حسن السعيد
يقول عبّاس محمود العقّاد : «في كلّ ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه .» [١] ، وليس ثمّة شكّ في خصوصيته المتميّزة ، إذ «اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال ، ومحمود الشمائل والخِلال ، وسناء الحسب وباذخ الشرف; مع الفطرة النقية ، والنفس المرضية ، ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال» [٢] .
إنّ الحديث عن أبعاد شخصية الإمام علي(عليه السلام) ليس بالأمر اليسير أبداً ، إن لم يعجز عنه الفطاحل ، أو يهابون الخوض فيه .
ونحن إذ نسمح لأنفسنا أن نمسّ جانباً محدّداً من مواقفه ، «لا نقصد انجاز مشروع صياغة وتحديد كامل فكر الإمام . . (في هذه الإثارة) ، وإنّما نهدف من هذا العمل المتواضع الإطلالة على بعض ملامح وصور هذا الفكر العملاق» [٣] ليس إلاّ .
فعلى صعيد الحكم وتحمّل تبعاته ، لم يكن الإمام علي(عليه السلام) طارئاً أو هامشياً ، «فقد كان(عليه السلام) على تمام الأهبة لولاية الحكم ، كان قد خبر المجتمع الإسلامي في أقطاره ، وخالط كافّة طبقاته ، وراقب حياتها عن كثب ، ونفذ إلى أعماقها ، وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها .
وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الفريد الذي كان يتمتّع به من النبي(صلى الله عليه وآله) ، فهو وزيره ونجيبه ، وأمين سرّه ، وقائد جيوشه ، ومنفِّذ خططه ، ومعلن بلاغاته . .
هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتّع بها أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم .
وقد كان النبيّ يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي ، ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهليّة واستعداداً .
ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال : «إنّه(عليه السلام) هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبيّ في المجتمع الإسلامي . وإذا لم يُقدّر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة ، بل ساهم فيها مساهمة خصبة» [٤] ، وإنّ فسحة الربع قرن التي مرّت على علي ابن أبي طالب ، منذ رحيل الرسول حتّى تسلّمه الخلافة «لم تكن بالفسحة البسيطة ، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرّت عليها .
وهي وإنْ تكن تعتبر فراغاً بالنسبة لعدم تحمّله فيها أيّة مسؤولية إدارية ، فإنّها بالحقيقة كانت فراغاً يمتلأ» .
وليس يفهم من كلمة «فراغ»أن ابن أبي طالب غاب في هذا الوقت الطويل عن الساحة ، بل بالعكس ، كان فيها ملء السمع والبصر ، غير أنّه كان يحتلّ فيها برج المراقبة» [٥] ، فقد كان أبو بكر ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في السياسة والقضاء والحرب ، وخاصّة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتمّ الصلة بالتيّارات التي تمخر المجتمع الإسلامي ، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يقدّمه إليه لأنّ بطانة متعفّنة كانت تحيط بهذا الخليفة [٦] .
ورغم ما لقيه من جحود وإقصاء وتهميش ، من لدن العقلية الحاكمة فإنّه لم يقابل ذلك بالمثل ، وإنّما كان ينطلق ، وفق الموقف الشرعي ، من منطلق الحرص على وحدة الموقف وما تتطلّبه المصلحة العليا ، ولهذا نجده ـ على طول الخط ـ «قد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله ، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله . ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم . . ولكنّه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رُمي بها كما يأنف العزيز الكريم . وفي ذلك يقول في خطابه إلى معاوية : «ذكرت ابطائي عن الخلفاء وحسدي إيّاهم والبغي عليهم ، فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأمّا الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك» .
وأولى أن يقال : إنّ دلائل وفائه في حياتهم ، وبعد ذهابهم ، كانت أظهر من دلائل جفائه . فإنّه احتضن ابن أبي بكر محمّداً وكفله بالرعاية ورشحّه للولاية ، حتّى حُسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله . . .» [٧] .
ورغم انفتاحه الإيجابي على مجمل الحياة الإسلامية ، وبمختلف مشاربها ، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي معارضة الإمام علي(عليه السلام) للنهج القائم ، مع حرص شديد على الطابع السلمي لمعارضته تلك .
