الدكتور: أحمد بن بالقاسم جعفري
أستاذ محاضر (أ) ورئيس قسم اللغة العربية
الجامعة الإفريقية ولاية أدرار /الجزائر
ملخص المداخلة :
يعتبر كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام من أجلّ وأهم الكتب التي جمعت عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة ،وجواهر العربية و وثواقب الكلم الدينية والدنيوية لأنه وبباسطة - كما وصفه جامعه الشريف أبو الحسن محمد الرضي - جاء حاملا بين طياته خطبا وكتبا ومواعظ وأدبا جما ما لم يتح في غيره ولم يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب حتى غدا في ذلك سراجا للفكر البشري في مضمونه ،وسحرا للبيان والفصاحة في أسلوبه .
ومن هنا جاء تفكيرنا في مشاركة إخوتنا القائمين على هذا الملتقى النير لنصب الجهد إلى الجهود في محاولة من الجميع للوقوف عند أهم نقاط الفرادة اللغوية والأسلوبية في هذا الكتاب النّهج وهذا من خلال وقوفنا على جانب الصورة الفنية المستعملة في إيصال فكرة الكتاب من أقرب الطرق المستعملة، وبأبسط الوسائل اللغوية الممكنة.
فما المقصود بالصورة الفنية أولا ؟ وما هي أهميتها في إيصال المعنى وتقريبه؟
ما هي أهم موضوعات الصورة عند الإمام ؟ وما هي أهم أشكالها البلاغية المستعملة ؟أسئلة قليلة من كثيرة نرغب في إثارتها على أمل الوصول إلى إجابات كافية ،وتوصيات شافية لما من شأنه أن يسهم في تفعيل حركية البحث اللغوي في كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام والإفادة قدر الإمكان من معينه العذب الزلال .والله من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل .
نص المداخلة :
١ - تعريف الصورة :
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين وعلى آله الأخيار الطاهرين وبعد :فإن حديثنا عن الصورة الفنية بداية نريده من تعريف الصورة عند اللغويين والبلغاء لنقف أولا على مدى ارتباط كل ذلك بمعناه الاصطلاحي الذي نتتبعه في هذا المجال . وفي ذلك يقول ابن منظور في كتابه لسان العرب في باب الراء : " المصور في أسماء الله – هو الذي صور جميع الموجودات ورتبها فأعطى كل شيء منها صورة خاصة وهيئة مفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها. والصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته وعلى معنى صفته, يقال صفة الفعل كذا وكذا أي هيئته وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته والتصاوير التماثيل" .
هذا هو تعريف الصورة لغة أما في الاصطلاح فهي" ابنة للخيال الشعري الممتاز وهي في أكثر حالاتها مظهر خارجي محدود ومحسوس جيء به في الشعر ليعبر عن عالم من الدوافع والانفعالات لا يُحَدُّ ولا يحس وهي واسطة الشعر التي تحقق له لغته المتميزة فلغة الشعر مختلفة عن لغة الفلسفة والمنطق ولغة النثر أيضا".
ويعرفها الدكتور منير سلطان بأنها :"اللقطة التي تسجل وضعا معينا لشيء سواء أكان كائنا حيا أم ظواهر طبيعية"" .
وإذا انتقلنا إلى القرآن الكريم للبحث عن مدلول اللفظ وجدنا النص القرآني يوظف اللفظ في صيغ اشتقاقية مختلفة ،حيث نجد التعبير أحيانا بصورة الجمع الفعل الماضي "صور" المقرون بصيغة الجمع "صوركم" كما في قوله تعالى : " اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" ،كما نجد التعبير عن المعنى أحيانا بصيغة المفرد كما في قوله عز وجل :"فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" .
وقد يخرج اللفظ من صيغة الفعل إلى صيغة اسم الفاعل كما في قوله تعالى: "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وفي العموم فإن جميع هذه الأشكال التعبيرية وغيرها للفظ "صور" لم تخرج عن الدلالة العامة لأصل اللفظ والتي تصب في معظمها في معنى جامع هوالخلق، و التشكيل، والتركيب وما دار في فلكهم.
