وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
الحكمة النظرية والحكمة العملية في نهج البلاغة – الأول
بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ البحث المراد طرحه هنا هو «الحكمة النظرية والحكمة العملية في نهج البلاغة» وسنشير باختصار ـ قبل تناول الموضوع ـ إلى معنى الحكمة النظرية وإلى معنى الحكمة العملية، ثمّ نبين سبب اختياره من منظار نهج البلاغة.

تقسيم العلم:

يقسّم العلم الإستدلالي ـ الّذي له دور أساس في سعادة الإنسان ـ إلى قسمين: الأوّل الحكمة النظرية، والثاني الحكمة العملية، وتدور الاُمور مناط البحث فيهما تارة خارج حدود حرية الاختيار البشري، وتارة داخل هذه الحدود.

والأوّل: كالبحث في مسائل التوحيد والنبوة والمعاد وسائر المسائل النظرية التي لا تأثير لوجود الإنسان في وجودها موجوداً أم لم يكن، فإنّ وجودها محفوظ في محله، ولا يبلغ الإنسان الكمال إلاّ بمعرفته لها والتدقيق فيها، فهي إذن اُصولا لا تنتفي بانتفاء الإنسان.

والثاني: الحكمة العملية، وهي مسائل لا توجود إلاّ بوجود الإنسان كتلك المتعلقة بالأخلاق، وتهذيب النفس وتربية الروح، وتدبير المنزل، وإدارة المجتمع ومثيلاتها، وبديهي أنّ وجود هذه المسائل مرتبط بوجود الإنسان.

وقد قسّموا العلوم الإنسانية التي لها دور مؤثر في كمال الإنسان إلى قسمين، الأوّل: هو الحكمة النظرية، والثاني: هو الحكمة العملية.

وقسّموا كلا من الحكمة النظرية والحكمة العملية إلى أقسام متعددة لا يتسع هذا البحث لتناول فروعها وأقسامها كافة.

الحكمة النظرية والحكمة العملية من منظر نهج البلاغة:

إنّ السبب في استخلاص هذا البحث من منظار نهج البلاغة هو أنّ صاحب هذا النهج ـ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ـ من الكمال في الحكمة النظرية وفي الحكمة العملية، فهو حكيم بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، وحكمته هذه ليست خارجة عن حدود الطاقة البشرية، بل في حدود ما يقوى عليه الإنسان السائر نحو الكمال، وقد بلغ أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام) أرفع مستويات الحكمة.

الحكمة النظرية للإمام عليّ(عليه السلام)

لا بأس ـ قبل الدخول في البحث ـ من عرض مقدّمة نشير فيها إلى سمو مقام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ورفعته في الحكمتين النظرية والعملية، إلاّ أ نّه مع صعوبة ذلك وعدم تيسره إلاّ لمعصوم مثله فإننا سنعرض لتعريف المقام الرفيع لعليّ(عليه السلام)ورفعته، بغية الخروج بفائدة من هذه المعرفة، كما سنستعين بأقواله أيضاً في ذلك، فالإستعانة بكلماته وبكلمات تلامذة مدرسته يمكنها أن تعرفنا ـ إلى حد ما ـ على أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يذكر بعض خصائصه في نهج البلاغة ممّا يوضح علو مقامه الحكيم.

ففي وصف له وهو يذكر تتلمذه على يد الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول(عليه السلام):

«يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالإقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ»[١].

وهذا بين من أن شامة عليّ(عليه السلام) التي يشم بها نسيم الغيب، هي في الحقيقة عين الشامة التي يمتلكها الأنبياء(عليهم السلام).

فعندما قدم إخوة يوسف(عليه السلام) من مصر وجلبوا قميصه قال يعقوب وهو على بعد فراسخ عديدة (إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)[٢].

