكلمات إنّما ألقاها خلال خمس سنوات فقط ، وذلك مع ابتلائه بكل تلك المشاكل ، وهي ليست كل ما تحدث به ، فلم يكن تسجيل الصوت متاحاً آنذاك ، والكتابة كانت نادرة، ومع كل هذا فقد بقيت منه هذه الكلمات التي نجدها في هذا الكتاب وآثرت عنه ، ومع ذلك فعلماء البشرية عاجزون عن أن يأتوا بمثله ، فليجتمعوا وليأتوا بمثله (نهج البلاغة) إن أمكنهم ذلك ، لكنهم لن يقدروا على ذلك .
إنّ هذا الكتاب كان وما زال مظلوماً ، ويلزم الشروع في تدريس في جميع الحوزات العلمية ، وشرح كلماته في جميع المجالس (مجالس الخواص والعوام)، فكلمةٌ واحدةٌ من كلماته القصار، وحكمةٌ قصيرةٌ من حِكَمِه تكفي لإصلاح عالم.
وعلى أية حالة، عندما نتأمّل بدقّة في هذا الكتاب، عندها يتلألأ لنا شعاع من ذلك الحديث النبوي الذي قال: "علي مع القرآن والقرآن مع علي"، فتكليفنا جميعاً هو ألاّ نفصل بين القرآن ونهج البلاغة، ونحول دون حدوث الفصل بينهما في جميع المدارس والمحافل العلمية، فالقرآن مع نهج البلاغة وملازماً له، ونهج البلاغة مع القرآن ولا يفارقه، كما أنّ علياً (عليه السلام) مع القرآن وعدله والقرآن مع علي.
وخلاصة القول: إنّ نهج البلاغة ليس نهجاً للبلاغة فحسب، بل هو نهج الحكمة النظرية والحكمة العملية بتمام مراتبهما، بمعنى أنّ عصارة وخلاصة جميع الحكمتين النظرية والعملية موجودةٌ في جميع هذا الكتاب، والنتيجة أنّ ما بين هاتين الدفّتين ليس نهجاً للبلاغة فحسب ، بل نهج المعرفة والحكمة أيضاً ، نهج الحكمة النظرية والعملية [٢٣].
السيد محمد حسين بن محسن الحسيني الجلالي [٢٤]
إنّه ما بلغ كتاب في البلاغة ما بلغه نهج البلاغة من الشهرة في الآفاق ، حيث مُدّت إليه الأعناق من مختلف أصحاب الملل وأرباب النحل، لما وجدوا فيه نهجاً علوياً سديداً، ولجامعه أسلوباً رشيداً [٢٥] .
كتاب نهج البلاغة لا يختلف اليوم عن الأمس، لأنه بلغ في سماء البلاغة محل الشمس، عشت عنها عيون، وحييت بأشعتها معارف وفنون عبر القرون، فأنّه الكتاب الوحيد الذي جمع بأسلوب فريد روايات منتقاة من خطب ورسائل وحكم الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام) [٢٦].
الشيخ محمد مهدي شمس الدين [٢٧] (ت١٤٢٢هـ)
سواء نظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، وجدته من الآثار التي تقلّ نظائرها في التراث الإنساني على ضخامة هذا التراث، فقد قيل في بيان صاحبه أنّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، بيان معجز البلاغة، تتحوّل الأفكار فيه إلى أنغام، وتتحوّل الأنغام فيه إلى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حيّ متحرّك ينبض بالحياة ويمور بالحركة. وتلك هي آية الإعجاز في كلّ بيان. ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجاوب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة ممّا اعتاده التافهون من الناس أن يكرّسوا له البيان .
فلم يمجّد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوّة الأقوياء وإنّما مجّد نضال الضعفاء ، ولم يمجّد غني الأغنياء وإنّما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجّد الظالمين العتاة وإنّما مجدّ الأنبياء والصُلحاء.
إنّ الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والحرب والمسلم، والنضال الأزليّ في سبيل عالم أفضل لإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة. فنهج البلاغة كتاب إنسانيّ بكلّ ما لهذه الكلمة من مدلول، إنسانيّ باحترامه للإنسان وللحياة الإنسانية، وإنسانيّ بما فيه من الاعتراف للإنسان بحقوقه في عصر كان الفرد الإنساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنسانيّ بما يثيره في الإنسان من حبّ الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموّها ونقاءها، لهذا ولغيره كان نهج البلاغةـ وسيبقى ـ على الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث الإنساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات .
