الشيخ فارس الحسون (رحمه الله)
منذ تصدّى الشريف الرضيّ [١] لجمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ووسمه «بنهج البلاغة»، أقبل العلماء والأدباء على ذلك الكتاب النفيس بين ناسخ له يحفظ نصه في لوح صدره، وشارح له ينسخ الناس عنه تفسيراته وتعليقاته؛ ولا يحصي إلّا اللّه عدد حفّاظ «النهج» ونسّاخه؛ أما شراحه في القديم والحديث فقد أربوا على الخمسين [٢].
وكان طبيعيا- بعد أن استفاضت شهرة الكتاب، وطبّقت الآفاق، وتواتر متنه على ألسنة الأدباء والفضلاء- أن يقلّ الاختلاف في نصّه، وأن ينتقل من جيل إلى جيل برواية تكاد تكون واحدة. وإذا أضفنا إلى شهرته الأدبية ما أحيط به من معاني التعظيم- بل التقديس- ولا سيما لدى إخواننا علماء الشيعة الكرام، لم نعجب لسلامته من الزيادة والنقصان، وندرة ما وقع فيه من التحريف والتصحيف، سواء أ كان ذلك في نصه المتداول على حدة، أم في متنه المصحوب ببعض الشروح مسهبة وموجزة.
ولعلّ شهرة «النهج»- على الصورة التي وصفنا- هي التي حملت المتأخرين من الشراح، كالإمام محمّد عبده ومحمّد نائل المرصفي، على الاكتفاء بنسخة واحدة خطيّة عوّلوا عليها فيما حاولوه من التحقيق أولا والشرح ثانيا. وإنا لندرك أنّه لم يكن يسع أحدا من هؤلاء أن يصنع «للنهج» خيرا ممّا صنع، لأن جمهرة المحققين في أيامهم كانوا إذا وجدوا مخطوطة نشروها على حالها، وأضافوا إليها ما وقع إليهم من الحواشي والشروح، لا يجشّمون أنفسهم عناء البحث عن النسخ المختلفة، ومقابلة بعضها ببعض، ضبطا للنصّ، وتصحيحا للأصل، واختيارا للأدق الأكمل، وانسجاما مع أمانة العلم ومنهجيّة التحقيق.
وإنّ علينا- مع ذلك- أن نكبر ما قدّمه الإمام محمّد عبده من خدمة جلىّ للفكر العربيّ الإسلامي يوم نشر «نهج البلاغة» وشرحه بإيجاز، مهما تكن الهنات التي أخذها عليه غيرنا أونأخذها نحن اليوم عليه، فله يرتدّ الفضل في انتشار هذا الكتاب العظيم الذي بات لا يجهله أحد من الأدباء والمتأدبين. وحسب الشيخ محمّد عبده فخرا أن عشرات الطبعات التي نشرت شرقا وغربا ظلّت إلى عهد قريب تستند إلى النصّ الذي أثبته، وتكتفي بالشرح الذي اقتبسه وانتقاه [٣].
على أن «نهج البلاغة»- لنفاسته- جدير بأكثر ممّا أتيح له حتّى اليوم من التحقيق والتدقيق.
ولقد طلع علينا منذ سنوات قلائل الأستاذ البحاثة المفضال محمّد أبوالفضل إبراهيم بطبعة علمية ممتازة لشرح ابن أبي الحديد في عشرين جزءا، رجع فيها إلى نسخ مخطوطة مصوّرة عن أصولها المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني، ومكتبة الفاتيكان، والمكتبة الظاهرية، وبعض المكتبات الأخرى العامّة والخاصّة [٤]، ولم تكن تلك المخطوطات المختلفة كلها كاملة، ولكنها بمجموعها كانت كافية لتقديم أفضل صورة ممكنة «للنهج» متنا وشرحا.
