يتناول هذا البحث فكرة اختلاف التأويل بين شارحي نهج البلاغة وتعدد وجهات نظرهم حسب تعدد مدارسهم ومنطلقاتهم ومتبنياتهم فمن المعروف ان شروح نهج البلاغة تجاوزت المئة شرح وقراءة ولكننا هنا حاولنا ان نركز على المدارس الفكرية الاكثر شيوعاً والشراح الذين ينتمون لها .
لذا وقع اختيارنا على ابن ابي الحديد المعتزلي ت ٦٥٦ هـ ممثلاً المدرسة الاعتزالية ولابن ميثم البحراني ٦٧٩هـ ممثلاً للمدرسة الصوفية ولحبيب الله الهاشمي الخوئي ١٣٢٤هـ ممثلاً للمدرسة الامامية الاثني عشرية، هذا من جانب ومن آخر ان هذه الشروح تتسم بالسعة والشمولية في مادتها وتأويلها ومن جانب ثالث ومهم حسب ما نعتقد ان تلك الشروح كانت قد أهديت الى امراء زمانهم أو انها كُتبت بطلب او بإشارة من اولئك الأمراء الى هؤلاء الشراح .
ومن الطبيعي ان تتنوع الآراء هنا فمنها تأويل عقائدي ومنها دلالي ومنها بلاغي ونحوي وغير ذلك ولكننا هنا في هذا البحث اقتصرنا على التأويل التأريخي والمقصود به تفسير الحوادث التاريخية التي جاء ذكرها في نهج البلاغة وكيف فهما هؤلاء الشراح اذ، جاء ذكر وقائع وملاحم وشخصيات وأماكن وألفاظ تدل على واقع اجتماعي معين عاشه الامام علي فهل كان كلام الامام مقتصراً آنذاك على ما عاشه ام ان كلامه يمتد الى زمن يتجاوز زمن القول وهذا ما عرفناه في ضوء البحث وان نصوص النهج وإن أريد بها الواقعة المحددة التي جاء النص بسببها الا ان النص كذلك يتجاوز زمنه الى ما هو ابعد لذلك بقي هذا النص مدار حديث وتأويل واختلاف واتفاق ونقاش ومعارضه كل حسب ما يراه فيه وهكذا تعدد شراحه وهذا البحث نموذج .
لذلك اختلف الشراح الثلاثة في تأويل لفظة الضليل في قول الامام علي (عليه السلام) ((لًكأني انظُر الى ضليلٍ قًد نَعَقَ بالشَّامِ وفَحَصَ بِرَاياتِهِ فِي ضَواحِي كُوفَان)) [١] (الضليل) ، اذ يرى ابن أبي الحديد : انه كثير الضلال ، وهو كناية عن عبد الملك بن مروان لان هذه الصفات والإمارات فيه، أتم من غيره ، لأنه قام بالشام حين دعا لنفسه، وهو معنى نعيقه وفحصت راياته بالكوفة تارة حين شخص بنفسه الى العراق وقتل مصعباً ، وتارة لما استخلف الأمراء على الكوفة كبشر بن مروان أخيه وغيره حتى انتهى الأمر الى الحجاج، وهو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك وثقل وطأته، وحينئذ صعب الأمر جدا وتفاقمت الفتن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث فلما كمل أمر عبد الملك وهو معنى (اينع زرعه) هلك ، وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده ، كحرب أولاده مع بني المهلب، وكحروبهم مع زيد بن علي( عليه السلام) وكالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر وخالد القسري وعمر بن هبيرة وغيرهم ، وما جرى من الظلم واستئصال الأموال وذهاب النفوس)) [٢].
أما ابن ميثم فيرى أن الإمام ( عليه السلام) لم يرد شخصاً بعينه كمعاوية مثلاً أو السفياني كما قيل ، بل قد يريد به شخصاً آخر وهو الاحتمال الغالب على الظن [٣] .
والمورد الآخر الذي اختلفت فيه آراء الشراح التي اشتملت على ذكر الملاحم عندما قال ((تلتف القرون بالقرون) [٤] إذ ذكر ابن أبي الحديد انه وعد بظهور دولة أخرى ، وقصد بذلك الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بني أمية ومراده من القرون الأجيال من الناس ، وفيه أيضاً إشارة الى ما يحصل من عمليات قتل للأمراء الأمويين وأسراهم [٥] .
أما ابن ميثم فلم يشر صراحة الى أن مراد الإمام ( عليه السلام) بهذا القول بنو العباس بل انه أراد مجموعة من الناس ، وكنى بالتفاف بعضهم ببعض عن احتمالهم في بطن الأرض ، واستعار لفظ الحصد لمشابهتهم الزرع ، فكنى بحصدهم عن موتهم وقتلهم [٦] .
