وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
دلالات جموع التكسير في نهج البلاغة – الأول

الاستاذ المساعد الدكتور : فيصل مفتن اللامي

المدرس المساعد: عباس إسماعيل سيلان

(جامعة ميسان - كليــــــة التربية الأساسية)

المقــدمــة

الحمد لله الذي جعل في العلم هداية للراغبين ، ورسم بالعلم سبيل المسترشدين ، وصلى الله على النبي المصطفى وآله العترة الوثقى.

وبعد

اللغة العربية لغة الفنون والعلوم

هي شيخ اللغات ؛ أطولهنّ عُمُراً وأفضلهنَّ مكانة ، وكلّ فنٍّ فيها لا ينقضي عجائبه ، ويكفي شاهداً على ذلك أنْ يقرأ في نهج البلاغة ؛ فسينجم للقارئ أو للسامع منابع البلاغة وجماليتها . وممّا يظهر في نهج البلاغة الاستعمال الدقيق لجموع التكسير، فهي كثيرة الاستعمال ، متنوعة الأنماط ، جميلة الدلالات  ومثل هذه الجموع درست في الكتب الصرفية وغيرها ، وقد أطنب فيها لكن ليس في الناحية الدلالية ، وإنّما في حصر أوزان كل جمع ؛ لذا كان هذا البحث محاولة لاستجلاء دلالات تلك الجموع من ذلك الكتاب العظيم ، فكان العنوان ( دلالات جموع التكسير في نهج البلاغة ) ، وقُسِّم البحث على تمهيد ومبحثين .

تناول التمهيد التعريف بالعنوان ، أي بجمع التكسير ، فكشف عن معناه ونوعيه وأهميته في العربية وأهمية دراسته في النهج .

وكان المبحث الأول يخصّ الدلالات العامة لجموع التكسير في نهج البلاغة من قلة وكثرة ومبالغة في الكثرة ، وفي هذا المبحث تطرق لجمع الجمع الذي كثيراً ما كان يأتي لإفادة المبالغة في الكثرة ، وختم ببيان اثر القرائن لتوجيه تلك الدلالات .

أما المبحث الثاني فتناول الدلالات الخاصة ، وحاول البحث تقصيها من إشارات العلماء واستنباط ما يمكن استنباطه منها .

وختم البحث بخاتمة يسيرة بينت أهم ما توصل إليه البحث من نتائج .

وختاماً يتقدم الباحثان بالشكر الجزيل لجامعة الكوفة الساعية لبث نور هذا السفر العظيم الذي عُدّ  الأخ الأصغر للقران الكريم [١] على رأي غير العرب ، فمبارك لها جهودها في ترجمة بصيص الأمل المتوقع لنشر تراث هذا السفر العريق في أرجاء عالم المعرفة  . 

ويأمل الباحثان أن يكون هذا العمل مقبولاً في سبيل خدمة تراث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن يكون بوابة لدراسات قادمة في قابل الأيام بمشيئته تعالى . 

الباحثان

التمهيد  :

التعريف بجمع التكسير

معناه وأنواعه   

  جمع التكسير : (( هو الاسم الدال على أكثر من اثنين بصورة تغيير لصيغة واحده لفظاً أو تقديراً )) [٢] ، وذلك التغيير إمّا بزيادة كـ ( رجال) في (رَجُل)، أو بنقصان كـ ( أُزُر ) في ( إزَار ) ، أو في الهيئة كـ ( سُقُف) في ( سَقْف ) ، أو في التقدير كما في ( الفُلْك ) ؛ فإنّه جمع إنْ قُدِّر ضمة كضمة ( أُسْد ) ، ومفرد إن قُدِّر كضمة ( قُفْل ) [٣] .

ويقسم جمع التكسير على جمع قلة وجمع كثرة . وسمّى سيبويه الأول بأدنى العدد ، وبيّن أوزانه في قوله : (( واعلم أنّ لأدنى العدد أبنية هي مختصة به ، وهي له في الأصل ... ، فأبنية أدنى العدد ( أفْعُل ) ، نحو : ( أكلُب ) و( أكعُب ) ، و ( أفْعال ) ، نحو ( أجمال ) و ( أعْدال ) و( أحْمال ) و(أفْعِلة ) ، نحو ( أجربة ) - و( أنصبة ) و ( أغربة ) و( فِعْلة)، نحو ( غِلمة ) و( صِبْية )و( فِتْية ) و( إِخْوة ) و( وِلْدة ) ؛ فتلك أربعة أبنية ، فما خلا هذا فهو في الأصل للأكثر )) [٤] .

أي ما عدا تلك الأوزان الأربعة يكون للكثرة [٥] ، وقد أطلق على جمع الكثرة بأقصى العدد [٦] ، وحَدَّدَ العلماء جمع القلة بما دون العشرة ، والكثرة إلى ما لانهاية [٧].

ومع ذلك لا يمكن القول بحدية القلة بالقلة ، ولا تحديد ما قيل : إنّه للكثرة بالكثرة ؛ فقد يأتي الأمر على خلاف ذلك تأثراً بالسياق ، فضلاً عن أنّ بعض الجموع لا تأتي إلا على صيغة واحدة ؛ فكلمة ( يوم ) لا يجمع إلا على ( أيام ) وأيام على وزن ( أفعال ) المعدود من صيغ جمع القلة ، لكنه لا يمكن القول بأنّ هذا الجمع للقلة فقط ، و (( إنّما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة ، فإنْ لم يكن فلا ، كقوله : ﴿ أياماً معدودات  ﴾ ( البقرة / ١٨٤ ) ، فإنّ(أياماً ) ( أفعال ) مع أنّها ثلاثون ، لكن ليس لليوم جمع غيره )) [٨] .