وإفاضتنا في الثناء على هذه الطبعة الأخيرة لا ينبغي أن تحول دون تقريرنا للحقيقة التالية:
وهي أن الغرض الذي رمى إليه الأستاذ محمّد أبوالفضل إبراهيم هوتحقيق شرح «النهج» وليس تحقيق «النهج» ذاته. أما الغاية التي نتصدى لها، والتي يؤنس جميع الأدباء حاجة إليها، فهي ضبط مجموعة النصوص التي اختارها الشريف الرضي من كلام الإمام ضبطا كاملا مستقلا على حدة، ليتلوها القارئ- باحثا فيها أم متبرّكا بها- وهوآمن مطمئن إلى صحتها في ذاتها، وليجد فيما ألحق بها من الفهارس العلمية ما يلبي طلبه، ويشفي غلّته، ويغنيه عن الشروح الطوال.
والأمانة العلمية تفرض علينا أن نعترف بأن ضبطنا لنص «النهج» لا يرتدّ إلى امتلاكنا النسخ المخطوطة أوالمصوّرة، ومقابلتنا بعضها ببعض، ومعارضتها بأصل أوأصول اعتمدناها، بقدر ما يرتدّ إلى إثبات ما نطقت الشروح بحسنه وصوابه. ويظلّ من حقّ الأستاذ محمّد إبراهيم- وإن حقّق الشرح لا النهج- أن يفخر على الجميع بأنّه استجمع من المخطوطات في هذا الصدد ما لم يستجمعه باحث سواه.
ألا وإنّي بهذا لا أغمط نفسي بنفسي، فمن يقرأ طبعتي هذه بإمعان وتدبّر يدرك لا محالة أني رجعت إلى أصول مخطوطة كثيرة تمكنت- بالاستناد إليها- أن أثبت أفضل القراءات وأفصح الوجوه، وإن كنت قد جرّدت نص «النهج» من كل حاشية أوتعقيب أوتفسير أورمز أواصطلاح، اكتفاء بالفهارس العشرين التي أبرزت للناس قيمة الكتاب.
وإنّما حملني على إيثار هذا الأسلوب في تحقيق «نهج البلاغة» ما لمسته لدى كثير من القرّاء من ضيق صدورهم برموز التحقيق أوهوامش التفسير تستغرق في أسفل كل صفحة أكثر مما يستغرقه أعلاها من الأصول أوالمتون.
ومن هنا رأيت أن أقسم عملي قسمين، ألبي بهما رغبتين: أما القسم الأوّل فتحقيق نص «النهج» أدقّ تحقيق وأوفاه، ألبي به رغبة الذي يريد أن يقرأ كلام الإمام غير شاغل نفسه بتعليقات الشراح. وعلى هذا، جرّدت النصّ من كل زيادة طرأت عليه، وأرحت القارئ حتّى من رموز النسخ التي استصوبت ما ذهبت إليه.
وأمّا القسم الثاني ففهرسة مفصّلة كلّ التفصيل، ألبي بها رغبات الباحثين فيما اشتمل عليه «نهج البلاغة» من كنوز فكرية وأدبية ثمينة.
ولسوف يلاحظ الأديب الباحث أنّ من النادر إلحاق فهارس على هذه الصورة المفصّلة بأي كتاب مهما يعظم قدره وتجلّ مكانته، حتى لكأنّي أردت أن أوفّر على كل باحث كلّ عناء: أتعبت نفسي ليستريح، راجيا من اللّه وحده حسن المثوبة وكرم الجزاء.
وسوف يجد القارئ طلبته من هذه الفهارس بأقصى سرعة ممكنة، إذ آثرنا طبعها على ورق يختلف لونه عن لون الأصل تسهيلا وتيسيرا.
ولقد رأيت من المناسب أن أبدأ تلك الفهارس العشرين بفهرس الألفاظ الغريبة المشروحة متّبعا تعاقب أرقامها في هذه المطبوعة، ولقد نافت هذه الألفاظ على خمسة آلاف، وها هوذا آخر لفظ فيها يحمل الرقم ٥٠٣١، وها هي ذي بمجموعتها تشبه معجما صغيرا يفي بشرح طائفة غير يسيرة من الكلمات الحيّة الجارية على ألسنة الفصحاء.
واقتصرت في هذا الفهرس الأول على الحدّ الضروريّ من الإيضاح والتبيان، وبتأخيري إياه حتّى انتهى تحقيق النصّ أعنت كلا من الطالب والدارس على أن يحاول من تلقاء نفسه أن يفهم معنى كل عبارة من السياق الذي وردت فيه. وإنّما يرجع إلى هذا الفهرس حين يضل الطريق أويخطئ الاستنتاج، وإذا بشرحنا الموجز ينقذه من حيرته، ويصحح له ما عسى أن يقع فيه من الأغاليط.
