المدرس المساعد : سحر هادي سعيد شبر
المُقدِّمة
الحمدُ لله الذي فَطَر جَنانَ الخلائقِ على الجمال، ووتدّ مَيدانَ شعورها بالجلال، وأماه على ألبابها جُوده السلسال، ثّم ختم فيض نداءاته بالنبي محمد وأهل بيته خير آل.
وبعد...
إذا كان المؤرخون يدّعون أن للتاريخ فاعليته وديمومته. فإنني أشاطرهم الدعوة بشكل خاص، لأن منطق الفاعلية والسيرورة التاريخي للأحداث يقتضي مدوّنة أو وثيقة.
وهناك ثمة نصوص صنعت ديمومتها الزمنية بذاتها- أي دون أن نجدها سفراً مدوناً لوقائع وقعت في يوم كذا أو سنة كذا- وذلك عبر سياقها المصمود بتصورات الحقيقة.
وهل تتوقف الحقيقة من دون مرور؟ كلا بإمكاننا أن نظفر بها من أي شيء في العالم[١] والشيء الذي نروم ملامسته بالتقصي والبحث نص يشكل كتلةً معرفيةً ثقيلةً. لأن مبدعه تلقَّف عصراً ماضياً فاختزل بنيته المعرفية الكبرى (التاريخ والسياسة والدين والاجتماع ) مستفهماً أحوال البشر، مورثاً قراءه حقائق لا تُدفع وحجج لا تُقهر. لأنها إنسانية ثمينة تبثُ الشكوى وتشكو من ظلمٍ واقعٍ في زمن.. ونتائجه في زمن.. وبالتالي فإن الخطبة المعروفة بـ( الشَّقْشَقِيّة ) إراحةٌ وخلاصٌ من قيد صدأت مكوناته في قلب الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فافترض الدواء له محملاً الأجيال عبء فركه كي تقر نفسه الشريفة.
من ذلك نشأ اهتمامنا بها فضلاً عن كونها مقاربة لوعي اهتدى إلى تصوراته بجمالية مقنعة تجلت في صور ومشاهد نحاول من خلالها أن نلمس التفاعل الجمالي للمتلقي عند إدراكه لها.
الخطبةُ الشَّقْشَقِيّة*
أمَّا واللهِ لقدْ تقمَّصَها فُلانٌ وإنَّهُ لَيَعلَمُ أنَّ محلِّي مِنْها محلُّ القُطبِ مِنَ الرَّحَى، ينحدِرُ عنِّي السَّيْلُ ولا يرقَى إليَّ الطَّيرُ. فسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً وطويتُ عنها كَشْحاً، وطفِقْتُ أرْتَئي بينَ أنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أو أَصْبِرَ على طِخْيَةٍ عمياءَ يَهْرَمُ فيها الكَبِيرُ. ويشِيبُ فيها الصَّغيرُ، ويكْدَحُ فيها مُؤمِنٌ حتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فرأيْتُ أنَّ الصَّبرَ على هَاتَا أَحْجَى. فَصَبَرتُ وفِي العَيْنِ قذىً، وفي الحَلْقِ شَجاً أرَى تُراثِي نَهْباً، حتَّى مَضَى الأوّلُ لِسبيلِهِ فأدْلَى بِها إلى ابنِ الخَطَّاب بعدَهُ ( ثُمَّ تمثّلَ بقولِ الأعشى):
شَـتَّانَ ما يـومِي على كُورِهـا |
|
ويـوْمُ حَـيّـانَ أخـي جـابِـرِ |
وقامَ مَعَهُ بنُو أبِيهِ يَخْضِمُون مالَ اللهِ خَضْمَةَ الإبِلِ نِبْتَةَ الرَّبيعِ، إلى أنِ انْتَكَثَ عليهِ فَتْلُهُ، وأَجْهَزَ عليهِ عمَلُهُ، وكَبَتْ بهِ بِطْنَتُهُ، فمَا رَاعَنِي إلّا والناسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إليّ ينثالُون عليَّ من كُلِّ جانِبٍ، حتّى لَقَد وُطِىءَ الحسنانِ، وَشُقَّ عِطْفايَ، مُجتمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ فلَمَّا نهضتُ بالأمرِ، نَكَثَتْ طائفةٌ ومَرَقَتْ أخرى وقَسَطَ آخرُون، كأَنَّهم لَمْ يسمَعُوا كلامَ اللهِ حيثُ يقُولُ:﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بَلَى واللهِ لقدْ سَمِعُوها وَوَعَوْها، ولكِنّهم حَلِيَتِ الدُّنيا في أَعْيُنِهِم ورَاقَهم زِبْرِجُها. أمَّا والذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لولا حُضُورُ الحاضِرِ وقيامُ الحُجَّةِ بوُجُودِ الناصِرِ، وما أخذَ اللهُ على العُلَمَاءِ أنْ لا يُقَارُّوا على كِظَّةِ ظالِم ولا سَغَبِ مظلُوم، لأَلْـقَيتُ حَبْلَهَا على غَارِبِها، ولَسَقَيتُ آخِرَها بِكأسِ أوّلِها، ولأَلْفَيْتُم دُنياكُم هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ.
( قالوا): وقامَ إليهِ رجلٌ من أهلِ السَّوادِ، عِنْدَ بُلُوغِهِ إلى هذا المَوْضِعِ من خُطْبَتِه، فناولَهُ كِتاباً فأَقْبَلَ ينظُرُ فيهِ. قالَ ابنُ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما: يا أميرَ المؤمِنِين، لَوِ أَطْرَدْتَ خُطبَتَكَ من حيثُ أفضَيْتَ. فقالَ: هيهات يا ابنَ عَبّاسٍ تِلكَ شِقْشِقْةٌ هَدَرَتْ ثمَّ قَرَّتْ. قالَ ابنُ عباسٍ فواللهِ ما أَسِفْتُ على كلامٍ قَطُّ كأَسفِي على هذا الكلامِ أن لا يكونَ أمِيرُ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ بَلَغَ مِنْهُ حيثُ أرَادَ.
المقـاربة الجـمـالية للخُطبـة
ينفتح النص على مقدمة عاكسة لمسار الخطبة بأسرها، فورود أمّا التنبيهية المتبوعة بالقسم يُعرّف المتلقي بهوية النص. فتخامره جملة من الشكوك والتوقعات بأن ما سيرد في الخطبة مختلف عن الظاهر، إذ عُلم من القارئ أنه لم يعتدْ على أسلوب الصدمة هذا في غالبية خطب النهج، حيث تطالعه تشكيلة الحمد والثناء المستبطنة للصفاتية الكمالية والجلالية الإلهية.
ولا شيء يتمم مسار التوقع في ذات المتلقي سوى الإرداف بالصورة «لقد تقمَّصَها فلانٌ» التي تعدّ أداة التوصيل والتشييد في آن واحد.
وبعد أن استمرت ضجة التوقع لبرهة في الذات (ماذا وراء القسم؟) أمدتها الصورة بلذة الكشف عن استحواذ الخليفة الأول (أبو بكر) بالخلافة. فكأنها شيء من مؤثلاته ولا يحق لأحد أن يقاسمَه إياها.
وبذلك ستتصاعد لذة المتلقي عبر صورة تقمص الخلافة المشيدة بعنصر الاختزال لمجريات وقائعية نحو: تكفّل أبو بكر بالخلافة، والتخطيط للاستحواذ عليها، ومناصرة أطراف معينةٍ من المسلمين له... وهنا يبدأ القارئ مرحلة جديدة معتمداً على طاقته التأويلية لتفكيك التلميحات إلى ماورائية تقمص الخلافة من خلال المشهد الصوري اللاحق «وإنّه ليعلمُ أنّ محَلِّي منها محلُّ القطبِ من الرّحَى، ينحدِرُ عنّي السيلُ، ولا يرقى إليّ الطيرُ» المشيد بفعل التقابل بين مركز المتقمِص (أبي بكر)، و مركز المستلَب حقه في الخلافة ( علي بن أبي طالب)، حينئذٍ يتحصل قصد الصورة الأولى «تقمّصها فلانٌ» في ذات المتلقي.