وكما أنّ من الألفاظ ما لا يجمع إلا جمع قلة فكذا من الألفاظ ما لا يجمع إلا جمع كثرة كاللفظ ( جَمْع ) الذي يجمع على ( جموع ) سواء أكان للقلة أم للكثرة ؛  يقول السيوطي  : (( قول الألفية ( جموع الألفية ) قيل كان المناسب أن يعبر ببناء القلة ؛ لأنّ جموعاً هاهنا واقع على أربعة ألفاظ ؛ قال ابن هشام ... إنّ جمعاً لا جمع قلة له ؛ فصار التعبير بـ ( جموع ) كالتعبير بـ ( قلوب ) و ( رجال ) مع إرادة القلة )) [٩] ؛ وهذا الأمر مما يظهر جلياً ، فتجد طائفة من الألفاظ جمعت للقلة فقط ، ومنها لا على سبيل الحصر : ( أحكام) [١٠] ، و(أجساد ) [١١] ، و ( الألقاب ) [١٢] ، و ( آباء ) [١٣] ، و( أطعمة ) [١٤] ،و( أئمة ) [١٥] ، و ( أرجل ) [١٦] ...  ومثلما توجد ألفاظ جمعت للقلة فقط توجد ألفاظ أخرى جمعت للكثرة فقط  من مثل : ( نينان ) [١٧] ،  و( فُرسان ) [١٨] ، و( حقوق ) [١٩] ، و( رُسُل ) [٢٠] ... .

أهمية دراسة جموع التكسير في العربية قلّل بعض أهل العربية من قيمة جمع التكسير ، فمنهم من كان (( ينادي بحذف باب جمع التكسير من الصرف ؛ إذ لا يرى فيه فائدة لدرس الجملة غير أنّ الدرس الصرفي لجمع التكسير مهم جداً وبخاصة فيما نحتاجه الآن عند استعمالنا ألفاظا مولدة أو وافدة علينا ؛ فإننا في الحق نقيس جمعها على الجموع التي استقصاها القدماء )) [٢١]؛ فضلاً عن أنّ مجيء أكثر من جمع للفظ الواحد لا يخلو من زيادة فائدة ما ؛ لأنّ (( كل تصريف في الكلمة أو تغيير في حركتها ، فإنّما هو للدلالة على معنى جديد لم يكن فيما قبل)) [٢٢] ،  ومن العجيب القول بأنّ باب جمع التكسير لا يدخل في أهمية درس الجملة ، وقد كان من أولى بدايات النقد للشعر في العصر الجاهلي ؛ فقد عاب النابغة الذبياني على حسان قوله :

   لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعْنَ بالضّحى ***** وأسيافُنا من نَجْدةٍ يقْطرْنَ بالدِّما

إذ رأى أنه قلّل أجفانه وأسيافه ، ولو قال ( الجفان ) و( السيوف ) لَناسب المقام الذي هو الفخر بالقبيلة [٢٣] ، وهذا به حاجة إلى تكثير ما ذكر لا تقليله .

ولم يقف النقد الشعري بالاعتماد على دلالة جمع التكسير في هذا العصر فقد عيب على المتنبي قوله :

عذل العواذل حول قلب التائه ***** وهوى الأحبة منه في سودائه

فقد اخذ عليه أنّه استعمل جمع التكسير ( عواذل ) الذي هو للكثرة ومن يريد جذب نوال الملك  لا يرسمه بصورة الممقوت عند الأكثرية ، وهذا ما تأتّى من استعمال الجمع المذكور ولو انه قال بدله ( العاذلون ) أو افرده ( العاذل ) لَهَوَّن من الأمر ؛ لأنّه باستعماله الجمع المذكور كان كَمَنْ (( يعبر بذلك عما يكنّه في نفسه من عدم استحقاق ممدوحه لتلك المحبة المفرطة ، وذلك الإخلاص الذي يبدو وكأنه نادم على بذله ... فتكثير العواذل ... دالّ على عدم استحقاق ممدوحه لمحبته إياه لدى هؤلاء اللائمين ، وهم كل الناس وكفى بذلك ذماً له)) [٢٤] .

وجملة الأمر أنّ احد مرتكزات نقد الشعر هو وضع  كل جمع في مكانه المناسب له ، وإلا كان عيباً ينتقد به صاحبه ، فأهمية جموع التكسير بالنسبة للعربية أمر لا يمكن صرف النظر عنه .

 فضلاً عن ذلك فجمع التكسير من سبل تغني اللغة العربية بفضلها ، إذ هو سمة بارزةٌ فيها ؛ فـ (( قد امتازت اللغة العربية شأنها شأن أخواتها اليعربيات عن معظم لغات العالم بنظامها الدقيق وقواعدها المفصّلة للتمييز بين فكرة الجمع والإفراد تمييزاً واضحا قريب المأخذ ، فتكاد تكون اللغة الوحيدة التي وجدت فيها مراحل التمييز الدقيقة التدرج بين فكرة الإفراد والجمع ، ففيها الاسم والمثنى والمجموع ، وفيها اسم الجمع واسم الجنس وجمع الجمع ، كل ذلك على وفق نظام دقيق محكم يهب العربية اتساعاً في القواعد وضبطاً في النظام  )) [٢٥] ، بل إنّ العربية تمتاز على سائر اللغات السامية بأنّها (( تكاد تنفرد من بين أخواتها بنظامها الأكثر دقة وقواعدها الأكثر شمولاً واتساعاً)) [٢٦] .

أهمية دراسة جموع التكسير في نهج البلاغة

كل عمل يقتضى منه اجتناء فائدة متوخاة ، وهذه الفائدة تتوقف على أهميته ، والعمل في ذلك السفر العظيم لا شكّ أنه يفيض بالأهمية التي قد يمكن إجمالها بالآتي :

١ .أنّ نهج البلاغة نثر فصيح الألفاظ بليغ التراكيب وهو وان كان من عصر الاحتجاج بيد أنه فاق عصره ، وكما هو معلوم أنّ النثر لا يخضع للضرورات  ؛ فكانت دراسة جموع التكسير فيه أفضل من دراسته في شعر شاعر بليغ وان عظم ؛ لأن الشعر يخضع لوزن قد يرغم بصاحبه على مجانبة الواقع اللغوي الصحيح حتى قيل : (( أمّا الاعتماد على الشعر مجرداً عن نثر شهير يضاف إليه، أو يوافق لغة مستعملة يحمل ما في الشعر ، فليس بمعتمد عند أهل التحقيق ؛ لأنّ الشعر محل الضرورات )) [٢٧] .

