وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
من رحاب نهج البلاغة (المواعظ والارشادات) – حب الدنيا

لبيب بيضون

طابع الدنيا التقلب

مدخل:

بيّن الامام علي (ع) من خلال ذمه للتعلق بالدنيا، أهم خاصة للدنيا، وهي التقلب والتغير والتنكر للانسان، فهي لا تسير على وتيرة واحدة، بل تغدر بتبدلها و تحولها من حال الى حال. فالانسان فيها بينا يكون قويا صحيحا اذ به يصير عليلا مريضا، وبينا يكون غنيا وجيها اذ به يصير فقيرا حقيرا.

وهكذا فبعد كل قوة ضعف، وبعد كل عزّ ذلّ، وبعد كلّ رفعة ضعة، ولا يدوم شي‏ء منها على حال، أو كما قال الشاعر:

 ألا إنّما الدنيا غضارة أيكة                    

اذا اخضر منها جانب جفّ جانب

النصوص:

قال الامام علي (ع):

في ذمّ الدنيا:

أمّا بعد، فإنّي أحذّركم الدّنيا، فإنّها حلوة خضرة، حفّت بالشّهوات، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل، وتحلّت بالآمال، و تزيّنت بالغرور. لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرّارة ضرّارة، حائلة، زائلة، نافذة بائدة، أكّالة غوّالة، لا تعدوا إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ. وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً. لم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة. ولم يلق في سرّائها بطنا، إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا. ولم تطلّه فيها ديمة رخاء، إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء. وحريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة. وإن جانب منها أعذوذب واحلولى، أمرّ منها جانب فأوبى. لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا، إلاّ أرهفته من نوائبها تعبا. ولا يمسي منها في جناح أمن، إلاّ أصبح على قوادم خوف. غرّارة، غرور ما فيها. فانية، فان من عليها. لا خير في شي‏ء من أزوادها إلاّ التّقوى. من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه. ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه، وزال عمّا قليل عنه. كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته. وذي أبهة قد جعلته حقيرا. وذي نخوة قد ردّته ذليلا. سلطانها دوّل (أي متحول)، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام (جمع سم)، وأسبابها رمام (جمع رمة وهي القطعة البالية). حيّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم.ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، وجارها محروب (أي مسلوب المال). (الخطبة ١٠٩، ٢١٤)

أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرض تنتضل (أي تترامى) فيه المنايا. مع كلّ جرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص. لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره، إلاّ بهدم آخر من أجله. ولا تجدّد له زيادة في أكله، إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه. ولا يحيا له أثر، إلاّ مات له أثر. ولا يتجدّد له جديد، إلاّ بعد أن يخلق له جديد. ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة. وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله. (الخطبة ١٤٣، ٢٥٦)

وقيل للامام (ع): كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: كيف يكون حال من يفنى ببقائه، ويسقم بصحّته، ويؤتى من مأمنه. (١١٥ ح، ٥٨٦)

إنّما المرء في الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، ونهب تبادره المصائب. ومع كلّ جرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص. ولا ينال العبد نعمة إلاّ بفراق أخرى، ولا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله. فنحن أعوان المنون، وأنفسنا نصب الحتوف. فمن أين نرجو البقاء، وهذا اللّيل والنّهار، لم يرفعا من شي‏ء شرفا، إلاّ أسرعا الكرّة في هدم ما بنيا، وتفريق ما جمعا؟ (١٩١ ح، ٦٠١)

لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى. بينا تراه معافى إذ سقم، وبينا تراه غنيّا إذ افتقر. (٤٢٦ ح، ٦٥٣)

ماهي الدنيا المذمومة؟

مدخل:

الانسان بفطرته يحبّ الحياة، وليس المقصود من ذمّ الدنيا ذم الحياة، ولا ذمّ العلاقات الطبيعية والفطرية. وانّما المقصود من ذلك هو ذمّ العلاقة القلبية الموجبة لأسرالانسان بيد الدنيا ومن في يده شي‏ء منها. وهذا ما يسميه الاسلام: عبادة الدنيا، ويكافحه مكافحة شديدة.

ويحدث هذا عند ما يظنّ الانسان أن الحياة هدفا وغاية، لا طريقا ووسيلة. ويغفل عن أن لها غاية وراءها، وأن قيمة الانسان في الحياة بقدر هدفه منها. وعند ما يدرك الانسان الهدف الصحيح يصبح في أحسن تقويم، وعند ما يجهله ويتعامى عنه يصبح في أسفل سافلين. و نجد الهدف الصحيح ملخصا في الحديث القدسي: «يابن آدم خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي».

وما أروع خطبة الامام (ع) رقم (٣٢) التي يقسم فيها الناس الى قسمين: أبناء الدنيا وأبناء الآخرة، ويقسم أبناء الدنيا الى أربعة أصناف، ويعتبر هؤلاء الأصناف الأربعة فرقة واحدة، هي أهل الدنيا، لأنهم اشتركوا في وجهة واحدة، هي أنهم باعوا أنفسهم للدنيا «ولبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا».

النصوص:

يقسم الامام (ع) أبناء الدنيا الى أربعة أقسام فيقول: والنّاس على أربعة أصناف:

منهم: من لا يمنعه الفساد إلاّ مهانة نفسه وكلالة حدّه ونضيض وفره (أي قلة ماله).

