وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                

Search form

إرسال الی صدیق
من قصص نهج البلاغة - السابع

١٠٠ - التسلسل إلى العدو

يعتبر سهل بن حنيف من شيعة على المخلصين، فضلا عن كونه من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الأوفياء، قاتل مع الرسول، واستمر يحافظ على نهجه مع خليفته الشرعي أميرالمؤمنين(عليه السلام)، كان واليا لأميرالمؤمنين(عليه السلام)على بلاد فارس، وثمّ- واليه على المدينة، وعندما حارب الإمام القاسطين والناكثين، كان سهل أحد قواد جيش الإمام الشجعان.

توفي سهل بن حنيف في سنة ٣٨ للهجرة بعد معركة صفين، وقد حزن عليه الإمام(عليه السلام).

ومن كتاب لأميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى سهل بن حنيف الأنصاري وهو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:

«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفى لَهُمْ غَيّاً، وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى والْحَقِّ، وَإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ، وَسَمِعُوهُوَعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الاْثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً!! إِنَّهُمْ ـ وَاللهِ ـ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْر، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْل، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هذَا الاْمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللهُ لَنَا صَعْبَهُ،يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَالسَّلاَمُ علَيْكَ»[١].

١٠١ - الإمام(عليه السلام) وأحد ولاته الخونة

من كتاب له(عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي[٢] وقد كان استعمله على بعض النواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ، وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ، فَإِذَا أَنْتَ فِيَما رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لاَتَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً، وَلاَ تُبْقِي لاِخِرَتِكَ عَتَاداً، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بَخَرَابِ آخِرَتِكَ، وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ. وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْل أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ، أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَة، أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى خِيَانَة. فَأقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هذَا إِنْ شَاءَ اللهُ»[٣] .

١٠٢ - نصيحة عليّ(عليه السلام) للعالم الربّاني

من كتاب لأميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى عبدالله بن العباس: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِسَابِق أَجَلَكَ، وَلاَ مَرْزوُق مَا لَيْسَ لَكَ.

وَاعْلَمْ بِأنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، وَأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَل، فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بقُوَّتِكَ»[٤].

وعبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كنّي بأبيه العباس وهو أكبر ولده وأُمّه لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية[٥].

وقد روي ان محمّد بن الحنفية قال حين مات ابن عباس: اليوم مات ربّاني هذه الأُمّة[٦].

١٠٣ - مناظرة مع الخوارج

لمّا أراد عبدالله بن العباس الاحتجاج على الخوارج، أوصاه أميرالمؤمنين(عليه السلام) قائلا:

«لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلكِنْ حاجّهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً»[٧].

وكان من حوار ابن عباس مع الخوارج عندما أقبلوا عليه يكلمونه فقال: ما نقمتم من الحكمين وقد قال الله عزّوجلّ: ( إنْ يُرِيدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) فكيف بأُمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت الخوارج: قلنا أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والاصلاح له فهو إليهم كما أمر به وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه حكم في الزاني مائة جلدة وفي السارق بقطع يده فليس للعباد أن ينظروا في هذا.

قال ابن عباس: فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ)[٨] فقالوا له: أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين.

وقالت الخوارج: قلنا له فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عنك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا فإن كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال وقد أمضى الله عزّوجلّ حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا وقيل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عزّوجلّ فأبوه ثمّ كتبتم بينكم وبينه كتاباً وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة وقد قطع عزّوجلّ الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلاّ من أقر بالجزية[٩].

قال ابن أبي الحديد: هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه، وذلك أنّ القرآن كثير الاشتباه، فيه مواضع يظن في الظاهر أ نّها متناقضة متنافية، نحو قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ) ونحو قوله: (إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ونحو قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُـبْصِرُونَ)... ونحو ذلك، وأمّا السنّة فليست كذلك، وذلك لأنّ الصحابة كانت تسأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتستوضح منه الأحكام في الوقائع، وما عساه يشتبه عليهم من كلامهم، يراجعونه فيه، ولم يكونوا يراجعونه في القرآن إلاّ فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفاً، وأكثرهم لا يفهم معناه، لا لأنّه غير مفهوم، بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه، إمّا إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه، أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة الّتي إنّما يراد منها بركتها لا الاحاطة بمعناها، فلذلك كثر الاختلاف في القرآن.

