كتب في المقتطف في (ص٢٤٨ من المجلد الـ٤٢) تحت عنوان :
(عهد الإمام علي وكتاب السلطان بايزيد الثاني)
ما نورد منه هنا الشيء الذي له دخل بالخطة التي نتوخاها قال:
(لا يخفى أن عهد الإمام علي هذا وارد في نهج البلاغة ونهج البلاغة كله مظنون في نسبته إلى الإمام علي ويقال انه من وضع الشريف الرضي وليس هذا محل البحث في ذلك ولكن هذه النسخة المخطوطة نحو خمسمائة سنة(يعني بها كتاب السلطان المذكور وهو كتاب كتب فيه عهد الإمام إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر سنة ٨٥٨هـ)تدل على ان البعض من كتاب العربية يستحلون أن يقحموا أقوالهم وآراءهم بين أقوال غيرهم وأرائه وينسبونها إليه ومن كان كذلك لا يكبر عليه أن يؤلف كتاباً وينسبه إلى غيره مبالغة في إكرامه وإثباتا لغرض يقصده بل قد استحل كتابنا ورواتنا سامحهم الله ما هو اعظم من ذلك فوضعوا الشيء الكثير من الأحاديث وجعلوها أركانا تبنى عليها المعاملات كما استحل الرواة قبلهم نظم الأشعار ونسبتها إلى الجاهلية ليبيعوها من الخلفاء والأمراء) .
قال:وقد نشرنا فيما يلي بضع صفحات من هذا العهد كما هو في نسخة السلطان بايزيد التي عندنا وكما هو في نهج البلاغة المطبوع في مصر وذلك في حقلين متقابلين لإظهار ما في الثاني(نهج البلاغة)من الزيادات المقحمة فيه ثم نقل ما في النهج وما في نسخة السلطان بايزيد في أربعة صفحات تقريبا ثم عقب ذلك بقوله: (ترى من ذلك ان الذين تطاولوا على صورة هذا العهد التي كانت متعارفة منذ خمسمائة سنة وزادوا فيها هذه الزيادات الكثيرة زادوها غير متعمدين ضراً ولعلنا لو وقع لنا نسخة خطب قبلها بخمسمائة سنة لرأينا في نسختنا(يعني نسخة السلطان بايزيد) من الزيادات الشيء الكثير حتى نصل إلى النسخة الأولى التي نسبت إلى الإمام (علي)فلا نجدها ربع ما هي الآن وسواء كتب هذا العهد الإمام(علي)نفسه أو كتبه آخر ونسبه إليه فيبعد عن التصديق أن يكتبه مطولاً مسهباً على هذه الصورة التي نراه فيها الآن وأهل ذلك العصر كان يعوزهم القرطاس حتى انهم كانوا يكتبون على الجلود والعظام وما وجد مكتوباً من عهودهم نراه في غاية الإيجاز والعهد في صورته الحاضرة لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام لا أمير مشغول بالحرب والجهاد كما كان الإمام(علي)وقس عليه كل الخطب المنسوية إليه والأشعار التي قيل أنه نظمها ثم ختم هذه المقالة الشنيعة التي حط فيها من كرامة رجال الدين والأدب بقوله:( والنصائح التي فيه من أبلغ وأحكم ما كتبه الحكماء والفلاسفة في كل عصر وما أحراها أن تكون مرشداً لكل من ولي أمر الناس) .
هذا نص ما كتبه المقتطف في(الجزء الثالث من المجلد ٤٢(١مارس)آذار سنة ١٩١٣- الموافق٢٥ ربيع الأول سنة ١٣٣١هـ)وفي هذه المقالة جملة أمور مهمة منها ما يمكن للمنكر أن يتمسك به ويستند إليه ومنها أمور أخر يلزم كشف الحقيقة عنها استطراداً وسنشير إلى جميع ذلك إن شاء الله قوله(نهج البلاغة كله مظنون إلخ).إن هذا القائل لا خبرة له بمثل هذه الموضوعات ولا قيمة لكلامه فيها وقد ذكر انه لا محل للبحث في نسبة النهج ولكن الناظر في كلامه يرى أنه لم يترك في الكنانة سهماً إلا رماه قوله: (لكن النسخة المخطوطة تدل على أن البعض من كتاب العربية يستحلون أن يقحموا أقوالهم إلخ) .