لأنه «الشيء نفسه الذي أشعر به أنا، وأنت، وكلّ إنسان حين ينتهب ثوبه عن بدنه ناهب»[٢]. فينشق طريق التوحد الذاتي بالمثال الأجل الإمام علي(عليه السلام) على علمية الذوات جميعاً _ ومنهم أبو بكر_ بحق خلافته.
وثمة أسباب سليمة يمنحها المشهد للمتلقي حتّى يعايش المبدع في تظلمه وشكواه. ولنلج فصول المشهد ونستكنه إيحاءاتها:
إنّه ليعلم ــــــــ أعدى أبو بكر معرفته التامة بـالإمام علي (عليه السلام)، فأضل حقه في سيادة الخلافة.
محلّي منها ــــــــ مدى التصاق أمر الخلافة بالإمام بعد عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
محل القطب من الرّحى ــــــــ القطب المستحكم في حركة الرّحى هو المنظم لأمور المسلمين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على وفق منطق الحكمة الإلهية.
اختلاق حق السيادة للنموذج الآخر انفراط ــــــــ منطقه في السياسة الشرعية، واختلال حركة النظام مما يعني أن لا كفء للسيادة إلا علي (عليه السلام) بعد العهد النبوي.
ينحدر عني السّيل ولا يرقى إليّ الطير ــــــــ لا أحد يداني أمير المؤمنين في فيض منطقه الشرعي والفكري في الحياة.
ولا يزال القارئ متأملاً خُطى المعنى، فإذا به يفاجأ بخُطى توقعه التي لاحقته منذ الصورة الأولى.
فأيقظت لديه شعوراً قلبياً وفكرياً باقتصار منصب الخلافة على أمير المؤمنين دون سواه لما توافر عليه شخصه وسيرته من سمات وخصائص في عهد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.
وتكون الأداة (الصورة) على قدرٍ سامقٍ من التوصيل الفكري والإدهاش الجمالي. إذ دنت بخَلَد القارئ من تجربة النص شيئاً فشيئاً، وأثارت لديه نظير ما أثارته في خَلد الإمام (أهليته المطلقة للخلافة).
أما القيمة الجمالية للمشهد فقد توارت خلف التمازج المقصود بين الجلال الكوني المتجسد بالسيل العارم المتربص بالأرض، والذي يقف المرء حياله مفزوعاً. لأنه ينطوي على لذة الاكتشاف المصحوبة برهبة وخوف وعظمة في أثناء معاينته أو تمثله[٣]، وبين الجمال الوديع المتمثل بالطير المفترش بجناحيه السماء تحليقاً وسمواً.
ولو نقصد المخيال لأبصرنا تفجر الماء وسيلانه بحركات سائبة من الأسفل إلى الأعلى ومن الشمال حتى الجنوب وهكذا لأن سرعة الجريان تفوق قدرة إبصار العين لاتجاه التيارات المتحكمة بالمياه.
ولا تكاد العين ترنو الطيور النائية عن موضعة السيل لسعيها الدائب في التحليق عالياً، بينما ترقب العين الأخرى سلطة الامتداد القابضة على زمام الأرض الغائرة بالماء والآفاق المفتوحة، والمشهد في قمة الإمتاع الجمالي لأنه يحتوي على مركز جاذبية حركية[٤] إذ تهرب العين بانتظام إلى الأعلى تارة حيث الطير المحلق، وإلى الأسفل تارة أخرى حيث السيل.
ومثل هذا المشهد المتخيل يقف الإمام علي (عليه السلام) حيث ينحدر ذلك السيل الهائج وتنحسر أعتا الطيور دون أن تبلغ سماءها عندئذٍ سيتبدى الجمال في النفس، وتبرز الحقيقة، لأن الجمال هو الحقيقة على رأي كيتـس[٥].
وهنا تتجلى سمة جمالية أخرى، إذ الجمال في المشهد نابع عن امتزاج مضمون عقلي مؤلف من تصورات تجريدية غير مدركة حسياً( الكمالات الفائضة على أمير المؤمنين) مع مجال إدراكي (السيل والطير) بطريقة لا يمكن أن يتميز أحدهما عن الآخر[٦].
إذن عكست المدوّنة التصويرية توافق تأويل القارئ للرموز مع قصد الباث الملغز، وأنبأته بالسعادة المنسربة من تطابق توقعاته مع الإيماءات الألفبائية المصورة. وهذه السعادة تنذر بالإحساس الجمالي.
لأن الإحساس بالجمال كما يقول علماء الجمال: حركة عاطفية تستملك الروح فرحاً وسروراً، وهزة ولذة انفعاليتين تشع في أرجاء الموضوع[٧].
ومن ثَمّ يتمكن المتلقي من التساؤل عما كانت عليه النتيجة في المشهدين السابقين. ماذا سيصنع الإمام بعد إزاحته عن موضع الخلافة وهو أقرب الوجود إليها؟ فيعلن الجواب بقوله:«فسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً وطويتُ عنها كَشْحاً» لكن سيرورة التوقع هذه المرة قد جانبت مسار تأويل القارئ. إذ كان معتقداً بضرورة تشبث الإمام بالسيادة، فمن دونه لا تستقيم منعرجات الحياة الإسلامية. ويصطدم بالتفات أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قيادة الدولة آنذاك وتمنعه عنها «كما يفعل المعرض عمّن إلى جانبه قال: طوى كشحه عني وأعرض جانباً»[٨].
وقد أقلقت هذه الصورة الإشهارية عبر وحداتها القصيرة المكثفة المستمع لكونها صريحة ومفخمة ودلالتها في الإشهار قصدية قطعاً[٩].
إذ أكسبته نوعاً من الحتمية في الإعراض عن الخلافة، وما تزال نفسه تطارد أسباب غض نظر الإمام وإرخائه عنها. فلم يطرأ على ذهنه شيئاً خاطفاً باحتجاج المثال علي (عليه السلام) وطلبه السلطة ثانية.
ويصل القارئ فعلاً إلى علل الإعراض عن المنافسة بقوله:«وطفِقْتُ أرْتَئي بينَ أنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أو أَصْبِرَ على طِخْيَةٍ عمياءَ يَهْرَمُ فيها الكَبِيرُ. ويشِيبُ فيها الصَّغيرُ، ويكْدَحُ فيها مُؤمِنٌ حتَّى يَلْقَى رَبَّهُ».
والواقع أن المشهد السردي نجح في تبرير فكرة الصفح عن الخلافة بإيجاد بنية صورية معقدة تحتمل تماثلاً بين الإخبار القطعي «فسدلت دونها...» وبين علل الإخبار«أن أصول بيْدٍ جذّاء...».
وبهذا المبدأ الجمالي «التماثل» يفسر المتلقي مآل المسلمين آنذاك، ويستنزل التاريخ من عليّته عبر إدراكه للموقفين المحذورين: إما الصولة وإراقة الدماء بيد مبتوتة من دون مناصرة ناصر لا جدوى منها سوى تشويش نظام المسلمين.
أو التصبر على حلوك الأمور وشدة اختلاطها في عهد أبي بكر. ويلاحظ المتأمل أيضاً في سياق هذين الموقفين، أنهما لم يظهرا إلا من خلال تقنية ازدواجية القبح المهول في القتال بيد مقطوعة، وفي الظلمة التي لايهتدي فيها الأعمى إلى مطالبه.
وكلا الأمرين مما يروع الإنسان فيخشاهما حتى الشيخ الكبير إذ لا يقوى على التحمل، ويشيب منهما الصغير فلا يجابه الحلوك المخيف.
وبالرغم من دفقة القبح المفزعة يباشر المتلقي في متعته الجمالية لأن المشهد أباح له عن المساس بين اللاواقعيات الشاحبة للعقل ( القتال بلا هدف، والمقاساة من اضطراب الأمور، والحيلولة دون تحقيق الغاية حتى الموت وملاقاة الله تعالى)، وبين المدركات المباشرة ( اليد المقطوعة، والظلام الدامس، العجوز الهرم الخائر القوى، والطفل يشتعل الشيب في رأسه ) على نحوٍ جعلها تبدو واقعية وعينية وفردية أيضاً، فعندئذٍ يشعر المرء بمعنى المتعة ويحس بالرفعة في مواصلة التأمل[١٠].