لقد كان يعقوب على يقين من أ نّه يشم ريح يوسف، إذ الشامة المنبعثة من الغيب ليست شامة ملكية ولا مادة، إنّها كالنبوة لا علاقة لها بعالم الطبيعة والملك كي تشم بالمشام الظاهرية، أمر كهذا لابدّ له من حاسة شامة ملكوتية غيبية كالنبوة التي هي أمر غيبي.

إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) يصف نفسه بأ نّه يرى نور الوحي والرسالة ويشم رائحة النبوة ثمّ يقول: أ نّه سأل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عن رنة الشيطان التي سمعها:

«وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ آيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر»[٣].

أي أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ رنة الشيطان هذه هي حسرته أطلقها بعد أن عرف أ نّه لا يعبد في مكان يكون للوحي والنبوة والرسالة نفوذ، هكذا عرف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، عليّاً(عليه السلام).

أمّا الإمام عليّ(عليه السلام) نفسه فيقول: «يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ»[٤].

وعبارته هذه هي من العبارات المعروفة في الخطبة الشقشقية، حيث يصف الإمام(عليه السلام) نفسه فيها بأ نّه جبل شاهق تنحدر عنه العلوم، وطبيعي أ نّه لا ينحدر السيل عن كلّ جبل إلاّ إذا كان مرتفعاً ـ فهو يرى أن لا قدرة لطائر ذروته وقمته، ولا قدرة للفكر البشري الإعتيادي أن يصل إلى المقام العالي الّذي وصله(عليه السلام)، كما أنّ العلوم تنساب من هذا الحكيم الإلهي وتنحدر كانحدار السيل، لذا لا قدرة للأفراد الإعتياديين على هضمها واستيعابها، ولما لم يكن الوقوف أمام السيل ميسوراً فإنّه لابدّ من الاستفادة من أطرافه وحوافه.

أمّا مقامه العلمي الرفيع فيقول عنه(عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني، فَلاََنَا بِطُرُقِ السَّماءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الاَْرْضِ»[٥].

وبهذا يشير إلى خصوصيتين له هما من خصائص الكون إذ في الكون عالم ظاهر وعالم باطن... عالم غيب وعالم شهادة، وتدلل العبارة السابقة على أنّ الجانب الغيبي للإمام عليّ(عليه السلام) هو أقوى من جانب الشهادة وأبلغ.

فهو يقول فيها إنّ معرفتي للعلوم والمعارف السماوية أكثر من الشهادة، كما أنّ الموجود المرتبط بعالم الغيب هو أقوى من الموجود المرتبط بعالم الشهادة.

ويقول(عليه السلام): «وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُل مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)، أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ»[٦].

إنّ هذه الإحاطة العلمية لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بعالم الغيب هي الحاكمة على عالم الشهادة عنده.

يقول(عليه السلام): «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»[٧].

فهو يرى(عليه السلام) أنّ العلم الإلهي يتجلّى في القرآن غير أنّ الناس لا يرون هذا التجلّي الإلهي.

يقول: «فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ»[٨].

أي: أنّ الله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام المسطور في الكتاب العزيز، وقد تجلّى سبحانه لمستمعيه بكلماته، فالقرآن صفة فعل الله ومظهره الناشىء من ظهور الصفة المنبعثة من ظهور الذات ـ وهناك عدة مراتب تفصل بين مقام الفعل ومقام الذات ـ فالقرآن هو تجلّي فعل الله ومظهر أوصافه، فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن الله تجلّى للناس في القرآن، لكنهم لم يروا هذا التجلي، وأراهم قدرته فلم يروها، لهذا لابدّ لنا من شخص يرى تجلي قدرة الحقّ وظهورها، ليتمكن من توضيحها للناس وإبلاغها.

كانت هذه نماذج سلّطت الأضواء على الإحاطة العلمية لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في مجال الحكمة النظرية.