وهكذا بدأت أوّل معارضة من داخل الصفّ الإسلامي نفسه تتبلور بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) ، حينما تخلّف العديد من الصحابة الكبار عن بيعة أبي بكر وآزروا الإمام علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة (عليهما السلام) في معارضتهم لمنطق السقيفة عندما تولّى أبو بكر الخلافة بدون إجماع إسلامي [٨] وكانت خطبة فاطمة(عليها السلام)في مسجد الرسول واحتجاجها العلني الصريح على الخليفة الأوّل معارضة فكرية ـ سياسية امتدّت لفترة من الزمن ، وانتهت بمبايعة الإمام علي ومن تخلّف معه من الصحابة [٩] .
ويبقى موقف الإمام علي(عليه السلام) من مسألة «السقيفة» أوّل موقف معارض له ، وظلّت القضية موضع إدانته ، لأنّه أمر دُبِّر في ليل . ومن المعروف تاريخياً أن نَفَس رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاضت في حجر علي(عليه السلام) ، وما إن انتقل(صلى الله عليه وآله) إلى ربّه الأعلى ، حتى اشتغل علي(عليه السلام)وأهل بيته بتجهيزه من أجل مواراة جسده الطاهر في مثواه الأخير ، حتّى عقدت الأنصار وبعض المهاجرين اجتماعاً في سقيفة بني ساعدة لتنصيب مَنْ يخلف النبي(صلى الله عليه وآله)في قيادة المسلمين .
وبعد مناقشات حادّة وطويلة سادها جوّ من التوتّر والقلق والعنف والخلاف بادر عمر بن الخطّاب إلى بيعة أبي بكر بالخلافة ، وطلب من الحاضرين ذلك ، ولم يكن علي(عليه السلام)على علم بما حدث ، ولكن النبأ قد انساب إلى مسامعه من خلال الضجيج الذي أحدثه خروج القوم من السقيفة ، وهم في طريق توجّههم للمسجد النبوي .
وحتّى تلك الساعة ما زال علي وأهل البيت(عليهم السلام) مشغولين بتجهيز فقيد الأمّة العظيم رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذ ظلّ جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنّى للمسلمين توديعه والصلاة عليه .
ولعدم قناعة الإمام(عليه السلام) بما جرى ظلّ مؤمناً بحقّه في الخلافة واعتزل الناس وما هم ستّة شهور ، ولم يسمع له صوت فيما يسمّى بحروب الردّة ولا سواها [١٠] .
ومن الواضح أنّ هذا الاعتزال لم يكن سوى احتجاج سياسي على ما حدث تحت خيمة السقيفة .
وبعيداً عن الاستنتاجات السطحية التي حاولت إظهار هذا الموقف وكأنّه انتصار للذات ، فإنّ قراءة متأنّية للموقف وتداعياته تقودنا إلى تحليل آخر ، وهو ما قام به باحث إسلامي معاصر ، حين قال : «نظنّ أنّ اعتراضه كان لثلاثة اُمور :
الأوّل : لكي يثبت حقّ المعارضة للمسلمين ، حتّى لو كانوا أقلّية ، وحتّى لو كانت المعارضة لما استقرّ عليه رأي الأغلبية ، وكذلك حتّى لو كانت المعارضة لأكثر الاُمور حسّاسية وهي اختيار الحاكم .
الثاني : اعتراضه على طريقة اختيار الحاكم ، لكي لا يثبت في ذهن الناس أنّ ما تمّ هو النموذج الأوحد أو الأمثل الذي يجب أن يسير عليه المسلمون ، ولكي يفرّق الناس بين ما تمّ وما كان يجب أن يكون عليه الأمر . فالبيعة التي تمّت في سقيفة بني ساعدة هي أمر قُضي بليل ولا تصحّ أن تكون نموذجاً لاختيار المسلمين لحاكمهم .
الثالث : أنّه كان يرى في نفسه أقدر الناس على الحكم ، ولو حكم لحمل الناس على الجادّة ، وأظهر النموذج الإسلامي الصحيح الذي كان يؤمن به هو ، وهو يخالف منهج أبو بكر وعمر [١١] .
وبذا يكون الإمام علي أوّل مؤسِّس للمعارضة المسؤولة التي لم تخرق القاعدة الفكرية للدولة ، وحرصت على وحدة الجماعة واستقرار التنظيم الاجتماعي السياسي (الدولة) . فقد تحدّث بصراحة في خطبة له عن السبب الذي حدا به إلى رفض كلّ عروض الانشقاق السياسي مقدِّماً المصلحة العامة ووحدة الأمّة والدولة [١٢] مؤثراً أمور المسلمين على ما سواها ، بما في ذلك شأنه الخاص وحقّه الشخصي : «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة» [١٣].