وإن ما يدعو إلى السرور الجمالي في الصورتين الضرورة المنطقية المنتظمة لوحداتهما.
فالنتيجة ( فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كَشْحاً / الإعراض عن الخلافة) سبقتْ المقدمات ( وطفقتُ أرتئي بينَ أن أصولَ بيـدٍ جذّاء أو أصبرَ على طِخْيةٍ عمياءَ / تذبذب ميزان الحق عند المسلمين).
وبالتالي تأدت إلى إدراك المخاطب للأثر الذهني كلياً من موقف وسبب. لأن العلاقات الانزياحية التي استولدت المشهد صحيحة. وبكلمة أخرى أنها تؤدي– أعني العلاقات- الوظيفة التي وجدت من أجلها[١١].
وهذا جلّ سعي المتلقي في أن يلتقط شذرة تنير سُدم تأويله للعوالم المغمورة مثل عالم اغتصاب السلطة وموقف النبيل من هذا الاغتصاب.
وفي خِضَم القبح المتلاطم في المجتمع الإسلامي آنذاك، وانفلاق وحدة المسلمين لم يبقَ سوى الصبر«فرأيْتُ أنَّ الصَّبرَ على هَاتَا أَحْجَى» بوصفه بديلاً ناجعاً عن منازلة الفريق المتمرد وهدر حرماته مع خذلان الناصر، ورأياً سديداً يليق بصفات وكمالات أبي تراب التي يندحر السيل دون بلوغها. وهكذا تتابع الصور مصعِّـدةً من حدة التوحد بنفس الباث وما يعتمل في طواياها من مشاعر العذاب والتألم نتيجة لأمور الخلق المنصدعة.
مما يصل بالذات المتوحدة إلى أقصى بلغتها ألماً وتوجعاً على ذات الإمام (عليه السلام) ومآل العباد. فتسرد مشاعر التظلم من جانب المتكلم في صور إشهارية كقوله:«فَصَبَرتُ وفِي العَيْنِ قذىً، وفي الحَلْقِ شَجاً أرَى تُراثِي نَهْباً» مكثفة للحال النفسية التي أفرزها الصبر على نزول الفتن وسلب ما يرى أنه أولى به من غيره، زد على ذلك نهب الولاة حق زوجه الزهراء (عليها السلام) في فدك التي أورثها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها.
وتهمّ الصور المفردة بتجميع الذوات حول مركز إشعاعها العاطفي. لأنها ارتحلت هذه المرة من مكنونها العقلي التصوري إلى مغمور عاطفي استطاعت ثنائية القبح ( العين المضمَّخة بالغبار و الشجا المعترض في الحلق) المنعطفة بعضها على بعض أن توحي بسريان الصبر في ذات الباث على غير إرادة النفس، فتكمل عملية التقمص الوجداني من جهة المتلقين.
إنها صور جزئية رسمت مشهداً حقيقياً وفنياً. وتأدت إلى مقصدها المتمثل في مخيلة القارئ عندما انسلّت من حرفيتها اللفظية كونها ألفاظاً إلى بنيتها الذهنية التخييلية كونها صوراً تتراءى من وراء حجب المعنى.
فيتوهم هذا المتخيِّل أن رجلاً أصيبت عينه بالقذى فلا يكاد يرى، وتسنّمتْ العظام حلقه فلا يكاد يتكلم، وإلى جانبه شرذمة من البشر تخلع أرضه لتهبها إلى غيره. فسرعان ما يستيقظ المتخيِّل من وهمه على نازلة الصبر الشديدة وغَمْط الحق العنيف.
تتسع أمداء الهيجان النفسي لتغمر ذات المتكلم والمستقبل على حدٍ سواء حتّى يمضي عهد أبي بكر ويستشرف النص عهد الخطاب عُمر. وكان عهداً ملقًى إليه من الصِّدِّيق.
وهذا أمر طبيعي لأن منطق التقمص في السلطة «لقد تقمَّصَها فلانٌ» يقتضي أن يُعهد بها إلى أي رفيق شاسعٍ عن الإمام علي (عليه السلام). ومن طيّات البث التصويري الذي لفّع حس المتلقي وعقله تبزغ شبكة رمزية تجلي فكرة البث المختزلة لتعادل الأيام، وتؤثل لأفكار ومشاعر حدثت في الثابت الغابر وأراد لها المتكلم أن تظهر عبر سياق البدائل السيمائي في قول الأعشى:
شَـتَّانَ ما يـومِي على كُورِهـا |
|
ويـوْمُ حَـيّـانَ أخـي جـابِـرِ |
وهذا ما أقرّه البديل الشعري.لأن فرقاً بعيداً بين يوم السفر على كُورِ الناقة (وهو كناية عن حال الإمام وشدة شقائه في صحبته لظلم الصِّدّيق )، وبين يوم حيّان في نعيمه وراحته وهنا ( كناية عن حال الخليفتين الرغيدة). وبذلك تخطى المتكلم حدود المعاني الظاهرة في المشاهد السابقة إلى إيحاءات البديل الكاشفة عن التصور الأنطلوجي والمعرفي والعاطفي للباث ؛ والمذكية في ذات المتلقي جذوة التمييز بين المواقف ( موقف الخليفتين وموقف أمير المؤمنين منهما)، مخافة أن تنطمس معالم المقاساة والتظلم التي شيدتها المشاهد الآنفة.
إنّ التجلي الجمالي لإدراك المتلقي نتج عن وعي الباث المسبق بما سيؤول إليه مصير المستقبل لحظة اتصاله بالإحالة المقابلة في النص الشعري. مما سيشكل الرؤية الجمالية لدى المستقبل. كما يظنون علماء الجمال في أن الجمال يؤسس لوعي المرء إذ أن الوعي مثالية انعكاسية لشيء تطابق مع الوعي الآخر قوة أو ضعفاً[١٢].
أما القيمة الجمالية لانسحاب هذا الشاهد إلى الخطبة فتنطوي على الملفوظات الساردة للأحداث عبر علاقة التماثل الحتمية المتضحة في:
يوم على كور الناقة تماثل سيمى مع أيام محنة الإمام علي.
يوم حيان تماثل سيمى مع أيام رغد الخليفتين.
وقد أودت هذه العلاقة بالنص إلى أن يكون «مجموعة من النكوصات... المكتملة بذاتها التي تتمركز كل واحدة منها حول نقطة معينة»[١٣] توحي بالفضاء النفسي ( التأذي والغبن) أو بالزمن (عهود الخلافة الراشدة)، وأخيراً تلتقي بذات المتلقي في هيأة توحد نفسي حاد.
مما تشير إلى قدرة الباث التوصيلية التي جعلت متلقي السياق قادراً على التمييز بين النص التاريخي الأصيل وبين البديل الشعري، وتلقف الإيحاء بحرية ووضوح.
ومن ثَمّ تتسلسل الخطبة إلى مشهدها الافتتاحي عبر بنية لسانية مطابقة في لهجتها التنبيهية «فَيَا عَجَباً» للمشهد الأول«أمَّا واللهِ»، ومشوبة بالتعجب من أمر سيقع. لكنها متناحرة الدلالة عند اكتمالها السياقي «بَيْنَا هو يَسْتَقِلُها في حَيَاتِه» مع دلالة الصورة «لقدْ تقمَّصَها فُلانٌ».
فبعد أن نهب أبو بكر الخلافة حتى صارت لبوساً من ممتلكاته صار يطلب الإقالة منها لثقلها وخوفه من التعثر في إدارة أحوال الخلق.
وهي إشارة إلى قول أبي بكر بعد بيعته «أقيلوني فلست بخيركم»[١٤].
