وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الشريف الرضي وأ بو إسحق الصابي (صداقة خـلـّدهـا التاريخ)

 الدكتور قيس مغشغش السعدي

الصداقة والمصادقة لغة تعني المخالة، والخليل صديق.  والصداقة تدخل في باب الصدق وترتبط به بل ومنه تشتق.  ولا شك ان الصدق ضد الكذب فيكون منشا الصداقة تاسيسها على الصدق والتصديق قولاً وفعلاً، سراً وجهراً، حقاً وإحقاقاً. ومن الصداقة التصدق والصداق وكل ما يحمل إيجاب المعاني من صفات حسنة يرجى منها وبها إقامة العلائق على المودّة والرعاية والإيثار وحمل الاوزار والتلذذ بالمشاركة في الطيبات،  والمواساة في تحمّل النازلات،  ومبعثاً للسلوى وعوناً على البلوى..

فعـّدت هذه الصفة من افضل الصفات الحميدة المرغوبة والمطلوبة،  بل ومعياراً من معايير الحكم على الافراد والشعوب والامم. ُ

كتبت حولها القصص ونظمت فيها الاشعار وضربت لها وبها الامثال.   

ومع ان مآثر الصداقات موجودة عبر الزمن،  فإن الصداقات التي وثقها التاريخ بكثرة احداثها وعِبر مآثرها معدودة. ومن الصداقات التي ُتذكر في التراث العربي تلك التي قامت بين الإمام ابو الحسن الموسوي الشريف الرضي وابو إسحق ابراهيم بن هلال الصابي. 

لقد إستوقفتنا هذه الصداقة في معانيها وقيمها ومآثرها ؛ ذلك ان وقائعها قد وّثقت في الكثير من جوانبها شعراً ونثراً لاديبين متقدمين ومبرزين في صناعتهما وعلو شانهما. كما انها إستوقفت الكثيرين إعتباراً وعبراً، ذوقاً وتذوقاً،  شهادةً وإستشهاداً. غَمط حقها البعض مدخلا للنيل من قيمة الصديقين،  واعلى شانها بل وإقتدى بها من َسمت نفسه الى القيم الفضلى.

بُنيت صداقة الشريف الرضي وابو إسحق الصابي على روح المحبة والإيثار والسماحة والفضل الذي ناسب بين الصديقين والذي كتب لصداقتهما ان تعيش بعمرهما ويبقى ذكرها مقرونا بإسميهما، فإستحقت الوقوف عندها إستجلاء لما كان اثناءها وبعدها فيما تميزت به من خصال وما جعلها تذكرعند المثال.

ومن ذاك:             

 ١- انها لم تقم على تقارب في السن بين الشريف الرضي وابو إسحق،  فالاول شاب في مقتبل  العمروالثاني كبير السن. فما جمع إذن هو هذا التقدير المتبادل لما يملكه الإثنان من طباع مشتركة ولغة متناسبة وعلو شان واهليّة لم يساعد الزمان على ان تاخذ موقعها. ولذا يخاطب الشريف الرضي صديقه بقوله: "... اني ومثلك معوز الميلاد".  ولقد تفوقت علاقة الصداقة بين الإثنين على موجبات فارق السن فترى ابا إسحق،  وهو في شيخوخته، يعتذر للشريف الرضي حين لا يستطيع زيارته المعتادة والمتبادلة فيقول:                                                               

اقعدتــــنا زمانـــةٌ وزمـــــــــــــانُ ***** جــائرٌ عــن قضاء حــق الشريفِ

والفتى ذو الشباب يبسط في التقـ ***** صير عُذر الشيخ العليل الضعيف

وياتي رد الشريف الرضي مبرزاً قيمة صداقتهما وعمقها، بل وطيب اصل ومنبع الرضي وتربيته التي إنسحبت للصابي والتي يرى في ملزماتها ما يراه الفتى الصالح لابيه، فيقول مجيباً الصابي مرةً:                                     

ولو انّ لي يومــاً على الدهر إمرةً ***** وكان ليّ العدوى على الحدثــــان

خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتـــي  ***** جَواداً بعمري وإقتبال زمـــــــاني

وحَمّلتُ ثقل الشيب عنك مفــارقي  ***** وإن فَلّ من غربي وغضّ عنـاني

ونابَ طويلاً عنك في كُل عـارضٍ ***** بخطٍ وخطوٍ اخمصي وبنـــــانـي

ايُ محبةٍ إذن واي فادٍ واي صداقة تفتدى.  إنها ـ لا شك ـ توامق الروحين.