ومنهم: المصلت لسيفه والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله. قد أشرط نفسه و أوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقنب (طائفة من الخيل) يقوده أو منبر يفرعه (أي يعلوه). ولبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، وممّا لك عند اللّه عوضا.

ومنهم: من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا. قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية.

ومنهم: من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه. فقصرته الحال على حاله، فتحلّى باسم القناعة، وتزيّن بلباس أهل الزّهادة، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى.

ثم يذكر (ع) الفئة الثانية من الراغبين في اللّه فيقول:

وبقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ، وخائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وثكلان موجع.

قد أخملتهم التّقيّة، وشملتهم الذّلّة. فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامرة (أي ساكنة)، وقلوبهم قرحة. قد عظوا حتّى ملّوا، وقهروا حتّى ذلّوا، وقتلوا حتّى قلّوا.

فلتكن الدّنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ، وقراضة الجلم (مقراض يقصّ به الصوف). واتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم. وارفضوها ذميمة، فإنّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم. (الخطبة ٣٢، ٨٦)

فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك. (الخطبة ٢٧٠، ١، ٤٧٥)

وإيّاك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربّك في طلب الدّنيا. (الخطبة ٣٠٨، ٥٥٨)

الذم للانسان وليس للدنيا

مدخل:

ان الاسلام المتمثل في نهج بلاغة الامام علي (ع) يرى علاقة الانسان بالدنيا، كعلاقة الزارع بزرعه: «الدنيا مزرعة الآخرة».

أوعلاقة التاجر بالمتجر: «الدنيا متجر أولياء اللّه».

أوعلاقة المسابق بميدان السباق: «ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السباق، والسبقة الجنّة والغاية النار».

أو علاقة العابد بالمسجد: «الدنيا مسجد أحباء اللّه».

إذن فالدنيا ليست عدوّة للانسان ولا ظالمة له، إلاّ بمقدار ظلمه لنفسه وعدم استفادته منها.

ولذلك حين سمع الامام (ع) شخصا يذمّ الدنيا زجره وقال له: أنت أجدر بالذمّ من الدنيا.

النصوص:

قال الامام علي (ع):

عند تلاوته: يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ: يا أيّها الإنسان، ما جرّأك على ذنبك، وما غرّك بربّك، وما أنّسك بهلكة نفسك؟. (الخطبة ٢٢١، ٤٢٣)

ثم قال (ع)... وحقا أقول ما الدّنيا غرّتك، ولكن بها اغتررت، ولقد كاشفتك العظات،وآذنتك على سواء. ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، والنّقص في قوّتك، أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرّك. ولربّ ناصح لها عندك متّهم وصادق من خبرها مكذّب. ولئن تعرّفتها في الدّيار الخاوية، والرّبوع الخالية، لتجدنّها من حسن تذكيرك، وبلاغ موعظتك، بمحلّة الشّفيق عليك، والشّحيح بك. ولنعم دار من لم يرض بها دارا و محلّ من لم يوطّنها محلاّ وإنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. (الخطبة ٢٢١، ٤٢٤)

وقال (ع) و قد سمع رجلا يذم الدنيا: أيّها الذّامّ للدّنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها أتغترّ بالدّنيا ثمّ تذّمّها؟ أنت المتجرّم عليها، أم هي المتجرّمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى؟ كم علّلت بكفّيك؟ وكم مرّضت بيديك؟ تبغي لهم الشّفاء، وتستوصف لهم الأطبّاء، غداة لا يغني عنهم دواؤك، ولا يجدي عليهم بكاؤك. لم ينفع أحدهم إشفاقك، و لم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوّتك وقد مثّلت لك به الدّنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إنّ الدّنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء اللّه، ومصلّى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، و متجر أولياء اللّه. اكتسبوا فيها الرّحمة، وربحوا فيها الجنّة. فمن ذا يذمّها وقد اذنت ببينها (أي أعلمت أهلها ببعدها وزوالها عنهم)، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، وشوّقتهم بسرورها إلى السّرور؟ راحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبا و ترهيبا، وتخويفا وتحذيرا. فذمّها رجال غداة النّدامة، وحمدها آخرون يوم القيامة. ذكّرتهم الدّنيا فتذكّروا، وحدّثتهم فصدّقوا، ووعظتهم فاتّعظوا. (١٣١ ح، ٥٩٠)

التحذير من الدنيا وغرورها

قال الامام علي (ع):

يصف هبوط آدم الى الأرض: وأهبطه إلى دار البليّة، وتناسل الذّرّيّة. (الخطبة ١، ٣١)

وقال (ع) في آخر الشقشقيّة: ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (الزبرج: الزينة). (الخطبة ٣، ٤٤)

وقال (ع) عن حال الدنيا: ولقلّما أدبر شي‏ء فأقبل. (الخطبة ١٦، ٥٧)

فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة (أي زيادة) في أهل أو مال أو نفس، فلا تكوننّ له فتنة. (الخطبة ٢٣، ٦٨)

ولبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، وممّا لك عند اللّه عوضا. (الخطبة ٣٢، ٨٦)

فلتكن الدّنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ (هو ثمر السنط يدبغ به) وقراظة الجلم (هو المقصّ الذي يجزّ به الصوف). واتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم. وارفضوها ذميمة، فإنّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم. (الخطبة ٣٢، ٨٧)

والدّنيا دار مني لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضراء. وقد عجلت للطّالب، والتبست بقلب النّاظر، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ. (الخطبة ٤٥، ١٠٣)