الحكمة العملية للإمام عليّ(عليه السلام):

أمّا فيما يتعلق بالنماذج والنصوص التي تدلل على الإحاطة الكاملة لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بالحكمة العملية فإننا نحتاج إليها لاستكمال البحث وإثرائه، فما لم يكن واضحاً في هذه المقدّمة أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) حكيم في مجال الحكمة النظرية، وحكيم كامل في مجال الحكمة العملية لا يكون البحث مثمراً ولا غنياً، إذ أنّ بحثاً كهذا لابدّ له من أن يصدر من مصدر الحكمة ويتدفق من ينبوعها.

يقول(عليه السلام): «وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ» أي أنّ مظهرنا هو مظهر الصديقين الصادقين في ميدان الاعتقاد والأخلاق والعمل، حيث أنّ الصدق في هذه المحاور الثلاثة ملكة راسخة لأهل البيت(عليهم السلام) «وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الاَْبْرَارِ» وقد أشار القرآن الكريم إلى معنى الأبرار ونعتهم بنعوت خاصة «عُمَّارُ اللَّيْلِ» أي يقيمون الليل إحياءً، فهو عامر بيقظتهم الإيجابية، ومن هنا فهو حي غير خرب، أمّا من يقطع الليل نوماً فإنّ ليله لا يكون حباً ولا معموراً، إنّ إحياء الليل وإعماره هو الّذي يضيء النهار، «وَمَنَارُ النَّهَارِ» أي أنّ النهار لا يضاء إلاّ بالضمائر النيرة، فمثلما تنير الشمس الطبيعية فإنّ أولياء الله ينورون المجتمع كما تنير الشمس الطبيعية، فالنهار يستضيء بهم والليل يحيا بهم، إنّهم يمنحون العصر نوراً والأرض بركة.

«مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ اللهِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ»[٩] أي إنّني من قوم يحيون السنن الإلهية ويحكّمون قوانين الله «لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ وَلاَيَغُلُّونَ»[١٠] إنّهم لا يتكبّرون ولا يتعالون ولا يعتدون، «وَلاَ يُفْسِدُونَ».

ثمّ يقول في نهاية خطبته: «قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ»[١١] أي قلوبهم في الجنّة وأجسادهم منهمكة في العمل والجدّ، فأرواحهم في الملأ الأعلى أمّا أجسادهم فتتحرك على هذا العالم، فيتزامن نعيم الروح في الجنّة مع انشغال الجسم بالعمل.

إنّه(عليه السلام) من طراز اُولئك الأتباع الصادقين للوحي، حيث لم يتخلف لحظة واحدة عن السير في طريقه.

يقول(عليه السلام): «أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ»[١٢] أي لم أمتنع لحظة واحدة عن تنفيذ أمر الله أو عن الإنقياد لقيادة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لقد كانت طاعتي طاعة محضة لا يشوبها شيء.

ثمّ يقول(عليه السلام): «فَوَالَّذِي لاََإِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ»[١٣] أي اُقسم بالله أ نّي سائر في طريق الحقّ وفي جادة الحقيقة.

«وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ»[١٤] أي أنّ اُولئك المخالفين ما هم إلاّ في منزلق الباطل، أمّا أنا فثابت على طريق الحقّ والحقيقة.

كانت هذه نماذج قصيرة عرفت عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) على لسانه نفسه، حيث كان لابدّ لنا من تعريفه(عليه السلام) على لسانه أو على لسان الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ريب في أنّ الأثر يدل على المؤثر، وأنّ ضوء الشمس يدل على طلوعها.

الشخصية العلمية والعملية لعليّ(عليه السلام) على لسان تلامذة مدرسته:

نعرض هنا إلى نماذج من أقوال بعض تلامذة الإمام عليّ(عليه السلام) وبعض الناهلين من مدرسته، وهم يعرفون شخصيته العلمية والعملية.

ومن اُولئك ثقة الإسلام الكليني ـ عليه رضوان الله تعالى ـ حيث يعدّ من كبار تلامذته(عليه السلام) ومفخرة من مفاخر الشيعة ينقل ـ في كتابه القيّم «الكافي» الّذي ضم بين دفّاته اُصول وفروع الدين حتى أصبح موسوعة كبيرة لأقوال وأحاديث المعصومين ـ في باب جوامع التوحيد خطبة التوحيد التي خاطب الله بها قبل مخاطبته لجيشه الّذي أعده لقتال معاوية.