ومن يقارن بين شرحنا لمعاني الألفاظ الغريبة وشرح الشيخ محمّد عبده يخيل إليه أن قدرا كبيرا منها متماثل أومتشابه إلى حدّ بعيد. والسرّ في هذا أن كلامنا عوّل على شرح ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة، وكان لزاما علينا أن نعوّل عليه لأنّه أفضل الشروح. فحيثما تجد تشابها في عبارتينا فإنما مردّه إلى اقتباسنا كلينا ما لم يكن بدّ من استحسانه من أقوال ابن أبي الحديد، وحيثما تقع على تباين في الشرح، أوإسهاب هنا وإيجاز هناك، فمردّه ما استقلّ كل منا بفهمه وتحديده، أوإطلاقه وتقييده، مما عاد إليه أحدنا بنفسه ينقّب عنه في بطون المعجمات، ويلتمس الشواهد عليه من لسان العرب.
ولا يسعني هنا أن أكتم حقيقة بتّ منها على يقين، سبقني إلى التنبيه عليها منذ أكثر من خمسين عاما محيي الدين الخيّاط يوم طبع في بيروت «نهج البلاغة» ومعه شرح الأستاذ الإمام، وزيادات اقتبسها الخياط من شرح ابن أبي الحديد.
لقد لاحظ هذا الناشر الفاضل أن بعض تفسير الشيخ عبده «يكاد يكون منقولا بحرفيّته عن شرح ابن أبي الحديد مع أن الشارح قال في مقدّمته- وهوصادق فيما يقول- إنّه لم يتيسر له رؤية شرح من شروح نهج البلاغة، على أن من يتصفح بقية الشرح ويتصفح شرح ابن أبي الحديد يتراءى له أن أحدهما منقول عن الآخر».
وما عزاه الخياط إلى محمّد عبده من حرفيّة في نقل عبارات ابن أبي الحديد أمر صحيح لا ترقى إليه الريبة، وذلك في الوقت نفسه لا ينفي أن الأستاذ الإمام لم ير أي شرح من شروح «النهج» يوم طبع الكتاب أول مرة في المطبعة الأدبية في بيروت. ولوأن محيي الدين الخياط رأى تلك الطبعة البيروتية الأولى لما لاحظ من التشابه بين الشرحين إلّا ما وقع مصادفة واتفاقا، فمن المؤكد إذا أن الخياط إنّما اطلع على الطبعة المصرية التي اشتملت على زيادات مقتطفة من شرح ابن أبي الحديد، وكان قد تيسّر حينذاك للإمام محمّد عبده أن يرى هذا الشرح بعد عودته إلى مصر.
وليت الإمام في مقدّمته للطبعة المصرية أشار إلى هذا، ولوفعل لأزال من صدور الباحثين كلّ ريبة، ولكنه رحمه اللّه بصمته التام في هذا الصدد تركنا نتساءل ونحاول التوضيح والتعليل.
على أني واثق بأن الشيخ عبده لم يقرأ شرح ابن أبي الحديد من أوله إلى آخره قراءة دقيقة واعية، وإنّما رجع منه إلى ما لم يكن مطمئنا إلى تفسيره في الطبعة البيروتية اطمئنانا كاملا، وبهذا نعلل مغايرة شرحه لشرح ابن أبي الحديد في طائفة من الكلمات.
ولقد يستطرد ابن أبي الحديد لدى تفسير كلمة أوعبارة، فيستغرق باستطراده صفحات يؤيد بها وجهة نظره بالشواهد والنصوص، وإذا هي عند محمّد عبده تناقض ما يقول من غير إيماء إلى مواطن الاختلاف، مع أن الأستاذ الإمام يعنّي نفسه في مواضع أخر بذكر عدد من الوجوه، ويحاول- ولوبإيجاز شديد- أن يقارن بين صور الاختلاف في قراءة اللفظ أوتبيان المدلول.
