وحينما رأى البعض في نهج البلاغة كلمات من قبيل: الوجود والعدم، والحدوث والقدم، وأمثالها، احتملوا فرضية أخرى وقالوا بأن هذه الكلمات إنما دخلت فيما دخلت فيه من كلام علي (ع)- عمدا أوسهوا- بعد أن دخلت فلسفة اليونان إلى بلاد الإسلام.
إن أصحاب هذه الفرضية لوكانوا يعبرون الألفاظ إلى المعاني لم يكونوا ليفترضوها، فإن أسلوب الإستدلال في نهج البلاغة يتفاوت بكثير عن أسلوب الفلاسفة المتقدمين والمعاصرين للسيد الشريف الرضي (ره) بل وحتى عن أسلوب المتأخرين عن نهج البلاغة بقرون.
ولا نبحث نحن الآن في مدى ومستوى المعارف الإلهية في الفلسفة اليونانية والإسكندرية، بل نخصص بحثنا بما بيّنه الفارابي وابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي (قده) فنقول: لا شك في أن الفلاسفة المسلمين كانوا متأثرين بالتعاليم الإسلامية، ومن هنا ادخلوا في الفلسفة بعض المسائل الإسلامية التي لم تكن من قبل، وابتكروا في الإستدلال وبيان بعض المسائل طرقا وأساليب حديثة ولكنهم مع ذلك تفاوتوا عما في نهج البلاغة من الأفكار المفيدة.
كتب شيخي العلامة الأستاذ السيد الطباطبائي (روحي فداه) في (مكتب تشيع- ٢) يقول: (إن ما ورد في الروايات الإسلامية الشيعية في الفلسفة الإلهية، تحل لنا كثيرا من المسائل في الفلسفة الإلهية، مما لم يكن بين المسلمين ولا العرب ولا كلمات الفلاسفة من قبل الإسلام، الذين نقلت كتبهم إلى العربية في تلك الأيام، بل لم تكن مفهومة عند العرب، ولا معنونة في كتب اليونان، وليس لها أثر في كتب حكماء المسلمين من العرب والعجم (من غير الشيعة) وقد بقيت هذه المسائل مبهمة يفسرها كل من الباحثين والشراح بظنونهم، حتى فهمت وحلت في حدود القرن الحادي عشر الهجري. كمسألة: (الوحدة الحقة الحقيقية) وأن: ثبوت وجود الواجب يساوي ثبوت وحدته كذلك، وأن وجوده المطلق يساوي وحدته المطلقة، وأن الواجب معلوم بالذات بلا واسطة..)[١] إن محور إستدلالات الفلاسفة المتقدمين من المسلمين من قبيل الفارابي وابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي (قدس سره) في مباحث الذات والصفات من وحدته وبساطته وغناه الذاتي وعلمه وقدرته ومشيئته وغيرها، هو(وجوب الوجود)، فهم يستنتجون كل شيء من (وجوب وجوده) ويثبتون وجوب وجوده من طريق غير مباشر، وهو: أنه لولم يكن مع الموجودات واجب الوجود لم يكن لوجودها وجه صحيح. والبرهان الذي يقام على هذا الموضوع ليس من نوع برهان (الخلف) ولكنه يشبه برهان الخلف من حيث الإلزام من طريق غير مباشر، ولهذا فلا يصل الفكر في هذا البرهان إلى (ملاك) وجوب الوجود، ولا يكتشف منه وجه: (لم). ولابن سينا في (الإشارات) بيان خاص يدعي أنه أكتشف به وجه (لم) في الموضوع، ولهذا فهويسمي برهانه هذا (ببرهان الصديقين). في حين لم يقنع من بعده من الحكماء ببيانه لتوجيه (لم) في مسألة (واجب الوجود) وقالوا أنه غير كاف لبيان الوجه.
ولم يستند في نهج البلاغة على (وجوب الوجود) بعنوان أنه أصل مفسّر لوجود سائر الموجودات. وإنما أكد في هذا الكتاب على الواقعية المحضة والوجود الصرف لذات الحق سبحانه، وهذا هوالملاك الواقعي لوجوب الوجود.
وقال السيد الأستاذ الطباطبائي (روحي فداه) في (نفس المصدر) عند شرحه لمعنى حديث رواه الشيخ الصدوق (قده) في (كتاب التوحيد) عن علي (ع):
(بني أساس هذا القول على أن للحق سبحانه واقعية غير محدودة لا نهاية لها، إذ هوالواقعية المحضة التي يحتاج إليها كل شيء موجود له واقعية وجودية محدودة، فإنه إنما يجد وجوده الخاص من ذلك الوجود المطلق)[٢].
أجل، إن ما جعل أساسا لجميع البحوث حول ذات اللّه وصفاته في نهج البلاغة: هوأنه- سبحانه- وجود مطلق غير محدود، وأنه لا يتطرق إليه أي حد أوقيد، وأنه لا يخلوعنه مكان ولا زمان ولا أي شيء، إنه مع كل شيء وليس معه شيء. وحيث هومطلق بلا حد فهومتقدم على كل شيء حتى على الزمان والعدد والحد والمقدار و(الماهية)، فإن الزمان والمكان والعدد والحد والمقدار إنما هي منتزعة من أفعاله- سبحانه- وصنعه، وكل شيء منه، وإليه مرجع كل شيء، وهوأول الأولين وهوآخر الآخرين.
هذا هومحور بحوث نهج البلاغة. ولا نجد في كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي والخواجه نصير الدين الطوسي (قده) منه شيئا. وكما قال السيد الأستاذ العلامة الطباطبائي (روحي فداه) فإن هذه البحوث العميقة في (الإلهيات بالمعنى الأخص) تبتنى على سلسلة من المباني التي تثبت في (الفلسفة العامة) ولا نستطيع نحن هنا أن نذكر تلك المسائل وابتناءها على تلك المباني.
ونحن إذا رأينا مما سبق: أولا: أن في نهج البلاغة بحوثا لم تكن مطروحة في عصر السيد الشريف الرضي (ره) جامع النهج، بين فلاسفة العالم، من قبيل: أن وحدة اللّه ليست وحدة عددية، وأن العدد في مرتبة متأخرة عن ذاته، وأن وجوده يساوي وحدته، وبساطة ذاته، وكونه مع كل شيء لا معه شيء ومسائل أخرى من هذا القبيل.. وثانيا: نرى التفاوت الكبير بين مستند البحوث في هذا الكتاب مع ما تداول من بحوث فلاسفة العالم حتى اليوم... فكيف نستطيع أن ندعي أن هذه الكلمات اخترعها المتعرفون على المفاهيم الفلسفية السائدة يومذاك.