غسان السعد
ان البحث في الحقوق الاجتماعية على وفق رؤية الامام علي بن ابي طالب ، يقف عند نقطة غاية في الاهمية من حيث اثارها في المجتمع او ما تثيره من جدل واراء وتلك هي مسألة (حقوق المرأة ) ؛ فالمرأة شريكة الرجل في المسيرة الانسانية بامتدادها المكاني من السماء الى الارض والزماني من نقطة الانطلاق في حياة البشرية الى ان يرث الله الارض وما عليها [١] ، ناهيك عن ماهية النظرة الى المرأة وحقوقها يعد سلاحاً بيد مناوئي الاسلام وبعض مدعي التطور لضرب الفكر الاسلامي والتجربة الاسلامية .
يساعدهم في ذلك الخط المتشدد الذي انضوى تحت مظلة الاسلام من جهة والسلوك العام الذي امتهن المراة في مجتمعات المسلمين من جهة اخرى ، مما يجعل من محاولة الكشف عن جوهر رؤية الاسلام للمراة وحقوقها ضرورة انسانية واسلامية وسياسية لاسيما في الوقت الحالي ، ويقينا ان كشف اللثام عن حقوق المرأة عند الامام هي جزء اساسي من الصورة الكلية لموقف الشريعة الاسلامية من المرأة. [٢]
لقد وردت كثير من الاقوال التي نسبت الى الامام علي (ع) تنظر للمرأة من زاوية سلبية وتقلل من شانها وتعدها بمثابة محور للشر والخطيئة في الحياة ويمكن ذكر جملة من هذه الاقوال التي نسبت اليه اهمها :
" معاشر الناس : ان النساء نواقص الايمان ، نواقص الحظوظ نواقص العقول " [٣] وهن كذلك : " ضعاف القوى والانفس والعقول " [٤] وينسب اليه قوله: " المرأة شر كلها وشر منها انه لابد منها"
[٥] وهي " بذر الشر " [٦] وان المراة عقرب " [٧].
ويصور بعضهم الامام بانه لا يؤمن بالامكانية الفكرية عند المرأة إذ ينقل عنه قوله يذم بعض اصحابه وتشبيهه اياهم بـ " ربات الحجال " [٨] وينسب اليه قوله: " ان في خلافهن بركة" [٩] وغير ذلك ، وان " النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها" [١٠] و" كل امرئ تدبره امرأة فهو ملعون " [١١] و" عقول النساء في جمالهن " [١٢] و قوله : " اياك مشاورة النساء فان رايهن الى افن وعزمهن الى وهن " [١٣]، ونسب اليه ايضا قول ان : " خيار خصال النساء شرار خصال الرجال، الزهو والجبن والبخل ،فاذا كانت المراة مزهوة لم تمكن من نفسها واذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها واذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها " [١٤].
ان هذه المجموعة من الاقوال تمتلك عناصر قوة ظاهرية لعل من اهمها تنوع المصادر التي وردت فيها ، ومن كثرة تكرارها لم يصبح من اليسير الانعتاق من هذه النظرة فحتى كبار المفكرين لم يناقشوا هذه الاراء ، فالعقاد مثلا يرى : " ان اراء الامام في المراة هي خلاصة الحكمة القديمة كلها في شان النساء ... فهي شر لابد منه " [١٥] ولكننا من خلال فهمنا المتواضع لفكر الامام علي - نذهب الى ان مثل هذه الاقوال لاتمثل رؤية الامام (ع) للمراة ، وذلك اعتمادا على الاسس الآتية:
- عدم انسجام الخط العام لهذه الاقوال ومجمل الاراء الواردة فيها مع التوجه القرآني الذي سما بالمرأة الى حد كبير ولم يميزها عن الرجل إلا من بعض النواحي التنظيمية [١٦] وبالتالي فان هناك تعارض مع ما وضعه الامام من شرط حول قبول احاديثه بعد عرضها وانسجامها مع القرآن الكريم [١٧].