وذلك يعني في نظرنا أن محمّد عبده اطلع على الشرح اطلاعا غير كاف، وربما قرأ بعضه بإمعان حيثما آنس الحاجة، فأما سائر الشرح فقد تصفّحه تصفحا، بل لا أستبعد أن يكون مرّ ببعضه مرورا عابرا غير مجشّم نفسه حتّى عناء تصفّحه.
ومن الغريب أن علامة كالشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد لما طبع «نهج البلاغة» في مطبعة الاستقامة، ومعه شرح الأستاذ الإمام، لم يجرأ على تصحيح شيء من تصحيفاته وبعض ما وقع فيه من الأوهام، رغم ما ذكره في مقدّمته من زيادته أشياء ذات بال، فبدا لنا هذا اللغوي المعروف معوّلا كلّ التعويل على شرح الإمام، غير مكلّف نفسه أن يستوثق من أفصح القراءات، وأفضل التأويلات.
وعلى ذلك مضى الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل في طبعة دار الأندلس ببيروت، حتى لكأنّه صوّر شرح الأستاذ الإمام تصويرا.
واقتصارنا في فهرس الألفاظ المشروحة على الحدّ الضروري من الإيضاح لم يأذن لنا بالتعقيب على تلك الهنات والأغاليط فيما أسّس على شرح الإمام من طبعات، وإنّما اكتفينا بذكر ما بدا لنا أصحّ الوجوه بعد مراجعتنا أوثق المصادر، ولا مناص لنا هنا من سرد بعض هاتيك الأوهام على سبيل المثال.
يقول عليّ عليه السلام: «وأنا من رسول اللّه كالضوء من الضوء» مشبّها نفسه- كما يوضح ابن أبي الحديد- بالضوء الثاني، ومشبّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالضوء الأول ومنبع الأضواء عزّ وجل بالشمس التي توجب الضوء الأول، فتصبح العبارة بعد التصحيف «كالصنومن الصنو» ويمسي معناها: «الصنوان النخلتان يجمعهما أصل واحد، فإنما علي من جرثومة الرسول» [٥].
ولوأن محمّد عبده قرأ شرح ابن أبي الحديد لهذه العبارة لأخذ به إن اقتنع، أولأشار إليه إن لم يقتنع، لكنه لم يشر إليه قط، ولعلّ بصره لم يقع عليه.
ويقول عليّ كرّم اللّه وجهه في صفة قوم: «فتألّوا على اللّه» والمراد أنهم حلفوا، من الألية وهي اليمين، وإذا العبارة عند الأستاذ الإمام «فتأوّلوا على اللّه» غير واضحة المعنى ولا بيّنة المدلول [٦].
والمرأة عقرب حلوة اللّسبة (أي اللسعة) باتت حلوة اللّبسة (أي حالة من حالات اللبس) [٧] ، والرجل لم تظهر منه حوبة (وهي الإثم) صار «لم تظهر منه خزية» تصحيفا [٨]، والرجل لا يؤمن على جباية (أي تحصيل أموال الخراج وغيرها) بات بعد التصحيف «لا يؤمن على خيانة» [٩] مع أنّه في الحاشية يقرّر أن رواية «الجباية» أظهر معنى!
وبهذه الملاحظة الأخيرة نشير إلى إثبات الشيخ عبده في المتن ما يستحسن في الحاشية سواه نصا وشرحا: ومن ذلك أنّه يثبت في المتن: «وبنا انفجرتم عن السرار» ويشرحها في الحاشية ثمّ يقول: «ويروى أفجرتم، بدل انفجرتم» وهوأفصح وأوضح، لأن «انفعل» لا يأتي لغير المطاوعة إلّا نادرا، أما أفعل فيأتي لصيرورة الشيء إلى حال لم يكن عليها ... الخ» وما أدري لما ذا أهمل الأفصح والأوضح، وأثبت في المتن ما كان في نظره غير فصيح! [١٠]
ومن ذلك أيضا أنّه ذكر في المتن «يذري الروايات إذراء الريح الهشيم»، ويشرحها في الحاشية ثمّ يقول: «ويروى: يذروالروايات كما تذروالريح الهشيم، وهي أفصح،» قال اللّه تعالى: «فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ» [١١] ونحن نتساءل مرة أخرى: ما الحكمة في إغفاله ما يعرفه فصيحا بل أفصح الفصيح؟
وأدهى من ذلك وأمرّ أن الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل- في طبعته المبنيّة على شرح الأستاذ الإمام- يبلغ به التساهل مبلغا لا يحسد عليه، فهويختار في المتن عبارة ويشرح غيرها في الحاشية، فما يدري أحد بأي مقياس تمّ له الاختيار: ها هوذا يثبت في المتن «وضرب على قلبه بالإسهاب» ويعلّق في الحاشية بقوله [١٢]: «الأسداد جمع سد، يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد، قال اللّه تعالى «وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ثم يقول: ويروى «الإسهاب» وهوذهاب العقل أوكثرة الكلام!!!