٢ – موضوعات الصورة الفنية:
يقول الجاحظ " إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ..." ومن هنا ندرك طبيعة المواد وأهميتها لأن نظرة الناس إلى المادة أو اللفظة الواحدة يختلف من إنسان إلى آخر " لكنها عند الشاعر والفنان بشكل عام ذات دلالة خاصة تتعدى إشارتها المعجمية إلى كونها موضوعا له وظيفة إنسانية يشترك فيها بنو البشر في الإحساس والفعل بصفة غالبة لك لأن الشاعر ينظر إلى الكون نظرة عامة فيها الوحدة والاشتراك ".
ومن هنا كانت المادة تعبيرا وترجمانا لإحساس ينتاب المبدع في لحظة معينة.
ولعل المتأمل بداية لهذه المدونة العلوية الشاملة والتي جاءت حاملة بين طياتها لكثير من الخطب والكتب والمواعظ والأدب والتي استطاعت أن تجمع بحق بين عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة ،وجواهر العربية و وثواقب الكلم الدينية والدنيوية لأنه وبباسطة - كما وصفها جامعها الشريف أبو الحسن محمد الرضي - يستوقفه أولا تلك الصور المتنوعة في موادها وأنواعها ،فهي تعرج من حيث اللفظ بين شتى مناحي الحياة اليومية للإنسان من حيوان وجماد ونبات ،كما تجمع من حيث الأشكال التعبيرية بين جميع الأنواع البلاغية المعروفة من تشبيه واستعارة وكناية .
ومعلوم إنه ليس بالإمكان الوقوف ولو تمثيلا عند كل مواد وأنواع صوره عليه السلام في هذه المدونة الضخمة بالنظر إلى كثرة المادة من جهة وبالنظر إلى عامل الوقت من جهة أخرى ، ومن هنا آثرنا أن نقف في هذا الموضوع عند بعض العينات المختارة من كلامه عليه السلام لتكون نموذجا لما من شأنه أن يشكل حكما أوليا في الموضوع.
أولا : مواد الصورة في كتاب نهج البلاغة :
٠١/ الحيوان:
لقد وظف الإمام في مدونته أزيد من ستين مادة من مواد الحيوان وبجميع الأشكال التعبيرية جمعا وإفرادا وتثنية ومن جملة المواد الحيوانية الواردة في هذه المدونة العجيبة نجد: الإبل ،والأنعام ، والغنم، ، والبعير، والجمل ، والخيل، والناقة،والثور .
كما نجد أيضا : الأسد، والفيل ،والحمار، والذئب، والكلب، ومن الطيور نجد: الطير مطلقا كما نجد الحمام،والنعام،والخفاش،والديك،والحيتان والغراب،ومن الحشرات نجد البعوض،والنمل ، والنحل ، والجراد وسنكتفي هنا تمثيلا بمثالين تماشيا مع ما يسمح به الوقت .
ا)الإبل :
لقد ورد لفظ "الإبل" في مدونة الإمام علي عليه السلام أكثر من تسع مرات واللفظ في عمومه هو لمعنى طول الصبر وكلفة المشقة من جهة وللانقياد وحسن أو سوء الرعاية من جهة حيث يقول مثلا في خطبته عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج وفيها نٌصح لهم كما قال محقق الكتاب :"مَا أَنْتُمْ لي بِثِقَة سَجِيسَ اللَّيَالي، وَمَا أَنْتُمْ بِرُكْن يُمَالُ بِكُمْ، وَلاَ زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ".
ونرى الإمام علي عليه السلام في موطن آخر يوظف اللفظ في لمعنى شدة الصبر وطول التحمل وهي مضرب المثل في ذلك حيث قال(عليه السلام): " أُوصِيكُمْ بِخَمْس لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الاْبِلِ لَكَانَتْ لِذلِكَ أَهْلاً: لاَ يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ، وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: لاَ أَعْلَمُ، وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعَلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ."
ومن كلام له عليه السلام وفيه يصف أصحابه يوم تزاحموا عليه ليبايعوه رغبةً فيه. نجد الإمام عليه السلام يستحضر في هذه الصورة تحديدا وحالهم كذلك صورة الإبل العطاش يوم يفك عقالها ويرسلها راعيها يوم شربها حيث يقول : " "فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا ، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا"..وتأكيدا للموقف نجد الإمام يكرر الصورة بتفاصيلها الدقيقة في مشهد آخر حيث يقول : "وَبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، " .