وإلى مثل هذا ذهب الدكتور المخزومي (رحمه الله) بقوله :  (( إنّ أمثلة من الشعر لم تؤيد بأمثلة من النثر الصحيح لا يصح أنْ تكون أساساً لأصل من أصول العامة )) [٢٨] .

٢. مما يبرهن أهمية تلك الجموع في النهج هو تلك الغرابة الموجودة في طائفة منها كما هو في جمع باطل على أباطيل فقد عده ابن خالويه من الغريب [٢٩] ، وقد ورد هذا الجمع في قوله (عليه السلام ) : (( والدافع جيشاتِ الأباطيل ، والدامغ صولاتِ الأضاليل )) [٣٠] ، ويمكن إلحاق ( أضاليل ) وكذا ( أعاليل ) الواردة في قوله ( عليه السلام ) : (( ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم أعاليل بأضاليل)) [٣١] ، ومن الجموع التي حكم عليها بالغرابة [٣٢] واستعملت في النهج ( سُهمان ) [٣٣] (الهلكى ) [٣٤] ( أفاعيل ) [٣٥] ،  واستعمال هذه الجموع الغريبة مما يشد (( من أُزر بلاغة هذه النصوص ولو اختار ما هو شائع لَما بلغت هذه النصوص مبلغها من وقعها في النفوس ؛ فكانت تقع في مجال النظم موقع الواسطة من العقد ... وإنّ هذه التغريبات كانت نمطاً من أنماط الانزياح الجمالي الذي جاء بوصفه حاجة اقتضتها الضرورة البنائية للنص ليظهر بصورة متكاملة لغة ووقعاً وبلاغة ومعنى)) [٣٦] .

٣ ـ أنّها كانت تعاضد سياق الكلام الواردة فيه ، وهذا البحث محاولة للكشف عن هذه المسألة ، وفضلاً عن ذلك كثرتها ؛ فقد بلغ مجموعها(٣٩٢١ ) تقريباً ، أي ما يقارب أربعة آلاف جمع .

المبحث الأول : دلالات جموع التكسير العامة

مثلما يوجد للفظ الواحد معنى أساسي ومعانٍ فرعية ، فكذلك الأمر في جموع التكسير في نهج البلاغة ، فإذا كان حرف الجر اللام يفيد الاختصاص أو الملك [٣٧] في الأساس تجد له أيضاً معاني أخر كالتعليل وشبه الملك وانتهاء الغاية والتوكيد [٣٨]... ، وكذلك جمع التكسير يدلّ على دلالة الجمع إلا أنّ هذا الجمع غير محدد ، فقد يكون قليلاً ، وقد يكون كثيراً ، وقد يكون كثيراً جداً ، ومن هنا كانت الدلالات العامة للجمع ثلاثة : قلة وكثرة ومبالغة في الكثرة ، وعلى النحو الآتي :

  دلالة القلة :

حدد النحاة لهذه الدلالة أوزاناً معينة من جموع القلة مَرّت الإشارة عليها ، ومن أمثلتها في نهج البلاغة قوله ( عليه السلام ) متحدثاً عن إبليس ( لعنه الله): ((  وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة )) [٣٩] ، وهنا استُعمِل جمع القلة (آلاف)؛ للدلالة على القلة ؛ فهو المناسب للعدد ( ستة ) ، ويمكن أن يكون كثرة استعمال جمع القلة معدوداً لهذه الأعداد ( ٣ ـ ١٠ ) هو السبب وراء اشتراط النحاة أن يكون معدود تلك الأعداد جمع قلة دائماً [٤٠] ؛ فكان (آلاف) هو المناسب هنا دون ( ألوف ) .

ومن أمثلة القلة قوله ( عليه السلام ) في المتوفى حديثاً : (( ثُمّ ألقيَ على الأعواد رجيعَ وصب ونضوَ سقم )) [٤١] ؛ فقد جاء بالجمع ( الأعواد ) الذي هو على وزن ( أفعال ) المفيد للقلة ؛ وذلك لقلة تلك الأعواد المستعملة في صناعة تلك الآلة المصنوعة لنقل الميت ، فلم يصرف فيها أعواد كثيرة كي يقال  : ( عيدان ) ، وإنما هي آلة متواضعة لم يُقْض في صناعتها وقتٌ طويلٌ ، ولم ينفق فيها ثمن يعتدّ به ويلمح من هذا أيضاً الإشعار بخسة الدنيا وضعتها ولو كان قال : (( على العيدان )) لَتبين تعقيد تلك الآلة لكنها بالذي جاءت عليه لترسم صورة من نهاية حزينة فيها تذليل للدنيا وتحقير لنهايتها .

ومن أمثلة القلة قوله ( عليه السلام ) متحدثاً عن المعجزة التي حدثت مع الرسول بانصياع الشجرة لأوامره : (( ألقت بغصنها الأعلى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وببعض أغصانها على منكبي )) [٤٢] ؛ فالجمع ( أغصان ) أفاد القلة ، فهي محددة لا تتجاوز العشرة تقريباً .