ويطول بنا الحديث لوذهبنا نتقصى ما وهم فيه سيد الأهل في طبعته، سواء أ كان سببه محاكاته غالبا ما وجده في شرح الإمام محمّد عبده، أم تصحيفا لم ينتبه إليه، أم غلطا وقع فيه.
إنّه ليثبت ويشرح «النباتات البدوية» [١٣]، وإنّما هي (النابتات العذية) أي التي تنبت عذيا، والعذي- بسكون الذال- الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر. ويجعل «منافثة» الحكماء- بالثاء- «مناقشة» بينهم، بالشين [١٤]، ويصيّر «الخنوع» بالنون «الخشوع» [١٥] بالشين، وينسى التعبير القرآني «يلبسون الحق بالباطل» أي يخلطون أحدهما بالآخر، ليضع مكانه «يلتمسون» [١٦]، ويبني للمجهول «نسلت القرون» [١٧] والفصيح فيه «نسلت» بالبناء للمعلوم، ويشدّد اللام في «يئلّ» من قول الإمام «ولا يئل من عاداه» [١٨] وصوابها من غير تشديد من «وأل يئل»: أي نجا ينجو.
وأغرب من هذا كله تشديده الياء مرتين، بصورة تلفت النظر، إذ أثبت قول الإمام هكذا: «أ من سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة» [١٩] وحاشا للإمام أن يجمع السنّة في حال الجرّ بياء مشدّدة، وليس هذا من التطبيع [٢٠] في شيء، لأنه- كما قلت- تكرر مرتين!
وما أردت بتعليقاتي هذه نقدا ولا تجريحا، ولكني وددت- من خلالها- أن يميط القراء اللثام عن سرّ اهتمامي الشديد بالفهرس الأول الذي شرحت فيه ألفاظ «النهج» الغريبة، مستوثقا من أدق المتون والشروح.
أما الفهرس الثاني فعقدته للموضوعات العامّة مرتبة على حروف المعجم، وهومن أهم الفهارس التي وضعتها لخدمة أغراض «النهج»، وقد كان وحده كافيا لإبراز الفكر العميقة التي بثّها الإمام كرّم اللّه وجهه في خطبه ورسائله ووصاياه، لكني أردت مزيد التفصيل والتجزئة والتحليل حين أتبعته بالفهارس التي سأتحدث عنها بعد قليل.
وممّا يجدر ذكره أنّ مثل هذا الفهرس العام لم يطبع- فيما نعلم- مع «النهج» ولا مع شرحه، لا في مصر ولا الشام ولا إيران ولا سواها من البلدان، مع أن أحدا من الباحثين لا يجهل أهميته للأدباء والمتأدبين. ونودّ منذ الآن أن نفرّق بينه وبين الكتاب الذي وضعه السيّد جواد المصطفويّ الخراسانيّ وطبعه في إيران، وسمّاه «الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه».
ذلك بأن هذا «الكاشف»- كما تنبئ تسميته، وكما أراده مؤلّفه- إنّما يرشد القارئ إلى أي لفظ أراد من «النهج» في أيّ متن أوشرح، وذاك عمل لفظيّ شكليّ كما ترى، وإنّما كان الذي توخّيناه في فهرسنا الثاني هذا عملا علميا يتعلق بجوهر «النهج» في طائفة لا يستهان بها من الألفاظ الدوالّ على معان مهمّة مشفوعة بأبرز استعمالاتها في تعبير الإمام عليه السلام، كأقواله في المرأة، أونظراته في الحرب والسلم، أوآرائه في العقيدة، أووصاياه في الزهد، أوتعاليمه في الأخلاق، فما يطوف ببالك شيء من هذا كله إلّا وجدته مرتبا على حروف المعجم من خلال الكلمات التي تبحث عنها وتريد أن تستجمع فيها أغراض عليّ الأدبية.