- ان الاسس الفكرية في هذه المقولات تتناقض مع البعد الانساني العميق الذي ميز تجربة الامام علي(ع) الفكرية والعملية ،والتي اطلعنا على جانب منها من خلال ما تم عرضه من الفصول السابقة ، ولاسيما حق الحياة الحرة الكريمة التي تشوبها العدالة وينعم فيها الانسان بغض النظر عن جنسه او أي اعتبار اخر بحقوقه السياسية هذا من جهة ، وما سنتطرق اليه من حقوق الانسان الاجتماعية والاقتصادية من جهة اخرى .
- ان دراسة دقيقة لما ورد من اقوال منسوبة الى الامام بهذا الصدد تدفع الى الاعتقاد بانها لا ترتقي الى الرؤية الفكرية السامية للامام ازاء المرأة ، ففي معرض رده على القول الذي نسب للامام بان (النساء نواقص الايمان نواقص الحظوظ نواقص العقول) يذهب المفكر حسين فضل الله الى انه " لو فرضنا ثبوته فلابد ان يكون المراد به غير ظاهره ، منطلقا من خلال طبيعة الجانب التعبيري فبعض الاشياء في ذاك الوقت تمثل حالة نقصان مثلا ، او يعبر عنها على هذا النحو بشكل عام ، ... ، لكن تفسير نقصان العقل بانه شهادة امراتين في مقابل شهادة رجل واحد ، قابل للنفي ، ويمكن التعليق عليه بان عالم الشهادة لا دخل له بالعقل وقد يكون للعاطفة الانثوية دور في الانحراف ، لكن قوة العاطفة لاتعني نقصان العقل، عالم العقل هو عالم يتصل بالتفكير وعالم الشهادة يتصل بالحس من قدرة الشاهدة على الرؤية الصحيحة " [١٨].
ويستمر فضل الله في مناقشه هذا القول " كذلك كلمة (ناقصات الحظوظ ) بالنسبة لقوله تعالى : (للذكر مثل حظ الانثيين ) النساء /١١ ،فاننا نلاحظ ان التشريع هنا اخذ منها في مقابل ما أُعطيت ، وذلك ... ان المراة ليس عليها جهاد ولا نفقة ... ولان المراة اذا تزوجت اخذت والرجل يعطي ... ولان الانثى في عيال الذكر ان احتاجت ، وعليه ان يعولها وعليه نفقتها، وليس على المراة ان تعول الرجل" [١٩] ، " اما عن كلمة " ناقصات الدين من جهة ترك الصلاة في ايام الدورة الشهرية ،فالمرآة تترك الصلاة طاعة لله والله كما يطاع في ما يوجب ، يطاع ايضا في ما يحرم ،فلو لم يكن محرما على المراة الصلاة ايام الدورة الشهرية لصلت ، لكنها لاتصلي طاعة لله فكيف يكون هذا نقصان دين ؟ ... لذلك نقول : لابد من ان يرد علم هذا الحديث الى اهله لان الفكرة لاتتناسب مع طبيعة التعليل " [٢٠] .
اما ما نسب الى الامام من وصف المرأة بالشر وما شابه ذلك فان محمد حسين فضل الله، وله الحق بذلك ،يقول : " نتحفظ في امر نسبته الى الامام(ع)... وذلك ان مفاهيمنا الاسلامية ترى في الانسان ، رجلا كان او امراة ، كيانا يحمل في داخله قابلية الخير والشر ... وعلى هذا ، فكيف تكون المراة كلها شرا؟ وان كانت كذلك مطبوعة على الشر فكيف تحاسب على فعل الشر ؟ وهل ينسجم هذا مع خط العدل ؟ واذا كان الشر من طبيعة تكوين المرأة ، فهل النساء الصالحات نوع اخر في طبيعته عن بقية النساء ؟ ويفسر بعضهم هذه الكلمة بان الشر ليس من ذاتها ، ولكن في مظاهر الاغراء التي تثيرها من حولها ، ولكن الاغراء لايختص بالمراة فقط ،بل يشمل الرجل ايضا، فضلاً عن انه لاينسجم مع طبيعة التعبير وبلاغته " [٢١].