وحقّ له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، وديناً من الفضائل ، ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الإنسان [٢٨] .
الشيخ محمد هادي الأميني [٢٩] (ت١٤٢١هـ)
لم يشتهر بعد القرآن الكريم.. في مملكة الأدب وعاصمة الفكر كتاب كاشتهار ـ نهج البلاغة ـ ذلك الكتاب العربي المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... فكان على امتداد التاريخ وعبر القرون والأحقاب وتطاول الأجيال، كاشتهار الشمس في الظهيرة، وقد جمع بين دفّتيه ٢٤٢ خطبة وكلاماً و٧٨ كتاباً ورسالة و٤٩٨ كلمة من يواقيت الحكمة ودرر البيان وجوامع الكلم، وكلها من وضع إنشاء عملاق البلاغة وعبقريّ الفصاحة ومعلّم الأدب وسيد البيان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فكان من لفظه الحر الرصين، وكلماته السامية وأخيراً ما جادت به عبقريّته الفيّاضة وبراعته الدفّأقة [٣٠].
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي [٣١]
أيقنت بأنّ نهج البلاغة لأعظم وأكبر ممّا كنّا نفكّر فيه ونتصوّر عنه. فقد رأيت نفسي حينها أمام بحر زاخر من العلوم والمعارف التي تعالج أهم قضايا الإنسان في كافة أبعاده المعنوية والمادية، كما يمدّ الإنسان بمختلف المواهب المعنوية التي تمكّنها من بلوغ شاطئ الأمان في هذا الدنيا المحفوفة بالمكاره.
آنذاك أدركت عمق خيبة وخسران أولئك الذين ولّوا ظهورهم لهذا الكنز الفيّاض والمنهل العذب، وجعلوا يسيلون لعابهم لموائد الأجانب بما يعجزون عن الإتيان بمثل قطرة من بحره المتلاطم.
من عجائب هذا الكتاب الذي اقتفى آثار القرآن حتى طبع بصفاته وسماته إنّه وخلافاً للمدارس الفكرية والأخلاقية والسياسية التي يبليها الزمان، فإنّه يحمل في طيّاته صفات العصرنة والتجدد، وكأنّ خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) ومواعظه وتوجيهاته تقرع سمع المعاصر وتجعله يعيش أجواء مسجد الكوفة. وما أجدر عشّاق الحق والحقيقة والمتعطّشين لمعرفة العلوم الربّانية والمتطلّعين لعيش الحياة الحرة الكريمة أن يقصدوا كل يوم ضريح هذا العالم الفذ السيد الشريف الرضي (جامع نهج البلاغة) فيؤدّوا له طقوس الإجلال والإكبار، ويقرؤ الفاتحة على روحه الطاهرة بفضل الجهود المضنية التي بذلها من أجل جمع كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) فزوّد بها البشرية جمعاء فضلاً عن المجتمعات الإسلامية [٣٢].
فإذا تصفّحنا نهج البلاغة وطالعنا خطبه ووصاياه لعمّاله وولاته حين أخذ بزمام الأمور وتزعّم قيادة الأمّة، رأيناه يكشف النقاب عن عناصر تألّق الحضارات وازدهارها وأسباب سقوطها وانهيارها، إلى جانب استعراض مصير الأقوام الظالمة والأمم المستبدة، بالإضافة إلى الأسس والمبادئ التي من شأنها ضمان سلامة الأنظمة الاجتماعية والسياسية الحاكمة، بما يجعلك تظن بأنّه عكف عمراً على هذه الأمور ويختص بها دون الاهتمام بسائر ميادين الحياة ونواحيها. ثم نقلب صفحات النهج لنراه زعيماً أخلاقياً هادياً البشرية نحو تهذيب النفس ومكارم الأخلاق. يلتقيه أحد الأصفياء من أصحابه ويدعى "همام" الذي يسأله أن يصف له المتقين. فيعدد له(عليه السلام) ما يقارب المئة من صفاتهم بعبارات أحكم صياغتها وبلاغتها كأنّه جلس عمراً لدروس الأخلاق والتهذيب وتربية النفوس، حتى يصعق همام صعقة كانت نفسه فيها. حقاً إنّ هذه الأبحاث العميقة الفريدة المتنوعة التي شحن بها نهج البلاغة تعدّ من الخصائص والمميزات التي اتصف بها هذا الكتاب العجيب [٣٣].