ولئن أشبه «الكاشف» الذي وضعه الخراسانيّ «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي» الذي أشرف عليه المستشرق فنسنك- إذ كل منهما عمل لفظيّ بحت- فإن فهرسنا هذا للموضوعات يشبه- والقياس مع الفارق طبعا- «تفصيل آيات القرآن» الذي وضعه المستشرق جول لا بوم ونقله من الفرنسية محمّد فؤاد عبد الباقي. وعملنا هذا- وإن تعلّق بنهج البلاغة لا بكتاب اللّه- سوف يبدوللباحثين أكثر موضوعية، وأيسر استعمالا، وسوف يتيح للباحثين أن يجدوا في «النهج» ما يصبون إليه براحة واطمئنان، ولا سيما إذا ضمّت إليه الفهارس الباقية التي تفصّل ما أطلق، وتخصّص ما عمّم، وتجعل الانتفاع بالكتاب أمرا شائعا على جميع المستويات.
وفي الفهرسين التاليين بعد ذلك سوف يزداد القارئ أوالناقد أوالباحث شعورا بالراحة والاطمئنان، فأحدهما- وهوالفهرس الثالث- يتعلق بخطب الإمام، والآخر- الرابع- يتعلق برسائله وكتبه، وبدلا من أن نكتفي بذكر الصفحات التي استهلت بها كل خطبة أورسالة، رتّبناها جميعا بحسب الموضوعات والأغراض.
فمن خطب في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد والتعريض، أوفي العتاب والتقريع، أوفي الشكوى، أوفي الحثّ على القتال، أوالوصف، أوبدء الخلق، أوالتزهيد في الدنيا. وقد اصطلحنا حينئذ على أن نذكر رقم الخطبة ورقم الصفحة التي استهلّت وختمت بها مع بيان أول عبارة وآخر عبارة فيها. وكذلك فعلنا في الرسائل، فمن رسائل في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد، أوفي الحرب، أوالسياسة، أوالقضاء، وسواها من الموضوعات.
وإذا ذكرنا أن معظم «النهج» خطب ورسائل. ومعها الأجوبة المسكتة بعد ذاك، وهي قليلة، أدركنا أهمية الفهرس المعقود للخطب وأنواعها، ثمّ للرسائل وأنواعها، وأحلنا دارس الخطابة أونثر الرسائل في صدر الإسلام على نهج واضح مستقيم.
وفي خطب عليّ خاصّة فريدة لا تكاد تفارقها، وهي كثرة اقتباسه من القرآن المجيد والحديث الشريف. لذلك خصصنا الفهرس الخامس للآيات القرآنية، والسادس للأحاديث النبويّة، لإبراز الثقافة الإسلامية التي كان الإمام عليه السلام يمثّلها خير التمثيل، فقد رأى نور الوحي، وربّي في بيت النبوّة، ووعت ذاكرته القوية كثيرا من ألفاظ القرآن والسنّة، حتى انطبع أسلوبه بطابع عجيب يعلوعلى أساليب البلغاء من البشر في القديم والحديث.
ومن المعروف أن الاقتباس من كتاب اللّه وحديث نبيّه جائز، حتى ولواقتطع المقتبس موضع الشاهد المناسب من أواخر الآية أوأواسطها، أواختار عبارات من الحديث أوألفاظا.
وقد كان من دلائل جواز الاقتباس عند بعض البلاغيين أن الإمام عليه السلام أكثر منه في كلامه، وهوحجّة، فلا مسوّغ للتساؤل عن اقتطافه كرّم اللّه وجهه ألفاظا وتركه ألفاظا أخر، ما دام غير قاصد إلى النقل الحرفيّ، وإنّما كان قاصدا إلى طبع أسلوبه بطابع إسلامي صريح. ولذلك جعلنا هذه المقتطفات القرآنية والنبويّة بين مزدوجين هكذا «...»، ورددنا الآيات إلى وجهها في التلاوة في فهرسها الخاص. ولاحظنا- بصورة مؤكدة- أنّ بعض أحاديث الرسول عزيت إلى عليّ، ولا بدّ من التحقيق قبل الحكم في هذه القضية بسلب أوإيجاب.