وتبقى صورة الإبل العطاش يوم وردها حاضرة مرة أخرى عند الإمام عليه السلام في وصفه لبعض أيام صفين لكن بتوظيف عكسي هذه المرة حيث يضعنا أمام صورة هذه الإبل هذه المرة وهي مَطْرُودَةِ، عَنْ حِيَاضِهَا، ممنوعة عَنْ مَوَارِدِهَا وقد رجعت يركب بعضها بعضا حيث يقول : " تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ، وَتُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ; حَسّاً بالنِّصَالِ، وَشَجْراً بِالرِّمَاحِ، تَرْكَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالاِْبِلِ الْهِيم الْمَطْرُودَةِ، تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا، وَتُذَاد عَنْ مَوَارِدِهَا".
وليست الإبل رمزا للتدافع والتسابق بل هي أيضا علامة للسفر وشد الرحال حيث يقول عليه السلام في ذلك مبينا أهمية قوله ووصيته لقوم :" أُوصِيكُمْ بِخَمْس لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الاْبِلِ لَكَانَتْ لِذلِكَ أَهْلاً ".
ب) الجرادة :
لقد جاء حديث الإمام عليه السلام خاصا عن هذا الحيوان في حديثه عن صفة خلق من أصناف الحيوانات حيث يقول: " وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي (يَسْــجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض طَــوْعاً وَكَــرْها) " وهي صفات جميعها جعلت من هذا الحيوان الصغير حجما العظيم عبرة محل استشهاد وإعجاب من الإمام عليه السلام وهي في ذلك نموذج تمثيلي فقط لبقية خلقه عز وجل فَهذَا غُرابٌ وَهذَا عُقَابٌ، وَهذَا حَمَامٌ وَهذَا نَعَامٌ، كل دَعَاه الله كُلَّ بَاسْمِهِ، وَكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ. كما قال عليه السلام. وقد نجد الإمام أيضا يخصص خطبة بعينها للحديث عن بعض من عجيب خلقة الطيور عامة والطاووس خاصة.
٠٢/ النبات :
لقد تكررت المواد النباتية في كتاب نهج البلاغة لسيدنا الإمام علي عليه السلام في أزيد من عشرين موضعا من الكتاب حيث نجد الإمام يوظف في صوره جملة من ألألفاظ النباتية المختلفة من مثل بعض أنواع الأزهار ، وكذا النخل بمشتقاته المختلفة من تمر وليف وفسيلة .
وكذا الشعير والكلأ والعشب والعلقم والريحان والبذروالحديث يطول بالتمثيل لكل هذه الصور.
٠٣/ الطبيعة :
لقد تعددت ألفاظ الطبيعة وتنوعت موضوعاتها في أسلوب الإمام علي عليه السلام فنحن نراه في هذه المدونة يتحدث عن أدق ما خلق الله في الطبيعة حيث نراه يوظف مصطلحات المعادن بشتى أصنافها وأنواعها من ذهب وفضة وعسجد وزبرجد ولؤلؤ وكحل ومرجان وياقوت وعقيان ودر وما إلى ذلك كما نجد عنه أيضا من ألفاظ الطبيعة الكثير والكثير فهو يوظف عديد أسماء الكواكب والأفلاك من مثل الشمس القمر والفلك والفضاء والنجم والنجم السيار والشهب الثواقب والأطباق والليل والنهار وما إلى ذلك .فهو يوظف كل لفظ لمعناه ومبناه الخاص قد نجد عنده جملة من هذه الألفاظ مرصوصة للتدليل على معناه كما في حديثه عليه السلام : " وَكَذلِكَ السَّماءُ وَالْهَوَاءُ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ. فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ،وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ... " وهي كلها في مبانيها وفي معانيها تدل دلالة واضحة على عجيب صنعة الخالق عز وجل ومن ثم :" فَالوَيْلُ لِمَنْ جَحَدَ الْمُقَدِّرَ، وَأَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ! " .