ثمّ قال: فما هي السنّة الّتي أمره أن يحاجهم بها؟ قلت: كان لأميرالمؤمنين(عليه السلام) في ذلك غرض صحيح، وإليه أشار، وحوله كان يطوف ويحوم، وذلك أ نّه أراد أن يقول لهم: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار»، وقوله: «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»، ونحو ذلك من الأخبار[١٠].

١٠٤ - مسؤولية الإنسان في الفتنة

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ».

ويقصد بـ «ابن اللبون»: ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة، وابن اللبون لا يكون قد كمل وقوى ظهره على أن يركب، وليس بأُنثى ذات ضرع فيحلب وهو مطرح لا ينتفع به. وأيام الفتنة هي أيام الخصومة والحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبدالملك وابن الزبير، وفتنة مروان والضحّاك، وفتنة الحجاج وابن الأشعث ونحو ذلك، فأمّا إذا كان أحدهما صاحب حقّ فليست أيام فتنة كالجمل وصفين ونحوهما، بل يجب الجهاد مع صاحب الحقّ وسل السيف والنهي عن المنكر وبذل النفس في اعزاز الدين واظهار الحقّ.

ولهذا قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أخمل نفسك أيام الفتنة، وكن ضعيفاً مغموراً بين الناس لا تصلح لهم بنفسك، ولا بمالك ولا تنصر هؤلاء وهؤلاء[١١].

١٠٥ - الجواب على ثلاثة أسئلة

سئل أميرالمؤمنين(عليه السلام) عن قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «غيروا الشيب، ولا تشبهوا بالهيود»، فقال(عليه السلام): إنّما قال(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قل، فأما الآن وقد اتسع نطاقه، وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار.

وسئل عن الخير ما هو؟ فقال(عليه السلام): ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربّك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله. ولا خير في الدنيا إلاّ لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات[١٢].

وقيل له(عليه السلام): لو غيّرت شيبك يا أميرالمؤمنين؟

فقال(عليه السلام): «الْخِضَابُ زِينَةٌ، وَنَحْنُ قَوْمٌ فِي مُصِيبَة ـ يريد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)»[١٣].

١٠٦ - النهي عن الذلّ

قال الإمام عليّ(عليه السلام) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار فترجلو له واشتدوا بين يديه: «مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ؟

فقالوا: خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا.

فقال: «وَاللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكْمْ فِي دُنْيَاكُمْ، وَتَشْقَوْنَ بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ، وَمَا أخْسرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ، وَأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الاْمَانُ مِنَ النَّارِ»[١٤].

وروي أ نّه(عليه السلام) لما ورد الكوفة قادماً من صفين مر بالشباميين[١٥] فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي وكان من قومه فقال(عليه السلام): تغلبكم نساؤكم على ما أسمع، ألا تنهونن عن هذا الرنين.

وأقبل يمشي معه وهو(عليه السلام) راكب فقال(عليه السلام) له: ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلّة للمؤمن[١٦].

١٠٧ - في فراش المرض

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) لبعض أصحابه في علّة اعتلها: «جَعَلَ اللهُ مَا كَانَ مِنْ شَكْوَاكَ حطّاً لِسَيِّئَاتِكَ، فَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِيهِ، وَلكِنَّهُ يَحُطُّ السَّيِّئَاتِ، وَيَحُتُّهَا حَتَّ الاْوْرَاقِ، وَإِنَّمَا الاْجْرُ فِي الْقَوْلِ بِالّلسَانِ، وَالْعَمَلِ بِالاْيْدِي وَالاْقْدَامِ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُدْخِلُ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَالسَّرِيرَةِ الصَّالِحَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبَادِهِ الْجَنَّةَ»[١٧].