ويستمر السيد فضل الله في اثارة الاسئلة : " ثم ما معنى " وشر ما فيها لابد منها " ؟ فاذا كان المراد منه حاجة الرجل في عملية التناسل اليها فالامر كذلك بالنسبة لحاجة المراة الى الرجل ، ولاندري اذا ما كان هناك معنى اخر لانفهمه " [٢٢] .
وبالنسبة للروايات التي نسبت الى الامام ،ويفهم منها التقليل في مستوى وعي وادراك المراة، فانها تصطدم مع الاحترام العميق من الامام لعقل المراة في مراحل حياته المختلفة اذ يقول(ع) حول سابقته في الاسلام:"ولم يجمع بيت واحد يؤمئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وانا ثالثهما " [٢٣] ويفخر الامام علي عدوه معاوية في مقارنة يراد منها توضيح حقه وما يسعى اليه من خير للمجتمع اذ يقول (ع) : " ومنا خير نساء العالمين [٢٤] ومنكم حمالة الحطب " [٢٥].
و " اذا كنا نتهم بعض النساء بانهن قد يخضعن للعاطفة في القضايا التي تتصل بالعاطفة او انهن قد يخضعن للتخلف الذي يعيشن فيه فيتحرك التخلف في خدمة الرأي الذي يتخذنه ، الا اننا لا نستطيع ان نعد كل النساء يخضعن ، في تقييمهن للقضايا الفكرية او الاجتماعية للعاطفة ، واننا لا نستطيع ان نعد الكل متخلفات وفي المقابل فاننا لا نستطيع ان نعد كل الرجال ينطلقون من موقع عقلي فهناك كثير من الرجال ينطلقون من موقع عاطفي وقد يكونون في بعض المجالات اكثر عاطفية من طريقة المراة في ادارة الامور "(١)[٢٦] ومن الامور التي تدل على ضرورة احترام عقل المرأة ورؤيتها اننا"نرى ان الاسلام عد المجتمع الاسلامي مجتمع الشورى ، عندما قال الله تعالى في كتابه (وامرهم شورى بينهم ) [٢٧] ، ومعنى ذلك ان يتشاور الناس في كل الامور التي تواجههم .. وعلى هذا الاساس تكون المرأة في ضمن دائرة الشورى ، لأنها جزء من المجتمع الاسلامي " [٢٨] .
اما ما نسب الى الامام حول تفضيل بعض الصفات للمراة مثل الزهو والجبن والبخل فهو يتناقض مع نظرة الاسلام الذي هو مصدر نظرة الامام للانسان المتكامل المتواضع الشجاع والكريم وان الصفات الحميدة هي ملك للانسانية وليس لجنس دون اخر او لمجموعة دون غيرها [٢٩].
ولعل ان اهم ما يقوض هذه الرؤية السلبية التي نسبت للامام هو منظومة حقوق المراة التي رسخها الامام (ع) في تجربة انسانية متميزة سواء على المستوى الفكري ام على الواقع العملي، وقبل التطرق الى مسألة حقوق المرأة عند الامام علي ، لابد لنا من الاشارة ، الى ان هذه الحقوق هي ليست الا امتداداً لرؤية الامام الكلية لحقوق الانسان التي يجب ان يتمتع بها بغض النظر عن أي معطى او صفة اخرى ، إذ تأتى مسالة تأكيدها في اطار يتضمن تعزيز وضع المراة في هذا المضمار فضلاً عن وجود حقوق خاصة في رؤية الامام للمرأة تطرق إليها الامام بكل وضوح ودقة، ولعل اهم هذه الحقوق هي :
١- حق صيانة حياة المرأة
يكن الامام علي احتراماً عميقاً لحياة المراة إذ يسمو بها حتى انه يظهر ذلك في وصفه لعصر الجاهلية بقوله : " فالاحوال مضطربة ، والايدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ،في بلاء ازل واطباق جهل من بنات مؤودة واصنام معبودة " [٣٠]. والملاحظ ان الامام في تعداده لسلبيات المجتمع الجاهلي يضع اولوية عملية وأد البنات وقتلهن قبل عبادة الاصنام والشرك بالله ، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على تقديس الحياة ولاسيما حياة المرأة .