ومن أمثلتها أيضاً قوله ( عليه السلام ) شارحاً كيف ينبغي أن يتعامل الإنسان مع  قلبه : (( وأعرض عليه أخبار الماضين ... ؛ فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة ، وحلُّوا ديار الغربة ))  [٤٣] ، فـ ( الأحبة ) جمع قلة لـ ( حبيب ) فهؤلاء الراحلون كان لهم أحباب يأنسون بهم ، ويركنون إليهم إلا أنّ يد الفناء حالت دون ذلك فأبعدتهم عنهم ، وهذا الجمع أولى من جمع الكثرة ( أحباء ) ؛ لأنّه لو استعمل لاحتمل أنهم فارقوا أحبابهم الكثر ، وبقي قُلٌّ منهم ، لكن استعمال الجمع ( الأحبة ) نفى حتى تلك القلة ، ومثله قوله ( عليه السلام ) : (( فقد الأحبة غربة )) [٤٤] ، ومثله أيضاً حديثه ( عليه السلام ) عن المحتضر : (( فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبة إذ عرض له عارض من غُصَصِه)) [٤٥] ، لكن حين جاء الحديث بمدح الدنيا كثّر الحبيب فكان : ((دارُ غِنًى لِمَنْ تزوّدَ منها ، ودارُ موعظةٍ لمنْ اتعظ بها ، مسجدُ أحباء اللهِ ، ومُصلّى ملائكة الله )) [٤٦] ، وهذا التكثير في الأحباء ليناسب مقام المدح للدنيا ؛ إذ يقتضي تكثير الأحبة لا تقليلهم .

ومن ذا قوله ( عليه السلام ) في المتقين : (( يذكرونَ بأيامِ اللهِ ، ويخوّفونَ مقامَهُ بمنزلةِ الأدلةِ في الفَلَوات )) [٤٧] ، فاللفظ ( أدلة ) جمع قلة لـ ( دليل ) ، ولما كان هؤلاء المتقون في قبال ضعفاء الإيمان قليلين جداً عبّر عنهم بما يترجم قلتهم ( أدلة ) ، ويؤيد ذلك أنه حين عبّر عن عظمة الله ووضوح آياته لعباده جاء بالجمع ( دلائل ) كما هو في قوله ( عليه السلام ) : (( وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة بـه ومسلمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته )) [٤٨] ، فعظمة الله وبزوغ آياته لعباده وكثرة حججه عليهم يترجمه قوله ( دلائل ) المشعر بكثرة أدلته تعالى على عباده .

  ولمزيد من أمثلة القلة يلاحظ في الجموع الآتية : ( أودية ) [٤٩] ، و ( جيرة ) [٥٠] ، و ( أسياف ) [٥١] ، أكف [٥٢] ، وملخص الأمر أن في العربية جموعاً تأتي للقلة ؛ لأنّ الكلام الواقعة فيه مما ينبغي أن تكون به هذه القلة .

دلالة الكثرة :

وهذه الكثرة قد تكون في تعدد أفراد الجمع أو قد تكون بما يصدر من أفراد هذا الجمع ، فمثال الأول قوله ( عليه السلام ) : (( ولو أراد الله سبحان لأنبيائه حين بعثهم أنْ يفتحَ لهم كنوزَ الذِّهْبان ... لَفعلَ ولو فعَلَ لَسقط البلاء)) [٥٣] .

فهنا اللفظ ( الذهبان ) على وزن ( فِعْلان ) جمع ( ذهب ) ، ومعنى النص الإمامي هو أنّ الله تعالى لو أراد أن يخص أولياءه بالغنى البالغ الغاية القصوى لَفعل ، وقد أضفى الجمع المذكور تلك الكثرة على مصراعيها ، ولو لم يؤت به كأنْ يقال ( كنوز الذهب ) لَما اشعر بتلك الكثرة في الذهب ، بل سيكون الأمر طبيعياً ؛ لأنه يمكن للإنسان الاعتيادي أنْ ينال كنوز الذهب إذا تهيأت له الظروف التي تمكنه ،  ولا يُدرى إن كان المقصود من لفظ ( الذهبان ) أنّ الذهب نوعيات كثيرة لم يكتشفها الإنسان حتى الآن .

أما مثال الثاني في معنى الكثرة فقد أشار إليه غير عالم،  ففي قول الألفية : (( جموع قيل كان المناسب أن يعبر ببناء القلة ؛ لأنّ جموعاً هاهنا واقع على أربعة ألفاظ ... والجواب ... أن القليل إنما هو هذه الألفاظ وأما موزوناتها فكثير ، فالكثرة هنا بهذا الاعتبار )) [٥٤] ، أي أنه قد يكون (( الجمع لتكثير القيام بالفعل لا لتكثير العدد )) [٥٥] .

ويمكن أنْ يكون على سبيل المثال جمع كلمة ( عين ) ، فقد تجمع على (أعين ) وعلى ( عيون ) ، وحصَر العلماء الوزن الأول بالباصرة والثاني بالجارية [٥٦] ، ويرى البحث أنّ الأول جاء للباصرة ؛ لأنّ ما ينجم من الدمع أو نحو ذلك أقلّ مما ينجم من الجارية ؛ فناسب أن يكون (أعين ) للباصرة و ( عيون ) للجارية .

غير أن المطلع على نهج البلاغة يجد أنّ النهج خالف القرآن في استعمال جمع ( العين ) ، ففيه ( العيون ) استعملت للباصرة أيضاً في حال أهل النار : (( فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك ... لرأيت أشجان قلوب وأقذاء عيون )) [٥٧] ، فعين صاحب النار يوم القيامة تفوق عينه يوم كان في الدنيا ؛ فلعقاب الآخرة صارت أشدّ هملاً ؛ فهي تفرز القذى بكثرة كما أنّ العين الجارية تنبع الماء بكثرة فثَمّة شدة هول من البرزخ واكتحال أبصارهم بالتراب جعل القذى يطفح من عيونهم بكثرة إلى الحد الذي لا يتصوره أهل الدنيا .