وقد صدق(عليه السلام) إن المرض لا أجر فيه، لأنه من قبيل ما يستحق عليه العوض، لأن العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه(عليه السلام) كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب.

وقد جاء في الحديث القدسي: من مرض ثلاثاً فلم يشك إلى أحد من عواده أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، فإن عافيته ولا ذنب له، وان قبضته قبضته إلى رحمتي[١٨].

١٠٨ - ذكرى المحارب الوفي

قال محمّد بن سعد عن الخباب بن الأرت: سمعت من يذكر أ نّه رجل من العرب من بني سعد بن زيد مناة بن تميم وكان أصابه سباء فاشترته أم أنمار فأعتقته ونزل الكوفة وابتنى بها داراً في جار سوج خنيس وتوفي بها منصرف عليّ(عليه السلام) من صفين سنة سبع وثلاثين فصلّى عليه عليّ ودفنه بظهر الكوفة وكان يوم مات ابن ثلاث وسبعين سنة[١٩].

وروي ان خباباً كان قيناً يطبع السيوف وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يألفه ويأتيه فأخبرت مولاته بذلك فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه فشكا ذلك إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «اللّهمّ انصر خباباً».

فاشتكت مولاته أُم أنمار رأسها فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوى بها رأسها، وشهد خباب وبدراً وأُحداً والمشاهد كلها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)[٢٠].

وعندما عاد عليّ(عليه السلام) من صفين مرّ ببني عوف، وإذا بسبعة قبور أو ثمانية، فقال عليّ(عليه السلام): ما هذه القبور؟

فقال قدامة الأزدي: يا أميرالمؤمنين، إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك فأوصى بأن يدفن في الظهر وكان الناس إنّما يدفنون في دورهم وأفنيتهم فدفن بالظهر(رحمه الله) ودفن الناس إلى جنبه.

فقال عليّ(عليه السلام): رَحَمُ اللهُ خَبَّاباً، فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً، وَهَاجَرَ طَائِعاً، وَعَاشَ مُجَاهِداً. وابتلى في جسمه أحوالا وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا»[٢١].

ثمّ جاء حتى وقف عليهم فقال: «السلام عليكم يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْـمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أَنْتُمْ لَنَا سلف فَارطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ عما قليل لاحقون. اللّهمّ اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم.

وقال: الحمد لله الّذي جعل منها خلقكم وفيها معادكم منها يبعثكم وعليها يحشركم طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله عزّوجلّ.

١٠٩ - عاشق عليّ(عليه السلام) مع أحد الحاقدين

قال الأصبغ بن نباتة: كنت جالساً عند أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو يقضي بين الناس، إذ أقبل جماعة ومعهم أسود مشدود الأكتاف، فقالوا: هذا سارق يا أميرالمؤمنين، فقال(عليه السلام): يا أسود أسرقت؟

قال: نعم يا مولاي.

قال: ويلك، أُنظر ماذا تقول؟ أسرقت؟ قال: نعم.

فقال له: ثكلتك أُمّك أن قلتها ثانية قطعت يدك، أسرقت؟

قال: نعم، فعند ذلك قال(عليه السلام): اقطعوا يده، فقد وجب عليه القطع، قال: فقطعت يمينه، فأخذها بشماله وهي تقطر، فاستقبله رجل يقال له ابن الكوّاء فقال له: يا أسود مَنْ قطع يمينك؟

قال له: قطع يميني سيّد الوصيّين، وقائد الغر المحجّلين، وأولى الناس باليقين... خاتم الأوصياء لصفوة الأنبياء، القسور الهمام، والبطل الضرغام، المؤيّد بجبرئيل، والمنصور بميكائيل المبين، فرض ربّ العالمين، المطفي نيران الموقدين، وخير من نشأ من قريش أجمعين، المحفوف بجند من السماء، أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) على رغم أنف الراغمين، ومولى الخلق أجمعين.

قال: فعند ذلك قال له ابن الكوّاء: ويلك يا أسود، قطع يمينك وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه، قال: ومالي لا أثني عليه وقد خالط حبّه لحمي ودمي، والله ما قطع يميني إلاّ بحقّ أوجبه الله تعالى عليَّ.