فيتمهل القارئ عند هذه الدالة ليحل إبهامها. الحل عينه موجه إلى البحث عن السياق المرتهن بتاريخ الخلافة ونشوب الخلاف فيها. ثم يظفر بحدس يبدو صادقاً وقريباً من قصد المتكلم، لأن دوافع التعجب قد نشطت في نفسه مثلما نازعت ذهن المتكلم فأسقطها على خطبته. وهذا دليل آخر على طاقة المشهد التوصيلية لدى المتشاعرين وصدق الباث في تجربته المريرة. لأنه أثار فيهم انفعالاً شبيهاً بانفعاله الذي كان موضوع تأمله[١٥].
كما هي عادة أمير المؤمنين (عليه السلام) القصدية في تكوين الصور وإمدادها بعتاد فكري انفعالي يتفجر آن تأمل المتصلين بها. إذ يتقدمون مع خطاطتها الزمنية باتجاه تراجعي ماضوي ينساب في ملفوظات نسقية قصيرة. إلا أنها تختزن قوة إشارية جبّارة لا يكاد المتأمل ينفلت منها إسَارها الماهوي المقيِّـد لتحولات تاريخية متنوعة مثل: عقد الدولة لعمر بعد وفاة أبي بكر عن تدبر- وبذلك يبطل قصد الصّديق في الإقالة من الحكم. ولو قصد ذلك لما عقد زمام السلطة في عنق الخطاب – والسيرة الذاتية للمتكلم نفسه ( الفضائل والكمالات التي وصف ذاته بها بحيث لا يرقى الطير علوه ولا يبلغ السيل شأوه )، وفي المقابل السيرة الذاتية لعمر بن الخطاب فيّعرفنا به:«لشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرْعَيْهَا فصَيَّرَها في حَوْزَةٍ خَشْناءَ يَغْلُظُ كَلمُهَا وَيَخْشُنُ مسُّهَا، ويَكْثُرُ العِثَارُ فيها، والإعتِذارُ منها، فصاحِبُهَا كَراكِبِ الصَّعْبَةِ، إنْ أشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وإنْ أسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ».
إن الصور المشكلة للمشهد دينامية حسية محضة بحيث اشتغلت في حيز الوصف الشخصي النفساني للخليفة الثاني. ووعي الطباع النفسية للبشر مرتكز إلى وعي السلوك البشري وملاحظته ثم تسجيل النتائج – يعني رصد الظواهر النفسية - عن تلك الأفعال الصادرة من البشر. لذا غدت كل صورة هنا قاصدة لوضع نفسي ومدونة لظاهرة خُلقية وفاتحة شهوة المتلقي الاستطلاعية في معرفة الخليفة الجديد.
وقد أَمسكتْ القارئ أسباب ترشيح بن الخطاب لسيادة المسلمين. فإذا به يلمح اتفاقاً منعقداً بين الخليفة الأول والخليفة الثاني بشأن «اقتسام الحالبين أخلاف الناقة بالشدة على من يعتقد أنه أحق بها منهما أو على المسلمين الذين يشبهون الأولاد لها»[١٦].
فكأن الأول اقتسم شيئاً من السلطة وتركه للآخر وفي الحقيقة كلاهما نال ما نال من ضرعي الناقة. ومن ثم آلة الناقة بضرعيها إلى حوزة عمر. إذن كيف يحدس القارئ بمصير المسلمين في ظل العهد الجديد ؟ فتبزغ سلسلة من الصور المتشارحة بذاتها والفارضة بإحالاتها المماثلة على القارئ ليتعرف عن قرب إلى النموذج الثاني من خلال صفاته النفسية.
فما دام القائم بأمر الدولة غض الطباع خشن الكلام سريع إلى الغضب فإنه سيصير الدولة ومصير العباد في ناحية الباطل ويكثر الخطأ فيها ويجاوز الحقائق إلى التضليل في الأحكام بسبب غلظ الطباع. فيعتذر عنها مسترشداً بآراء أبي الحسن كما أشارت الروايات.
إنّ لسلسلة الصور هذه ( الحوزة أي الطبيعة أو الناحية الخشنة عند مسها، و الجرح الغليظ، والعثار في أثناء المشي، والناقة الصعبة القياد وتوالي الحركات العنيفة لجذب زمامها ) مردودات جمالية على ذات القارئ. فتغمره بالنفور والرفض للشخص الثاني لما في طباعه من شر.
وقد راوغت صور القبح مشاعر المتلقي من أجل خلق تجربة جمالية موضوعها التهكم والسخرية ممن يمارسها. وتفسح الصور ذاتها مجالاً جمالياً آخر موضوعه التماهي مع الذات الإنسانية التي ارتقت فوق الواقع المفروض من قبل الخليفتين، بحيث أذابت ذواتنا جميعاً في كمالاتها العِلِّية. وإن إعلان الضمائر توحدها مع الإمام علي(عليه السلام) لهو أبين تجليات الإدراك الجمالي. لأن الجمال هو تجلٍ للحقيقة[١٧] التي يبلغها العقل دون مشقة أكبر قدراً من المعقول بأقل قدرٍ من الوسائل مما تحقق رضًى عقلياً وانفعالاً وجدانياً[١٨].
إذن يتمرءى الجمال بمظاهره المتنوعة في المشهد. وترسم كل وحدة من أجزائه صورة ثنائية أو متعددة الاتجاه، بسيطة في رمزيتها أو معقدة نحو: إيماءة تشطر ضرعي الناقة إلى موافقة يقينية بين الصّديق وابن الخطاب من جهة، وتآمر الخليفتين والناس على ابن أبي طالب (عليه السلام) في سلب الناقة من جهة أخرى.
واحتمال الوحدة المصورة لطباع عمر( الحوزة الخشناء...) تارة، وتأويل مآل المسلمين ومسار الدولة العام بالقياس إلى هذه الطبائع تارة أخرى.
والحق أن خطية اتجاه الصور منوطة بمشاركة القارئ. فكأنها خلقت من أجله قبل توثب المبدع النفسي لملء فراغات الدوال وبياضاتها المقابلة فضلاً عن كونها أثراً ينبغي معايشته بعد رصده بمنظار الوعي[١٩].
ويختتم المشهد بالصورة التشبيهية «فصاحِبُهَا كَراكِبِ الصَّعْبَةِ، إنْ أشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وإنْ أسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ» معززاً من وتيرة المعايشة الجمالية في استجلاء التفاصيل الدقيقة لحكم الخطاب. فتخطر لُمح التشبيه الثرة بالأوصاف للقارئ أن عُمر على خِلالِه الغضبية في إدارة الدولة بحاجة إلى تعقل وتؤدة. لأن الخلافة ليست بذلول، إنما شاقة في مجاراة أحوالها والراعي لها بين خطرين محذورين: إن والى جذب الزمام بشدة وهي – أي الناقة/ الخلافة- تنازعه رأسها شقّ أنفها، وإن أرخى لها الزمام على صعوبتها ومنازعتها له تقحمتْ به إلى الأهوال فلم يملكها. ولاشك أن النسق الجمالي للناقة قد أرشد القارئ إلى قصد الباث بحيث اقتنص مخيلته عبر طاقة التقابل الجمالية المهيمنة على الوحدات البنائية للمشهد مثل: إرخاء الزمام بخفة، وجذبه بقوة فتؤدي عملية الجذب والإرخاء إلى السيطرة على الناقة عنوة تارة، وانفلاتها عنوة أيضاً تارة أخرى.
وبالنتيجة إما أن يشق الراكب أنف الناقة وإما أن ترديه في الأهوال. ولم تكتفِ الأوصاف القصيرة عند هذا القدر الجمالي من التأثير فحسب، بل امتدت لأفق تأويلي متجدد خالقة لسياق اجتماعي وسياسي وتشريعي رزحت تحت وطأته طائفة من المسلمين. وبناء على طاقة المشهد الجمالية في إيصال القصد سيستهيم المتلقي شغفاً بالأنساق المصورة، لأن كل نسق منها إنهاء لحدث مبرمج وتصور لمشروع محتمل[٢٠]، يحيط به القارئ خُبْراً فيحيق بميتاالدال/ ميتاالصورة، وما يجري فيه من أشخاص وأفكار وأحداث نحو: أتباع عمر بن الخطاب والمسلمون المبتلون بأخلاقه المعقدة... وسيبلغ لحظته السعيدة التي تكتمل فيها خبرته الجمالية[٢١].