ويعزز الامام اساليب حماية حياة المراة ، فينادي بقاعدة شرعية وقانونية وانسانية مهمة وهو يقول: " اذا قتل رجل امراة فان اراد اولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا " [٣١] ، وينظر الامام الى حياة المراة وصحتها كاولوية يمكن ان تفوق بعض مسائل الشريعة وتتجاوز الحياء والاعراف الخاطئة ، محتسباً هذه المسألة هو حق للمرأة فمثلاً حين سئل الامام عن المرأة يموت في بطنها الولد ويتخوف عليها ، قال : " لا بأس ان يدخل الرجل يده فيقطعه فيخرجه اذا لم ترفق به النساء" [٣٢] .
وفي اطار حفاظ الامام علي حياة المراة يرفض (ع) مسالة اختزال شرف العائلة او المجتمع بجسد المراة فكل امرء مسؤول من خطأه وصوابه بنفسه ، ولن يسمح الامام لأي شخص كائناً من يكون سواء الاب او الاخ او الزوج ان يكون القاضي والجلاد في آن واحد ، فحين سئل (ع) عن رجل وجد مع امراته رجلا فقتله وقتلها فحكم (ع) : " ان لم يات باربعة شهداء فليعط برمته " [٣٣] ، أي ان الحكم ليس له انما هو للحاكم الشرعي وعلى وفق الضوابط الاسلامية التي تحكم المجتمع واذا ارتكبت جريمة القتل ضد المراة تحت غطاء الحفاظ على الشرف او تصحيح الخطأ فان المجرم يعاقب بالموت .
٢- الحقوق المعنوية
الى جانب حرص الامام (ع) على حياة المراة ،فانه يؤكد الجانب المعنوي مؤسسا بذلك هيكلاً تام البناء يحفظ من خلاله المرأة ومشاعرها المرهفة ، وصيانة حقوقها المعنوية منذ لحظة ولادتها حيث يقول (ع):"انه سبحانه يختبرهم [أي عباده] بالاموال والاولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه وان كان سبحانه اعلم بهم من انفسهم ولكن لتظهر الافعال التي بها يستحق الثواب والعقاب لان بعضهم يحب الذكور ويكره الاناث " [٣٤] إذ يحارب (ع) واحدة من اسوأ العادات التي انتشرت في البيئة الاجتماعية وانغرست في الجوانب النفسية للمجتمع، ألا وهي تلك النظرة الدونية للمراة في مسيرة حياتها منذ ولادتها لغاية وفاتها ،بل ان الامام يرفع من شأن المولودة إذ يقول : " البنات حسنات والبنون نعم ، الحسنات يثاب عليها والنعم مسؤول عنها " [٣٥] .
ويقر الامام بحالة من الضعف تظهر غالباً عند المرأة في ذهنية عموم المجتمع، سواء ما تتصف به من رقة وعاطفة جياشة من جهة او بلحاظ الوضع الاجتماعي والقانوني في المجتمعات الانسانية - والذي استمر الى وقتنا الحالي - من جهة اخرى وان حالة الضعف هذه قد يستغلها بعضهم للحط من مكانة وشأن المرأة لذا يقرر (ع) تجاوز هذه الحالة قائلاً : " اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والنساء " [٣٦] .
ويفعل الامام نظاماً قانونياً انسانياً يتقرر بموجبه حق احترام المراة بشكل مميز كونها انساناً اولاً وكونها امرأة ثانيا ، فنجده يقول :" لا تهيجن امراة باذى وان شتمن اعراضكم وسفهن امراءكم وصلحائكم .. ، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وانهن لمشركات وان الرجل ليكافئ المراة يتناولها بالضرب فيعير بها عقبه من بعده فلا يبلغني من احد عرض لامراة فأنكل به كشرار الناس" [٣٧] ، ونلاحظ انه (ع) قد عاقب من تعرض للنساء في اثناء حرب الجمل ، وان كن في صفوف اعدائه [٣٨] . كما انه كان يأمر بعزل من لايراعى النساء اجتماعيا إذ يقول : " ستة لا ينبغي ان يسلم عليهم [ منهم ] الشاعر يقذف المحصنات والمتفكهون بسب الامهات " [٣٩] .