قال ابن الكوّاء: فدخلت إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقلت له: يا سيّدي رأيت عجباً.

فقال: وما رأيت؟

قلت: صادفت الأسود وقد قطعت يمينه، وقد أخذها بشماله، وهي تقطر دماً، فقلت: ياأسود مَنْ قطع يمينك؟

فقال: سيّدي أميرالمؤمنين، فأعدت عليه القول وقلت له: ويحك قطع يمينك، وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه! فقال: مالي لا أثني عليه وقد خالط حبّه لحمي ودمي، والله ما قطعها إلاّ بحقّ أوجبه الله تعالى، فالتفت أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى ولده الحسن وقال له: قم وهات عمّك الأسود.

قال: فخرج الحسن(عليه السلام) في طلبه فوجده في موضع يقال له: كندة، فأتى به إلى أميرالمؤمنين فقال: يا أسود، قطعت يمينك وأنت تثني عليَّ؟

فقال: يا مولاي يا أميرالمؤمنين، ومالي لا أثني عليك وقد خالط حبّك لحمي ودمي، فو الله ما قطعتها إلاّ بحقّ كان عليَّ ممّا ينجي من عذاب الآخرة.

فقال(عليه السلام): هات يدك، فناوله ايّاها، فأخذها ووضعها في الموضع الّذي قطعت منه، ثمّ غطّاها بردائه، وقام فصلّى(عليه السلام) ودعا بدعوات لم تردّ، وسمعناه يقول في آخر دعائه: آمين، ثمّ شال الرداء وقال: اتّصلي أيّتها العروق كما كنت.

قال: فقام الأسود وهو يقول: آمنت بالله وبمحمّد رسوله وبعليّ الّذي ردّ اليد بعد القطع، وتخليتها من الزند، ثمّ انكبّ على قدميه وقال: بأبي أنت وأُمّي يا وارث علم النبوّة[٢٢].

وهذه القصة تؤكّد قوله(عليه السلام): لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني. وذلك أ نّه قضى فانقضى على لسان النبيّ الاُمي(صلى الله عليه وآله وسلم)أ نّه قال: «يا عليّ لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»[٢٣].

١١٠ - أنين عليّ(عليه السلام) في محراب العبادة

دخل ضرار بن ضمرة الكتاني على معاوية فقال له: صف لي عليّاً.

فقال: أو تعفيني يا أميرالمؤمنين؟ قال: لا أعفيك!

قال له: وإذ لابدّ منه فإنّه: والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته! كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفّه ويخاطب نفسه، ويعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب! كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، كان يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ يتمثّل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأ نّي أسمعه الآن وهو يقول:

يا ربّنا يا ربّنا ـ يتضرع إليه ـ ويقول للدنيا: أبيَّ تعرضت؟ أأليَّ تشوقت؟ هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثاً فعمرك قصير، وعيشك حقير وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء[٢٤].

١١١- جوابه لسؤال الشيخ عن القضاء والقدر

قام شيخ إلى عليّ(عليه السلام) فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟

فقال(عليه السلام): والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره.

فقال الشيخ: فعند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً!

فقاله: مه أيّها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين.

فقال الشيخ: وكيف القضاء والقدر ساقانا؟

فقال: ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمّدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عباد الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الاُمّة ومجوسها.

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً، وَنَهَاهُمْ تَحْذِيراً، وَكَلَّفَ يَسِيراً، وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً، وَأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً، وَلَمْ يُرْسِلِ الاْنْبِيَاءَ لَعِباً، وَلَمْ يُنْزِلِ الكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً، وَلاَ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً،(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

فقال الشيخ: فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟

فقال: هو الأمر من الله والحكم، ثمّ تلا قوله سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيَّاهُ).

فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

                        

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً                           جزاك ربّك عنا فيه احسانا[٢٥]

١١٢ - أمن هو قانت

خرج أميرالمؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجهاً إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد وكان من خيار شيعته ومحبيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُوْلُوا الألْبَابِ)[٢٦] بصوت شجي حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلوات الله عليه وآله إليه وقال: يا كميل لا تعجبك طنطة الرجل إنّه من أهل النار وسأنبئك فيما بعد!