هذا الكلام في غاية السقوط والوهن والدلالة بأقسامها ممنوعة اشد المنع كما سيتضح لك ذلك،أن المقتطف قايس بين العهد الذي في النهج والعهد الذي في نسخة السلطان المخطوطة سنة٨٥٨ فوجد أن نسخة النهج أبسط وأطول من نسخة السلطان فاستنتج من ذلك أن هذه الزيادات إنما حدثت من سنة٨٥٨ إلى زمن طبع نسخة النهج في مصر أو بيروت سنة١٣٠٧ وبنى على هذا الأساس ما بنى وفرع على هذا الأصل ما فرع ولم يلتفت إلى أن نسخة النهج أقدم وأسبق تأريخاً من نسخة عهد السلطان لأن نسخة النهج التي طبع عليها كتبت سنة٤٠٠ وهي متلقاة من جامعها الشريف يداً بيد وعصراً بعد عصر ولو كان فيها إقحام أو زيادة لنبه على ذلك أحد الشراح على كثرتهم أو أحد أهل العناية بهذا الكتاب من رواته وحامليه وفي إحدى مكتبات النجف الاشرف ألان نسخة من النهج مخطوطة سنة ٧٠٦ ونسخة العهد فيها مطابقة للعهد المذكور في نسخة النهج المطبوعة ثم ان عبد الحميد شارح النهج قد شرح العهد المذكور على الصورة الموجودة في النسخة المطبوعة وقد توفي عبد الحميد سنة ٦٥٥ وكذا شارح النهج الفيلسوف الحكيم بن ميثم المتوفي سنة ٦٧٩ ومن هذا كله يتضح أن نسخة السلطان إما مختصرة من نسخة النهج أو أنها نسخت على رواية أخرى فان روايات الخطب والعهود تختلف اشد الاختلاف وصاحب المقتطف رأى نسخة السلطان فكأنه ظفر بالوحي المنزل والحقيقة الراهنة,وقد راقه حسن خطها وبديع زبرجها ونسبتها إلى السلطان بايزيد وهذه أمور عرضية لا تزيد الكتاب قيمة أدبية ورفعة شأن وإنما المجدي في ذلك أن يكون الكتاب مصححاً مقروءاً على الأساتذة مطابقاً لاصل معتبر نقل منه بشهادة أهل الفضل بجميع ذلك,ونسخة السلطان لم تحو صفة من هذه الصفات وعلى فرض صحتها فلا يمكن الحكم والجزم بان نسخ العهد في العصر الثمانمائة في جميع نسخ النهج مطابقة لنسخة السلطان وصاحب المقتطف لم ير غير تلك النسخة ولم يبحث عن النسخ من زمن الأربعمائة إلى زمن خط نسخة السلطان بل استكشف نسخة السلطان من ان جميع النسخ المنسوخة من الثمانمائة إلى الأربعمائة الذي هو زمن فراغ مؤلف النهج منه كلها مطابقة وموافقة لنسخة السلطان وان مصدرها هو نفس نهج البلاغة دون غيره من المصادر وكل هذه الأمور لم تثبت ودون إثباتها خرط القتاد واحتمال كونها في الواقع كذلك لا يوجب الجزم والحكم وهذا اظهر من أن يخفى.
ثم ان هذا الكاتب الكبير الذي نرى له الميزة على أترابه والتفوق على أقرانه بعد أن حكم بالزيادة والإقحام في العهد المذكور من بعض الكتاب حكم بمثل ذلك على جميع كتاب العربية بأنهم يستحلون إقحام أقوالهم بين أقوال الغير ونسبتها إليه وقد علمت ان اصل الزيادة غير محققة بل محققة العدم وعلى فرض تحققها فلا معنى للحكم على جميع الكتاب بواسطة ثبوت ذلك لفرد منهم على فرض ثبوته فيا قراء المقتطف وأنصاره هل يتسع لمقتطفكم بمثل هذه الأسس الواهية أن يصم جميع كتاب العربية بالتدليس وتشويه الحقائق وفيهم أهل الورع والدين والفضيلة والكمال وهم جديرون بان ينزهوا عن الكذب والغش ويبرؤوا عن التدليس والوضع ولا يستحلوا الكذب والباطل ولعمر الحق ان هذا أمر لم نعرفه في كاتب عربي ولا شاعر إسلامي أو جاهلي والذين يقولون شعراً وينسبونه لغيرهم أشخاص معروفون ساقطون لا يعتمد عليهم ولا يوثق بهم ولا تكاد تجد طائفة من أهل العلوم والآداب من سائر الملل والأديان إلا وتجد فيهم أفرادا ساقطين لا يؤبه بهم ولا يعول عليهم ثم ان كاتب المقتطف لم يقتنع بذلك المقدار من وصم كتاب العرب ورواة الشعر بما يوجب القدح فيهم والحط من شأنهم حتى ارتقى إلى رواة الأحاديث والأخبار التي عليها تدور رحى الديانة الإسلامية فنسبهم إلى الوضع والاختلاق والتدليس وهو افتراء بلا امتراء وكذب وبهتان.
كيف يستحل رواة الأحاديث أن يكذبوا على الله تعالى أو على رسوله أو على أحد أئمة الدين وأن يدخلوا في الدين ما ليس منه والكذب عندهم من الكبائر الموبقة والمحرمات الفضيعة.