وتحدّث في الحمد والثناء والصفات ومعرفة الله سبحانه والتعريف به ـ أي في مجال الحكمة النظرية ـ وقال: «الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرّد الّذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان»[١٥].

وسنذكر حينما نتحدث في الفصل المتعلق بشرح الحكمة النظرية وجهات نظر الحكماء الإسلاميين في جملته هذه، خاصة رأي المحقق الميرداماد المذكور في كتابه ـ القبسات ـ ، كما سنشير إلى وجهة نظر تلميذه الكبير صدر المتألهين وبقية الحكماء الإسلاميين الذين تأثروا بهذا البيان القيم.

ثمّ ينتهي الكليني في نقل خطبة أميرالمؤمنين(عليه السلام) حتى نهاية الخطبة حيث جاء فيها: «بذلك أصف ربّي فلا إله إلاّ الله، من عظيم ما أعظمه، ومن جليل ما أجّله، ومن عزيز ما أعزه، وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً»[١٦].

كيف الوصول إلى سعاد ودونها *** قلل الجبال ودونهنّ حتوف

إنّ هذه الخطبة التي نقلها لنا الكليني في كتابه «الكافي» والتي تناولت موضوع التوحيد بنحو مفصّل هي من الخطب التي سجّلت قبل أن يؤلّف السيد الرضي(رضي الله عنه) نهج البلاغة بسنين طويلة، وقد علق عليها الكليني بقوله: «وهذه الخطبة من مشهورات خطبه(عليه السلام)،... وهي كافية لمن طلب علم التوحيد، إذا تدبرها وفهم ما فيها، فلو اجتمعت ألسنة الجن والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به (بأبي واُمّي(صلى الله عليه وآله وسلم)) ما قدروا عليه، ولولا إبانته (صلوات الله عليه) ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد»[١٧].

إنّ ادعاء الكليني (رضوان الله عليه) هذا يعتبر تحدياً عاماً للجميع ومثله مثل تحدي الله للإنس والجن للإتيان بمثل القرآن.

قال تعالى: (قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)[١٨].

ثمّ يشرح الكليني(رضي الله عنه) الخطبة المشار إليها والتي جاء فيها: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» أي لم يكن الله من شيء ولا ما خلق، وبديهي أنّ قوله(عليه السلام) هذا لا ينطوي على تناقض ـ كما قد يتوهّم ـ ليحصل دفع النقيضين، وقد أشار الحكماء الإسلاميون ونبّهوا على هذه النقطة، هذا هو رأي الكليني في الحكمة النظرية لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

قول ابن أبي الحديد في الإمام عليّ(عليه السلام):

نشير في هذا المجال إلى واحد آخر من الناهلين من المدرسة العلوية الرفيعة لتتضح الإحاطة الحكيمة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) بالحكمة النظرية وبالحكمة العملية.

ينقل ابن أبي الحديد خطبة لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بعد الابتداء بسورة التكاثر المباركة: (ألهاكم التكاثر* حتى زرتم المقابر)[١٩] جاء فيها: «يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ! وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ»[٢٠] أمّا آخرها فقوله: «وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَات هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَة، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا»[٢١] ثمّ يقول(عليه السلام) في جملة طويلة له في الخطبة ذاتها: «لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْل صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَار مَسَاءً. أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً»[٢٢].

إنّ هذه الخطبة في الحقيقة هي من غرر نهج البلاغة التي لم يتمكن شرّاح النهج من سبر غورها مع ما بذلوه من جهد فيها.

