الشيخ عبـد الرسول الغفاري
جواب الشّـك الأوّل :
إنّ العرب منذ عصرهم الجاهلي وإلى عدّة قرون من عصرهم الإسلامي كانوا يعتمدون الحفظ بدلاً من الكتابة ، بل وكانوا يأنسون بحافظتهم القوية التي استودعت قلوبهم دواوين العرب وأيّامهم ومآثرهم ، وهو شأن كلّ أُمّة تسيطر عليها البداوة والأمّية .
فقد امتاز العرب قبل الإسلام وبعده بقوّة حافظتهم وسرعة خاطرهم ، وقد اعتمد المؤرّخون في عصر التدوين على أولئك ورووا عنهم أيّام العرب ووقائعها ، فهي رواية الخلف عن السلف ،ولولا الحفظ والحفّاظ لضاع الكثير من تاريخ العرب ; إنّه تاريخ لحقبة طويلة من الزمان .
ثم إنّ النهج قد ضمّ ( ٢٤٢ ) خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) و( ٧٨ ) كتابا ورسالة و( ٤٩٨ ) حكمة ومثلا وهذا المقدار لا يساوي إلا العُشر من كلام الإمام عليٍّ (عليه السلام) وأنّ حفظه ما أيسره لأبناء ذلك العصر .
في الوقت الذي نجد اليوم صغار السنِّ يحفظون القرآن وهم دون السنِّ العاشرة والسابعة . . فما بالك بأبناء القرن الأوّل الذين حفظوا القصائد الطوال والتاريخ المفصّل عن العرب ووقائعها وأيّامها ؟ !
أضف إلى ذلك أنّ الذي حفظ النهج لم يكن واحداً ولا اثنين ولا ثلاث بل هم بالعشرات ، وأنّ لكلّ واحد كان له نصيب من الحفظ فالبعض حفظ خطبة أو خطبتين أو رسالة أو عهداً أو كتاباً والآخر حفظ هذه الخطبة أو تلك وهلمّ جرّاً ، وبمعنى آخر لم يدّع أحد أنّه حفظ جميع ما ضمّه النهج بين دفّتيه فأيّ إشكال في تظافر مجموعة من النّاس في كلّ زمان أن يحفظوا ما تيسّر لهم أو الذي طمحت إليه أنفسهم فحفظوها ، فيتمّ بمجموع ما حُفظ مجموع النهج .
ومثال واحد يميط اللثام عن تلك الشكوك ، ذلك أنّ عبـد الحميد الكاتب كان يحفظ سبعين خطبة من خطب الإمام عليٍّ (عليه السلام) وأنّ ابن نباتة كان يحفظ مئة فصل من مواعظ أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ثمّ لا يخفى عليك أنّ رسائل الإمام (عليه السلام) وكتبه وبعض خطبه كانت مكتوبة مدوّنه وهذا ممّا يسهِّل بقاءها والاحتفاظ بها ، وما كان كذلك لا يصعب حفظه .
هذا وقد ذكر أكثر من مؤرّخ أنّ خطبة الإمام (عليه السلام) في الجهاد ، ـ أنّه باب من أبواب الجنّة ـ كانت مكتوبة بخطّه (عليه السلام) ، وأمر غيره بإلقائها على النّاس [١] .
ونقل ابن قتيبه الدينوري في صفحات عديدة من كتابه : الإمامة والسياسة المكاتبات بين الإمام عليٍّ (عليه السلام) ومعاوية ، وبين عليّ (عليه السلام) وعمّاله ، وبين معـاوية وأصحابه [٢] فماذا تعني تلك الكتب ؟ ألم يكن هناك وفرة من الورق والقرطاس ، وإلاّ ماذا تفسّر هذه الكتب الصادرة من الإمام عليٍّ (عليه السلام)أومن عمّاله أو من خصُومه من هنا وهناك سواء كان مبدأُها العراق أو الشّام أو مصر أو بلاد فارس . . ؟ !
وعليه فإنّ جميع تلك الخطب والرسائل والكتب قد حفظها الناس تباعاً ، يقول المسعودي :
« والذي حفظ الناس عنه من خطبه (عليه السلام) في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة وتداول الناس ذلك عنه قولا وعملاً » [٣] .