٢- إختلاف ديانة الصديقين.  فالشريف الرضي هو ابو الحسن محمد بن الحسين النقيب الموسوي الممتد نسبه الى الرسول محمد(ص). وابو إسحق هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيون من الصابئين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في سورة البقرة والحج والمائدة بإعتبارهم من الموحدين وذوي الكتاب. ومقابل نسب الشريف الرضي كان إلتزام الصابي بديانته حسبما يُذكر، فقد عرض عليه عز الدولة بختيار البويهي الوزارة إن اسلم، لكنه بقي على ديانته. لم تجمع بين الصديقين إذاً عُصبة الدين، وبالمقابل فإنهما قـّدما الدرس الطيب في الإحترام المتبادل كلٌ لعقيدة الآخر طالما ان الجامع هو الإيمان بالله وتوحيده. وكان وعي الصديقين لهذا الامر عالياً وتحملا كل ما يمكن ان يكون سهما ً للنيل من هذه الصداقة من هذا المدخل. بل ان هذا الامر كان درساً في التسامح والتواد والدليل على ان السمات المشتركة التي يبنى عليها التقارب والتواد يمكن ان تتخطى عصبة الدين على ان لا تخالفه. وتقدير الصديقين لهذا الامر كان بارزاً. تامل ما يقوله الصابي عارفاً ومقيًماً نسب الشريف الرضي، بل واحقيته في الخلافة :                      

الا ابلغا فرعــاً نمَتهُ عُروقـــهُ ***** الى كل ســام للمفاخــر بــانِ

محمّداً المحمــود من آل احمـد ***** ابا كل بكـر في العُلى وعوان

وقوله: 

ابا حسن لي في الرجالِ فراسةٌ ***** تعودتُ منها ان تقولَ فتصدقـا

وقد خبرتني عنك انّك مـــــاجدٌ ***** سترقى من العليا ابعـد مرتقى

فوفيتك التعظيم قبل اوانـــــــــه ***** وقلت اطال الله للسيـد البقـــــا

 ويرى الشريف الرضي في الفضل الذي ناسب بين الصديقين اساس الاسس وهو بذلك يرد على من قلل من قيمة اساس تلك الصداقة، فيقول في مرثيته العصماء للصابي:

الفضـــل ناسب بينــنا إن لم يكـن ***** شرفي مــناسبه ولا ميـــلادي

إِلا تــكن من أُســرتي وعشـائري ***** فلانت اعلـقهم يــداً بــــودادي

او لا تكن عالي الاصول فقد وفى ***** عِظــمُ الجدود بسؤدد الاجــداد

وقوله:

مَن مبلغ لي ابـــا إسحاق مالــكةً ***** عن حنو قلبً سليم الســرِ والعلـــــن

جرى الوداد له مني وإن بعُــدت ***** منّا العلآئقُ مجرى الماء في الغُصن

لقد توامــــقَ قلبانــــا كانهمــــــا ***** تراضعا بــــدم الاحشــاء لا اللبــــن

٣- كانت صداقة بين راسين في صنعة واحدة، تلك هي صناعة الادب شعراً ونثراً. وغالبا ما يجُر التقدم في الصنعة صاحبها الى التنافس مع من هو راس فيها. والامثلة في هذا المجال كثيرة اوضحها ما كان بين الشاعرين جرير والفرزدق. الا ّ اننا نجد ان ما جمع بين الشريف الرضي وابي إسحق كان كبيرا في جملة امور، بل إن علو شانهما في الادب كان يصب في بحر صداقتهما ليزيدها عمقاً وإتساعاً وديمومة.