ثانيا : الأنواع البلاغية للصورة في كتاب نهج البلاغة :
إن الأشكال البلاغية للصورة الفنية عديدة ومتنوعة ونحن في هذا المقام لا يمكننا التعرض لها كلها ولذلك اقتصرنا على بعضها وأهمها لأن الغرض ليس هو إحصاء جميع الشواهد الموجودة في المدونة بل هو تحليل هذه الشواهد والتعرف على موضوعاتها لمحاولة فهم طبيعة تلك الصور ومن ثم تذوقها والوقوف عند جمالياتها ولعل أهم ركيزة ودعامة في مكونات الصورة هي في جانب البيان بأشكاله المعروفة من تشبيه واستعارة وكناية وفيها جميعا أهم نقاط الفرادة اللغوية والأسلوبية في هذا الكتاب النّهج الذي كان ولا يزال نهجا ونبراسا للبلاغة والبلاغيين ويكفي كما قال النقاد ((أن يطلق الشريف الرضي على هذه العينة من مختارات الإمام عليه السلام اسم ( نهج البلاغة ) أي النموذج أو المعايير أو القواعد أو الطرائق التي تجسد ما هو ( فني ) أو ( بلاغي) من التعبير.وإليك أيضا نماذج مختارة من صور الإمام في الجانب البياني " .
٠١/ التشبيه :
يعرف التشبيه على أنه "الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى " .
كما عرف أيضا بأنه "علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لإتحادهما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال" وهو أداة مهمة في إيصال المعنى وتقريب الصورة إلى الأذهان أحيانا .ولذلك فإن المتأمل لخطابه عليه السلام في هذه المدونة يجده قد وظف جميع أنماط التشبيه المعروفة تقريبا وبحسب ما يقتضيه كل مقال .فنحن نجده في حثه على الصبروالثبات يقرن ذلك بتبيين منزلته من الإيمان التي لا تختلف في شيئ عن منزلة الرأس من الجسد فكلاهما مرتبط بالآخر ولا وجود لأحدهما إلا بوجود الآخر وفي ذلك يقول عليه السلام: "وَبِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإيمان كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ فِي جَسَد لاَ رأْسَ مَعَهُ، وَلاَ في إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ" .
وفي حديثه عن وجوب التعلق بالله رجاء ثوابه وخوفا من عقابه رؤية خاصة مع الإمام يرى بأنها لا تقدر بأي ثمن ولا بأي مطلب دعاء كان ذلك أم صدقة حيث يقول في كل ذلك مشبها ومستعيرا لكل مشهد ما يماثله : " فَوَاللهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ، وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ، وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ، وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأموال والأولاد، الْتمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ، أو غُفْرَانِ سِيِّئَة أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ، وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ، لَكَانَ قَلِيلاً فَيَما أَرْجُو لَكُم مِنْ ثَوَابِهِ، وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ " .
فهو هنا يصور الداعي إلى الله في صورته تلك بصورة الناقة التي فقدت ولدها فضاع عقلها من جراء ذلك ، ويصور لنا أيضا صورة الداعي المبتهل إلى الله بصورة الحمام في صوته وبكائه .
وفي المقابل يصور لنا أيضا صورة الداعي المتعلق الذي بلغ درجة الرهبان المنقطع للعبادة في رفع صوته ومخاطبته لله .
وهي صور تمثيلية جاءت من الإمام عليه السلام لتبين أهمية المطلوب عند الله فيما يرجوه لنا من ثواب ، أو يخافه علينا من عقاب .
ومن أمثلة صور التشبيه عند الإمام عليه السلام هذه الصورة الرائعة التي اختصرت المسافة بين الدنيا والآخرة وبينت العلاقة بينهما وكذا حدود طالب كل منهما حيث يقول : " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَ نَتْ بِوَدَاع، وَإِنَّ الآخرة قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَع ،أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنَّةُ ، وَالغَايَةُ النَّارُ;...أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ،أَلا َوَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ " .
وهي الصورة نفسها التي استوقفت الشريف الرضي وعلق عليها قائلا : "ومن أعجبه قوله عليه السلام " أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنَّةُ ، وَالغَايَةُ النَّارُ; " فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبيه ـ سرّاً عجيباً، ومعنى لطيفاً، وهو قوله (عليه السلام): «والسَبَقَة الجَنّة، وَالغَايَة النّار»، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، ولم يقل: «والسّبَقَة النّار» كما قال: «والسّبَقَة الجَنّة»، لان الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب، وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجوداً في النار، نعوذ بالله منها! فلم يجز أن يقول: «والسّبَقَة النّار»، بل قال: «والغَايَة النّار»، لان الغاية قد ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء إليها ومن يسرّه ذلك، فصَلح أن يعبّر بها عن الامرين معاً" .