وفي الإطناب يقول الدكتور زكي مبارك : « وسحبان وائل الذي عرف بالتطويل وأنّه كان يخطب أحياناً نصف يوم ، أثرت عنه الخطب القصيرة الموجزة ، وذلك يدلّ على أنّ الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر ، وأنّ القاعدة المطّردة لم تكن شيئاً آخر غير مراعاة الظروف ، ورسائل عليّ بن أبي طالب ، وخطبه ، ووصاياه ، وعهوده إلى ولاته تجري على هذا النّمط ، فهو يطيل حين يكتب عهداً ليبيّن فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي يرعاه،ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصّه في شيء معيّن لا يقتضي التطويل» [٤] .
أمّا الشكّ الثاني :
وهو ما يتعلّق بالخطب الطويلة فإنّ حفظها ووعيها متعذّر وهكذا قل عن العهد الذي بعثه (عليه السلام) إلى الأشتر هذا الشكّ أورده الگيلاني في كتابه : أثر التشيّع في الأدب العربي [٥] .
وردّنا عليه من وجوه :
أوّلاً : إنّ العهد الذي بعثه الإمام (عليه السلام) للأشتر كان مكتوباً فمن السهل حفظه ووعيه .
ثانياً : إنّ الكثير من الناس يحفظون اليوم القرآن الكريم عن ظهر قلب والذي يناهز على ٦٠٠ صفحة .
ثالثاً : إنّ هناك خطباً طويلة لملوك وأمراء قد حفظها الناس كخطبة ( هرمز ) ملك الفرس قبل بعثة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد رواها الدينوري في الأخبار الطوال [٦] ، وكتاب طاهر بن الحسين إلى ولده محمّـد قد بلغ مئة وتسعة وثلاثين سطراً قد ذكره ابن خلدون في مقدّمته .
رابعاً : إنّ العهد الذي كتبه الإمام (عليه السلام) إلى الأشتر واليه على مصر تضمّن مجموعة قوانين قد سنّها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأمر واليه أن يجعلها نصب عينيه لأنّها عبارة عن بنود تشريعية تنظّم علاقة الحاكم بالمحكوم ، أو قل علاقة الحاكم بالمسؤولين من القضاة والقوّاد وجباة الأموال والجند وغيرهم ممّن له عمل إداري أو رسمي .
وهكذا تنظيم علاقة الحاكم بالرعية والذي منهم العامل والتاجر والفلاح .
وعليه فلابدّ من أن تنظّم جميع هذه العلاقات على ضوء الشريعة الغرّاء ، ولأنّ الظرف السياسي في ذلك العصر يتطلّب ذلك .
وأمّا الشكّ الثالث :
إنّ في بعض خطبه (عليه السلام) تعريض بالصحابة والنيل منهم كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ومعاوية وعمر بن العاص وأضرابهم . كأنّما القائل به نسي الأحداث التي كانت على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والحروب والغزوات التي وقعت ، وكأنّما حجب عينيه وأصمّ أذنيه عن عشرات الآيات التي نزلت في حقّ البعض من الصدر الأوّل ، فمن المخاطب بتلك الآيات ؟ ! أليس هم ممّن يدّعون الصُحبة ؟ ! وهل غابت عن ذلك المشكّك تلك الآيات .
إذن هل جميع الصحابة في منزلة واحدة من التقديس والتقدير ؟
وقد ورد قوله سبحانه : ( إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) [٧] ،إنّما التفاضل هو بالتقوى ، وبالأعمال الصالحة .
فهل غاب عن أولئك جريمة خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة وتَزوّج بامرأته في ليلتها ؟ !
وإلاّ فلماذا عزله عمر بن الخطّاب ؟ !
وهل غاب عنهم الدماء التي جرت في حرب البصرة وكان سببها طلحة والزبير و . . .
أو أنّه غاب عنهم الدماء التي جرت في صفّين وكان سببها معاوية وعمرو بن العاص و . . .
عجباً لهؤلاء الذين يقرأون ـ في بطون الكتب وصفحات التاريخ ـ الأخبار المفصّلة عمّا جرى في صدر الإسلام من أحداث السقيفة والحروب والغزوات التي حدثت في الصدر الأوّل من تاريخ الحكومة الإسلامية وبالخصوص الأحداث التي جرت في زمن حكومة عثمان بن عفّان ، أنّهم يقرأُون كلّ هذا ومع ذلك يستثقلون كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) . . !