ونجد اختلافاً بالتأويل بين البحراني والخوئي، في قوله ( عليه السلام): ((..قَد خَاضُوا بِحَارَ الفِتَنِ واخَذُوا بالبِدَعِ دِونَ السّنَنِ)) [٧] فيرى البحراني :- ((يحتمل أن يكن التفاتاً الى صفة قوم معهودين للسامعين كمعاوية وأصحاب الجمل والخوارج ، ويحتمل أن يكون منقطعا عن كلام قبله متصلا بكلام لم يحكه الرضي (رض) واليه ذهب بعض الشارحين )) [٨].
أما الخوئي فيقول :- (( والأظهر عندي انه متصل بالكلام السابق، ووجه نظمه انه لما امر بوجوب متابعته، وفرض طاعته وطاعة رسول الله (ص) التفت الى حكاية حال المخالفين لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والمغيرين لوصيته، والغاصبين لخلافته من الخلفاء الثلاثة ومتابعتهم، وكيف كان. فتشبيه الفتن بالبحار لإهلاكها واستئصالها فمن دخل فيها يغرق كما يغرق البحر الخائض فيه)) [٩].
والى جانب هذا الاختلاف في تأويل بعض أقوال الأمام علي( عليه السلام) نجد أن هناك حالة من الاتفاق في تأويلات أخرى ، اذ يتفق ابن أبي الحديد والبحراني في تأويلات كلامه( عليه السلام) عن الملاحم ويؤولانه : بأنه متعلق بعبد الملك بن مروان وفترة حكمه وأمرته وقصر مدتها ، وانه استخدم لفظ (الاكبش) تعبيرا عن أبنائه الأربعة : الوليد، وسليمان، ويزيد ، وهشام حيث لم يلِ الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة اخوه إلا هؤلاء، كما انه يجوز أن يعني به بني مروان لصلبه وهم عبد الملك وبشر ومحمد وعبد العزيز ، وكانوا أكباشا أبطالاً فقد ولي عبد الملك الخلافة ، وبشر ولي العراق ، ومحمد ولي الجزيرة ، وعبد العزيز ولي مصر ، ولكل منهم آثار مشهورة [١٠] .
وحول كتابه لأخيه (عقيل بن أبي طالب) عن قريش وأفعالها معه ، الذي يقول في جانب منه :- (( فَجَزَتْ قُرِيشاً عني الجوَازِي. فقد قَطَعُواَ رَحمِي وسَلَبُونِي سُلطانَ ابنِ امُي، وامَا مَا سألتَ عَنهُ مِن رَأيِي فِي القِتَالِ فإنَّ رأيِي قِتَالُ المُحِلّينَ حتى أَلقَى الله)) [١١] ، يقول ابن أبي الحديد : (( إن هذه الكلمة تجري مجرى المثل ، بمعنى صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة ، أي جعل هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بي ، وبسلطان ابن أمي يعني به الخلافة إشارة الى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن مروان بن عائذ بن مخزوم. أم عبد الله وأبي طالب)) [١٢] .
ويوافقه في ذلك التأويل البحراني ولكنه يضيف على ابن ابي الحديد : (( وقيل أن أمه فاطمة بنت أسد كانت تربي رسول الله (صلى الله عيه واله وسلم) إذ كفله أبو طالب يتيما فهي كالأم فاطلق عليه البنوة مجازا)) [١٣].
أما عن قوله( عليه السلام) (( لا يُنْدَبُ قَتِيلُهم ولا يُفْقَدُ غائِبهُم)) [١٤] يرى ابن أبي الحديد ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم وذلك لان اكثر الزنج الذين أشار اليهم كانوا عبيد الدهاقين في البصرة وبناتها ولم يكونوا ذوي زوجات واولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم وقوله ((لا يفقد غائبهم)) يريد به كثرتهم وانهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره ، فلا يظهر اثر قتله [١٥] .
فاتفق معه بذلك الخوئي لكنه أضاف أن هذا الكلام قد يتعلق بقائد الزنج وجيشه [١٦] .
وفي تأويل قوله( عليه السلام) :- (( أَنا فَقأَتُ عينَ الفِتنَةِ)) يرى البحراني انها إشارة الى أهل البصرة [١٧] ، ويشاركه الخوئي في هذا التأويل ويضيف انه ( عليه السلام) قد يريد أهل النهروان كذلك أو عموم فتن المنافقين والكافرين [١٨] .