وفي معرض حديثه عليه السلام عن الدنيا التي ولت سريعة ، ولم يبقى فيها إلا أقل القليل بعد مبعث آخر الأنبياء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يشبه ذلك بإناء شرب شُرب منه وما بقي فيه غير بقية قليللة جدا حيث يقول : "أَلاَ وَإنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الاْنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَ" وهو تحذير منه عليه السلام من إتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا.
وفي خطبته التي يستنفر فيها الناس إلى الشام يشبه تراجع الناس وموقفهم منه في إقبالهم وإدبارهم بالإبل التي ضل رعاتها حيث أنها لا يمكن أن تجتمع من مكان واحد حيث يقول : " مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ، لَبِئْسَ ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! ".
وفي حديثه عن خطورة الحسد والغضب نجده يشبه الحسد بالنار أولا في سرعة انتشارها في الحطب وسرعة فاعليتها في القضاء على وقودها .كما يشبه الغضب بالحالقة الماحية لكلّ خير وبركة حيث يقول : "لاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الإيمان كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ ".
وإذا كان عنصر التشبيه هو " مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة وأن تعقيب المعاني به لا سيما قسم التمثيل منه يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها " .
فإن المتأمل لهذه النماذج التمثيلية المختارة يجد بأن عنصر التشبيه في عموم كلام الإمام لم يكن مقصودا لذاته ، لكنه جاء منه في مواطنه المطلوبة وبحسب ما يقتضيه كل مقام من مقامات الفصاحة والبلاغة في تقريب الفكرة وإيصالها من أقرب الطرق الممكنة.
٠٢/الاستعارة:
عرف البلاغيون الاستعارة بأنها :" استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي.": وإن شئت قلت إنها ضرب من ضروب المجاز علاقته المشابهة.
ولقد شكلت الاستعارة عنصرا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه في كلام الإمام عليه السلام لأن الكلام كما قيل :"متى خلا من الاستعارة وجرى كله على الحقيقة كان بعيدا من الفصاحة بريا من البلاغة".
ومن هنا كان من غير الممكن الحديث عن مجمل أنواع هذا الشكل البلاغي في كتاب عد نهجا للبلاغة لكن ذلك لا يمنعنا من الوقوف عند بعض جماليات هذا اللون البياني في إطار استكمالنا لمعالم صورته الفنية.
ومن أمثلة ذلك ما ضمنه معناه في حديثه عن حال الناس قبل البعثة حيث حول المحسوس ملموسا حين جعل للدين حبلا مشدودا ومقطوعا ، ولليقين ركائز مرصوصة وللإيمان دعائم ومعالم وسبل معلومة حيث يقول : "...وَالنَّاسُ في فِتَن أنجذم فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، "إلى أن يقول "عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الإيمان، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ".
وفي صورة أخرى من أنماط الاستعارة نرى الإمام عليه السلام هذه المرة مثلا يصور لنا امتزاج الباطل بالحق والحق بالباطل عند المرتادين من طالبي الحقيقة وعند المعاندين على حد سواء وهي البداية كما قال عليه السلام لابتداع الأحكام ووُقُوعِ الْفِتَنِ ومُخَالَفُة كِتابُ اللهِ حيث يقول في كل ذلك :"فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ البَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ! فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى " .
وفي هذه الصورة تشبيه للباطل والحق بالكائن المادي الذي يخلص من غيره وأكنى المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه وهذا على سبيل الاستعارة المكنية .
ومن النوع الثاني من الاستعارة نجد الإمام عليه السلام في وصفه لأهل الضلال يشبه الدنيا الفانية بالعاجلة الآجنة المتغيرة في لونها وطعمها ، كما في وصف القرآن.
ويشبه الآخرة بالآجلة الصافية حيث يقول :"...آثَرُوا عَاجِلاً، وَأَخَّرُوا آجِلاً، وَتَرَكُوا صَافِياً، وَشَرِبُوا آجِناً "وفي هذه الصورة أخفى الإمام عليه السلام "المشبه" الذي هو في لفظي "الدنيا والآخرة" وصرح ب"المشبه به "وهو في لفظي "آجلا وآجنا" وهذا على سبيل الاستعارة التصريحية.