ويؤكد الامام الجانب المعنوي غاية في الاهمية الا وهو تحقيق الشعور بالطمانينة والامن للمرأة ، بل ان الامام فرض التعويضات على كل من يروع المرأة حيث نلاحظ انه (ع) في قضية التعويضات [٤٠] ، اعطى الامام جزءاً من التعويض ثمناً "لروعة نسائهم وفزع صبيانهم " [٤١] بل يقع تحت طائلة هذا النوع من دفع التعويضات حتى الحاكم الاسلامي مما يعكس احترام الامام لكرامة المرأة وامنها [٤٢]، وكان (ع) يعد الحفاظ على حق الامن للمرأة واحداً من واجبات الحكومة والامة بأسرها اذ يقول :" وقد بلغني ان الرجل منهم [أي من جيش معاوية] كان يدخل على المراة المسلمة ، والاخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلائدها... ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ولا اريق لهم دم فلو ان امرأً مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً" [٤٣].
ولعل من اهم ابعاد الحقوق المعنوية للمراة تاتي مسألة الحفاظ على شرف المرأة وسمعتها من أي تعد ، وينقل الامام عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله :" ان الله يحب من عباده الغيور " [٤٤]
ويقول(ع): " قواعد الاسلام سبعة فأولها العقل وعليه بني الصبر ، والثاني صون العرض..." [٤٥]، بل ان الامام مارس دور الحفاظ على نساء المسلمين محتسباً ان عملية الحفاظ عليهن انما هو حق لهن على الامة بحكومتها وافرادها ، فلقد وردت حادثة لها دلالاتها المهمة حين: " كان عمر يطوف بالبيت وعلي يطوف امامه ،اذ عرض رجل لعمر فقال : يا امير المؤمنين ،خذ حقي من علي بن ابي طالب ، قال : وما باله ؟ قال : لطم عيني ، فتوقف عمر حتى لحق به علي(ع) فقال الطمت عين هذا يا ابا الحسن ؟ قال (ع) : نعم ، قال عمر : ولم ؟ قال (ع) لاني رايته يتأمل حرم المؤمنين في الطواف فقال عمر احسنت يا ابا الحسن" [٤٦].
ويصف الامام شر الازمنة ذلك الذي تكون فيه النساء " كاشفات عاريات متبرجات خارجات من الدين " [٤٧] ، ونعتقد ان الامام اعتبر هذا الوصف هو من سمات الازمان السيئة ليس باختفاء المعايير الاسلامية من ناحية مظهر المراة وسلوكها الخارجي فحسب ولكن لاخفاق المجتمع بكل قواه الدينية واالسياسية في تقديم النموج الامثل الذي تقتدي به المرأة وتجسده من ثم في المجتمع ومن ناحية اخرى ان عملية قياس المجتمع جزئيا من خلال المراة يدل على استشعار الامام اهمية دور المراة في الحياة والمسيرة الانسانية .
ويحمل الامام الرجل مسؤولية تحقيق الكفاية الاقتصادية لعائلته ولاسيما من النساء ، وكذلك فان الحكومة تتحمل مسؤوليتها بالحفاظ على النظام الاخلاقي والوفرة الاقتصادية [٤٨] حيث ان جزءاً من عزة المرأة تكمن بإزالة حاجتها الاقتصادية كي ينقطع احد سبل الانحراف والفساد الاخلاقي ، إذ يقول الامام (ع) ناقداً الوضع الذي كان قائماً في بعض المجتمعات : " بلغني ان نساءكم يزاحمن العلوج في الاسواق اما تغارون انه لاخير فيمن لا يغار " [٤٩] .