[١] . الشيخ محمد باقر بن ميرزا محمد بن عبد الله الشيرازي المحمودي. عالم أديب ورع، ولد في شيراز سنة ١٣٤٢هـ ونشأ بها، اشتغل بالتأليف والتحقيق وجدّ في ذلك فأخرج من تحقيقاته نفائس الكتب وأبرزها إلى عالم النور وأسس بجهوده مؤسسة المحمودي للمطبوعات في بيروت . (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٤٠٤) .
[٢] . نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة : ١/٩ .
[٣] . الشيخ محمد تقي بن كاظم بن محمد علي بن جعفر التستري. عالم كبير ومؤلّف مكثر، ولد في النجف سنة ١٣٢١هـ ونشأ بها على حبّ العلم والفضيلة الذي ورثهما عن آبائه وعن جده الشيخ جعفر التستري صاحب (الخصائص الحسينية)، فاشتغل على الأعلام الأفاضل من مدرسي النجف مجدّاً في تحصيله حتى تخرّج عليهم، عاد إلى موطنه الأصلي (تستر) وأقام بها مشغولاً بوظائفه الشرعيّة والتدريس والتأليف إلى وفاته (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٤١٥).
[٤] . لايخفى على القارئ اللبيب أن المحقق التستري(رحمه الله) عدّ جمع السيد الرضي لمادة الكتاب من تأليفه، وليس مراده أنّ مادة الكتاب هي له، وهي من الأمور البديهية عند أهل الفن والتراث، فلا يتوهّم.
[٥] . بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ١٧ .
[٦] . عالم أديب مرشد. ولد في قائين سنة ١٣٤٨هـ ونشأ بها. هاجر إلى النجف لإكمال الأبحاث الفقهية والأصولية حتى أتمها ثم رجع إلى طهران وهو اليوم قائماً بوظائفة الشرعية وكاتباً ومحققاً. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٤١٨).
[٧] . مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة: ٦ .
[٨] . علاّمة أديب كاتب. ولد في النجف سنة ١٣٤٦ ونشأ على والده العالم الفاضل. دخل المدرسة الأبتدائية والثانوية ثم في كلية الفقه وتخرج منها لينخرط في سلك التعليم حتى تقاعده سنة ١٩٨٣م . تفرغ للكتابة والتأليف، وأخرج من ذلك مؤلفات قيّمة متخصصاً باللغة العربية وآدابها. كتب الشعر ونثره في الصحف النجفية وشارك في بعض المهرجانات الأدبية كُرّم من قبل الدولة وسام (الروّاد) سنة ١٩٩٥ مع آخرين من أرباب الفكر والأدب والاجتماع. (مستدرك شعراء الغري: ٢/٣٤١) .
[٩] . صحائف نهج البلاغة: ٧ .
[١٠] . عالم كامل، مؤلّف متتبّع مكثر، أديب مؤرّخ، ولد في جبل عامل، وأخذ مقدمات العلوم وأوّليات السطوح من فضلا، بلده، ثم هاجر إلى النجف الأشرف وحضر دروس المشايخ وتتلمذ على السيد أبي الحسن الأصفهاني والسيد عبد الهادي الشيرازي والشيخ محمد حسين الأصفهاني ثم عاد إلى بلاده وسافر إلى البلاد العربية والإسلامية ثم عاد إلى وطنه ومات فيها سنة ١٤٠٠هـ (معجم رجال الفكر والأدب في النجف: ٣/٦٦) .
[١١] . موسوعة الإمام علي(عليه السلام): ٣/٧٨.
[١٢] . الشيخ محمد حسن بن محمد رضا بن عبد الحسين بن باقر بن محمد حسن آل ياسين الكاظمي، عالم أديب شاعر، ولد في النجف سنة ١٣٥٠هـ ، و كان كاتباً مكثراً وله في إحياء التراث العلمي الإسلامي وقد حقق الكثير من المخطوطات بأحسن تحقيق. أختير عضواً في (المجمع العلمي العراقي) و (المجمع العلمي الأردني) أصدر مجلة البلاغ سنة (١٣٨٧هـ) ودامت مدة طويلة وكانت من المجلات الرصينة فيما ينشر فيها من بحوث ومقالات وشعر. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٤٥٣) .
[١٣] . نهج البلاغة لمن: ٤٢ .