كأن لم يكن هناك انحراف ، واعتداء ، وغصب ، وسلب الأموال وقتل الأبرياء ؟ !
فهناك ظلم الحكّام والأمراء ، وارتشاء القضاة وسوء سريرتهم ، وهناك الفسق والفجور ، وشيوع الخمرة في وسط الأمراء الذين نصّبهم عثمان ، وحادثة والي الكوفة لا تغيب عن الأنظار إذ شرب الخمر وصلّى بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات ، وألقى ما في رأسه في المحراب ، ثمّ هناك الغصب ، وسرقة أموال المسلمين ، والتمادي في الظلم ، واللعب بمقدّرات المسلمين ، كلّ ذلك تجده في كتب التاريخ والسيرة ، مضافاً إلى ذلك الفقر المتفشّي بين النّاس ، والتذمّر من الوضع السياسي الخانق ، حتّى أدّى ذلك إلى إراقة الدماء ، وهتك الأعراض ، وسلب الأموال . . .
ألا تكون هذه الحالة مدعاة للإمام (عليه السلام) أن يقف أمام كلّ هذا الإضطراب فينصح الوالي والحاكم وقائد الجند والعاملين على الخراج وجباية الزكواة . . ؟ !
أليس من شأن الإمام (عليه السلام) أنْ يصلح ما فسد من أمور الناس ؟
فكيف والحال هذه لا يتكلّم الإمام (عليه السلام) بما يرضي الله ؟ أليس من وظائفه الشرعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ أليس من وظائفه الجهاد في سبيل الله ؟ والجهاد على أقسام منه بالسيف ومنه بالكلمة وهذا قطعاً يستوجب على الإمام أن يُعرّض بالصحابة الذين تصدّوا للحكومة .
لهذا تجده (عليه السلام) ناصر الفقير والمظلوم ، وناهض الجائر الغشوم ورفع صوته بوجه الطغاة والخونة من الولاة ، فلا عجب أن يتطرّق (عليه السلام) لسير الأحداث وما قامَ به مَن سبقوه من إعمال وتصرّفات لا تمتّ إلى روح الإسلام بصلة ، والجميع يعلم أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم ، فليدّعِ البعض أنّ كلامه ذاك فيه طعن على الصحابة . .
إنّ الشكّ الذي تقدّم به الذهبي وابن تيميّة إنّما هو نهج من سبقه القائم على تنزيه الصحابة كافّة دون أيّ استثناء ، في الوقت الذي ينقل لنا التاريخ أنّ الخصومات فيما بينهم كانت قائمة بمرأىً ومسمع من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنّ بعضهم كان يسبّ البعض الآخر ويشتمه ، بل وصل بهم أن يتراشقوا النعال بدلاً من الحجارة [٨] وعليه فإنّ النهج الذي اتّبعه الذهبي وابن تيميّة يمتّ صلة بفكرة الإرجاء والمرجئة ، ومن هذا المذهب ظهرت فكرة تنزيه الصحابة وعدم الخوض في أفعالهم وتصرّفاتهم ، بل أدّى بهم أن يفتوا بصواب أعمالهم وأنّ لهم الأجر الجزيل ، لأنّه اجتهاد ، فإذا أصاب الصحابي باجتهاده فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، فهذا خالد يقتل نفساً بريئة يشهد الشهادتين وأنّ المسلم دمه وعرضه وماله حرام إلاّ أنّ ابن الوليد على حسب رأي ابن تيمية والذهبي أنّه اجتهد فأخطأ فله أجر ! فأين اذاً قوله تعالى : ( مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) [٩] ؟
ثمّ ماذا يقول هؤلاء في نهب الأموال في زمن عثمان على يد مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة وزعماء بني أميّة ؟
ألم تقل أُمّ المؤمنين في حقّ عثمان لمّا ضرب ابن مسعود حتّى كسر أضلاعه : اقتلوا نعثلاً فإنّه كفر ؟ !