وقد هدرت منه ، ذات مرّة ، شقشقته المعروفة ، متعرّضاً إلى ما لحق به من جور وحيف : «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة [١٤] وإنّه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا; ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير . فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخيّة عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!
فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تُراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّلُ لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده(ثمّ تمثّل بقول الأعشي :) .
شتّان ما يومي على كُورها ***** ويومُ حيّانَ أخي جابرِ
فياعجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذْ عقدها لآخر بعد وفاته! لَشدَّ ما تشطّرا ضرعَيْها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مَسُّها ، ويكثر العِثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرمَ ، وإنْ أسلسَ لها تقحّم ، فمُني الناسُ ـ لعمرُ الله ـ بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرتُ على طول المدّة ، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدُهم ، فيالله وللشورى! متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم ، حتّى صِرتُ اُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففتُ إذْ أسفّوا ، وطرتُ إذْ طاروا ، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هَن وهَن ، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله، وكبتْ به بِطنته» [١٥] .
بهذه النبرة المشحونة بالأسى والمرارة . . اختزل الإمام علي محنته المريرة مع مَنْ سبقوه في الخلافة . . ورغم كلّ ذلك وما رافقه من محاولات الاقصاء الدائبة والعمل على إبقائه في الظلّ ، فإنّ هذا لم ينعكس سلباً على موقفه العام ، ولم تفلح تلك الممارسات في تحقيق مآرب أصحابها ، إذ لم تجعله بمنأى عن هموم الأمّة ، إنْ لم يندك في عمق حركتها ، ولم تشغله عن وعي التحدّيات التي تواجهها ، فلم يعزف طرفة عين عن رصد خيوطها وقراءة نتائجها .
---------------------------------------------------------------
[١] . عبّاس محمود العقاد ; «عبقريّة الإمام علي» (المجموعة الكاملة) ٢ : ١١ ، بيروت ، ١٩٧٤م .
[٢] . تراجع المقدّمة القيّمة التي كتبها الأستاذ محمّد أبوالفضل إبراهيم ، محقق شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط٢ ، القاهرة ، ١٣٨٥هـ ـ ١٩٦٥م ، ص٣ وما بعدها .
[٣] . اقتبسنا هذه الفكرة ، بشيء يسير جدّاً من التصرّف ، عن المقال الافتتاحي لمجلة المنطلق ، العدد المزدوج (٧٥/٧٦) : شعبان ـ رمضان ١٤١١هـ / شباط ـ اذار ١٩٩١م ، ص٥ .
[٤] . محمّد مهدي شمس الدين ; «دراسات في نهج البلاغة» ، ط٢ ، بيروت ، ١٣٩٢هـ ـ ١٩٧٢م ، ص٢٠٤ .
[٥] . سليمان كتاني; «الإمام علي : نبراس ومتراس» ، النجف ، ١٣٨٦هـ ـ ١٩٦٧م ، ص١١٥ .
[٦] . محمّد مهدي شمس الدين; م . س : ٢٠٥ .
[٧] . عباس محمود العقاد; م . س : ١٣٠ .
[٨] . إبراهيم العبادي; م . س : ١٧٣ .
[٩] . المرجع نفسه .
[١٠] . لجنة التأليف في دار التوحيد; «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» (١ : ٥٥) ، الكويت ، ١٣٩٨هـ ـ ١٩٧٨م .
[١١] . سمير الهضيبي; مرجع سابق ، ومن المأثور تأريخياً ، أنّ عبدالرحمن بن عوف قال للإمام(عليه السلام) أثناء تداول الشورى لاختيار خليفة لعمر بن الخطاب : «أبايعك على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين; أبي بكر وعمر . فقال : بل على كتاب اللهـ وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى عثمان . .» ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، المرجع آنف الذكر ، ١ : ١٨٨ .
[١٢] . إبراهيم العبادي; مرجع سابق . هناك أكثر من محاولة تحريضيّة في هذا المقام ، ومن ذلك لما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) خاطبه العباس وأبوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة ، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ولكنّه أبى الاستجابة ابتغاء للمصلحة العليا ، ونأياً عن الفتنة والفرقة .
[١٣] . نقلا عن المرجع السابق .
[١٤] . وفي بعض النسخ «فلان»، وأيّاً فالمقصود به هو أبوبكر .
[١٥] . نهج البلاغة; الخطبة (٣) .
منقول من : الامام علي والراي الاخر