فتحيّر كميل لمكاشفته له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل وقاتلهم أميرالمؤمنين(عليه السلام) وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل فالتفت أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس أُولئك الكفرة الفجرة محلقة على الأرض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال:

يا كميل (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) أي هو ذلك الشخص الّذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه واستغفر الله وصلّى على مجهول القدر[٢٧].

وجاء في نهج البلاغة أيضاً أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) سمع رجلا من الحرورية (الخوارج) يتهجد ويقرأ فقال(عليه السلام): «نَوْمٌ عَلَى يَقِين خَيْرٌ مِنْ صَلاَة فِي شَكّ»[٢٨].

وقد تكون مقولته هذه مرتبطة بهذا الشخص.

١١٣ - البساطة في معيشة أميرالمؤمنين(عليه السلام)

شوهد أميرالمؤمنين(عليه السلام) أيام خلافته وهو عليه إزار خلق مرقوع، فقيل له في ذلك فقال: «يَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ، وَتَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ، وَيَقْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ».

وقال(عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، وَسَبِيلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَتَوَلاَّهَا أَبْغَضَ الاْخِرَةَ وَعَادَاهَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَاش بَيْنَهُمَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِد بَعُدَ مِنَ الاْخَرِ، وَهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ»[٢٩].

وروي أنّ عليّاً(عليه السلام) أخرج سيفاً إلى السوق، فقال: من يشتري مني هذا؟ فو الّذي نفس عليّ بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته!

فقلت له: أنا أبيعك إزاراً وأنسئك ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطاءه دفع إليَّ ثمن الإزار[٣٠].

١١٤ - احياء الليل خوفاً

عن نوف البكالي قال: رأيت أميرالمؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر في النجوم، فقال لي: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟

فقلت: بل رامق يا أميرالمؤمنين.

قال: «يَا نَوْفُ، طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ فِي الاْخِرَةِ، أُولئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الاْرْضَ بِسَاطاً، وَتُرَابَهَا فِرَاشاً، وَمَاءَهَا طِيباً، وَالْقُرْآنَ شِعَاراً، وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ.

يَا نَوْفُ، إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَامَ فِى مِثْلِ هذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: إِنَّهَا سَاعَةٌ لاَ يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَة (وهي الطنبور) أَوْ صَاحِبَ كَوْبَة (وهي الطبل، وقد قيل أيضاً: إنّ العَرْطَبَةَ: الطبلُ)[٣١].

١١٥ - حال من يفنى بالبقاء

قيل لأميرالمؤمنين(عليه السلام): كيف تجدك يا أميرالمؤمنين؟

فقال: «كَيْفَ يَكُونُ مَنْ يَفْنَى بِبِقَائِهِ، وَيَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ»[٣٢].

وهذا مثل قول عبدة بن الطبيب:

أرى بصري قد رابني بعد صحة

                            

وحسبك داء أن تصح وتسلما

ولن يلبث العصران يوم وليلة   إذا طلبا أن يدركا من تيمما

وقال الآخر:

كانت قناتي لا تلين لغامز

                                

فألانها الاصباح والامساء

ودعوت ربّي بالسلامة جاهداً   ليصحني فإذا السلامة داء

١١٦ - الضحك أثناء تشييع الجنازة

روي أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) تبع جنازة فسمع رجلا يضحك فقال(عليه السلام):

«كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ الَّذِي نَرَى مِنَ الاْمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيل إِلَيْنَا رَاجِعُونَ! نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ،نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ، قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظ وَوَاعِظَة، وَرُمِينَا بِكُلِّ جَائِحَة!! طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسْبُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ،أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى بِدْعَةِ»[٣٣].

١١٧ - حديثه(عليه السلام) مع أهل الديار الموحشة

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة:

«يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْـمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ، وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ. يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ. أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الاْزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الاْمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ.

هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟

ثمّ التفت إِلى أَصحابه فقال: أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلاَمِ لاَخْبَرُوكُمْ أَنَّ (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[٣٤].

وقال نصر: لما رجع أميرالمؤمنين(عليه السلام) من صفين وجاز دور بني عوف، وكنا معه إذا نحن عن ايماننا بقبور سبعة أو ثمانية، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): ما هذه القبور؟

فقال له قدامة بن عجلان الأزدي: يا أميرالمؤمنين، إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك فأوصى بأن يدفن في الظهر وكان الناس إنّما يدفنون في دورهم وأفنيتهم فدفن بالظهر(رحمه الله)ودفن الناس إلى جنبه.

فقال عليّ(عليه السلام): رَحَمُ اللهُ خَبَّاباً، فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً، وَهَاجَرَ طَائِعاً، وَعَاشَ مُجَاهِداً. وابتلى في جسمه أحوالا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا، فجاء حتى وقف عليهم فقال: «يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْـمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ، وَالمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف وفرط، ونحن لكم تبع وعما قليل لاحقون. اللّهمّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم.

ثمّ قال(عليه السلام):

الحمد لله الّذي جعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً.

الحمد لله الّذي منها خلقنا، وفيها يعيدنا، وعليها يحشرنا.

طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله بذلك»[٣٥].

١١٨ - ذمّ الدنيا

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سمع رجلا يذم الدنيا:

«أَيُّهَا الذَّامُّ للدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُرِهَا، الْـمنَخْدُعُ بِأَبَاطِيلِهَا! أَتَفْتَتن بها ثُمَّ تَذُمُّهَا؟ أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ ، أَمْ مَتى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ! تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الاْطِبَّاءَ، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ، وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ، وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ.

إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَة لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَاالرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ.

فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِراقِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ،شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ؟! رَاحَتْ بِعَافِيَة، وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَة، ترغِيباً وَتَرْهِيباً، وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا»[٣٦].

١١٩ - نصيحة عظيمة من رجل عظيم

قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)فأخرجني إلى الجبان، فلما أصحر تنفس الصعداء، ثمّ قال:

«يَا كُمَيْل بْن زِيَاد، إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق.

يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الاْنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.

يَا كُمَيْل بْن زِيَاد، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الاْنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الاْحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.

يَا كُمَيْل بْن زِياد، هَلَكَ خُزَّانُ الاْمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ»[٣٧].

١٢٠- اعتراض عليّ (عليه السلام)

بعد وفاة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع القوم في سقيفة بني ساعدة لتعيين الخليفة، بينما كان أميرالمؤمنين وبني هاشم مشغولين بتجهيز النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لدفنه.

وكان ممّا دار في الاجتماع انّ أبا بكر لما قال لعمر: امدد يدك، قال له عمر: أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها، شدتها ورخائها، فامدد أنت يدك.

كذلك نجد انّ أبا بكر لمّا حاج الأنصار في السقيفة، قال لهم: نحن عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيضته الّتي تفقأت عنه.

فلما بويع احتج على الناس بالبيعة، وأ نّها صدرت عن أهل الحل والعقد.

ولذا نجد أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول:

«وَاعَجَبَا! أَتَكُونُ الْخِلاَفَةَ بِالصَّحَابَةِ وَلاَتَكُونُ بِالصَّحَابةِ وَالْقَرَابَةِ؟

و روي له شعر في هذا المعنى، وهو:

فَإِنْ كُنْتَ بِالشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ

                         

فَكَيْفَ بِهذَا وَالْمُشِيرُونَ غُيَّبُ؟

وَإِنْ كنْتَ بِالْقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُمْ

 

فَغَيْرُكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ وَأَقْرَبُ

١٢١ - وحدة القيادة

كان طلحة والزبير من أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونظراً لقربهم من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نجد انّ عمر بن الخطاب جعلهم من الشورى السداسية الّتي حدّدها بعده لتعيين الخليفة.

وعندما التجأ المسلمون بعد مقتل عثمان بن عفان إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) ليبايعوه خليفة لهم، طمع طلحة والزبير بالخلافة واعتقدوا أنّ بامكانهم مشاركة الإمام عليّ(عليه السلام) بالخلافة، لذا جاءا له وقالا: نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر!!