والأمر مثله حين يعبر عن صفة الزهاد وخوفهم من يوم القيامة : (( في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم )) [٥٨] ، فالمعاد قادهم إلى البكاء الكثير الواضح من استعمال جمع الكثرة ( عيون ) ؛ وهذا كان سبباً لإسهادهم . ولو جاء التعبير بـ ( أعينهم ) لَما ناسب الموقف ؛ لأنّه للقلة، والموقف هنا موقف تكثير البكاء من هؤلاء الزاهدين ، فناسب الجمع الوارد حالتهم المتفجعة من هول المطلع .

أي أنّ الكثرة يمكن أن لا تعود إلى عدد ذلك المجموع ، وإنما إلى ما ينجم منه ، ومن جهة أخرى فقد كانت هي سبباً من أسباب تعدد الجموع للفظ الواحد شريطة أن يكون هذا الواحد قابلاً لتحمل أكثر من دلالة .

ومن الكثرة قوله ( عليه السلام ) : (( إنّا لأُمَراءُ الكلامِ ، وفينا تَنَشَّبتْ عُرُوقُه ، وعلينا تهدَّلتْ غُصُونُهُ )) [٥٩] ، فهذه الجموع ( أمراء ) ، ( عروق ) ، (غصون ) كلها للكثرة ، وناسبت مقام الفخر الذي يستدعي ذلك ، وقد مرّ أن الجمع ( أغصان ) جاء للقلة ، وهنا جاء ( غصون ) ليدلّ على كثرة تفننهم (عليهم السلام ) بفنون الكلام وتمكنهم من جميع مجالاته ، ويلحظ أنّ جمع الكثرة جاء للمجاز ، وجمع القلة جاء للحقيقة ؛ ولعلّ هذا لأنّ الحقيقة لا تستدعي أكثر من إثبات الأمر المطابق للواقع فهي تصوير الشيء بحذافيره ، وليست  كالمجاز الذي فيه مبالغة وتكثير للشيء ، ووصف أهل البيت بأنهم (غصون ) هو من باب المجاز ومن جهة أخرى هو أبلغ من ( أغصان ) ؛ لأنه يصور عظمة أساليبهم الكلامية  وروعة بلاغتهم العالية .

ومن ذا أيضاً قوله ( عليه السلام ) : (( والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارِهم )) [٦٠] ، فـ ( ديارهم ) جمع ( دار ) ، وهو جمع كثرة ، ومن المحتمل أنْ يُلتمس منه أنّهم كانوا أصحاب دنيا لامتلاكهم دياراً كثيرة .

  ومن هذه الدلالة قوله ( عليه السلام ) : (( فمِنَ الفَناءِ أنَّ الدَّهْرَ مُوْتِرٌ قَوْسَهُ لا تُخْطِئُ سهامُهُ )) [٦١] ، فقد أكثرت ( السهام ) لكثرت ما ينزل بالناس من الفناء فلا يمكن لأحد تجنبه ، أو التفلّت منه ، على الخلاف من الحديث عن الدنيا ؛ فقد جيء به جمع ( سهم ) على القلة كما في قوله ( عليه السلام ) : ((وقنصت بأحبلها ، وأقصدتْ بأسهُمِها )) [٦٢] ، فربّما قللت الأسهم مع الدنيا ؛ لأنّ إصابتها البشر تختلف عن إصابة الموت ؛ فالموت واقع حتماً ، والدنيا يمكن تجنبها والتنحي عنها ، وكذا الجمع ( أحْبُل ) فهو للقلة أيضاً .

وقوله ( عليه السلام ) : (( إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها ، وإنّني اليوم لأشكو حيف رعيتي )) [٦٣] ، ورد الجمع ( الرعايا ) مشعراً بالكثرة لما يوحيه وزنها ( فعالى ) ، ولما توحيه هذه الطائفة من كثرة أيضاً ، وقد أدلت بكثرة الظلم لهذه الطبقة والويلات الكثيرة التي لاقتها من رعاتها .

ومن أمثلة الكثرة قوله ( عليه السلام ) : (( ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوك ، ولله فيه رضًى ؛ فإنّ في الصُّلْحِ دِعَةً لجنودِك وراحةً من هُمومِكَ وأمْناً لبلادِك )) [٦٤] ، ومنها أيضاً مخاطباً معاوية :(( وإنّك إذْ تحاولني الأمورَ ، وتُرَاجِعُني السُّطورَ كالمستثقلِ النائمِ تَكذِبُه أحلامُهُ )) [٦٥] .

المبالغة في الكثرة :

تأتي هذه الدلالة مع جمع الجمع في الغالب كما في ( أقوال ) جمع ، وقد جمع على ( أقاويل ) ، و(( إنما قلت ( أقاويل ) ، فبنيت هذا البناء حين أردت أنْ تكثِّر وتبالغ في ذلك كما تقول : ( قطّعه وكسّره ) حين تكثر عمله ، ولو قلت : ( قَطَعَه ) جاز واكتفيت به )) [٦٦]، أي كما أن الوزن ( فعّل ) يفيد التكثير فكذا جمع الجمع يفيد الكثرة ، نحو قوله ( عليه السلام ) : (( فلا يسمعنّ فيه أقاويلَ الرجالِ )) [٦٧] ، وهذا نهي عن تصديق كل مسموع حتى لو تكاثرت أقاويل الرجال ، وأنّ ما يؤخذ ينبغي أن يكون عن بينة ودليل ، وليس من الحكمة تصديق كل ما قيل ؛ لأنّ من الرجال من هو شأنه المبالغة في الكلام وتحريف ما يقول .

واستعمال ( أقاويل ) يوحي بكثرة تباينها ، فهناك أقوال صادقة ، وهناك كاذبة ، وهناك ما يجمع بين الأمرين ... .