وتتعمق حالة الترميز الاستعاري في الفصل الذي يسبق نهاية الولاية الثانية«فَمُنِيَ الناسُ. لَعَمْرُ اللهِ. بخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتلَوُّنٍ واعتِرَاضٍ» لتوشح الخطبة ببراهين دامغة لإدراك المخاطب. فتدحر التصورات السطحية في ذهنه وتأخذه إلى قعرها الحاضن لأكثر القضايا حساسية في تاريخ الأمة الإسلامية. من هنا نقول: أن الشعور الجمالي الناتج من إدراك الصور ليس انفعالاً فحسب، إنما «هو فعل معرفي»[٢٢].
وهذا الفعل يتعدى حدود البنية الدلالية المختنقة بأبعاد الشكل إلى عالم الدالة /الصورة الممكن الذي ينسج منه القارئ توليفات بين المقولات السيمية و محتواها الاستعاري.
فيدرك أن الناس قد أُصيبوا باضطراب الرجل وتزلزل أخلاقه وسياسته الجافة وتلونه من حال إلى أخرى على غير هدى، مما أدى إلى تفرق صف المسلمين وتبدد كلمتهم. حقا إن الهيئات الحية: خبط وهو السير على غير جادّة، والشماس إباء ظهر الفرس عن الركوب والنفار، والتلون والاعتراض المشي عرضاً على غير خط مستقيم.
قد أولجت المبصرين في مستتراتها التي تنفتح على مدة تاريخية معينة كما انتخب الباث قدرتها على البوح المستمر.
لذا ستمكث في الذات بوصفها موضوعاً للتفاعل الأستطيقي. ولا نتغافل عن الطاقة الجمالية المنبعثة من الإيحاء السايكوفيزيقي الجامع بين الصور المفردة ( الخبط والشماس والتلون والاعتراض). التي تشعر القارئ بالحركة العشوائية ( المشي المضطرب) الموحدة لأجزاء المشهد. وإن انبثاق هذه السمة كسر جمود المشهد ووجه العين إلى اتجاهات ذات دلالة متبدية في التموجات الحركية. لأن الجمال سمته الحركة[٢٣].
وبالطبع فإن نهاية كل مشهد تنبؤ بسؤال يدفع المتلقي إلى معرفة الإجابة بتوق وشغف. لأن بنائية المشاهد درامية محبوكة.
توشك كل كتلة لفظية منها أن تبدأ بفصل تراجيدي متمثل بالأفعال المأساوية ( مآل الدولة، الأخلاق البليدة، الغضب)، وتنتهي بفصل تراجيدي متجلي في (موقف الإمام علي بوصفه أحد شخوص قصة الخلافة الواقعية)، لذا تراود المتلقي دفقة جمالية موضوعها صراع الإنسان ضد القدر، وكفاحه ضد الضرورات الخارجية. فيعتنقه الإيمان بالكفاح الحر ويتبنى مقولة الجمال المتعالية المؤثر[٢٤].
وقد ألِف القارئ موقف النبل من الإنسان النبيل في معالجة الأوضاع الموبوءة. فالصبر أحجى في مواجهة الشر:«فَصَبَرْتُ على طُوْلِ المُدَّةِ وشِدَّةِ المِحْنَةِ». فتستدعي هذه الصورة موقفاً سابقاً تمثل في قوله:«فَصَبَرتُ وفِي العَيْنِ قذىً، وفي الحَلْقِ شَجاً» يرتد هذا المشهد إلى حقبة تاريخية مضت في زمن أبي بكر. وهنا يكمن معنى الدراما التراجيدية بشكلها الفني الجمالي إذ يصفح كل حدث عن حدث آخر، متجادلين في الزمن والشخوص لكنهما متشادان في وحدة القصد. فموقف أمير المؤمنين(عليه السلام) من الخليفتين واحد على الرغم من اختلاف العهدين وقد عبّر عنه الفعل الدرامي «فصبرتُ» لأن كلا الإثنين تشطرا ضرعي الخلافة واستحلباهما جوراً وفساداً وتفرقاً، فتستحيل استقامة الأمر بالقتال وإراقة الدم.
لذلك يقرر المشاهِد في النهاية تقويل المشهد الدرامي شعورياً للاندماج بشعور الذات الراوية والرائية (الإمام علي) كما توحد بها في موقف ماضٍ ( عهد أبي بكر). وينفعل بأستطيقا المشهد الغني بالعلاقات المتفشية في توازن الأقطاب (الصّدّيق والخطاب)، وتماثل التفاصيل (سلب الخلافة وخلخلة الدولة)، وتكرار الحدث ( الصبر على القائدين). والتماثل والتكرار والتوازن آثار جمالية[٢٥] تحدث تنغيماً عقلياً وانفعالياً مدهشاً في المتلقي.
ومن ثَمّ تهتدي مقاطع السرد إلى تحولات زمنية حاسمة دون التلفظ بالزمن التاريخي وتمفصلاته وتتضخم سلطته عبر القول الموجز المحايث سيميائياً للأحداث نحو: مقتل عمر بن الخطاب كما مضى لسبيله أبو بكر، حينئذٍ سيولي المتلقي اهتمامه إل سلطة التاريخ على الخطبة – وهي سلطة خارجة عن النص تُعنى بمرجعية القارئ المعرفية- ويتجلى ذلك بقوله«حتّى إِذا مَضَى لسبِيلِهِ».
وما أن يموت عهد زمني حتى يُولد آخر لا يختلف جملة وتفصيلاً عن العهدين المنصرمين، فالخلافة قد انشطرت – بتدبر من عمر- لتشمل جماعة أشار بهم إلى أهل الشورى وهم من الصحابة ( سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب).
وتوقف القارئ عند الفصل:«جَعَلَها في جماعةٍ زَعَمَ أنِّي أَحَدُهُم» مستفهماً كيف يقرن الإنسان النبيل إلى هذه الجماعة؟ فيقضي الفصل التالي:«فَيَاللهِ ولِلشُّورَى» بما توقع المستفهم جوابه وهو جواب استفهامي متشح بالتعجب من عروض الشك لأذهان الخلق إلى غاية أن ناظروه - أي الإمام(عليه السلام)- بهؤلاء الستة:«مَتَى اعتَرَضَ الرَّيبُ فيَّ مَعَ الأولِ منهم حتّى صِرْتُ أُقرَنُ إلى هذِهِ النَّظائرِ لكني أسْفَفْتُ إذْ أسَفُّوا وطِرْتُ إذْ طَارُوا».
فكان الدنو من اختيارهم – نقصد أهل الشورى- والتصرف على قدر مرادهم سيد الموقف النبيل. كما أنه مغاير لثقل الصبر في الخلافتين السابقتين. وقد تمكن المقطع الاستعاري الأخير«أسْفَفْتُ إذْ أسَفُّوا وطِرْتُ إذْ طَارُوا» من بعث قصد الخطيب ( توقي الإمام من أهل الشورى ومعايير انتخابهم) في المتلقي بفضل حساسيته الرمزية.
فأحوال الطائر إسفافاً وطيراناً لا يمكن أن تخالف الفطرة التي جُبِل عليها وذي حال الأمير لا يرد القوم عن اختيارهم بالحرب ويفضّل الصمت على سياستهم أولاً و آخراً لأنه روّض نفسه الشريفة على المنطق السليم في عصائب الدهر.
والمشهد على الرغم من بساطة أجزائه( الطائر في هبوطه وتحليقه) تحدى القارئ وأضفى على ذاته بعداً من الغوص الفكري والشعوري لكي يصل إلى مدارات الخلافة الثالثة بعد طعن عمر واجتماع أهل الشورى.