فقال(عليه السلام): «لاَ، وَلكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي الْقُّوَّةَ وَالاْسْتَعَانَةِ، وَعَوْنَانِ عَلَى الْعَجْزِ وَالاْوَدِ»[٣٨].

فالإمام(عليه السلام) يرفض مشاركتهما في الخلافة، فكيف يكون ذلك؟ وهل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان! ولكنه يقول لهما: إنّما تشركاني في القوة والاستعانة، أي إذا قوى أمري وأمر الإسلام بي قويتما أنتما أيضاً، وإذا عجزت عن أمر، أو تأود عليَّ أمر ـ أي أعوج ـ كنتما عونين لي ومساعدين على إصلاحه.

١٢٢ - بشارة على ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)

قام أميرالمؤمنين(عليه السلام) خطيباً فقال: «لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا»وتلا عقيب ذلك: (وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ)[٣٩].[٤٠]

الشماس: مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره.

والضروس: الناقة السيئة الخلق تعض حالبها.

ويعتقد علماء الشيعة أن كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام) هذا، هو وعد منه بالإمام الغائب(عليه السلام) الّذي يملك الأرض في آخر الزمان.

وقد أشارت الآية المباركة السابقة إلى عدّة أُمور منها:

١ ـ ان الله سبحانه وتعالى سيشمل المستضعفين برحمته ونعمته.

٢ ـ وانّهم سيصبحوا قادة للعالم.

٣ ـ وانّهم سيرثون حكومة الجبارين.

٤ ـ وانّ كلّ هذا سيتم بقدرة الله وعظمته ونصرته لهم.

يتبع ...............

---------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة : ٣/١٣١، الرسالة ٧٠.
[٢] . اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى، وإنّما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره: كما جرد الجارود بكر بن وائل.
وفد الجارود على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في سنة تسع، وقيل: في سنة عشر، وذكر صاحب الاستيعاب: أ نّه كان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه.
[٣] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٥٤.
[٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٦٠.
[٥] . أُسد الغابة: ٣/١٩٢.
[٦] . تفسير غريب القرآن: ١٠٠.
[٧]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٧١.
[٨]المائدة: ٩٥.
[٩]تاريخ الطبري: ٤/٤٧.
[١٠]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٧١.
[١١]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٨٢.
[١٢]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/١٢٢.
[١٣]نهج البلاغة: ٤/١٠٩.
[١٤]نهج البلاغة: ٤/١٠.
[١٥]شبام ككتاب: اسم حي.
[١٦]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٣٤.
[١٧]نهج البلاغة: ٤/١٢.
[١٨]تفسير نور الثقلين: ٤/٥٦.
[١٩]الطبقات الكبرى: ٦/١٤.
[٢٠]أُسد الغابة: ٢/٩٨.
[٢١]نهج البلاغة:٤/١٣.
[٢٢]الخرائج والجرائح: ٢/٥٦١ ح ١٩.
[٢٣]نهج البلاغة: ٤/١٣.
[٢٤]نهج السعادة: ٣/١٩٩.
[٢٥] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٢٢٧.
[٢٦] الزمر: ٩.
[٢٧]بحار الأنوار: ٣٣/٣٩٩.
[٢٨]نهج البلاغة : ٤/٢٢ الحكمة ٩٧.
[٢٩]نهج البلاغة : ٤/٢٣ الحكمة ١٠٣.
[٣٠] بحار الأنوار: ٤١/١٣٦.
[٣١]نهج البلاغة: ٤/٢٣، الحكمة ١٠٤.
[٣٢]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٢٨.
[٣٣]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٣١١.
[٣٤]نهج البلاغة: ٤/٣٠، الحكمة ١٣٠.
[٣٥]نهج السعادة: ٦/٣٢٥.
[٣٦] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٣٢٥.
[٣٧] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/٣٤٦.
[٣٨]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٢.
[٣٩] القصص: ٥.
[٤٠]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٩.
****************************