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في هذه الخطبة: «هذا موضع المثل: ـ ملعاً يا ظليم ولا فالتخويف ـ [٢٣] من أراد أن يعظ ويخوّف، ويقرّع صفاة القلب، ويعرّف الناس قدر الدنيا وتصرّفها بأهلها، فليأت بمثل هذه الموعظة، بمثل هذا الكلام الفصيح وإلاّ فليمسك، فإنّ السكوت أستر، والعي خير من منطق يفضح صاحبه.

ومن تأمل هذا الفصل، علم صدق معاوية في قوله فيه: «والله ماسنّ الفصاحة لقريش غيره» وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس، وتلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع:

تزجي أغنّ كأن أبرة روقه              قلم أصاب من الدواة مدادها

فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: أنا نعرف مواضع السجود في الشعر، كما تعرفون مواضع السجود في القرآن»[٢٤].

وقد طرح هذا الموضوع في درس العلاّمة الاُستاذ الطباطبائي ـ دام ظله ـ وفي حضوره وتساءلنا كيف يتمتع ابن أبي الحديد بهذه الرؤية الرفيعة؟ فقال الاُستاذ: «لم يقل ابن أبي الحديد شططاً، فمثلما يسجد لكلام الله يسجد لخطب عليّ بن أبي طالب، لأن محتواها قرآني وبهذا يكون سجودهم في الحقيقة لكلام الله لا لكلام المخلوق».

ويقسم ابن أبي الحديد ويقول:

«واُقسم بمن تقسم الاُمم كلّها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلاّ وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة، وأثرت في قلبي وجيباً»[٢٥].

ونحن أيضاً نأمل أن نترك هذه المواعظ الحكيمة لهذا الحكيم الإلهي أثرها الطيب في قلوبنا.

اتضح ـ ممّا سبق ـ أنّ موضوع البحث هو الحكمة النظرية والحكمة العملية في نهج البلاغة، ففي الدرس الأوّل تناولنا تعريف الحكمة النظرية والحكمة العملية، وأوضحنا سبب شرح هاتين الحكمتين من منظار نهج البلاغة، كما بيّنا ـ وإلى حد ما ـ المستوى الرفيع لأميرالمؤمنين(عليه السلام)، وانتهينا إلى أ نّه حكيم كامل في الحكمة النظرية والحكمة العملية، وبيّنا في المقدّمة أيضاً معنى الحكمتين على لسانه(عليه السلام)وعلى لسان عدد من كبار تلامذته.

يتبع  ...

-----------------------------------------------
[١] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ١٣/١٩٧ ط الثانية بيروت.
[٢] . يوسف: ٩٤.
[٣] . شرح نهج البلاغة: ١٣/١٩٧.
[٤] . المصدر السابق: ١/١٥١.
[٥] . المصدر السابق: ١٣/١٠١.
[٦] . المصدر السابق: ١٠/١٠.
[٧] . المصدر السابق: ٩/٢١٧.
[٨] . المصدر السابق: ٩/١٠٣.
[٩] . المصدر السابق: ١٣/٢١٣.
[١٠] . المصدر السابق: ١٣/٢١٣.
[١١] . المصدر السابق: ١٣/٢١٣.
[١٢] . المصدر السابق: ج ١٠/١٧٩.
[١٣] . المصدر السابق: ج ١٠/١٧٩.
[١٤] . المصدر السابق.
[١٥] . الكافي الاُصول والروضة للكليني: ٤/١٦٥.
[١٦] . المصدر السابق: ٤/١٦٩.
[١٧] . المصدر السابق: ٤/١٩٢ ـ ١٩٣.
[١٨] . الاسراء: ٨٨.
[١٩] . التكاثر: ١ ـ ٢.
[٢٠] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١١/١٤٥.
[٢١] . المصدر السابق: ١١/١٥٢.
[٢٢] . المصدر السابق: ١١/١٥٠ و١٥١.
[٢٣] . الملع: السير السريع، ويقال: خوّى الطائر، إذا أرسل جناحيه.
[٢٤] . المصدر السابق: ١١/١٥٢.
[٢٥] . نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ١١/١٥٣.
****************************