قال (ع): ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت، وآذنت بانقضاء. وتنكّر معروفها، وأدبرت حذّاء (أي مسرعة). فهي تحفز بالفناء سكّانها، وتحدو بالموت جيرانها. وقد أمرّ فيها ما كان حلوا، وكدر منها ما كان صفوا. فلم يبق منها إلاّ سملة (أي بقية) كسملة الإداوة (هو وعاء الماء الذي يتطهر به)، أو جرعة كجرعة المقلة (المقلة: هي الحصاة يضعها المسافرون في اناء، ويصبون عليها الماء، فيشرب كل واحد مقدار ما يغمرها. يفعلون ذلك اذا قلّ الماء)، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع (أي اذا امتصّها العطشان لم يرتو). فازمعوا عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال، ولا يغلبنّكم فيها الأمل، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد. (الخطبة ٥٢، ١٠٨)

ألا وإنّ الدّنيا دار لا يسلم منها إلاّ فيها، ولا ينجى بشي‏ء كان لها: ابتلي النّاس بها فتنة... فإنّها عند ذوي العقول كفي‏ء الظّلّ، بينا تراه سابغا حتّى قلص، وزائدا حتّى نقص. (الخطبة ٦١، ١١٦)

ما أصف من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء. في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب. من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن. ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته. (الخطبة ٨٠، ١٣٥)

وقال (ع) عن الدنيا: ... في قرار خبرة و دار عبرة، أنتم مختبرون فيها، ومحاسبون عليها (الخطبة ٨١، ١، ١٣٧)

ثم قال (ع): فإنّ الدّنيا رنق مشربها، ردغ مشرعها. يونق منظرها، ويوبق مخبرها.غرور حائل، وضوء آفل، وظلّ زائل، وسناد مائل. حتّى إذا أنس نافرها، واطمأنّ ناكرها، قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق (أي حبال) المنيّة. قائدة له إلى ضنك المضجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحلّ، وثواب العمل. وكذلك الخلف بعقب السّلف. لا تقلع المنيّة اختراما،ولا يرعوي الباقون اجتراما. يحتذون مثالا، ويمضون أرسالا. إلى غاية الانتهاء وصيّور الفناء. (الخطبة ٨١، ١، ١٣٧)

فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حواني الهرم؟ وأهل غضارة (أي نعمة) الصّحّة إلاّ نوازل السّقم؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء؟ مع قرب الزّيال، وأروف الإنتقال. (الخطبة ٨١، ٢، ١٤٢)

وقال (ع) في صفة المغتر بالدنيا: حتّى إذا قام اعتداله، واستوى مثاله، نفر مستكبرا،وخبط سادرا. ماتحا في غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه. في لذّات طربه، وبدوات أريه. لا يحتسب رزيّة، ولا يخشع تقيّة. فمات في فتنته غريرا، وعاش في هفوته يسيرا. لم يفد عوضا، و لم يقض مفترضا. (الخطبة ٨١، ٣، ١٤٦)

فأنّى تؤفكون؟ أم أين تصرفون؟ أم بماذا تغترّون؟ وإنّما حظّ أحدكم من الأرض، ذات الطّول والعرض، قيد قدّه، متعفّرا على خدّه. (الخطبة ٨١، ٣، ١٤٨)

وقال (ع) عن بني أمية والدنيا: بل هي مجّة من لذيذ العيش، يتطعّمونها برهة، ثمّ يلفظونها جملة. (الخطبة ٨٥، ١٥٦)

فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلّ ممدود، إلى أجل معدود. (الخطبة ٨٧، ١٥٨)

عباد اللّه، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا، التّاركة لكم وإن لم تحبّوا تركها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبّون تجديدها. فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، وأمّوا علما فكأنّهم قد بلغوه. وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتّى يبلغها. وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث من الموت يحدوه، ومزعج في الدّنيا عن الدّنيا حتّى يفارقها رغما؟ فلا تنافسوا في عزّ الدّنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها. فإنّ عزّها و فخرها إلى انقطاع، وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوال، وضرّاءها و بؤسها إلى نفاد.وكلّ مدّة فيها إلى انتهاء، وكلّ حيّ فيها إلى فناء... أو لستم ترون أهل الدّنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى: فميّت يبكى، وآخر يعزّى، وصريع مبتلى.وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود. وطالب للدّنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه. وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي. (الخطبة ٩٧، ١٩١)

أيّها النّاس، انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها، الصّادفين عنها. فإنّها واللّه عمّا قليل تزيل الثّاوي السّاكن، وتفجع المترف الآمن. لا يرجع ما تولّى منها فأدبر، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر. سرورها مشوب بالحزن، وجلد الرّجال فيها إلى الضّعف والوهن. فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها.رحم اللّه امرءا تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر. فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن، وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل. وكلّ معدود منقض، وكلّ متوقّع آت، وكلّ آت قريب دان. (الخطبة ١٠١، ١٩٦)

أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبّها. (الخطبة ١٠٧، ٢٠٩)

وقال (ع) في ذم الدنيا: أمّا بعد، فإنّي أحذّركم الدّنيا، فإنّها حلوة خضرة، حفّت بالشّهوات، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل، وتحلّت بالآمال، وتزيّنت بالغرور.لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة غوّالة. لا تعدوا إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ. وَكَانَ اللّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً. لم يكن امرؤ منها في حيرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة. ولم يلق في سرّائها بطنا، إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا. ولم تطّله فيها ديمة رخاء، إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء. وحريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة.

وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمرّ منها جانب فأوبى لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا، إلاّ أرهقته من نوائبها تبعا. ولا يمسي منها في جناح أمن، إلاّ أصبح على قوادم خوف. غرّارة، غرور ما فيها. فانية، فان من عليها. لا خير في شي‏ء من أزوادها إلاّ التّقوى. من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه. ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه، وزال عمّا قليل عنه. كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته.وذي أبهة قد جعلته حقيرا. وذي نخوة قدردّته ذليلا. سلطانها دوّل (أي متحول)،وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، و غذاؤها سمام (جمع سم)، وأسبابها رمام (جمع رمة وهي القطعة البالية). حيّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب (أي مسلوب المال).ألستم في مساكن من كان قبلكم، أطول أعمارا، وأبقى آثارا، و أبعد آمالا، وأعدّ عديدا، وأكثف جنودا؟ تعبّدوا للدّنيا أيّ تعبّد، وآثروها أيّ إيثار. ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ولا ظهر قاطع. فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالقوادح، وأوهنتهم بالقوارع،وضعضعتهم بالنّوائب، وعفّرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم، وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها، وآثرها وأخلد لها. حين ظعنوا عنها لفراق الأبد. وهل زوّدتهم إلاّ السّغب، أو أحلّتهم إلاّ الضّنك، أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة، أو أعقبتهم إلاّ النّدامة أفهذه تؤثرون، أم إليها تطمئنّون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها، ولم يكن فيها على وجل منها فاعلموا وأنتم تعلمون بأنّكم تاركوها وظاعنون عنها. (الخطبة ١٠٩، ٢١٤)

وأحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة (أي غير مستقرة) وليست بدار نجعة. قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها. دار هانت على ربّها فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرّها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها. لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه، ولم يضنّ بها على أعدائه. خيرها زهيد و شرّها عتيد. وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزّاد، ومدّة تنقطع انقطاع السّير اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقّه ما سألكم. وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزّاهدين في الدّنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا. قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال. فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة... ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه ويقلقكم اليسير من الدّنيا يفوتكم، حتّى يتبيّن ذلك في وجوهكم، وقلّة صبركم عمّا زوي منهاعنكم، كأنّها دار مقامكم، وكأنّ متاعها باق عليكم... قد تصافيتم على رفض الآجل وحبّ العاجل. (الخطبة ١١١، ٢١٨)

ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر. فمن الفناء أنّ الدّهر موتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا تؤسى جراحه. يرمي الحيّ بالموت، و الصّحيح بالسّقم، والنّاجي بالعطب. آكل لا يشبع وشارب لا ينقع. ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن. ثمّ يخرج إلى اللّه تعالى لا مالا حمل، ولا بناء نقل. ومن غيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطا، والمغبوط مرحوما، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ، وبؤسا نزل. و من عبرها أنّ المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله. فلا أمل يدرك، ولا مؤمّل يترك.فسبحان اللّه ما أعزّ سرورها وأظمأ ريّها و أضحى فيئها. لا جاء يردّ، ولا ماض يرتدّ.فسبحان اللّه، ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به، وأبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه (الخطبة ١١٢، ٢٢٠)

واعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا وزاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة وزاد في الدّنيا. فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر. (الخطبة ١١٢، ٢٢١)

عباد اللّه، إنّكم وما تأملون من هذه الدّنيا أثوياء (أي ضعفاء) مؤجّلون، ومدينون مقتضون. أجل منقوص، وعمل محفوظ، فربّ دائب مضيّع، وربّ كادح خاسر.وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا، ولا الشّرّ فيه إلاّ إقبالا، ولا الشّيطان في هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس، فهل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا، أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقرا أين أخياركم وصلحاؤكم، وأين أحراركم وسمحاؤكم. وأين المتورّعون في مكاسبهم، والمتنزّهون في مذاهبهم أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدّنيا الدّنيّة، والعاجلة المنغّصة. وهل خلّفتم إلاّ في حثالة لا تلتقي بذمّهم الشّفتان،استصغارا لقدرهم، وذهابا عن ذكرهم، فَإنَّا لِلّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. (الخطبة ١٢٧، ٢٤٠)

أما رأيتم الّذين يأملون بعيدا، ويبنون مشيدا، ويجمعون كثيرا كيف أصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا. وصارت أموالهم للوارثين، و أزواجهم لقوم آخرين. لا في حسنة يزيدون، ولا من سيّئة يستعتبون... فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا... (الخطبة ١٣٠، ٢٤٣)

أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه (أي تترامى فيه) المنايا. مع كلّ جرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص. لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره، إلاّ بهدم آخر من أجله. ولا تجدّد له زيادة في أكله، إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه. ولا يحيا له أثر، إلاّ مات له أثر. ولا يتجدّد له جديد، إلاّ بعد أن يخلق له جديد. ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة. وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله. (الخطبة ١٤٣، ٢٥٦)

ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتّقوا سكرات النّعمة، واحذروا بوائق النّقمة. (الخطبة ١٤٩، ٢٦٤)

ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه، وتبقى عليه تبعته وحسابه. (الخطبة ١٥٥، ٢٧٧)

ويقول (ع): وكذلك من عظمت الدّنيا في عينه، وكبر موقعها من قلبه، آثرها على اللّه تعالى، فانقطع إليها، وصار عبدا لها.

ولقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كاف لك في الأسوة. ودليل لك على ذمّ الدّنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطّئت لغيره أكنافها (أي جوانبها) وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها. (الخطبة ١٥٨، ٢٨٢)

ثم يقول (ع): وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يقول:«ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير» واللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشّذّب لحمه.وإن شئت ثلّثت بداود صلّى اللّه عليه وسلّم صاحب المزامير وقارى‏ء أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها، و يأكل قرص الشّعير من ثمنها. (الخطبة ١٥٨، ٢٨٢)

ثم يقول (ع): وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام، فلقد كان يتوسّد الحجر،ويلبس الخشن، ويأكل الجشب. وكان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وظلاله في الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه. دابّته رجلاه،وخادمه يداه. فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه وآله فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى. وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره.

قضم الدّنيا قضما، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدّنيا كشحا، وأخمصهم من الدّنيا بطنا. عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها. وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه،وحقر شيئا فحقّره، وصغّر شيئا فصغّره. ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله، وتعظيمنا ما صغّر اللّه ورسوله، لكفى به شقاقا للّه، ومحادّة عن أمر اللّه. (الخطبة ١٥٨، ٢٨٣)

ولقد كان صلّى اللّه عليه وآله يأكل على الأرض، و يجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، و يردف خلفه، ويكون السّتر على باب بيته، فتكون فيه التّصاوير، فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عنّي فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدّنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما. فأخرجها من النّفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده.

ولقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما يدلّك على مساوى‏ء الدّنيا و عيوبها. إذ جاع فيها مع خاصّته (أي مع تفضله عند ربّه)، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه،فقد كذب واللّه العظيم بالإفك العظيم. وإن قال: أكرمه فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له، وزواها عن أقرب النّاس منه. فتأسّى متأسّ بنبيّه، واقتصّ أثره،

وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة فإنّ اللّه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه وآله علما للسّاعة (أي دليلا على اقتراب الساعة) ومبشّرا بالجنّة، و منذرا بالعقوبة. خرج من الدّنيا خميصا، وورد الآخرة سليما. لم يضع حجرا على حجر، حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربّه. فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به، سلفا نتّبعه، وقائدا نطأ عقبه. واللّه لقد رقّعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها. ولقد قال لي قائل: ألاّ تنبذها عنك؟ فقلت: اعزب عنّي، فعند الصّباح يحمد القوم السّرى (هذا المثل معناه: اذا أصبح النائمون وقد رأوا أن الذين كانوا يسيرون ليلا قد وصلوا الى مقاصدهم، أدركوا فضل سيرهم وندموا على نومهم). (الخطبة ١٥٨، ٢٨٤)

رهّب فأبلغ، ورغّب فأسبغ. ووصف لكم الدّنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها.فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها. أقرب دار من سخط اللّه، وأبعدها من رضوان اللّه. فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها وأشغالها، لما قد أيقنتم به من فراقها وتصرّف حالاتها. فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح، والمجدّ الكادح. (الخطبة ١٥٩، ٢٨٦)

فاحذروا عباد اللّه حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، النّاظر بعقله. فإنّ الأمر واضح، والعلم قائم، والطّريق جدد، والسّبيل قصد. (الخطبة ١٥٩، ٢٨٧)

ألا وإنّ هذه الدّنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم، ولا منزلكم الّذي خلقتم له، ولا الّذي دعيتم إليه. ألا وإنّها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها. وهي وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها. وسابقوا فيها إلى الدّار الّتي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها. ولا يخنّنّ أحدكم خنين (أي بكاء) الأمة على ما زوي عنه منها... أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ، وألهمنا وإيّاكم الصّبر. (الخطبة ١٧١، ٣٠٩)

أيّها النّاس إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها والمخلد إليها، ولا تنفس بمن نافس فيها، وتغلب من غلب عليها. (الخطبة ١٧٦، ٣١٩)

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ألبسكم الرّياش، وأسبغ عليكم المعاش. فلو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام الّذي سخّر له ملك الجنّ والإنس، مع النّبوّة وعظيم الزّلفة. فلمّا استوفى طعمته، واستكمل مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت. وأصبحت الدّيار منه خالية، والمساكن معطّلة. وورثها قوم آخرون. وإنّ لكم في القرون السّالفة لعبرة. (الخطبة ١٨٠، ٣٢٦)

ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان مدبرا، وأزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار. وباعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى. (الخطبة ١٨٠، ٣٢٨)

ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النّعمة والنّعيم. (الخطبة ١٨٥، ٣٤٦)