وهكذا نجد أن الإمام عليه السلام قد اتخذ من هذا الشكل من أشكال صوره المعروضة وسيلة أساسية في تبليغ رسائله والإبانة عنها بأقل التكاليف اللغوية والأسلوبية الممكنة لأن الغرض من الاستعارة كما قيل هي :" إما أن يكون شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه والإرشاد إليه بالقليل من اللفظ أو تحسين المعرض الذي تبرز فيه " .
٠٣/ الكناية :
الكناية في تعريف البلاغيين هي : " لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه ".
أو هي :" لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع قرينة لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي " .
وهذا الشكل من أشكال الصورة في نظر البعض : "غاية لا يصل إليها إلا من لطُف طبعه وصفت قريحته والسر في بلاغتها أنها في صور كثيرة تعطي الحقيقة مصحوبة بدليلها والقضية وفي طيها برهانها".
وبالرجوع إلى مدونة الإمام عليه السلام نجد أن الكتاب يعج بكثير من المعاني المكنية التي جاءت منه تلميحا لا تصريحا " لأن الصفة إذا لم تأتك مصرحا بذكرها مكشوفا عن وجهها ، ولكن مدلولا بغيرها ، كان ذلك أفخم لشأنها ، وألطف لمكانها ".
ومن أمثلة صور الكناية عند الإمام قوله (عليه السلام) في مطلع وصية من وصاياه المتعددة : " أُوصِيكُمْ بِخَمْس لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الإبل لَكَانَتْ لِذلِكَ أَهْلا "والآباط كما هو معلوم : جمع إبْط، و قد كنى بضَرْب الاباط: عن شدّ الرِّحال وحثّ المسير مبالغة منه في تبين أهمية المطلوب .ونراه في موقف آخر يعبر عن صورة يصف فيها حالة بعض أصحابه الذين اعتنوا بجمع المال وتطويل البنيان ويكني عن كل ذلك بعلو وشموخ رؤوس الفضة حيث يقول (عليه السلام): " أَطْلَعَتِ الْوَرِقُ رُؤُوسَهَا! ".
وحين أراد الإمام عليه السلام تبيين معنى القرابة بين الشخصين عبر عن مفهوم ذلك بلفظ الرحم الجامع للمعنى كما ورد في الأثر حيث يقول في تبيين أهمية الكرم والكرماء في علاقتهم مع الآخر: "الْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِمِ".
والرّحِم ـ هنا ـ: كناية عن القرابة، والمراد من ذلك كله أن الكريم ينعطف للاحسان بكرمه أكثر مما ينعطف القريب بقرابته.
كما نجده إلى هذا عليه السلام يكني عن موصوف بعينه كما في قوله :" رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، فَإِنَّ الشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ الشَّرُّ".
فهو يكني عن الشر بالحجر.
ويوصي بمقابلة الشر بالدفع على فاعله ليرتدع عنه.
إذا كان لا يجدي غير ذلك. كما نجده يكني عن الصفة أيضا كما في حديثه عليه السلام في ذم أتباع الشيطان حيث يقول : " اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لاِمْرِهِمْ مِلاَكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ في حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ".
ففي قوله "باض وفرخ " وكذا قوله "دب ودرج" كناية عن صفة الطول.
ومن كناياته عن الصفات أيضا قوله في وصف الطيش وقلة العقل " وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ ، سُفَهَاءُ الأحلام " وقوله أخفاء الرأس كناية عن طيشها .
وفي وصفه عليه السلام لأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف تغير وضعهم بمبعثه نراه يعبر عن سعة رزقهم كناية باستدارة الرحى .
لأن الرّحَى إنما تدور على ما تطحنه من الحَبّ.
وفي وصفه عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم نجده يوظف الكثير من الكنايات بحثا عن المعنى المطلوب كما في قوله كناية عن زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا :" خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ، وَوَرَدَ الآخرة سَلِيماً.".
فالخميص لغة هو الخالي البطن .
ويقول أيضا كناية عن شدة تعلقنا به واتباعنا له : "فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَه ".
وليست الصورة الفنية حكرا في شكلها البلاغي على عنصر البيان أو علم البيان فحسب بل هناك عناصر أخرى تدخل في تشكيلها وتركيبها وإن كانت متفاوتة في أهميتها بمقارنتها مع الجانب البياني وهو ما يعرف عند البلاغيين بعلم المعاني وعلم البديع.