ومنه قوله ( عليه السلام ) : (( وتخرجُ له الأرضُ أفاليذَ كَبِدِها )) [٦٨] ، و (أفاليذ ) جمع ( أفلاذ ) الذي هو جمع ( فلذة ) ، فإذن هو جمع لجمع ، وقد يُدلي بأنّ ما سيخرج من الأرض سيكون عبارة عن أفلاذ كثيرة جداً ، ولا يبعُد أنْ يكون الإنسان لا يزال يجهلها حتى هذا الزمان.  ومـن هذا الجمع استعمال الجمع ( أهاضيب ) الذي هو جمع ( أهضاب) ، وأهضــاب جمع ( هضبة ) التي تعني المطرة في قوله ( عليه السلام ) : (( تمريه الجَنوبُ دِرَرَ أهاضيبه )) [٦٩] ، ومثله الجمع ( أزاهير) الذي هو جمع ( أزهار ) وأزهار جمع ( زهرة ) ، وذلك في قوله ( عليه السلام ) في الأرض : (( وتزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها )) [٧٠] ، و ( ريط ) جمع ( ريطة ) التي هي الثوب الرقيق الجميل .

ومثلما تأتي هذه الدلالة مع جمع الجمع تأتي مع الجمع الذي وزنه ( فُعّال ) ، نحو قوله ( عليه السلام ) : (( إلى الله أشكو من معشرٍ يعيشونَ جُهّالا ، ويموتون ضُلالا )) [٧١] ، فهو ( عليه السلام ) يشكو صعوبة ما يمرّ به ؛ إذ عاشر من أخذ منهم الجهل مأخذه ، وتفشى فيهم ، يشكو من أناس غاصوا في طريق الضلالة ؛ فلم يتركوا شيئاً من طرقها إلا وسلكوه ، ولو ورد الاستعمال ( جَهَلة ضَلَلة ) لَما دلت على تلك الكثرة من الجهل والضلالة .

ومثله قوله ( عليه السلام ) : (( كونوا عن الدنيا نزّاهاً ، وإلى الآخرة ولاّها)) [٧٢] ؛ فهو يطالبهم بالتنزه عن الدنيا والتولّه إلى الآخرة مع مبالغة فائقة ؛ وهذا لحرصه الشديد على رعيته .

ومنه أيضاً في الدنيا : (( لا تدوم أحوالها ، ولا يسلُمُ نُزّالها )) [٧٣] ، فالذي يخسر من ألِف النزول في الدنيا ، وبالغ فيه . أمّا نَزَلتها فلا ؛ إذ يمكن أن يكونوا من الأولياء الذي وضّفوا الدنيا لصالحهم .

ومنه أيضاً : (( أشهودٌ كغُيّاب وعَبيدٌ كأرباب ؟! )) [٧٤] ، هذا النص توبيخ شديد للمخاطبين ؛ فهم يشهدون ما يقوله من مواعظ بالغة ، لكنّ هذا لا يؤثر بهم ، فهم غياب عنه ، وناسب الجمع ( غيّاب ) مقام الكلام ؛ لأنّه يشعر بالكثرة المفرطة من غيابهم ، فكأنّهم عدم مع وجودهم واستعمال الجمع (عبيد) يشعر بذلة العبودية .

أثر القرائن في توجيه دلالات جموع التكسير

مرّ الحديث عن الدلالات العامة لجموع التكسير غير أنّ ما حُدِّد يكون في الغالب إذا لم تدرج تلك الجموع في جمل فإذا درجت خضعت للقرائن الموجودة في النظام النحوي ، وبها تتحدد تلك الدلالات؛ فـ (( جمع القلة ما استفيد منه العشرة فما دونها الى الثلاثة بلا قرينة، وبقرينة يستفاد منه ما فوق العشرة إلى ما لا نهاية له ، وأمثلته : أفْعُل وأفْعال وأفعلة وفِعْلة ، وما عدا ذلك من الأوزان جمع كثرة يطلق بلا قرينة على ما فوق العشرة إلى ما لانهاية له ، ويطلق بقرينة على ما دون العشرة إلى الثلاثة  )) [٧٥]

ومن ثَمّ يجدر دراسة هذه الجموع وهي في الجملة لا مجردة عنها ؛ لأنّ الجملة (( أهم وحدات المعنى ، وأهم من الكلمة نفسها ؛ إذ لا يوجد في رأيهم معنى منفصل للكلمة ،بل معناها في الجملة التي تقع فيها )) [٧٦] . ومن هنا بات وشيكاً توطّد العلاقة بين النحو والصرف .

 ومن أمثلة ما ذكر قوله ( عليه السلام ) : (( كم أطردتُ الأيامَ أبْحَثُها عن مكنونِ هذا الأمرِ )) [٧٧] ، و ( كم ) من أدوات التكثير [٧٨]  ، وقد حملت دلالة الجمع ( الأيام ) من القلة إلى الكثرة بل إلى الكثرة الفائقة ؛ فقد كان ( عليه السلام ) طوال حياته باحثاً عن الشهادة ، ولم يفوِّت يوماً من أيامه في سبيل هذه الغاية .

ومثل ذا قوله ( عليه السلام ) : (( أمَا لو أُشْرِعَتِ الأسِنَّةُ ، وصُبَّتِ السُّيوفُ على هاماتِهِم )) [٧٩]  فجاء الجمع ( الأسنة ) للكثرة مع أنّه على الوزن ( أفْعِلَة) الذي هو من أوزان القلة ؛ ذلك لأنّه جاء مع التوكيد بـ ( أمَا ) المُدْعَم بالتمني بـ ( لو) ، وهذان الأسلوبان يستدعيان الكثرة ؛ فهو ( عليه السلام ) لا يؤكد تمنيه إشراع أسنة قليلة ، وإنما يؤكد ويتمنى إشراع الكثير منها ، ويعاضد هذا أيضاً العطف ، فقد عطف على هذه الجملة ( وصبت السيوف على هاماتهم ) ، ولو أريد التقليل في بدء الكلام لقيل هنا ( صبت الأسياف ) .