ولحماية المرأة وكرامتها ،فانه يمكننا القول ، ان الامام استحدث اول جهاز لحماية المرأة من تعسف الاهل ولاسيما الزوج ،رافضا بذلك الآراء التي طالبت بصمت المجتمع ازاء العنف الذي يمارس ضد المرأة تحت مسوغات شتى [٥٠] ،حيث ورد : " ان اتته امراة قد خُلع قلبها
لا تدري اين تاخذ من الدنيا حتى وقفت عليه [ أي الامام ] فقالت : يا امير المؤمنين ظلمني زوجي وتعدى عليَّ وحلف ليضربني فاذهب معي اليه ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول : لا والله حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع واين منزلك ؟ قالت : في موضع كذا وكذا فانطلق معها حتى انتهت الى منزلها ، فقالت هذا منزلي ، قال : فسلم فخرج شاب عليه ازار ملونة ،فقال : اتق الله فقد اخفت زوجتك ، فقال : وما انت وذاك والله لاحرقنها بالنار لكلامك … فلم يعلم الشاب الا وقد اصلت السيف وقال له : امرك بالمعروف وانهاك عن المنكر وترد المعروف تب وإلا قتلتك " [٥١].
ويبدو ان موقف الامام هذا مبني على تهديد صريح بالقتل من الرجل لزوجته وكذلك رفضه لصوت العقل والشرع ، حتى انتهى الموقف بمعرفة الرجل بخطأه وعودة المرأة الى بيتها موفورة الكرامة . هذه الكرامة التي تجسدت ايضا في حق المساواة للمراة والذي دعا اليه الامام(ع).
٣- حق المساواة
انطلاقا من الشريعة الاسلامية وامتدادا لحق المساواة العادلة التي نادى بها الامام فانه آمن بالمساواة بين الرجل والمراة ،ولكن هذه الدعوة يجب ان توضع في اطارها الصحيح و " تحافظ على التنوع في الخصوصيات الانسانية التي يتمايز فيها الطرفان مع اعطاء كل منهما فرصة التحرك في دائرة خصوصيته بحرية فتنطلق المراة لتكون حرة انسانيا كامراة وتقوم القوانين التي توضع لمساحة التقائها بالرجل بحفظ التوازن بين خصوصيتها وخصوصيته ، بحيث يتكامل الانسان بالرجل والمرأة" [٥٢] ، وينطلق محمد حسين فضل الله من قول الامام : " اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحب لغيرك ماتحب لنفسك واكره له ما تكره لها " [٥٣] ليؤسس عليها " ضرورة ان ينطلق الرجل من غاية ايمانية وانسانية ليعطي للمراة الحق في اغناء تجربتها الانسانية واغناء المجتمع بتجربتها بالتساوي مع الرجل " [٥٤] ،وتتكامل مسالة المساواة مع حق الحرية للمرأة عند الامام .
٤- حق الحرية
لقد منح الامام المرأة قدراً حيوياً من الحرية في اطار الشريعة الاسلامية ، فقد وجه خطابه الى احدى النساء قائلا : " انطلقي حيث شئت وانكحي من احببت لاباس عليك " [٥٥] ، ويعزز الامام حق التنقل وحرية الحركة للمراة بحديث ينقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين جاء اليه نقر من المسافرين فقالوا له : " ان امراة توفيت معنا وليس معها ذو محرم " [٥٦] فاجابهم الرسول(صلى الله عليه وآله) عن هذه المسألة الشرعية دون ان يستنكر(صلى الله عليه وآله) خروج هذه المرأة معهم .
ويعطي الامام المرأة حرية اختيار زوجها ،على ان يكون ذلك الاختيار مبني على اسس شرعية وعقلائية فقد كان يقول (ع) للمرأة المتوفى عنها زوجها : " لتنكح من احبت " [٥٧] ، وحين جاء " رجل الى علي (ع) فقال : امرأة انا وليها تزوجت بغير اذني ، فقال علي (ع) ننظر فيما صنعت اذا كانت تزوجت كفؤ اجزنا ذلك لها وان كانت تزوجت من ليس لها كفؤ جعلنا ذلك اليك " [٥٨] ، ولعل حق الحرية ستوضح اكثر مع ما اقره الامام من حق المشاركة السياسية للمرأة .