وفي النوع الأول وهو علم المعاني فإن أهم ما يلاحظ على أسلوب الإمام عليه السلام أنه زاوج بين الأسلوبين الخبري والإنشائي وإن كان الأسلوب الخبري هو الأسلوب الغالب وهذا بالنظر إلى طبيعة الكتاب الذي جاء في معظمه تقريرا وسردا لتجارب مختلفة عايشها الإمام فصاغها في شكل خطب وأوامر وكتب ورسائل وحكم ومواعظ.
ولهذا السبب أيضا رأينا الإمام يستعين بمجموعة من الأساليب الإنشائية الداعمة لحكمه والموصلة لفكرته والمعبرة لأغراضه من مثل الاستفهام ال\ي هو لغرض التعجب كما في قوله : "بِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ ، وَتَسَنَّمْتُمُ العلْيَاءَ.....كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ؟" .
والأمر نفسه يتكرر معه حين يتعرض لقضية اختلاف العلماء في الفتيا وفيه يذم أهل الرأي ويقف متعجبا في أسلوب استفهامي حيث يقول :".فَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِالاخْتلاَفِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضِى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ(صلى الله عليه وآله) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟ ".
وقد يكون منه الإستفهام لغرض النفي كما في خطبته التي عدد فيها فضل الجهاد، واستنهض الناس، وبين لنا عليه السلام علمه بالحربحين قال : "وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ. للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟!".
والحديث قد يطول بعد تلك النماذج الأسلوبية المختلفة الأشكال والمتعددة الأغراض ،والتي جاءت لتؤكد وبما لايدع مجالا للشك قوة لغته عليه السلام ومقدرته على تطويع اللغة والسير بها في كل الدروب.
وما يقال عن لوني البيان والمعاني في صور الإمام عليه السلام يقال أيضا عن عنصر البديع الذي كان منه لتقوية المعنى ، وإيضاح الفكرة أساسا ،وقد استعان في ذلك بكل ألوان البديع المعروفة من طباق و مقابلة وجناس وسجع وما إلى ذالك والمقام قد يطول بتمثيل كل لون من ذلك ولذلك سنكتفي بعرض نموذجين من هذا الباب تمثيلا لا حصرا .
حيث يقول في المثال الأول :" أَلا َوَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لا َيَنْفَعُهُ الحقُّ يَضْرُرهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يستقم بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ،" ففي هذا المقطع على قصره عديد الألوان البديعية المتقاطعة فهي تجمع بين مقابلتين وطباق :(لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا)( مَنْ لا َيَنْفَعُهُ الحقُّ يَضْرُرهُ البَاطِلُ) مقابلة(الهُدَى والضَّلاَلُ) طباق.
ثم تأمل معي هذا المقطع الثاني الذي كان منه عليه السلام في عرضه لجملة من صفات الربوبية والعلم الإلهي .
حيث يقول :"الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأمور، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلاَمُ الظُّهُورِ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ; فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ، سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَلاَ اسْتِعْلاَؤُهُ بِاعَدَهُ عَنْ شَيْء مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ في المَكَانِ بِهِ، لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقولُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلوّاً كَبِيراً!".
وهو وصف منه كما نرى يعج بألوان البديع التي جاءت في محلها وأصبغت على معناه عليه السلام حضورا حسيا لمجمل الصور التقابلية المطلوبة في كل معنى .
وفي الأخير وبعدما وقفنا على هذه العينة القليلة من صور الإمام عليه السلام في مدونته الجامعة حق لكل من وقف عليها أن يسجل فرادة الرجل في أسلوبه ، وفي فصاحته ، وأن يتلمس بلاغته في حكمه و مواعظه وهي في مجملها قطاف تجارب كثيرة ومتنوعة عايشها الإمام وتربى عليها في حجر الرسالة المحمدية.فجاء كتابه كما وصفه جامعه الشريف أبو الحسن محمد الرضي - حاملا بين طياته خطبا وكتبا ومواعظ وأدبا جما ما لم يتح في غيره ولم يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب حتى غدا في ذلك سراجا للفكر البشري في مضمونه ،وسحرا للبيان والفصاحة في أسلوبه حتى غدا في ذلك كما وُسم نهجا للبلاغة والبلاغيين.