وفي ذلك يقول عبد بن أمّ كلاب ، عبد بن أبي سلمة قال مخاطباً عائشة بعد مقتل عثمان [١٠] :
فمنك البداء ومنك الغير ***** ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرتِ بقتل الإمام ***** وقلت لنا إنّه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ***** وقاتله عندنا مَن أمَر
ولم يسقط السقف من فوقنا ***** ولم تنكسف شمسنا والقمر
وماذا يقول هؤلاء لمّا أقدم عثمان بن عفّان على نفي الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) إلى الربذة حتّى مات هناك وحيداً فريداً في غربة عن الوطن والأهل [١١] . . ؟
لا يسعني المقام أن أسرد تلك الويلات والمحن التي جلبها بعض الصحابة للإسلام والمسلمين ، فلا زال طعمها المرّ يتذوّقه كلّ مسلم ، وعليه أنّ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) الشقشقية التي تعرّض بها للخلفاء الثلاثة وطلحة والزبير وعائشة إنّما هو الواقع المرير الذي كان يعيشه المسلمون ، وقد حاول أصحاب الأطماع ومحبّو الرئاسة أن يخدعوا عوامّ الناس فلا يتعرّضوا لسياسة أولئك النفر حتّى لا يستفيد هذا الخلف من سقطات ذلك السلف بشكل أو آخر ، وعلى هذا الأساس اختلقوا الأحاديث ونسبوها إلى النبيّ ؟ وهو بريء ، منها قولهم : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » وقولهم : « إيّاكم وما شجر بين أصحابي » .
أيّ منطق هذا أن يساوى بين الفاسق الفاجر والمؤمن التقي ؟ هذا طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مروان بن الحكم هل من المنطق السّليم أن يجعله المسلمون قدوة لهم ؟ !
أم ذاك أبو سفيان الذي ما خرجت كتيبة ولا رفعت راية لحرب الرسول (عليه السلام) إلاّ وهو قائدها . . ؟ !
علينا أن نحكّم العقل والمنطق ، اليوم أصبحت الشعوب واعية تبحث عن كلّ ما جرى في التاريخ وما مبتغاها في ذلك إلاّ أنْ تتبّع الهدى والصراط الواضح والنهج السوي .
إذن ما تناوله أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية أو خطبته التي تعرّض فيها ( للمنافقين ) وما فيهما من نقد وطعن إنّما كان نتيجة للمواقف العدائية الصارخة التي وقفها هؤلاء وقد انقدحت من تلك المواقف الحاقدة حروب ذهب ضحيّتها مئات الآلاف من المسلمين ، ترى يسكت أمير المؤمنين (عليه السلام) حيال هذه الجرائم التاريخية ؟ !
وعليه :
فإنّ هذه الخطبة وغيرها من الخطب بل كلّ ما في النهج هو للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بلا منازع وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد المعتزلي : « لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه ، والأوّل باطل لأنّنا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ،وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم ،والمؤرّخون كثيراً منه ـ أي من النهج ـ وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .
والثاني يدلّ على ما قلناه لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصل والمولّد ، إذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لإثنين منهم فقط ، فلا بدّ أن يفرق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين .
« وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونفساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كوسطه وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح خلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) » [١٢] .
إذن يمكن تقسيم الصحابة إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأوّل : من أبلى بلاءً حسناً وجاهد في سبيل الله ورحل إلى ربِّه بأحسن وفادة وهو راض مرضي وهذا الصنف قد مدحه القرآن الكريم وهم ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) [١٣] ، وكما مدحهم القرآن فقال سبحانه : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً ) [١٤] ولم يحدثوا بعد رسول الله حدثاً .
والصنف الثاني : تخاذل عن الحقّ ولم ينصر الباطل ، وقد ذمّهم القرآن الكريم إلاّ أنّهم لم يحدثوا شيئاً من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) . فهؤلاء أقلّ شأناً ممّن سبقهم وعلى الله حسابهم .
الصنف الثالث : الذين غيّروا وبدّلوا وحرّفوا كلام الله وأحدثوا من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال : « قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا فرطكم على الحوض ليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني . فأقول : ربّي أصحابي .
فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك » [١٥] وروى مثله البخاري عن سهل بن سعد وزاد عليه : « فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » [١٦] .
ورواه أحمد بن حنبل في مسنده [١٧] .
ورواه المتّقي الهندي في كنز العمّال [١٨] عن ابن مسعود وعن سمرة .
ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة في الوضوء عن أبي هريرة [١٩] .
ورواه في كتاب الفضائل في باب إثبات حوض نبيّنا (عليه السلام) [٢٠] .
ورواه ابن ماجه في صحيحه في أبواب المناسك في باب الخطبة يوم النحر عن ابن مسعود [٢١] .