نعم يوجد بعض الكذابين والوضاعين في الرواة وهم معروفون وقد كتب علماء المسلمين في معرفة رجال الحديث ومقدار ما لهم من الوثاقة والصدق وفي أحوال المدلسين والوضاعين وفي الأحاديث الموضوعة كتبا تفوق الحصر وليس في جميع المسلمين من يستحل الوضع:والواضع منهم يعلم انه قد اقدم على ما لا يحل له كالعاصي الذي يرتكب بعض المحرمات والآثام قوله(ولعلنا لو وقع لنا نسخة خطت قبلها بخمسمائة سنة إلخ)لا وقع لهذا الترجي عندنا أصلا وقد وقعت لنا نسخ من نهج البلاعة وفيها صورة العهد المنوه عنه وقد خطت قبل نسخة السلطان بأكثر من مائة سنة والان توجد نسختان منها أحدهما في النجف الاشرف والثانية في بغداد عند فاضل نجفي قوله(ويبعد عن التصديق أن يكتبه مطولا مسهبا على هذه الصورة أهل ذلك العصر كان يعوزهم القرطاس) إعواز القرطاس كان في مبدأ الإسلام قبل أن ينتشر في الأفاق وتكثر فتوحاته وتتسع بلاده و أما في زمن ظهور خلافة أمير المؤمنين "ع" فلم يكن الأمر كذلك فإن المسلمين قد فتحوا بلاداً كثيرة وملكوا دول الأكاسرة والقياصرة فلم يكن يعوزهم ذلك قال ابن أبي الحديد في (ص٤٨٤ ج٢).
(وكانت الكوفة يومئذ(يعني يوم كان فيها أمير المؤمنين)تجبى لها ثمرات كل شيء وتأتي إليها هدايا الملوك من الأفاق)على انه قد وجد من الكتب السماوية والصحف الدينية ما هو أطول من هذا العهد قوله(والعهد في صورته الحاضرة لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام لا أمير مشغول بالحرب والجهاد كما كان الأمير علي وكذا الخطب المنسوبة إليه) .
ان كاتب المقتطف لا يعرف قدر أمير المؤمنين"ع" ولا يدري ما له من القيمة والمنزلة ولا يعلم ما جبله الله عليه من الفصاحة والبلاغة وما أتاه من العلم والحكمة و إنما يراه كرجل عادي ولو تكلمنا معه على هذا الفرض وعلى مبلغه من العلم فيه لقلنا فيه ان عليا من افصح بيت في العرب واعلاهم ذروة في البلاغة وقد منح لسانا طلقا وفكرة وقادة وفهماً ثاقبا وقد ربي ودرج مع افصح من نطق بالضاد حتى صارت الفصاحة من غرائزه وملكاته فلا يتكلم إلا بالفصيح والأفصح والبليغ والابلغ ولا يحتاج في صوغ الألفاظ ونظمها إلى تأنق ولا أعمال فكر وروي بل تنقاد له أزمة الكلام العالي طوعا بلا تكلف وتجري معه صعابه طبعا وعادة فلا يشغله حرب ولا جهاد ولا يصده جدال ولا جلاد,وقد فات هذا الكاتب ان الحروب والفتن مما تنبه الخواطر وتهيج النفوس وتدعو الأمير والقائد إلى استنهاض والاستنفار وإثارة العزائم والوعد والوعيد والحث والتهييج والوعظ والإرشاد واقامة الحجة والبرهان وغير ذلك من المقاصد والإغراض وكان بنبغي ان ينتشر عنه "ع" من الخطب والمقالات والكتب والرسائل والحكم والنصائح اكثر مما تناقلته الصحف واثبتته الرواة لأن أيام خلافته الظاهري أكثرها أيام أمور هائلة تشحذ اللسان وتصقل الأفكار والخواطر .
وكان "ع" يصرف أيام حياته وأوقات صحته ونشاطه في الأمور التي نوهنا عنها لا يشغله عن أمر الإصلاح الديني والنجاح الحقيقي وإعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل لذة من لذائذ الدنيا ولا شهوة من شهواتها بسنانه ولسانه واقواله وافعاله يعترف له بذلك المبغض والودود والوامق والحسود ومن قرأ كتب التاريخ يقف على ذلك.
واما قوله: (لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام)فهو كلام رجل قليل الخبرة بأحوال العرب وبما منحهم الله من الفصاحة وعلمهم من البيان,والعرب كانت ترتجل الشعر الرجز والقصيد وتقوله بداهة وبلا روية وقد ذكر ابن ظافر من ذلك شيئا كثيرا وإذا كان الشعر وهو اشد كلفة واكثر قيودا من النثر المسجوع مما ترتجله العرب وتقوله بلا روية ولا يعجزها أمره ولا يأبى عليها صعبه وان لم يكن لها ذلك حرفة ولا عمله صنعة فكيف بالنثر المسجوع وهو أهون من النظم واقل كلفة واسهل مؤونة افيستبعد بعد هذا من إمام البلاغة ومالك أزمة الفصاحة الذي يقول فيه عدوه (لو جمعت السن الناس فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان (علي)(ان يرتجل الكلام المنثور الذي يتفق فيه السجع,ولا يستبعد ارتجال الشعر والخطب من أذناب العرب وصعاليكهم,واما خطبه في التوحيد والعدل والمباحث الإلهية التي لم تعرف إلا من كلامه "ع" كما نبـّه على ذلك عبد الحميد في شرحه(ص١٢٠ من ج٢)وعد ذلك من اعظم فضائله ومميزاته على أقرانه فلا ينبغي أن يرتاب فيها من علم مقام أمير المؤمنين"ع" وعلم ما استمده من علوم(من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).