وقد يكون الأمر على خلاف ذلك ؛ فتأتي أوزان الكثرة مفيدة القلة ، نحو قوله ( عليه السلام ) : (( واللهِ لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ اعصيَ اللهَ في نملةٍ اسْلِبُها جَلْبَ شعيرةٍ ما فعلْتُهُ )) [٨٠] ، فـ ( أقاليم ) على وزن ( أفاعيل ) الذي هو من أوزان الكثرة غير أنّه جاء للقلة لوصفه بالنعت (السبعة ) .

وهذه القرينة لفظية جاءت من لفظ العدد المذكور ، ومثلها قوله ( عليه السلام ) : (( وتجمع هذه

الدارَ حدودٌ أربعةٌ )) [٨١] ، وقوله ( عليه السلام ) : (( إنما أتاكَ بالحديثِ أربعةُ رجالٍ ، ليسَ لهم خامسٌ )) [٨٢] .

ومن القرائن اللفظية : (( إنّ رُواةَ العلمِ كثيرٌ ،  ورُعاتَهُ قليلٌ  )) [٨٣] ، فالجمعان ( رواة ) ، و(رعاة ) كلاهما على وزن ( فُعَلَة ) المَعدود من أوزان القلة ، لكنه في القول الإمامي جاء للكثرة مع ( رواة )،  وللقلة مع ( رعاة ) بسبب القرينتين اللفظيتين : ( كثير ) و( قليل ) .

وقد تكون القرينة معنوية ، نحو قوله ( عليه السلام ) مخاطباً معاوية : ((وزعمتَ أنّي لكل الخلفاء حسدتُ )) [٨٤] ، ففي هذا الحديث جاء الجمع (الخلفاء ) المعدود من أوزان الكثرة إلا أنّه هنا لا يدلّ إلا على ثلاثة ، وهي قلة.

و قد تخرج القرائن بالجمع إلى إفادته المفرد أو المثنى ، ومن الأول قوله (عليه السلام ) : (( أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهَمَنا وإياكم الصبرَ)) [٨٥]، والإمام ( عليه السلام ) هنا يعبر عن نفسه ، والذي يناسب الظاهر أنْ يُقال ( بقلبي وقلوبكم ) ، وقد يكون جمع ( القلب ) هنا من إنزال المفرد منزلة الجمع كما يُسلَّم على الشخص الواحد بـ ( السلام عليكم ) لا (السلام عليكَ ) ، ولعل العلة من وراء ذلك هي التعظيم ـ كما سيأتي ـ ، لكن المُحتمل أنّ الإمام لا يبتغي هنا تعظيم نفسه، ومن هنا يستبعد ما ذكر إلا إذا قيل : إنّه لو قال ( قلبي ) لأشعرَ بـ ( الأنا ) ، وحاشى أن تكون هذه من سمات الإمام ( عليه السلام ) ، والواحد منا إذا ساعد شخصاً ، ثم قال : ( ساعدت فلاناً ) قد يشعر بمنِّه وتعظيم نفسه ، ولو قال ( ساعدنا فلاناً ) ، فكأنه قلّل من فضله ، وأشرك غيره به ، ومن هنا يُستحسن القول : ( قلوبنا ) دون ( قلبي ) .

ومن الثاني قوله ( عليه السلام ) : (( فأجمع رأي ملئكم أنِ اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أنْ يُجعجعا عند القرآنِ ، ولا يُجاوزاه ، وتكون ألسنتُهُما معه وقلوبهما تبِعه )) [٨٦] ، ولعلّ المراد لساناهما وقلباهما .

ويوجد في سنن العرب (( خطاب الاثنين بلفظ الجمع كقوله تعالى : (( أن تبوءا لقومِكا بمصرَ بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ـ يونس ٨٧ ) )) [٨٧]. وهما يمتلكان بيتينِ لا بيوت .