ورواه ابن جرير في تفسيره [٢٢] بسنده عن قتادة .
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد [٢٣] عن سمرة وعن ابن مسعود .
فبماذا تفسّر هذا الحديث الشريف ؟ ! ومَن الذين أحدثوا بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ حيث روى ابن حجر في الإصابة بسنده عن سعيد بن منصور قال : « حدّثنا خلف ابن خليفة عن العلاء بن المسيّب عن أبيه عن أبي سعيد قلنا لـه هنيئاً لك برؤية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبته .
قال : إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده [٢٤] .
ومثله في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق في باب غزوة الحديبية .
وفي طبقات ابن سعد ، بسنده عن إسماعيل بن قيس قال : « قالت عائشة عند وفاتها إنّي قد أحدثت بعد رسول الله فادفنوني مع أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) » [٢٥] .
وفي تهذيب التهذيب روى ابن حجر بسنده عن الآجري قال : « قال عمرو بن ثابت لمّا مات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كفر النّاس إلاّ خمسة . . » [٢٦] .
أقول :
وممّا يؤيّد ما سبق الآيات الواردة في بعضهم ; إذ فيهم الذين ( ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ ) [٢٧] ، ومنهم ( مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ) [٢٨] ، ومنهم مَن لمز النبيّ ( فِي الصَّدَقَاتِ ) [٢٩] ، ومنهم مَن آذاه وقالوا ( هُوَ أُذُنٌ ) [٣٠] ، ومنهم من كان في قلبه مرض ، ومنهم الذين اعتذروا في غزوة تبوك وكانوا بضعة وثمانين رجلا وحلفوا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقبل منهم لكن نزلت فيهم آيات تكذّبهم : قوله تعالى : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إذَا انقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإنَّ اللهَ لاَيَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) [٣١] وفي هذه الغزوة أقدم أربعة عشر منافقاً على الفتك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظلمات الليل عند عقبة هناك ، ولمّا انصرف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الغزوة إلى المدينة كان في الطريق ماء يخرج من وشل بوادي المشقّق . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من سبق إلى ذلك الماء فلا يسقينّ منه شيئاً حتّى نأتيه ، فسبقه إليه نفر من المنافقين واستقوا ما فيه فلمّا أتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف عليه فلم ير فيه شيئاً ، ولمّا علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر المنافقين ، قال : أولم ننههم أن يستقوا منه شيئاً حتّى نأتيه ، ثمّ لعنهم ودعا عليهم [٣٢] .
روى البخاري عن زيد بن ثابت : « لمّا خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اُحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة منهم : نقتلهم ، وقالت فرقة : لا نقتلهم ، فنزلت الآية الكريمة : ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا . . . ) [٣٣] .
قال الراغب في مفرداته : أركسهم أي ردّهم إلى الكفر » [٣٤] .
ومن الصحابة من نزلت فيهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [٣٥] والتفصيل في هذا الموضوع يطول لأنّ الشواهد القرآنية في الكشف عن هذا الصنف الثالث كثيرة جدّاً وعليه ، فالصحابة قوم من النّاس لهم ما للنّاس وعليهم ما عليهم واعتبارهم جميعاً عدولاً أنّها مكابرة شديدة ، ومن رفض محاسبتهم أو نقدهمُ أو تجريحهم ، إنّما يرفض قول الله العزيز ، وما جاء في حقّهم بصريح القرآن وقد أشرنا إلى جملة منها . وفي هذا أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام عليّ (عليه السلام) أن يقاتل ( الناكثين والقاسطين والمارقين ) لأنّ جميعهم قد خرجوا عن الحقِّ فهم أضلّوا سبيلاً وكانت خاتمتهم الخسران المبين ، وكما قيل إنّ الأمور بخواتيمها .
-----------------------------------------------------------
[١] . الأخبار الطوال : ١٩٥ ، شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ١٤٥ نقلاً عن كتاب الغارات للثقفي ، وسفينة البحار ١ / ٣٩٦ برواية الاصبغ بن نباتة ٢ / ٤٦٦ .
[٢] . الإمامة والسياسة ١ / ١٥٤ ما كتبه (عليه السلام) لأهل العراق .
[٣] . مروج الذهب ٢ / ٤٣١ .