... ولا ترفعوا من رفعته الدّنيا. ولا تشيموا بارقها (أي لا تنظروا لما يغركم من مطامعها كالناظر الى البرق أين يمطر) ولا تسمعوا ناطقها، ولا تجيبوا ناعقها. ولا تستضئوا بإشراقها، ولا تفتنوا بأعلاقها (جمع علق وهو الشي‏ء النفيس). فإنّ برقها خالب،ونطقها كاذب. و أموالها محروبة، وأعلاقها مسلوبة. ألا وهي المتصدّية العنون،والجامحة الحرون، والمائنة الخؤون. والجحود الكنود، والعنود الصّدود، و الحيود الميود. حالها انتقال، ووطأتها زلزال. وعزّها ذلّ، وجدّها هزل، وعلوها سفل. دار حرب وسلب، ونهب وعطب. أهلها على ساق وسياق، ولحاق وفراق. قد تحيّرت مذاهبها، وأعجزت مهاربها، وخابت مطالبها. فأسلمتهم المعاقل، ولفظتهم المنازل،وأعيتهم المحاول. فمن ناج معقور ولحم مجزور. وشلو مذبوح ودم مسفوح. وعاضّ على يديه، وصافق بكفّيه، ومرتفق بخدّيه. وزار على رأيه، وراجع عن عزمه.وقد أدبرت الحيلة وأقبلت الغيلة ولات حين مناص هيهات هيهات قد فات ما فات، وذهب ما ذهب. ومضت الدّنيا لحال بالها فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ. (الخطبة ١٨٩، ٣٥٥)

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه. وأحذّركم الدّنيا، فإنّها دار شخوص ومحلّة تنغيص.ساكنها ظاعن وقاطنها بائن. تميد بأهلها ميدان السّفينة، تقصفها العواصف في لجج البحار. فمنهم الغرق الوبق (أي الهالك) ومنهم النّاجي على بطون الأمواج. تحفزه الرّياح بأذيالها وتحمله على أهوالها. فما غرق منها فليس بمستدرك، وما نجا منها فإلى مهلك. (الخطبة ١٩٤، ٣٨٥)

أيّها النّاس، إنّما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار. فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. وأخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم. (الخطبة ٢٠١، ٣٩٦)

قال (ع) عند تلاوته يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ: ... يا أيّها الإنسان، ما جرّأك على ذنبك، وما غرّك بربّك، وما أنّسك بهلكة نفسك؟. (الخطبة ٢٢١، ٤٢٣)

ثم قال (ع): ... وحقّا أقول ما الدّنيا غرّتك، ولكن بها اغتررت، ولقد كاشفتك العظات، وآذنتك على سواء. ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، والنّقص في قوّتك، أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرّك. ولربّ ناصح لها عندك متّهم، وصادق من خبرها مكذّب. ولئن تعرّفتها في الدّيار الخاوية، والرّبوع الخالية، لتجدنّها من حسن تذكيرك، وبلاغ موعظتك، بمحلّة الشّفيق عليك، والشّحيح بك. ولنعم دار من لم يرض بها دارا ومحلّ من لم يوطّنها محلاّ وإنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. (الخطبة ٢٢١، ٤٢٤)

دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها. أحوال مختلفة،وتارات متصرّفة. العيش فيها مذموم، والأمان فيها معدوم. وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة. ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها. (الخطبة ٢٢٤، ٤٢٧)

... فاحذروا الدّنيا فإنّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع. لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها. (الخطبة ٢٢٨، ٤٣٢)

عاتب الامام (ع) قاضيه شريح بن الحارث لشرائه دارا بثمانين دينارا، وقد كتب لها كتابا. وقال له (ع): أما إنّك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبت لك كتابا على هذه النّسخة. فلم ترغب في شراء هذه الدّار بدرهم فما فوق.

والنّسخة هذه: هذا ما اشترى عبد ذليل، من عبد قد أزعج للرّحيل. اشترى منه دارا من دار الغرور. من جانب الفانين، وخطّة الهالكين.

و تجمع هذه الدّار حدود أربعة:

الحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي الآفات.

والحدّ الثّاني ينتهي إلى دواعي المصيبات.

والحدّ الثّالث ينتهي إلى الهوى المردي.

والحدّ الرّابع ينتهي إلى الشّيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدّار.

اشترى هذا المغترّ بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، هذه الدّار، بالخروج من عزّ القناعة، والدّخول في ذلّ الطّلب والضّراعة. فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى منه من درك (الدرك هو التبعة. و المقصود به الضمان الذي يقع على البائع).

فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة، ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبّع و حمير، ومن جمع المال على المال فأكثر، ومن بنى وشيّد،وزخرف ونجّد، وادّخر واعتقد، ونظر بزعمه للولد إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب، وموضع الثّواب والعقاب. إذا وقع الأمر بفصل القضاء وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ. شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى وسلم من علائق الدّنيا. (الخطبة ٢٤٢، ٤٤٤)

من وصية له (ع) لابنه الحسن (ع) كتبها اليه عند انصرافه من صفين:

من الوالد الفان، المقرّ للزّمان. المدبر العمر، المستسلم للدّنيا، السّاكن مساكن الموتى، والظّاعن عنها غدا. إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السّالك سبيل من قد هلك. غرض الأسقام، ورهينة الأيّام، ورميّة المصائب، وعبد الدّنيا، وتاجر الغرور.وغريم المنايا، وأسير الموت. وحليف الهموم، وقرين الأحزان. ونصب الآفات، وصريع الشّهوات. (الخطبة ٢٧٠، ١، ٤٧٣)

... وأنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النّعماء والإبتلاء، والجزاء في المعاد، أو ما شاء ممّا لا تعلم. (الخطبة ٢٧٠، ٢، ٤٧٨)

وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها، وتكالبهم عليها. فقد نبّأك اللّه عنها، ونعت لك نفسها، وتكشّفت لك عن مساويها. فإنّما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها. نعم معقّلة (أي إبل مربوطة عن فعل الشر) وأخرى مهملة (غير مربوطة). قد أضلّت عقولها وركبت مجهولها. سروح عاهة (أي يسرحون لرعي الآفات) بواد وعث. ليس لها راع يقيمها ولا مسيم يسيمها. سلكت بهم الدّنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى. فتاهوا في حيرتها، و غرقوا في نعمتها. واتّخذوها ربّا، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما ورأها. (الخطبة ٢٧٠، ٣، ٤٨٣)

من أمن الزّمان خانه، ومن أعظمه أهانه. (الخطبة ٢٧٠، ٤، ٤٨٩)

إليك عنّي يا دنيا فحبلك على غاربك (شبه الدنيا بالناقة، والغارب ما بين السنام و العنق) قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، و اجتنبت الذّهاب في مداحضك (أي مساقطك). أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك فها هم رهائن القبور، و مضامين اللّحود واللّه لو كنت شخصا مرئيّا، وقالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأماني، وامم القيتهم في المهاوي، و ملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء. إذ لا ورد ولا صدر هيهات من وطى‏ء دحضك زلق (الدحض: المكان الذي لا تثبت فيه القدم) ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ (أي مال) عن حبائلك وفّق. والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه (أي زواله).أعزبي عنّي... «تراجع تتمة الكتاب في المبحث (١٣٢) عدالة الامام (ع)». (الخطبة ٢٨٤، ٥٠٨)

من كتاب له (ع): أمّا بعد، فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا عليها، ولهجا بها. ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها. ومن وراء ذلك فراق ما جمع و نقض ما أبرم و لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي، والسّلام. (الخطبة ٢٨٨، ٥١٣)

من كتاب له (ع) الى عبد اللّه بن عباس: أمّا بعد، فإنّ المرء ليفرح بالشّي‏ء الّذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشّي‏ء الّذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ. وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت. (الخطبة ٣٠٥، ٥٥٤)

ومن كتاب له (ع) الى سلمان الفارسي رحمه اللّه قبل أيّام خلافته: أمّا بعد، فإنّما مثل الدّنيا مثل الحيّة: ليّن مسّها، قاتل سمّها. فأعرض عمّا يعجبك فيها، لقلّة ما يصحبك منها. وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها و تصرّف حالاتها. وكن آنس ما تكون بها، أحذر ما تكون منها (أي فليكن أشد حذرك منها في حال شدة انسك بها)، فإنّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور، أشخصته عنه إلى محذور، أو إلى إيناس أزالته عنه إلى إيحاش، والسّلام. (الخطبة ٣٠٧، ٥٥٦)

ومن كتاب له (ع) الى الحارث الهمداني: ... واعتبر بما مضى من الدّنيا ما بقي منها، فإنّ بعضها يشبه بعضا، وآخرها لاحق بأوّلها، و كلّها حائل (أي زائل) مفارق. (الخطبة ٣٠٨، ٥٥٦)

... وإيّاك أن ينزل بك الموت وأنت آبق (أي هارب) من ربّك في طلب الدّنيا. (الخطبة ٣٠٨، ٥٥٨)

من كتاب له (ع) الى عبد اللّه بن العباس: أمّا بعد، فإنّك لست بسابق أجلك، ولا مرزوق ما ليس لك. واعلم بأنّ الدّهر يومان: يوم لك و يوم عليك. وأنّ الدّنيا دار دول (جمع دولة أي تنتقل سعادتها من يد الى يد دون ثبات واستقرار)، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك. (الخطبة ٣١١، ٥٦٠)

إذا أقبلت الدّنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. (٨ ح، ٥٦٦)

إذا كنت في إدبار والموت في إقبال، فما أسرع الملتقى. (٢٨ ح، ٥٦٩)

أهل الدّنيا كركب يسار بهم وهم نيام. (٦٤ ح، ٥٧٦)

الدّهر يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة، ويباعد الأمنيّة. من ظفر به نصب، ومن فاته تعب. (٧٢ ح، ٥٧٧)

ومن خبر ضرار بن حمزة الضبائي عند دخوله على معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين،قال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عنّي. أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك. قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير، و خطرك يسير، وأملك حقير. آه من قلّة الزّاد، وطول الطّريق، وبعد السّفر، وعظيم المورد. (٧٧ ح، ٥٧٧)

مثل الدّنيا كمثل الحيّة، ليّن مسّها، والسّمّ النّاقع في جوفها. يهوي إليها الغرّ الجاهل، ويحذرها ذو اللّبّ العاقل. (١١٩ ح، ٥٨٧)

وقال (ع) وقد سمع رجلا يذمّ الدنيا: أيّها الذّامّ للدّنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها أتغترّ بالدّنيا ثمّ تذمّها؟ أنت المتجرّم عليها، أم هي المتجرّمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى؟ كم علّلت بكفّيك؟ وكم مرّضت بيديك؟ تبغي لهم الشّفاء، وتستوصف لهم الأطبّاء، غداة لا يغني عنهم دواؤك، ولا يجدي عليهم بكاؤك. لم ينفع أحدهم إشفاقك، و لم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوّتك وقد مثّلت لك به الدّنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إنّ الدّنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء اللّه، ومصلّى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، و متجر أولياء اللّه. اكتسبوا فيها الرّحمة، وربحوا فيها الجنّة. فمن ذا يذّمّها وقد آذنت ببينها (أي أعلمت أهلها ببعدها وزوالها عنهم)، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، وشوّقتهم بسرورها إلى السّرور؟ راحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبا و ترهيبا، وتخويفا وتحذيرا. فذمّها رجال غداة النّدامة، وحمدها آخرون يوم القيامة. ذكّرتهم الدّنيا فتذكّروا، وحدّثتهم فصدّقوا، ووعظتهم فاتّعظوا. (١٣١ ح، ٥٩٠)