وقد تجلى القوام الابتكاري للمشهد في توخي المتكلم لموجودات الطبيعة الماثلة لعيانه و«أكثرها دلالة على حسه بالأشياء، وإزاء هذا الحدث لم يختر سوى ما وجده أشد معادلةً لها في ذاته»(١) عاكساً ما اعتلى شعوره الذاتي من تظلم وشكوى وتصبّر... على أحوال الطير هبوطاً وصعوداً، ثم صاغه بالملفوظات الموقّعة بأعبائها السيمية التعبيرية في المخاطب، فكان له من تجربة المتكلم هذا الإدهاش الجمالي.
أما المشهد اللاحق«فصَغَى رجلٌ منهم لِضِغْنِهِ ومالَ الآخرُ لصِهرِهِ مع هَنٍ وهَنٍ إلى أن قامَ ثالِثُ القومِ نافِجاً حِضْنَيهِ بينَ نَثِيلِهِ ومُعْتَلَفِهِ» فقد سرد تصاعد الأحداث التي يتوق المتلقي معرفتها.
وأول حدث يشغل لبّه مَنْ اعتلى عرش الخلافة؟ وكيف؟ فيستجيبب السارد/ المتكلم لرغبة المخاطب في رواية الحدث المهيمن على ذهنه مختزلاً تفاصيله في ثلاث صور مغرقة في نعت الوقائع فـ «سعد بن أبي وقاص منصرفاً عنه( عليه السلام) وهو أحد المتخلفين عن بيعته بعد قتل عثمان... وعبد الرحمن بن عوف فإنه مال إلى عثمان لمصاهرة كانت بينهما... وميله إليه لم يكن لمجرد المصاهرة، بل لأشياء أخرى يحتمل أن يكون نفاسة عليه وغبطة له بوصول هذا الأمر إليه... إلى أن قام ثالث القول {عثمان}»[٢٦].
مما يثوّر شهوته في تتميم المشهد من خلال اللقطة الرابعة المتجلية في تتويج عثمان وإدارته لدفة الدولة:«نافِجاً حِضْنَيهِ بينَ نَثِيلِهِ ومُعْتَلَفِهِ».
ثمة مأثرة فردية اختفت وراء الصورة السردية، بيد أن المتلقي مهما أطالت في خفائها عليه سيسبر شكلها اللامرئي ليمنحها وجوداً مرئياً في لبّه. وذلك عبر تحويلها المرتبط بالسحيق النفسي. فيكني نفج الحضين عن استعداد ثالث الخلفاء للتوسع في بيت المال تشبهاً بالبعير الذي ينتفج جانباه بكثرة الأكل، وربما أشارت الاستعارة إلى المتكبر المنتفج كبراً.
أما قوله بين نثيله ومعتلفه متعلق برغبة عثمان في أن يكون بين أكل وروث وما عرِف عنه لم يكن أكبر همه إلا الترف والتوفر على الأكل والشرب[٢٧].
يختزن المشهد طاقة جمالية ضامة لشعث وحداته الملتقطـة عبر تقنية التمـاثل المقلِّص للمجردات العقلية والنفسانية مثل: طباع عثمان، وخلافته. والمدركات الطبيعية نحو: البعير النافج الحضين، والعلف والروث. فتحدث فينا بفضل الطبيعة المشتركة بين هذه الأشياء المتنوعة متعة وإثارة عاصفة نسميها عادة بالمتعة الجمالية[٢٨].
وبما أن الخطبة تسير في خط موازٍ للبنية السردية الحاملة لصوت الحاضر العاكس/ المتكلم – بوصفه سارداً وموصلاً- فإن قصدها المتميز يظهر عند قصّها لأحداث الحقيقة، ونقلها لأخبار الماضي المنفلتة من وعي المبدع. فتغدو صيغتها الفريدة والممكنة. هي صيغة الحدث الأكيد[٢٩].
وبناءاً على هذا فإن كلّ صورة مفردة أو مشهد متكامل مؤلف من تنويعات استعارية بوساطتها يصل المبدع إلى ذروة التأكيد الحدثية – يعني تحقيق قصد المتكلم الحاضر- ثمّ تقترح الصور المنزاحة تمثيل الحدث في ذات المتلقي وهذا يعني تحقيق قصدية النص/الخطبة.
ومن تلك المشاهد قوله: «وقامَ مَعَهُ بنُو أبِيهِ يَخْضِمُون مالَ اللهِ خَضْمَةَ الإبِلِ نِبْتَةَ الرَّبيعِ، إلى أنِ انْتَكَثَ عليهِ فَتْلُهُ، وأَجْهَزَ عليهِ عمَلُهُ، وكَبَتْ بهِ بِطْنَتُهُ». وماانفك المشهد يولج بالقارئ في تاريخ الدولة الإسلامية حتى يطلعه على قيادة عثمان ويستأنف سياسته في الحكم بشكل مفصل.
إذ عَهَد الخليفة عثمان إلى بني أبيه من بني أمية بن عبد شمس – لقرابة بينهم- بمزاولة شؤون الدولة وخاصة سياستها المالية- لمدة زمنية غير قليلة حسبما يوحي المشهد- فتوسعوا بمال المسلمين بأمر من عثمان - وقد نُقلت عن ذلك شواهد عديدة[٣٠]- إلى أن انقلبت عليه تلك التدابير، فأجهز عليه استبداده بالرأي دون مشورة الصحابة ثم طُعن من جهة بني أبيه وبذلك انتهى عهد الخليفة الثالث.
والرائي للمشهد ينغمر بطاقة جمالية فائضة عن عامل الوحدة في التنوع[٣١] الذي وحّد بين متفرقات الصورة الكلية.
فهناك أناس يأكلون والإبل تأكل أيضاً من حشاش الربيع بشراهة، وبالقرب منها رجل يرمي الفَتْل ويبدو أنه المالك لهذه الأرض، فإذا به يُطعن على حين غرة.
وصور المشهد تجذب انتباه الآخر إلى تنوعها المعقد نوعاً ما والمختلف (القوم والرجل )، والمؤتلف ( القوم يخضمون والإبل تخضم )، والمفضي إلى غاية واحدة ( طعن الرجل من قبل القوم فلا أحد سواهم في الأرض ).
وقد أصيب المسلمون بحيرة شديدة بعد مقتل عثمان. ولم يجدوا بّداً غير اللجوء إلى مبايعة الإمام علي (عليه السلام) _ كأنهم خبروا عهود الخلفاء الثلاثة ملياً فلجئوا إليه- صفوفاً صفوفاً ينثالون عليه من البصرة والكوفة و.. حتى لقد وُطِئ الحسن والحسين (عليهما السلام)، وخُدش جانباه من اصطكاك الناس حوله.
كما يروي قوله:«فمَا رَاعَنِي إلّا والناسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إليّ ينثالُون عليَّ من كُلِّ جانِبٍ، حتّى لَقَد وُطِىءَ الحسنانِ، وَشُقَّ عِطْفايَ، مُجتمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ».
فترغم الصور القارئ على الاعتقاد بأنا الراوي الحاضرة التي تتكلم باسمها وتروي تجربتها كما تكلمت في مسرودة سالفة عن تجربة الصّدّيق والخطاب وابن عفان. وهذا ما يدعوه أفلاطون بالسرد المطلق.
إذ يبّرز السارد للقارئ دخيلته مكثفاً من نبرة الأنا المباشرة والتفاصيل الدقيقة ليفرز الملامح المتميزة في عهد ولاية أمير المؤمنين المتعارضة مع العهود السابقة بدءاً من ساعة المبايعة.
يطبق عامل السيادة بطاقته الجمالية العالية على مقاطع المشهد فالصور: عُرف الضبع، وربيضة الغنم، وتقاطر الناس من كل حدب وصوب، ووطئ الحسنين، وشق جانبي الإمام.
تسير في خطاطة أفقية ثنائية المدى: يسود مداها الأول إدراك المتلقي وهو اجتماع الغالبية العظمى على مبايعة الإمام علي وإلا ماذا تعني كثرتهم حوله ؟ وتتموضع قصدية النص في المدى الثاني وهو استعادة حق أمير المؤمنين المنتهب في تولي السيادة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عقب شدة محنة وطول صبر على جور ثالوث الخلافة.