[٤] . النثر الفنّي ـ زكي مبارك ١ / ٩٥ .
[٥] . أثر التشيّع في الأدب العربي : ٥٦ .
[٦] . الأخبار الطوال : ٧٧ .
[٧] . سورة الحجرات ٤٩ : ١٣ .
[٨] . الفصول المهمة : ١٤٦ .
[٩] . سورة المائدة ٥ : ٣٢ .
[١٠] . الفتنة وواقعة الجمل : ١١٥ .
[١١] . يكفي القاريء النبه أن يستعرض فصول السقيفة وما دار فيها من شجار وطعن ولعن وتفسيق حتّى شهر بعضهم السلاح ، وكان التهديد بالحرب والاجلاء عن المدينة ، أنّه النزاع بين القرشيين والخزرج .
لا يسعني المقام أن أسرد تلك الويلات والمحن التي جلبها بعض الصحابة للإسلام والمسلمين ، فلا زال طعمها المرّ يتذوّقه كلّ مسلم ، وعليه أنّ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) الشقشقية التي تعرّض بها للخلفاء الثلاثة وطلحة والزبير وعائشة إنّما هو الواقع المرير الذي كان يعيشه المسلمون ، وقد حاول أصحاب الأطماع ومحبّو الرئاسة أن يخدعوا عوامّ الناس فلا يتعرّضوا لسياسة أولئك النفر حتّى لا يستفيد هذا الخلف من سقطات ذلك السلف بشكل أو آخر ، وعلى هذا الأساس اختلقوا الأحاديث ونسبوها إلى النبيّ ؟ وهو بريء ، منها قولهم : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » وقولهم : « إيّاكم وما شجر بين أصحابي » .
[١٢] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١٠ / ١٢٨ .
[١٣] . سورة الواقعة ٥٦ : ١٠ ـ ١٢ .
[١٤] . سورة الفتح ٤٨ : ٢٩ .
[١٥] . صحيح البخاري ٦ / ١٠٨ و٨ / ١٢٠ ، صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٣ ، الاصابة ٣ / ٨٤ القسم ١ ، تهذيب التهذيب ٨ / ٥١ ، كنز العمال ٧ / ٢٢٤ ، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد : ٢١٢ ، مجمع الفائدة ٢ / ٤٢٩ ، كتاب الفضائل : حديث ٢٦ .
[١٦] . صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٣ .
[١٧] . مسند أحمد بن حنبل ١ / ٣٨٤ و٤٠٢ و ٤٠٦ و٤٠٧ و٤٥٣ و٤٥٥ و٢ / ٢٨١ و٥ / ٤٨ و٥٠ و٣٩٣ .
[١٨] . كنز العمّال ٧ / ٢٢٤ و٢٢٥ ، ٦ / ٤٢٤ .
[١٩] . صحيح مسلم : كتاب الطهارة ، باب الوضوء ، وكذلك ٧ / ٦٥ ـ ٦٧ .
[٢٠] . كتاب الفضائل : باب إثبات الحوض حديث ٢٦ .
[٢١] . سنن ابن ماجة : أبواب المناسك ، وهكذا في الجامع الصحيح للترمذي ٤ / ٦١٥ ، و٢٤٢٣ ، سنن النسائي ٤ / ١١٧ .
[٢٢] . تفسير الطبري : ٤ / ٥٥ .
[٢٣] . مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٤ و٣٦٥ .
[٢٤] . الإصابة ٣ / القسم ١ ص ٨٤ .
[٢٥] . الطبقات الكبرى ٨ / ٧٤ ، ثمّ أنظر كتاب وضوء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ١ / ٢٤٤ .
[٢٦] . تهذيب التهذيب ٨ / ١٥ .
[٢٧] . سورة التوبة ٩ : ٤٨ .
[٢٨] . سورة التوبة ٩ : ٤٩ .
[٢٩] . سورة التوبة ٩ : ٥٨ .
[٣٠] . سورة التوبة ٩ : ٦١ .
[٣١] . سورة التوبة ٩ : ٩٥ ـ ٩٦ .
[٣٢] . أضواء على السنة المحمّـدية : ٣٥٣ .
[٣٣] . سورة النساء ٤ : ٨٨ .
[٣٤] . اضواء على السنة المحمّـدية : ٣٢٢ .
[٣٥] . سورة التوبة ٩ : ١٠٧ .
يتبع ....