[١٤] . عالم فقيه مدّرس. ولد في خراسان سنة ١٣٣٩هـ ونشأبها، هاجر إلى النجف الأشرف سنة ١٣٥٤هـ ونزلها عشرين سنة وحضر بها فقهاً وأصولاً على الشيخ حسين النائيني والسيد أبي الحسن الأصفهاني..، غادر النجف سنة ١٣٧٤هـ ونزل مدينة مشهد فقام بإمامة الجماعة في مسجد (كوهرشاد) وتصدى للتدريس والوعظ والإرشاد ويعتبر المدرّس الأوفر في الحوزة العلمية بقم تخرج عليه عليه جملة من الفضلاء . (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ١٢٢).
[١٥] . الفرقان: ١ .
[١٦] . يس: ١ ـ ٢ .
[١٧] . الحشر: ٧ .
[١٨] . فصلت: ٤٢ .
[١٩] . الأحزاب: ٧٢ .
[٢٠] . السليم: الملسوع (مجمع البحرين: ٥/٤٧٥).
[٢١] . الكافي: ١/١٣٩ .
[٢٢] . أهمية نهج البلاغة للشيخ الوحيد الخراساني، ترجمة أيوب الجعفري: ٧ ـ ١٣ .
[٢٣] . أهمية نهج البلاغة للشيخ الوحيد الخراساني، ترجمة أيوب الجعفري: ٢٤ .
[٢٤] . عالم أديب مؤلف، ولد في كربلاء سنة ١٣٦٢هـ ونشأ بها على والده العالم ، هاجر إلى النجف سنة ١٣٧٩هـ وحضر بها الأبحاث العالية على السيد حسن البجنوردي والسيد أبي القاسم الخوئي ولازمه. كان كثير المطالعة والتأليف. اُرسل من قبل أستاذه الخوئي وكيلاً إلى دولة قطر ليكون مرشداً ومبلغاً لأحكام الدين ثم هاجر إلى مدينة قم وبقي بها إلى سنة ١٣٩٩هـ عندها هاجر إلى أمريكا واستوطن مدينة (شيكاغو) في خدمة الإسلام والمسلمين إلى اليوم. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب ٤٦٨) .
[٢٥] . دراسة حول نهج البلاغة : ٧ .
[٢٦] . دراسة حول نهج البلاغة: ١٤ .
[٢٧] . الشيخ محمد مهدي بن عبد الكريم بن عباس شمس الدين العاملي. عالم مؤلّف محقّق، ولد في النجف ١٥ شعبان سنة ١٣٥٣هـ ونشأ به على والده العالم الجليل، عاد إلى بلده لبنان وأقام في بيروت سنة ١٣٨٩ وقام بوظائفه الشرعية بها، وله مقالات قيّمة نشرت في الصحف العربية وكان كاتباً مكثراً محقّقاً تناول في كتاباته مختلف القضايا الإسلامية وعالجها بمنظار عصري واضح. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٦١٤).
[٢٨] . دراسات في نهج البلاغة : ٤ .
[٢٩] . الشيخ الدكتور محمد هادي ابن الشيخ عبد الحسين الأميني ابن الشيخ أحمد ولد عام ١٣٥٥هـ في النجف الأشرف وانخرط في التأليف والتتبع. ونستطيع القول بأن مثيله قليل في عالمنا المعاصر من حيث الاهتمام بتراث أهل البيت(عليهم السلام) والاشتغال والتأليف والتحقيق. عاش في النجف فترة طويلة ثم تركها في ظروف سياسية قاسية واستقر في طهران مستمراً في أعماله الثقافية من التأليف والتحقيق. توفي في عام ١٤٢١هـ ودفن في قم المقدسة. (انظر: مع علماء النجف الأشرف/ محمد الغروي: ٢/٧٣٧).
[٣٠] . نهج الحياة: مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة : ١١٩ .
[٣١] . عالم مدرّس مؤلّف . ولد في شيراز سنة ١٣٤٥هـ ونشأ بها، قرأ أولياته الأدبية ثم هاجر إلى قم وتلمذ بها ومنها إلى النجف سنة ١٣٦٩هـ وكمّل دروسه ثم حضر الأبحاث العالية على السيد أبي القسم الخوئي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم، رجع إلى قم سنة ١٣٧١هـ مواصلاً اشتغاله بالتدريس والتأليف وكان أديباً شاعراً متكلّماً محقّقاً وهو اليوم من العلماء المدرّسين ومرجع الأحكام والشريعة في الاحواز. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٦٨٧).
[٣٢] . نفحات الولاية: ١/٦ .
[٣٣] . نفحات الولاية: ١/٢٩ .
انتهى .