ويكثف النص من حيله غير المباشرة المتجلية في الملفوظات الانزياحية التي تبزغ دائماً في عالم المتلقين الذاتي. فطالما توحدوا بها لأنها تطرح قضية مصيرية وتشكل تجربة أستطيقية تتجه بنا إلى الاستمرار حيث الجمال ينساب في موقف التأمل النزيه المتعاطف دائماً[٣٢].
وتستمر الخطبة في رواية الحدث الجديد - خلافة الإمام علي(عليه السلام) وطبيعة حكمه- ممحورة من ناحية التعبير يقينية الانزياحات الساردة للوقائع الهاجسة بالمفاجئة كقوله:«فلَمَّا نهضتُ بالأمرِ، نَكَثَتْ طائفةٌ ومَرَقَتْ أخرى وقَسَطَ آخرُون، كأَنَّهم لَمْ يسمَعُوا كلامَ اللهِ حيثُ يقُولُ:﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بَلَى واللهِ لقدْ سَمِعُوها وَوَعَوْها، ولكِنّهم حَلِيَتِ الدُّنيا في أَعْيُنِهِم ورَاقَهم زِبْرِجُها».
وقد أفضت الصور القصيرة الأولى ( نكثت، مرقت، قسط) إلى قراءة مزدوجة. تتضمن القراءة الأولى معجمية الدال. فالنكث يعني الانتقاض، والمروق: خروج السهم من الرمية، والقسط: العدول عن الحق. أما القراءة اللاحقة فتنم عن تأويل الصور الفتية على مستوى قصد المتكلم الذي نفخه في ذوات السامعين من خلال هواجس الصور المشحونة بالأحداث الغابرة. فالناكثون أصحاب الجمل هم عائشة وطلحة والزبير، والمارقون الخوارج عن الدين وهم أهل النهروان، أما القاسطون أصحاب صفين فهم أتباع معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.
وقد استعان المتكلم بالقول القرآني لتنبيه الفرق الباغية عسى أن تعود إلى رشدها، وخلق انطباع ذي تأثير أعظم في النفس فربما تثير نبرة المقدس حساً بتهذيب النفس، وحرياً بصورة الآخرة أن توقد حساً بالجمال المحض المجوز للأنواع المعروفة في الدنيا. لكن هيهات يا أبا الحسن فقد سمعوا نداء الله وما استجابوا لأن الفساد في الأرض تزين لهؤلاء البشر في أبهج صورة حتى أنساهم طريق الهدى.
وأظن الطاقة الجمالية للمشهد متأتية عن طريق الإيقاع المسلسل للصور. فكل صورة يرسمها المبدع تشكل حقبة زمنية مختزلة لأحوال الدولة الإسلامية بقيادة أمير المؤمنين بيد أنها أحوال مريرة ( حروب وارتداد عن الدين وجاهلية بعد إسلام ) مما تضع المتلقي في حزن رهيب واستغراق تام في مشاعر المتكلم، وهذه التجربة ظفر جمالي.
فقد قيل: أن الجمال مهما كان نوعه ظلال قاتم أو سطوع ناصع في أسمى درجات تطوّره، لا بد أن يحرك الروح الحساسة للدموع ويأسرها بالاتصال في لحظاته الحادّة[٣٣].
وقد نهض الإمام بأمر الخلافة بعد شوط محفوف باللوعة والأسى و انداح إلى خطبته متلمساً الأعذار لقبوله هذا العبء بعد كل ما جرّه من ويلات ومحن.
فقال:«أمَّا والذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لولا حُضُورُ الحاضِرِ وقيامُ الحُجَّةِ بوُجُودِ الناصِرِ، وما أخذَ اللهُ على العُلَمَاءِ أنْ لا يُقَارُّوا على كِظَّةِ ظالِم ولا سَغَبِ مظلُوم، لأَلْـقَيتُ حَبْلَهَا على غَارِبِها، ولَسَقَيتُ آخِرَها بِكأسِ أوّلِها، ولأَلْفَيْتُم دُنياكُم هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ».
في هذا المشهد الأخير ارتفعت لهجة الخطاب بدليل ورود القسم العظيم المشتمل على أدق خلق الله وألطفها لغزاً وأكثفها دلالة على حكمته تعالى في الصنع ( خلق الحبّة الصغيرة وبرء الروح الخفية).
كما افتتح الخطبة بالقسم الجليل المشتمل على الذات الأقدس (الله جلّ شأنه).
إن تساوق مشاهد مفتتح الخطبة ومنتهاها على نبرة القسم ليست ملفوظاً مفاجئاً أو عابراً بل تدبراً ناتجاً عن دوي المأساة المتفوقة على ذات المتكلم وحجمها الفضفاض، وقاصداً لازماً أن تعيش تلك المأساة في ذوات أُخر.
فكان أول ما يطرق سمع القارئ وآخر ما يدخره ذهنه صدى القسم العظيم. لأن دفقة التظلم والشكاية عظيمة أيضاً.
ثم انعطفت الصور لتعرض أسباب النهوض بالدولة ومنها: حضور المسلمين لمبايعة أمير المؤمنين وإلزامه الحجة في طلب الحق، وما أخذ الله على العلماء من ميثاق في إنكار المنكر ونصرة المظلومين.
ولولا تمسكه (عليه السلام) بهذه المواثيق لرمى بأمر الخلافة وأودعها غيره. ولوجد الناس أن دنيا عند أبي الحسن لا تعادل أهون الموجودات كمثل نثار أنف العنز.
مما تؤكد صورة الزهد هذه فيض كمالاته الخلقية والنفسية التي ألقاها في مشهد سابق.
وينطوي المقطع الختامي على طاقة جمالية استحكمت في نفس المخاطب وعاثت في وجدانه لذة ومتعة جماليتين.
فالجمال في أحد معانيه الشائعة يدل على الأشياء التي نستمتع بإدراكها ونشعر بديمومة جاذبيتها[٣٤].
وفي ختام المقاربة التحليلية لأرجاء المشاهد نعثر على مكمن الطاقة الجمالية العاصفة بصور الخطبة جميعاً.
فكان من نتائج توهجها الجمالي أن تعصف أيضاً بإحساس المتلقي وذهنه بحيث ترقد فيه وإلى الأبد.
إنها طاقة الأستطيقا الآتية من مبدأ التكامل أو ما يعرف بالشمول والانسجام النوعي[٣٥]، الذي صهر شتات تجربة المبدع سواء أكانت ألفاظاً، أحداثاً، أفكاراً، شخصيات، أزمنة، أم أخيلة ومجازات لتنبني من جديد خطاباً نصياً لا متناهياً تسود سرمديته الذوات لأنه رقابة محمولة بشكل موازٍ من واقعية معينة من طرف، وموقف جمالي من طرف آخر[٣٦].
فالصور التي أظهرت الأحداث قد فرضت حقائق روحية لولاها لما ربت أنفسنا بالانفعالات. وأظنها بغية النص والمتكلم على حدّ سواء. إنها شقشقة هدرت ثمّ سرت كحزمة ضوء في النفوس.
الخلاصة
اخترقت الخطبة الشقشقية خصوصية الواقع والتاريخ والسياسة. فاستحالت بذلك الاختراق الفريد إلى نصٍ أدبيٍّ متعدد الأصوات، كلّ صوت منه يتعدى ذات الباث إلى المرسل إليه ليمنحه نفسه، حينئذٍ تهيمن الذات على الآخر. لذلك استحضرنا من خلال المقاربة الجمالية للخطبة جملة من أسباب الهيمنة، نوجزها في إلماحتين:
١- إن عقدة الخطبة تتألف من النصيات / الصور الحاملة لتجربة الذات والآخر الذي يصادر النص/ الذات المبدعة إحساسه لغرض الترويض الجمالي عبر الصور الاستيهامية للمشاهد مما يعني أن النص والذات محمول جمالي واحد.