وكان من قيمة الصداقة ان يسعى كل منهما لدى الآخر في صنعته كي يقتني قينةً منه.  فهذا الشريف الرضي ينفذ رُقعاً لابي إسحق يساله فيها إنشاء عهد له يقدمه للخليفة العباسي الطائع لله في امر نقابة الطالبيين يوضح اغراض العهد بكلام بهي.

ويتعهد الصابي ان يُنشا عن الشريف الرضي وبلسانه. وإذ يُنفّذ الصابي ما يطلبه الرضي يقدمه متواضعا وهو يقول له في امر ما طلب: ". . والله يا سيدي لو كتبت انت ما إستكتبتنيه، وكفيت نفسك ما إستكفيتنيه، لكنت اجرا مني يداً ولساناً، واطول شاواً وميدانا واكثر إصابة وإحساناً..".

ويكتب الصابي مرة اخرى مجيباً الرضي بعد ان إستجاب لطلب آخر في إنشاء رقعة اخرى للخليفة الطائع لله ".. ولولا تخوفي من مخالفة مراسمه وتحرجي من الوقوف عن اوامره لما اجبت الى هذه الحال علماً مني بانه، ادام الله تاييده، إذا تولاها بنفسه ورماها بالعفو من هاجسه كان افرس مني على حصانها، واحذق بتصريف عنانها.."  

لقد قدم لنا الشريف الرضي الدرس في تذوق صنعته بيد غيره والإنشاء عنه بلسان غير لسانه وهو المتصرف باللغة ومعانيها وبلاغتها، بل إنه غدا يتفاءل بكتابة الصابي في ما كان يطلب ان يصيب عند الخليفة وفي ذلك يقول للصابي: ".. وقد كان، ادام الله تاييده، تفضل بإنشاء العهد الذي سالته إنشاءه بتقليد النقابة وتجديد الولاية،  وكان عهداً ميمون النقيبة مبارك الشيمة،  لان الامر الذي ا ُلتمس له إنتجز سريعاً، وإنقاد مطيعاً..". 

وبالمقابل فإن ابا إسحق حين يكتب مقطوعات من الشعر في السر وحفظه،  فإنه يرسل ما كتب الى الشريف الرضي يساله ان يحكم فيها. . وحين ياتيه جواب الرضي يفرح به كثيراً فيكتب له ".. فلو استطعت ان أٍسعى الى انامله  (اي انامل الشريف الرضي)  التي سطّرت تلك البدائع، ورصفت تلك الجواهر لفعلت مسارعا حتى اودعهن عن كل حرف قبلة.. إذ كنّ للفضائل معادن وللمحاسن مكامن".

٤- إنها صداقة غير مبنية على مصالح ذاتية. فالشريف الرضي سيد قومه، نقيب الطالبيين والناظر في مصالح المساجد والتسيير بالحجيج في ايام المواسم. وابو إسحق الصابي صاحب ديوان الإنشاء وصانع الكلام الذي ذاع صيته واصبح نادرة زمانه في البلاغة وعلو مكانته الى الحد الذي طُلب الى الوزارة لولا تمنعه.

وهو القائل:                     

ولي فِقرٌ تضحى الملوك فقيـــرة ***** اليها لدى إحداثها حين تطـرقُ

اردُّ بها راس الجمــــوح فينثنـي ***** واجعلها سوط الحـرون فيُعتق

ويؤيده الشريف الرضي بذلك تماما حين يرثيه بإعتماد معنى هذين البيتين حين يقول:

فقرٌ بها تُمسي الملوك فقيــــــرةً ***** ابداً الى مبــداً لهـــــا ومعــــادِ

وتكون سوطــا للحرون إذا ونى ***** وعنانَ عُنق الجامح المتمادي

إذن، ما جمع بين الصديقين كان اسمى من اية مصلحة سائلة، وارقى من ذاتيات زائلة قد تهدد كيان هذه الصداقة في حال قلتها او عدم تحققها، بل يمكن ان تكون مدخلاً للنيل منها بالرغبة او الغلبة..

وكان ذاك وراء ان تدوم هذه الصداقة رغم تقلب الاحوال وبخاصة بعد النكبة التي تعرض لها الصابي في عهد عضد الدولة، وما ذاك الاّ لان بناءها كان على أُسس روحية متينة وغير طمعية المقصد.