ولما صنعنا الفهرس السابع للعقائد الدينية، والفهرس الثامن للأحكام الشرعية، لم نعجب لقلة الأحكام إذا ما قيست بالعقائد، لأن كتابا كالنهج يجمعه الشريف الرضيّ من أقوال الإمام عليه السلام يفترض فيه أن يكثر مضمونه في مسائل العقيدة، وألا يتطرق من مسائل الفقه والتشريع إلّا لما جاء عرضا أوكانت صلته بالعقيدة أوثق منها بالأحكام.
ولعلنا- في ضوء هذه الفكرة- نقف على السرّ فيما انبثّ أثناء خطب الإمام في «الإلهيات» من عبارات شبيهة بالفلسفية والكلامية، كالأين والكيف، والحدّ المحدود، وصفات اللّه النفسية بوجه خاصّ، وهي التي عقدنا لها الفهرس التاسع نجمع فيه بين يدي الدارس ما يحلّل به العوامل والأسباب التي أتاحت لمثل عليّ في صدر الإسلام أن يطلق بعض هذه الألفاظ الاصطلاحية، سابقا بها نظرات المتكلّمين.
ولسنا نريد بهذا أن نومئ إلى «وضع» الخطب المشتملة على هذه الألفاظ برمّتها، ولا إلى الحكم العاجل «بصحتها» من غير تحقيق، فمثل هذه الدراسة تحوج إلى كتاب خاصّ يتناول جميع ما أورده النقّاد من شبهات تشكّك في نسبة هذه الخطب- كلا أوبعضا- إلى الإمام عليه السلام. وهوعمل كنت تجشمت القيام بكثير منه منذ اخترت لطلابي في كلية الآداب تدريس «نهج البلاغة» على أنّه نموذج للنثر الفني في صدر الإسلام.
ولا أستطيع الآن أن أصرح- لأنّي منذ سنوات لا أزال منكبّا على هذا الموضوع- إلا بأنّ معظم خطب النهج ورسائله مائلة في عدد من أمّهات الكتب التاريخية، نذكر الآن في طليعتها تاريخ ابن جرير الطبريّ. ولنا رجعة إلى درس هذه القضية في كتاب خاصّ نستخرج به إن شاء اللّه مصادر الشريف الرضيّ فيما جمعه من كلام الإمام.
وقد رأينا من المفيد أن نعقد الفهرس العاشر للتعاليم والوصايا الاجتماعية، والحادي عشر للأدعية والابتهالات، والثاني عشر للأبيات الشعرية، نسجّلها كما وردت متعاقبة في مطبوعتنا هذه، إبرازا لأهميتها، وتيسيرا على الباحث الذي يعنيه أن يتقصاها.
أما الفهارس المتتابعة بعد ذلك ابتداء من الفهرس الثالث عشر حتّى التاسع عشر فقد آثرنا- تعميما للفائدة- ترتيبها على حروف المعجم، ووجدنا أن ذكرها لا يخلومن جدوى ولوكان معظمها نزرا يسيرا.
وقد خصصنا الفهرس الثالث عشر للأعلام من الرجال والنساء والقبائل والطوائف والشعوب، والرابع عشر للحيوان، والخامس عشر للنبات، والسادس عشر للكواكب والأفلاك، والثامن عشر للأماكن والبلدان، والتاسع عشر للوقائع التاريخية.
وهكذا بدا للقارئ أوالباحث أنه- من غير أن يتكلف التعمق في تقصي الشروح- يوشك أن يجد مبتغاه كلّه في هذه الفهارس التي لم تغادر شيئا إلّا بيّنته أحسن التبيان.
وكان طبيعيا أن تكون خاتمة هذه الفهارس جميعا الفهرس العشرين الذي فصّلت فيه مواد الكتاب تفصيلا على ترتيب صفحاتها في هذه الطبعة، ليكون كل شيء بين يدي القراء واضحا كل الوضوح.