-------------------------------------------------------------------------------
[١] . ينظر : صوت الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة : ١/ ٣٦ ؛ إذ نقل فيه عن الأستاذ  كرينكو الإنجليزي أنّه قال في اجتماع حضره أساتذة وأدباء في مسألة إعجاز القرآن : (( إنّ للقرآن أخاً صغيراً يُسمى ( نهج البلاغة ) ، فهل في إمكان أحد أنْ يأتي بمثل هذا الصغير حتى يسوِّغ لنا البحث عن الأخ الكبير؟! )) .
[٢] . حاشية الصبان : ٤ / ١٦٨ ، وينظر : شرح اللمع : ١ / ١٧٤ .
[٣] . ينظر: شرح اللمع : ١ / ١٧٧ ، وكشف المشكل : ٤٩ ، وشرح التصريح على التوضيح : ٢ / ٥١٩ .
[٤] . الكتاب : ٣ / ٥٤٤ .
[٥] . أهمل البحث التفصيل فيها لضيق المقام ، وكونها لا تمس البحث بصلة معتبرة ، واتكالاً على أنّ كل ما عدا الأوزان الأربعة المذكورة يكون للكثرة ، وفضلاً عن ذلك فقد أوسع القول فيها في الكتب الصرفية وغيرها ، ويمكن المراجعة في ذلك في : الكتاب : ٤ / ٩٤ ـ ١١١ ، والمقرب : ٤٦١ ـ ٤٧٩ ، وشرح ابن الناظم : ٢٩٤ ـ ٣٠١ ، وشرح التصريح : ٢ / ٥٢٢ ـ ٥٥٦ ...
[٦] . ينظر : المقتصد في شرح الإيضاح : ٢ / ١٠٢٧ .
[٧] . ينظر : شرح ابن الناظم : ٢٩٤ ، وأسرار النحو : ٢١٧ .
[٨] . البرهان : ٣ / ٢٢٢ .
[٩] . النكت على الألفية : ٢ / ٢٧٦ ، وينظر : الكشاف : ٢ / ٣٠٠ .
[١٠] . نهج البلاغة : ٢٦٥ .
[١١] . المصدر نفسه : ٢٦٧ ، ٢٦٨ .
[١٢] . المصدر نفسه : ٣٠٦ .
[١٣] . المصدر نفسه : ٣٣٨ .
[١٤] . المصدر نفسه : ٤١٨ .
[١٥] . المصدر نفسه : ٤٢٥ .
[١٦] . المصدر نفسه : ٥٣١ .
[١٧] . المصدر نفسه : ٣١٢ .
[١٨] . المصدر نفسه : ٢٨٧ ، ٢٨٩ .
[١٩] . المصدر نفسه : ٣٣٥ .
[٢٠] . المصدر نفسه : ٢٦٥ ، ٢٦٨ ، ٢٩٢ ، ٣٩٦ .
[٢١] . التطبيق الصرفي : ١١٥ .
[٢٢] . التمهيد : ٥ / ٤٦ .
[٢٣] . ينظر : الأغاني :  ٩/٣٤٠  ، وشرح الرضي : ٤ / ٣٩٧  ، ومن أسرار اللغة : ١٣٠.
[٢٤] . الإعجاز الصرفي : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ .
[٢٥] . من أسرار اللغة :١٤٢ .
[٢٦] . الجموع في العربية : ٣ .
[٢٧] . بغية الوعاة : ١/ ٤٢٧ .
[٢٨] . في النحو العربي ـ نقد وتوجيه ـ : ١٦٦ .
[٢٩] . ليس في كلام العرب: ٣٢٩ .
[٣٠] . نهج البلاغة : ١٠١ ، ٢٢٢ .
[٣١] . المصدر نفسه : ٧٣ ، ١١٩ .
[٣٢] . غريب نهج البلاغة : ١١٤ .
[٣٣] . نهج البلاغة : ١٥٢ .
[٣٤] . المصدر نفسه : ٣٣٨ .
[٣٥] . المصدر نفسه : ٣٦٨ .
[٣٦] . غريب نهج البلاغة : ١١٥ .
[٣٧] . ينظر : أسرار العربية :١٤٣ .
[٣٨] . ينظر : مغني اللبيب : ١ / ٢٧٥ ـ ٣٠٤ ، وشرح ابن عقيل : ٢ / ٢٠ ـ ٢٢.
[٣٩] . نهج البلاغة : ٢٨٧ .
[٤٠] . ينظر : شرح ابن النظم : ٢٧٩ ، وحاشية الخضري : ٢ / ٣١١ .
[٤١] . نهج البلاغة : ١١٣ ، والوصب : التعب ، والنضو : المهزول .
[٤٢] . نهج البلاغة : ٣٠٢ .
[٤٣] . المصدر نفسه : ٣٩٢ .
[٤٤] . المصدر نفسه : ٤٧٩ .
[٤٥] . المصدر نفسه : ٣٤١ .
[٤٦] . المصدر نفسه : ٤٩٣ ، وينظر منه : ٣٣٩ .
[٤٧] . المصدر نفسه : ٣٤٢ .
[٤٨] . المصدر نفسه : ٢٣٦ .
[٤٩] . المصدر نفسه : ٢٧٥ ، ٢٩٣ .
[٥٠] . المصدر نفسه : ١٦٦ .
[٥١] . المصدر نفسه : ٢٠٩ .
[٥٢] . نهج البلاغة : ٣٠٤ .
[٥٣] . المصدر نفسه : ٢٩١ .
[٥٤] . النكت : ٢ / ٢٧٦ .
[٥٥] . معاني الأبنية : ١٤٩ .
[٥٦] . ينظر : المصدر نفسه : ١٣١ .
[٥٧] . نهج البلاغة : ٣٤٠ .
[٥٨] . المصدر نفسه :: ٤٢٠ .
[٥٩] . المصدر نفسه : ٣٥٤ .
[٦٠] . المصدر نفسه : ١٨١ .
[٦١] . المصدر نفسه : ١٧٠ ، وينظر منه أيضاً : ٢٦٢ .
[٦٢] . نهج البلاغة : ١٠٨ .
[٦٣] . المصدر نفسه : ٥٢٠ .
[٦٤] . المصدر نفسه : ٤٤٢ .
[٦٥] . المصدر نفسه : ٤٦٣ .
[٦٦] . الكتاب : ٤ / ٩٩ .
[٦٧] . نهج البلاغة : ١٩٧ .
[٦٨] . المصدر نفسه : ١٩٦ .
[٦٩] . نهج البلاغة :  ١٣٣ ، و تمريه : من مرى الناقة ، أي مسح على ضرعها ليحلب لبنها ، والدرر جمع درة ، وتعني اللبن .
[٧٠] . المصدر نفسه : ١٣٣ .
[٧١] . المصدر نفسه : ٦٠ .
[٧٢] . المصدر نفسه : ٢٨٤ .
[٧٣] . المصدر نفسه : ٣٤٨ .
[٧٤] . المصدر نفسه : ١٤١ .
[٧٥] . أسرار النحو : ٢١٧ ، وينظر : شرح التصريح : ٢ / ٥٢١ .
[٧٦] . النحو والدلالة : ٣٥ .
[٧٧] . نهج البلاغة : ٢٠٧ .
[٧٨] . ينظر مغني اللبيب : ١ / ٢٤٣ .
[٧٩] . نهج البلاغة : ٢٥٩ .
[٨٠] . المصدر نفسه : ٢٤٧ .
[٨١] . نهج البلاغة : ٣٦٥ .
[٨٢] . المصدر نفسه :  ٣٢٥  .
[٨٣] . المصدر نفسه : ٣٥٨.
[٨٤] . المصدر نفسه : ٣٨٧ .
[٨٥] . المصدر نفسه : ٢٤٩ .
[٨٦] . المصدر نفسه : ٢٥٦ .
[٨٧] . الاتقان : ٢ / ٦٧.

يتبع .......

****************************