تامل مخاطبة الشريف الرضي للصابي لتقف على ما ذهبنا اليه في اخائهما:

اخاء تساوى فيه انساً وإلفــــــــةً ***** رضيعُ صفاء او رضيع لِبـــــــــان

تمازج قلبـــانا مــــــزاج اخــــوة ***** وكلُ طلـــوبي غايــــةً اخـــــــوان

وغيــرك ينبـو عنه طرفي مجانبا ***** وان كــان منــي الاقربَ المتــداني

وربَّ قريبً بالعـــداوة شاحـــــط ***** وربَّ بعيــــدً بالمــــــــــــودة داني

بل انظر كيف يرى الشريف بصديقه السلو عن آخرين لما وجده من إجحاف او مصلحيّة، فيقول:

فلولا ابو اسحــاق قــل تشبثــي ***** بخــلٍ وضربي عنـــده بجــــران

هو اللافتي عن ذا الزمان واهله ***** بشيمـــــة لا وان ولا متـــــواني

 وهو الذي يجيب الصابي رداً على تهنئة الاخير له بعيد الفطر".. وتهنات به دون التهاني كلها ووعدته امام المسار باجمعها، علماً انّ دعاءهُ، ادام عزه، لي وتهنئته إياي يصدران عن قلب غير متقلب وود غير متشعب.. وإلى الله ارغب في إيناسي ببقائه،  وصلة جناحي ابداً باخائه. . والشوق يجذبني اليه كما يجذبه اليّ،  والنزاع يهفو بي نحوه كما يهفو به نحوي.. ولم لا وقد وضعنا قدمينا في قبال واحد، وإستهمنا في طارف من الادب تالد، ووالله إنني لاتمنى ان ينفرج له صدري إنفراجةً فيرى فيه مكانه المكين ووده المصون، اللذين لا يشاركه فيهما مشارك ولا يملك موضعه منهما مالك."

٥- إنها صداقة دامت ردحها على مدى حياة الصديقين دون ان تشوبها شائبة او تعيبها عائبة، وهي قد إمتدت طويلاً حتى وافى الصابي الاجل قبل صديقه. ولم يفسح رجحان عقلي الصديقين المجال امام اية محاولة للنيل من هذه الصداقة او تعطيلها، فقد إمتدت متبادلة بروح سماحة وتبادل مجالسة ومخاطبة. فمع إنشغال الشريف الرضي تجده يتوق لمجالسة صديقه.

وإن تاخر فما اجمل إعتذاره حين يقول: " إذا كانت القلوب، اطال الله بقاء سيدي الشيخ وادام عزه وتاييده وسعادته ونعمته، تتناجى بالمِقة، والعيون تتلاحظ عن محض المودة والثقة، والباطن في الصفاء يُصّدق العالن، والخافي في الوفاء يحقق الظاهر، أُلغيت المعاذير بالعوائق التي تعوق عن المزاورة،  والحواجز التي تحجز عن المواصلة، وأُعتمد على صفاء النيّات، وصحيح اديم الطويات. وكان الواحد منا في الزورة التي ينتهز فرصتها ويهتبل غرتها غير مشكور ولا محمود.. وهذه جملةٌ تنوب عن التفصيل، وقليل يكفي مؤونة التكثير، في العذر لتاخري عن حضرته، وقضاء ما يجب عليّ من حقه..".                                                           

وتتناغم إجابة الصابي لرسالة صديقه بمشاعر يفيض ماء رونقها وتتعطر الاجواء بعبيق رحيقها، وتحفظ لهما البلاغة حسن الصنعة بما يحق علينا ان نشيد في كل ما نقول ونعيد.

يكتب الصابي:" وصلت رقعة سيدنا الشريف النقيب، بادئة بالفضل والتفضل، وسابقة الى الكرم والتطول، ولولا العلة التي قد اخذت بمخنقي وجثمت على مدارج نفسي، لما اخللت بقصد حضرته والمواظبة على خدمته، فالله سبحانه يعلم ان عيني ما تكتحل بغرة هي اعز عليّ من غرته، ولقد اهدى اليّ يوم تجشمه العناء الى داره التي انا ساكنه فيها بمشاهدة ضياء وجهه ومناسمة شريف خلقه، تحفةً لا يكاد الزمان يسمح لي بمثلها، ولا يمكنني من إهتبال غرتها..".                 