إنّ للّه ملكا ينادي في كلّ يوم: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب. (١٣٢ ح، ٥٩١)

وقال (ع): الدّنيا دار ممرّ لا دار مقرّ. والنّاس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها (أي أهلكها)، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها. (١٣٣ ح، ٥٩١)

لكلّ مقبل إدبار، وما أدبر كأن لم يكن. (١٥٢ ح، ٥٩٧)

إنّما المرء في الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، ونهب تبادره المصائب. ومع كلّ جرعة شرق، و في كلّ أكلة غصص. ولا ينال العبد نعمة إلاّ بفراق أخرى، ولا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله. فنحن أعوان المنون، وأنفسنا نصب الحتوف. فمن أين نرجو البقاء، وهذا اللّيل والنّهار، لم يرفعا من شي‏ء شرفا، إلاّ أسرعا الكرّة في هدم ما بنيا، وتفريق ما جمعا؟. (١٩١ ح، ٦٠١)

يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك، فأنت فيه خازن لغيرك. (١٩٢ ح، ٦٠١)

وقال (ع) وقد مرّ بقذر على مزبلة: هذا ما بخل به الباخلون (وفي رواية أخرى) هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس. (١٩٥ ح، ٦٠٢)

ومن لهج قلبه بحبّ الدّنيا ألتاط قلبه (أي التصق) منها بثلاث: همّ لا يغبّه، وحرص لا يتركه، وأمل لا يدركه. (٢٢٨ ح، ٦٠٧)

بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرّة (أي الغرور بالدنيا). (٢٨٢ ح، ٦٢٣)

ما قال النّاس لشي‏ء «طوبى له» إلاّ وقد خبأ له الدّهر يوم سوء. (٢٨٦ ح، ٦٢٤)

النّاس أبناء الدّنيا، ولا يلام الرّجل على حبّ أمّه. (٣٠٣ ح، ٦٢٧)

معاشر النّاس، اتّقوا اللّه، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه... (٣٤٤ ح، ٦٣٥)

ومن أكثر من ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير. (٣٤٩ ح، ٦٣٦)

يا أسرى الرّغبة أقصروا، فإنّ المعرّج على الدّنيا لا يروعه منها إلاّ صريف أنياب الحدثان (أي صوت أسنان المصائب). (٣٥٩ ح، ٦٣٧)

يا أيّها النّاس، متاع الدّنيا حطام موبى‏ء فتجنّبوا مرعاه قلعتها أحظى من طمأنينتها، وبلغتها أزكى من ثروتها. حكم على مكثر بالفاقة، و أعين من غني عنها بالرّاحة.ومن راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها، ومن استشعر الشّغف بها ملأت ضميره أشجانا. لهنّ رقص على سويداء قلبه. همّ يشغله، وهمّ يحزنه. كذلك حتّى يؤخذ بكظمه فيلقى بالفضاء (أي يموت) منقطعا أبهراه، هيّنا على اللّه فناؤه، وعلى الإخوان إلقاؤه. وإنّما ينظر المؤمن إلى الدّنيا بعين الاعتبار، ويقتات منها ببطن الاضطرار، ويسمع فيها بأذن المقت والإبغاض. إن قيل أثرى قيل أكدى (أي افتقر) وإن فرح له بالبقاء حزن له بالفناء هذا ولم يأتهم يوم فيه يبلسون (أي يتحيرون، وهذا اليوم هو يوم القيامة). (٣٦٧ ح، ٦٣٩)

ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره، ومغبوط في أوّل ليله، قامت بواكيه في آخره. (٣٨٠ ح، ٦٤٤)

الرّكون إلى الدّنيا مع ما تعاين منها، جهل. (٣٨٤ ح، ٦٤٥)

من هوان الدّنيا على اللّه أنّه لا يعصى إلاّ فيها، ولا ينال ما عنده إلاّ بتركها. (٣٨٥ ح، ٦٤٥)

خذ من الدّنيا ما أتاك، وتولّ عمّا تولّى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطّلب. (٣٩٣ ح، ٦٤٦)

والدّهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر. (٣٩٦ ح، ٦٤٧)

وقال (ع) في صفة الدنيا: تغرّ وتضرّ و تمرّ. إنّ اللّه تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، ولا عقابا لأعدائه. وإنّ أهل الدّنيا كركب بينا هم حلّوا، إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا. (٤١٥ ح، ٦٥٠)

لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى. بينا تراه معافى إذ سقم، وبينا تراه غنيّا إذ افتقر. (٤٢٦ ح، ٦٥٣)

ألا حرّ يدع هذه الّلماظة لأهلها (اللماظة: بقية الطعام في الفم، يريد بها الدنيا). (الخطبة ٤٥٦ ح، ٦٥٨)

منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. (٤٥٧ ح، ٦٥٨)

منقول من كتاب تصنيف نهج البلاغة

****************************