وفيما يتعلق بالخطب التي نقلت كلامه مع الخواج وما كان له من محاججات معهم خالصة فيما يتعلق بأمر التحكيم ، ومن هذه الخطابات قوله :- (( وقد كُنتُ نَهيتكُم عَن هذِهِ الحُكُومةِ فبيتُم عَلَي إِباء المخَالفِينَ المنَابذينَ)) [١٩] ، إذ يقول البحراني في ذلك كأنه يقول لهم (( أن كان الحق هو عدم الحكومة فلم طلبتموها وأبيتم علي إباء المخالفين المتنابذين لما نهيتكم عنه حتى صرت الى أهوائكم فيها وان كان الحق هو ايقاعها فلما شاققتموني الآن لما أوقعتها وجعلت الله عليّ بها عهداً وعلى التقديرين يلزمهما الخطأ.
وفي الموضوع نفسه يرى الخوئي ايضاً [٢٠].
ناقش الخوئي تأويلات من سبقه من الشراح، إذ قام بمناقشة آراء ابن ابي الحديد والبحراني فعند شرحه قول الإمام (عليه السلام):- ((كَأنِّي قَد نَعَقَ بِالشَّامِ وفَحَصَ بِرَاياتِهِ في ضَوَاحِي كُوَفان، فَعَطفَ عَلَيهَا عَطْفَ الضّرُوسِ، وَفَرَشَ الأرضَ بالرّؤوسِ قَد فَغَرَتْ فأغرتُهُ وثَقُلَتْ في الأرضِ وطأتُهُ)) [٢١] ، يرى أن ((هذا كناية عن استيلاء السفياني وتمكنه في الأرض لا عن ظلمه وجوره كما توهم الشارح المعتزلي، إذ لا ملازمة بين شغل الوطي والجور عرفا كما هو ظاهر)) [٢٢] .
وحول الحكمين يناقش الخوئي رأي المعتزلي بقوله:- ((أقول: أما قوله إن الحكمين لو تأملا الكتاب لوجدا فيه النص الصريح على خلافة أمير المؤمنين، فهو حق لا ريب فيه، لان الآيات الدالة على خلافته (عليه السلام) كثيرة لا تحصى، وقد مضى جملة منها في مقدمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية، وأما قوله لان فيه النص الصريح على حجية الإجماع فلا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ، لأنه مع وجود النص من القرآن على اصل الخلافة لا داعي إلى إقامته النص على حجية الإجماع تم الاستدلال به على خلافته وإنما هو أشبه شيء بالآكل من القضاء، ولعل الشارح انما التزم به لأجل حماية الحمى، وذابا عن الخلفاء لأنه لو التزم بوجود النص على اصل الخلافة لم يجد بدا من الالتزام ببطلان خلافة المتحلفين كالالتزام ببطلان خلافة معاوية وفي ذلك إبطال ما اختار من المذهب والدين)) [٢٣].
وللخوئي مناقشة حول كلامه (عليه السلام) استعمل فيه كلمات مثل ((الجفاء والعصبية والجهل وتعطيل السنة)) ((وقد علمتم انه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة)) [٢٤] ، فيقول: أن ((الأمامية تزعم أنه قد رمز بالجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر ورمز بالجهل إلى من كان قبله، ورمز بتعطيل السنة إلى عثمان ومعاوية، وأما نحن فنرى انه عليه السلام لم يعن ذلك.
وإنما قال قولا كليا غير مخصوص وهذا هو اللائق بشرفه، وقول الأمامية دعوى لا دليل عليها ولا يعدم كل أحد أن يستنبط من كلام ما يوافق غرضه وإن غمض، وان لا يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة)) [٢٥] ، وبخصوص قوله (عليه السلام):- ((فأما شَيَطانُ الرّدهةِ فَقَد كُفيتُهُ بصَعقةٍ سَمعتُ لَهَا وَجَبةَ قَلبِهِ ورَجّه صَدرِهِ...)) [٢٦] ، يطرح الخوئي هنا الآراء التي قيلت في تأويل هذا القول ومنها أن المراد في شيطان الردهة ذو الثدية رئيس الخوارج ومنها انه أحد الأبالسة من أولاد إبليس اللعين وأما الشارح المعتزلي قال:- ((ورووا في ذلك خبرا عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وانه كان: يتعوذ منه)) [٢٧] ، أما الخوئي فيرى: أن ((الأظهر في ذلك أن يكون المراد به شيطان الجن ويكون الإشارة بهذا الكلام ما وقع منه عليه السلام في بئر ذات العلم)) [٢٨] ، أما فيما يتعلق بالتأويلات التي انفرد بها كل واحد من الشراح الثلاثة فقد اخترنا نماذج معينة من كل شارح لتبيان ظاهرة التأويل عندهم.