٦- عمق هذه الصداقة وتعدد ابعادها وشموليتها إدراكا بانها مؤسسة على قيم الاصالة وشيم الصدق والعدالة وكانت دعائمها عديدة حتى في هموم الدنيا وجور الزمان فلا يتحرج الصابي من شكواه لصديقه ما فعل الزمان به حين يقول:                                                                                                           

قد كنت اخطو فصرت امطــــــو ***** وزاد ضعفي فصرت أُعطـــــو

خانت عهودي يـدي ورجلـــــي ***** فليس خطـــوٌ وليس خـــــــــطُ

هاتيك حالي فهــــــل لعـــــذري ***** إذا تاخــرت عنـــــك بســـــــط

ويظل الصابي يتوق لرؤية صديقه حتى ايامه الاخيرة، إذ يذكر الثعالبي في يتيمة الدهر ان قصيدة ابا إسحق للشريف الرضي التي مطلعها " ابا كل شيء قيل في وصفه حسن.."  بينها وبين وفاة الصابي إثنا عشر يوماً، ولعلها آخر اشعاره. وبهذا فإنه يختم بلاغته بمناجاة صديقه وفيها يقول:                                              

اقيك الردئ ليس القِلى عنك مُقعــدي ***** ولـــــكن دهانـــي بالزمـانـــة ذا الــزمن

فإن تنا عنك الدار فالذكر مــا نــــاى ***** وإن بان مني الشخــص فالشوق لم يبن

وإن طال عهـد الإلتقــــاء فــدونـــــه ***** عهــود عليهـــا من رعــايتنـــا جُنــــــن

وبحقوق تلك الصداقة وإخائها، فإن ابا اسحق لا يتوانى، بعد ان ادرك قرب منيته، في ان يوصي الشريف الرضي باهله وبنيه، وما ذاك الاّ إدراكا لإيفاء الرضي وصيانته لحقوق الصداقة وطيب العلاقة وان يجد الصابي في صديقه افضل الذخر الذي يذخره لخلفه فيوصيـــه:                                                                 

هو الاجل المحـــتوم لي جَــد جِـدهُ ***** وكــــان يــــــــُريني غفلــة المتـــواني

هنالك فاحفظ في بنــــيّ اذمتــــــي ***** وذد عنهُـــم روعــات كـــــل زمـــــان

فإني اعتـــدّ المــودّة منــك لـــــــي ***** حُسامــا بــه يقضون فــي الحــدثــــان

ذخرت لهــم منــك السجــايا وإنهـا ***** لأَنفـــــــع مــــــــمّا يــذخر الا بــــوان

وتجد الوصية كل القبول والإمتثال من قبل الشريف الرضي فيتعهد لصديقه الصابي ويقول:

وإنك ما إسترعيت مني سوى فتـىً ***** ضمومٍ على رعي الامــانة حـــان

حفيظٍ إذا ما ضيّــع المــرء قومـــه ***** وفي إذا مــا خـــــُوّن العضــــدان

٧- إنها صداقة وإن إنقطعت بين الإثنين بوفاة الصابي، فإن وصلها قد دام على حياة الشريف الرضي في عهده وتعهده لها.  وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من إنها قائمة على خلوص السريرة وسمو الروح بالطباع الاميرة والحاجة للصديق الصدوق بديلاً عن عشيرة.

ولا يبالي الشريف الرضي حين يرثي صديقه نثراً و يقول: ".. والى الله اشكو دهراً حال دونه وقطّع ما بيني وبينه، وافردني عنه إفراد الأُم عن جنينها والشمال عن يمينها.. إن فقده اعرى ظهري على كثرة حُماتي وانصاري، واوحدني على اقاربي وعشائري..".