٥- حق المشاركة السياسية
لقد منح الامام علي (ع) المرأة دوراً سياسياً مهماً في تجربته السياسية ويمكن تحديد ابعاد ذلك الدور بالآتي :
أ- المشاركة في المعارضة السياسية ، ولاسيما تلك التي مارسها الامام [٥٩].
ب- حق التعبير عن الرأي ، سواء فيما يتعلق بالحاكم ام فيما يمكن ان نطلق عليه اليوم (بحق التصويت ) ، حيث ان الامام فخر واستند في حواراته السياسية مع خصومه بان بيعته حازت رضا معظم الامة رجالا ونساءً [٦٠] .
- فتح الباب امام مشاركة للمرأة في الجهد العسكري والاعلامي في اثناء حروب الامام [٦١].
جـ- توعية المرأة سياسياً ، حيث اسهمت مدرسة الامام الفكرية والعلمية بتوعية المراة من الناحية السياسية ، بل ان بعض النساء قد بلغن درجة عالية من النضج السياسي ،فقد واجهن معاوية بمظالمه امتزن بالدقة في تشخيص اخطائه وتلمس الاختلاف والتباين بين خط دولة الامام والخط الاموي [٦٢]، واعتقد ان ايمان الامام بحق المراة في المشاركة السياسية اظهر لنا انموذج السيدة زينب بنت علي بن ابي طالب ، التي تمكنت من الدفاع عن فلسفة ثورة الحسين بعد استشهاده (ع) ومن ثم القيام بهجوم فكري على قاتليه ادى الى انضاج روح الثورة في الامة الاسلامية سواء على الصعيدين النظري او العملي [٦٣].
هـ - قبول الامام لتصدي المرأة للعمل السياسي المباشر وفتح باب الشكاوى امام النساء والاستجابة لمطالب المرأة السياسية ،بل ان الامام أقال احد ولاته نتيجة لشكوى تقدمت بها احدى نساء المسلمين [٦٤]. وروي عنه قوله : " امان المرأة جائز اذا هي اعطت القوم الامان " [٦٥]
ولم يوضح التراث الاسلامي الموقف الصريح للامام علي حول تولي المرأة لمنصب الحاكم الاعلى للدولة ، ما عدا بعض المقولات [٦٦] تتشابه مع ما تطرقنا اليه سابقا من ناحية القوة والدلالة ،ولكننا نعتقد ان موقفه (ع) لا يختلف عن التوجه الاسلامي العام الذي لا يحبذ اثقال كاهل المرأة بمهمات الحكم الصعبة [٦٧] .
٦- الحقوق الاجتماعية والقانونية
دعا الامام الى ممارسة المرأة دوراً ايجابياً في بناء وترسيخ العلاقات الانسانية ، ولاسيما في مجال الاسرة ، إذ يروي الامام عن الرسول (صلى الله عليه وآله) رواية جاء فيها بانه " ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله) الجهاد فقالت امراة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : يارسول الله فما للنساء من هذا شيء ؟ فقال : بلى للمراة ما بين حملها الى وضعها الى فطامها من الاجر كمرابط في سبيل الله ،فان هلكت فيما بين ذلك كان لها مثل منزلة شهيد " [٦٨] .
والمشاركة الفاعلة للمراة لم يقصرها الامام علي الاسرة فحسب بل دعا الى مساهمتها في تشكيل التجربة الاسلامية إذ يقرر الامام ان للمراة الحق في ممارسة شعائرها والتفاعل مع جوانب الحياة في المسجد قائلاً : " كن النساء يصلين مع النبي ( صلى الله عليه وآله)" [٦٩] ،وكان (ع) "يأمر الناس بقيام رمضان ويامر للرجال اماما وللنساء اماما" [٧٠]، ويقول (ع) : " لا تحبسوا النساء عن الخروج في العيدين فهو عليهن واجب " [٧١] .