٢- الخطبة نصٌ متعالٍ أو جامع النص – على حد قول جنيت- تطرح مقولاتها التاريخية والنفسية عبر خواص السردية وخواص الشعرية اللتين امتلكتا إحداثي المقولات.
لذلك لحظ المتلقي طغيان الأحداث على مساحته الشعورية والذهنية بفعل الوصف السردي والوجدان الشعري.
---------------------------------------------------------------
[١] . ينظر: هل على الفن أن يبلغ الحقيقة ، دوغلس ن . مورغان ، ترجمة يعقوب أفرام منصور،الثقافة الأجنبية، عدد ٢،السنة ٢ ،١٩٩٢م،١١.
[٢] . مأخوذة من كتاب: شرح نهج البلاغة، كمال الدين بن علي بن ميثم البحراني، دار الرافدين ، بيروت، لبنان، ط١/ ٢٠٠٩م،١/١٧١-١٧٢.
[٣] . في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، وثق أصوله وحققه وعلق عليه سامي الغُريري، دار الكتاب الإسلامي،ط١/ ٢٠٠٥م،١/١٩٢.
[٤] . ينظر : مبادئ علم الجمال، شارل لالو، ترجمة مصطفى ماهر، دار إحياء الكتب العربية،١٩٥٩م،٦٦.
[٥] . ينظر : مقدمة في الدراسات الجمالية، محمد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، بيروت، ١٩٧٩م،٢٧.
[٦] . ينظر : معنى الجمال- نظرية في الأستطيقا-، ولترت. ستيس،ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة،٢٠٠٠م، ٢٢٦.
[٧] . ينظر: المصدر نفسه، ٧٣.
[٨] . ينظر: الإحساس بالجمال - تخطيط لنظرية في علم الجمال-، جورج سانتيانا، ترجمة محمد مصطفى بدوي، الأنجلو المصرية،القاهرة، ٣٨٣.
[٩] . شرح نهج البلاغة، بن ميثم البحراني، ١/١٧٥.
[١٠] . ينظر: كيف يأتي المعنى إلى الصورة؟، مارتين جولي، ترجمة محمد معتصم، مجلة علامات في النقد، عدد ١٣، سنة ٢٠٠٠م، ٢٦.
[١١] . ينظر : معنى الجمال، ستيس، ٨٥- ٨٨.
[١٢] . ينظر: مبادئ النقد الأدبي، إ . ا . ريتشاردز، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة د. لويس عوض، المؤسسة المصرية العامة، ٢٣١.
[١٣] . ينظر : أسس علم الجمال الماركسي اللينيني، مجموعة من الباحثين، ترجمة جلال الماشطة، دار الفارابي، بيروت،١٩٨١م، ٧.
[١٤] . علم النص، جوليا كريسطيفا، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط١/ ١٩٩١م، ٣٥.
[١٥] . شرح نهج البلاغة، البحراني، ١٧٦.
[١٦] . ينظر : مبادئ النقد الأدبي، ريتشاردز، ٢٤٨.
[١٧] . شرح نهج البلاغة، البحراني، ١/ ١٧٧.
[١٨] . ينظر : معنى الجمال، ستيس، ٢٢٦.
[١٩] . ينظر : مبادئ علم الجمال، شارل لالو، ١٠٥.
[٢٠] . ينظر : من قضايا التلقي والتأويل، مجموعة من الباحثين، منشورات كلية الآداب، الرباط،ط١/ ١٩٩٥م، ٤١.
[٢١] . ينظر : البنية الدلالية، أ . ج . كريماص، ترجمة أحمد الفوجي، مجلة علامات في النقد، عدد١٣، سنة ٢٠٠٠م، ٤٣.
[٢٢] . ينظر : فلسفة الفن في الفكر المعاصر، د. زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، القاهرة، ١٩٦٦م، ١٠٤.
[٢٣] . معنى الجمال، ستيس، ٥٢.
[٢٤] . ينظر : مقدمة في الدراسات الجمالية، د. محمد علي أبو ريان ،٢٧ .
[٢٥] . ينظر : مبادئ علم الجمال، لالو،٦٨.
[٢٦] . ينظر : تمهيد في النقد الحديث، روز غريب، دار المكشوف، بيروت، ط١/ ١٩٧١م، ١٠٥-١٠٦.
[٢٧] . الفن والأدب،(بحث في الجماليات والأنواع الأدبية)، ميشال عاصي،دار الأندلس، بيروت، لبنان، ط ١/ ١٩٦٣م، ٣٩.
[٢٨] . شرح نهج البلاغة، البحراني،١/ ١٧٩-١٨٠.
[٢٩] . ينظر : المصدر نفسه، ١/ ١٨٠.
[٣٠] . ينظر: معنى الجمال، ستيس، ٤٠.
[٣١] . ينظر: السرد والوصف، جيرار جُنيت، ترجمة د. مهند يونس، الثقافة الأجنبية، عدد ٢، سنة ١٩٩٢م، ٥٤.
[٣٢] . ينظر: شرح نهج البلاغة، البحراني،١/ ١٨٠.
[٣٣] . ينظر: الفن والأدب، ميشال عاصي، ٨٣.
[٣٤] . ينظر : السرد والوصف، جيرار جُنيت، الثقافة الأجنبية، ٥٥.
[٣٥] . ينظر : النقد الفني (دراسة جمالية وفلسفية)، جيروم ستولنيتز، ترجمة د. فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط٢/١٩٨١م، ٤١٦.
[٣٦] . ينظر : الجمالية،موسوعة المصطلح النقدي، ر. ف. جونسون، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة،دار الحرية،بغداد، ١٩٧٨م، ٧٠.
قائمة المصادر والمراجع
الإحساس بالجمال- تخطيط لنظرية في علم الجمال-، جورج سانتيانا، ترجمة محمد مصطفى بدوي، الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت، د.ط
أسس علم الجمال الماركسي اللينيني، مجموعة من الباحثين، ترجمة جلال الماشطة، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨١م
تمهيد في النقد الحديث، روز غريب، دار المكشوف، بيروت، ط١/ ١٩٧١م
شرح نهج البلاغة، كمال الدين بن علي بن ميثم البحراني، دار الرافدين، بيروت، ط١/٢٠٠٩م
علم النص، جوليا كريسطيفا، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط١/١٩٩١م
فلسفة الفن في الفكر المعاصر، د. زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، القاهرة، ١٩٦٦م
الفن والأدب (بحث في الجماليات والأنواع الأدبية)، ميشال عاصي، دار الأندلس، بيروت، ط١/ ١٩٦٣م
في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، وثق أصوله وحققه وعلق عليه سامي الغريري، دار الكتاب الإسلامي، ط١/٢٠٠٥م
مبادئ علم الجمال، شارل لالو، ترجمة مصطفى ماهر، دار إحياء الكتب العربية، ١٩٥٩م
مبادئ النقد الأدبي، إ.ا. ريتشاردز، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة د. لويس عوض، المؤسسة المصرية العامة، د.ط، د.ت
معنى الجمال ( نظرية في الأستطيقا)، ولترت، ستيس، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٠م
مقدمة في الدراسات الجمالية، محمد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، بيروت، ١٩٧٩م
من قضايا التلقي والتأويل، مجموعة من الباحثين، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط١/١٩٩٥م
موسوعة المصطلح النقدي –الجمالية-، ر. ف. جونسون، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، دار الحرية، بغداد، ١٩٧٨م
النظريات الجمالية – كانت – هيغل – شوبنهاور، إ.نوكس، عرّبه وقدم له د. شفيق شيّا، منشورات بحسون الثقافية، بيروت، ط١/ ١٩٨٥م
النقد الفني (دراسة جمالية وفلسفية)، جيروم ستولنيتز، ترجمة د. فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط٢/ ١٩٨١م
الدوريات:
الثقافة الأجنبية، العدد ٢، السنة ٢، ١٩٩٢م
علامات في النقد، العدد١٣، ٢٠٠٠م.