وإذ نجد ان لا حاجة للشريف الرضي بابي إسحق في صنعته او بمركزه او بنسبه او بكثرة اتباعه؛ الاّ ان حاجة النفس الى الصفاء والنقاء وإقرار القدرات والإمكانات وتذوق الاصالة والإبتكار بل وإدراك ان الإثنين خانتهما الدنيا في ان يحتلا موقعهما المطلوب كل في سمو مكانته، كان كل ذلك وراء تقارب مبني على اسس مشتركة غير مادية.

وخير ما يصف ذلك قول الشريف الرضي :" وبعد، فبيننا- يقصد هو والصابي- من مناسبة الخلائق ومشاكلة الطبائع، ثم من المودّة التي الّفت بين شخصينا وضربت برواقها علينا، وما كنا نتهاداه من الطاف الفضائل ونتشاراه من اعلاق المناقب ما يعذرني ان افرط جزعي لفقده وإنكشف بالي من بعده..".                    

وحمداً لله إن وفاة الصابي كانت قبل وفاة صديقه ليُرزق الادب بمرثية للشريف الرضي في صديقه يصفها الثعالبي بانها " قصيدة فريدة افصح بها بُعد شاوه في الشعر وعلو محله في كرم العهد، وقد تميزت بحسن ديباجتها وكثرة رونقها وجودة الفاظها ومعانيها".

وقد تـّوج الشريف الرضي بهذه القصيدة الصداقة التي ربطته بابي إسحق فكانت بحق ماثرة تَغنّى بقيمها ومعانيها والفاظها الكثيرون، ولا شك ان الجميع يذكر إستهلالها:                                                   

اعلمتَ مَن حمـــلوا على الاعــــــواد؟ ***** ارايت كـــيف خبــا ضياء النـادي؟

جبلٌ هـوى لو خــرَّ في البــر إغتـدى ***** مـــــــن وقعــه متتــابع الازبــــاد

هـــذا ابو إسحـــــــق يغلق رهنـــــــه ***** هـــل ذائـــد او مــانع او فـــــــادي

إن الدمــوع عليــك غيـــر بخيلـــــــةٍ ***** والقلب بالسلــــوان غيـــرُ جــــواد

ياليــت اني ما إقتنيــتك صـــاحبــــــاً ***** كــم قنيــــةٍ جلبت اسـىً لفــــؤادي

بل ويؤكد الشريف الرضي لمن عتب عليه بمبالغة الرثاء بان ابا إسحق" الاحق من كل احد بقولي فيه في المرثية التي رثيته بها وهي من المراثي الاعيان والاشعارالاعلام":                                                                            

ولقد كبــا طيفُ الرقــاد بناظــــــري ***** اسفــاً علـــيك فـــلا لـَعــا لرُقــــادي

ثكلتك ارضٌ لــم تــلد لك ثانيـــــــــاً ***** إنــــي ومثلــك معـــوز الميـــــــلاد

ضاقت عليّ الارضُ بعـــدك كلـــها ***** وتركتَ اضيقهـــا علـــيّ بـــــلادي

ولم تكن صداقة الشريف الرضي وابو إسحق لتقف عند حد مرثية الاول الفاخرة، بل إن قيم الصداقة والعلاقة القائمة في القلب ظلت تحرك المشاعر فتفيض إرتجالاً.

فها هو الشريف ينشد حين مر وإجتاز بقبر الصابي بمنطقة الجنينة من ارض كرخايا:                                                                                          

ايعـــــلم قــــبٌر بالجنينــة انــنـــا ***** اقمنا به ننعـى النَــدى والمعـــاليا

عطِفنا فحيينــا مساعيــه إنهـــــا ***** عِظام المساعي لا العظام البوالـيا

نزلنا إليه عن ظهـور جيــادنــــا ***** نكفكف بالايدي الدمـوع الجواريا

اقول لركب رائحيـــن تعـرجـوا ***** أُريكــم فيه فرعاً من المجد ذاويـا

الا ايها القبــرُ الذي ضم لـــحده ***** قضيباً على هام النوائب ماضيــا

هل إبن هلالٍ منذ اودى كعهدنـا ***** هلالاً على ضوء المطـالع باقيــا؟

****************************