ومن الحقوق التي اوضحها الامام ،وانطلاقا من العقيدة الاسلامية التي لا تريد ان تسلب انوثة المرأة ، وانما تؤطرها في ضمن دائرة العلاقة الزوجية ، فانه (ع) تعامل بشفافية وشعور انساني نبيل وواقعي في الوقت نفسه حين يقر بحق المرأة بحياة جنسية طبيعية في اطار علاقتها الزوجية مخالفا بذلك اراء بعض الفقهاء الذين يقصرون هذا الحق للرجال فقط [٧٢] بل انه (ع) يصر على تنبيه المجتمع لهذه المسالة [٧٣] ، وبلغ من تفاعل المجتمع مع دعوة الامام وتأثره بها ان شعرت المراة بالثقة والمشروعية للمطالبة بحقوقها في هذا الجانب واستجاب النظام القانوني في دولة الامام فقضى بتطليق الزوج الذي يثبت عجزه الجنسي [٧٤] وشخص الامام الاثار السلبية لتجاهل هذا الحق على المجتمع حيث قال لاحدهم بعدما شكت زوجته عجزه: " هلكت واهلكت" [٧٥] ، وهذا يدل على تعامل الامام الايجابي مع حقوق المراة ورعايته لشؤونها المختلفة .
أما على صعيد الحقوق القانونية التي اشار اليها الامام (ع) ، فانه يعترف بالشخصية القانونية للمراة ومن ثم يحملها المسؤولية عن أي جريمة او خطأ على وفق الشريعة الاسلامية مثلها مثل الرجل في ذلك ، ويأخذ (ع) بنظر الاعتبار الخصوصية الانثوية في تقريره للعقوبة ، ففي عقوبة النفي مثلاً يرى الامام انه " لا نفي على النساء " [٧٦] وذلك ينم على مراعاة الامام للنساء وادراكه العميق لكيفية التعامل مع المخالفات للشريعة منهن .
٧- حق العمل [٧٧]
يشوب عمل المرأة ، خارج اطار المنزل ، في وقتنا الحاضر كثير من الاراء والرؤى المتباينة حول الجوانب السلبية والايجابية لهذا العمل [٧٨] ،ولكن الملاحظ ان الامام علي قد اشار الى حق المراة بالعمل واكتساب قوتها بنفسها مع ان الأحوال الاجتماعية والسياسية والراي العام الذي ساد في البيئة آنذاك كانت غير مؤاتية للنهوض بهذه الدعوة وتفعيلها ايجابيا لخدمة الرسالة الاسلامية، وفتح مساحات جديدة للتاثير بواقع الحياة من خلال اسهام المرأة في العمل المهني .
وقبل التطرق الى موقف الامام من عمل المرأة لابد من الاشارة الى انه(ع) قد شمل المراة بحق الضمان الاجتماعي [٧٩] ،حيث كان (ع) يقول للسيدة فاطمة الزهراء : " رزقك مضمون، وكفيلك مامون " [٨٠] ونرى من هذه العبارة ما هو اوسع من ما اوجبه الشرع على الزوج من نفقة [٨١]، بل هو لبنة اساسية لنظام الضمان الاجتماعي الذي دعا اليه الامام كحق من حقوق الانسان ، ومع ذلك فان الامام قد اثنى وبارك عمل المرأة فعن :" ام الحسن النخعية قالت : مر بي امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) فقال : أي شيء تصنعين ياام الحسن ؟ قالت : اغزل ، فقال : اما انه لاحل الكسب "[٨٢]، وسئل الامام عن امراة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك،وقد دخلها ضيق؟ قال"لاباس" [٨٣] وذلك مما يوضح شرعية عمل المرأة لدى الامام علي.
ان ما تم ذكره من حقوق للمرأة عند الامام علي تدفع الى عدم قبول ما نسب اليه من اقوال تقلل من شأن المرأة وقيمتها الانسانية ، او رفض تفسيرها كما فسرت به ، هذه القيمة العليا التي سعى الامام علي الى ترسيخها بالقول والفعل ايمانا منه بدور المراة الفاعل في المجتمع ولاسيما انها الشريك الاساسي في حق تكوين الاسرة وتربية الأطفال وصيانة حقوقهم ، وهذا ما سنتطرق اليه في المبحث الثاني .