فلو جئنا إلى ابن أبي الحديد لوجدنا تأويله في قوله (عليه السلام):- ((الإْمرَةُ عَلَى أُناسٍ وَخِيمةٌ العَاقبةِ ذاتُ مَشَقّةٍ فِي العَاجلةِ فَهي في عَاجِلَها كَالماءِ الآجنِ يجدُ شاربُهُ مَشَقّةً آكلها ولُقمةٌ يغصُّ بِهَا آكلُها ومجتِني الثّمرة لغيرِ وَقتِ إيناعَها كَالزَرٍعِ بِغيرِ أرضِهِ)) [٢٩] فيقول: ((يغص مفتوح حرف المضارعة ومفتوح العين أصله عصصت بالكسر)) ((ويحتمل الأمران معاً للعاجلة لأن الغصص في أول البلع كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب ويجوز ألا يكون الإمام (عليه السلام) قد عنى الإمرة المطلقة بل أراد الإمرة المخصوصة يعني بيعة السقيفة)) [٣٠] .
ومن تأويلاته الأخرى ما كان في قول الإمام (عليه السلام) ((قَد كَانَتْ لكُم أمورٌ مِلْتُم فِيها عَلَىّ ميلةً)) [٣١] فيقول:- ((فمراده أمر عثمان وتقديمه في الخلافة عليه، ومن الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين ايضاً، ويبعد عندي أن يكون أراده لان المدة قد طالت ولم يبق من يعاتبه...، فان هذا الكلام يشعر معاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم، وأما بيعة عثمان ثم ما جرى بينه وبين عثمان من منازعات طويلة وغضب تارة وصلح أخرى ومراسلات خشنة ولطيفة وكون الناس بالمدينة كانوا حزبين وفئتين:- أحداهما معه (عليه السلام) والاخرى مع عثمان، فان صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق)) [٣٢] .
وربما يكون الإمام (عليه السلام) قد عنى بجانب من كلامه بيعة الشيخين وما جرى من أمور بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ولا سيما ان هناك الكثير من الخطب التي بين فيها هذه الامور، أما القول بطول المدة فانه لا ينفي الإشارة إلى ذلك طاعة أن أغلب الاحداث التي حدثت نتيجة الابتعاد عنه، ومبايعة غيره، وأما قوله ((وَلَمْ يَبَقَ مَنْ يُعَاتبُهُ)) فهو رأي مردود إذ هناك مجموعة كبيرة من الصحابة ما زالوا أحياء، وتصل أعدادهم إلى المئات، بل أن النسبة الأكبر منهم كانت تشكل جيشه (عليه السلام) [٣٣] .
وفي تأويل قوله (عليه السلام):- ((فَأنِّي وُلِدْتُ عَلَى الفِطرةِ، وسَبَقْتُ إلى الإيمانِ والهِجْرِةِ)) [٣٤] يقول (المعتزلي): ((إن الإمام (عليه السلام) لم يقل (سبقت كل الناس إلى الهجرة) وان قال (سبقت) فقط، ولا يدل ذلك على سبقه للناس كافة، ولا شبهة انه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة ولم يهاجر قبله إلا نفر يسير جداً وأيضا فقد قلنا انه علل أفضليته وتحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أمور منها: ولادته على الفطرة، ومنها سبقه إلى الإيمان، ومنها سبقه إلى الهجرة وهذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره...، وأيضاً فان اللام في الهجرة يجوز أن لا تكون للمعهود السابقة، بل تكون للجنس، وامير المؤمنين(عليه السلام) سبق ابا بكر إلى الهجرة التي قبل هجرته إلى المدينة)) [٣٥] .
ويحتمل هنا أن الإمام(عليه السلام) ((لم يكن يريد الهجرة بمعناها المعروف بترك الوطن أو المدينة، بل أراد الهجرة |إلى الله تعالى، وترك ذلك المجتمع الذي تسود فيه كل مظاهر البعد عن الله تعالى، وهذا المعنى نجده في خطاب النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عندما خاطب قومه ((... إنّي مهاجرٌ إلى رّبي...)) [٣٦] .
وفي تأويله لقول الإمام (عليه السلام):- ((وَلَقَد عَلِمَ المُستَحفِظُون مِن أَصحَابِ مُحمدٍ (صَلى اللهُ عَلَيه وآلِهِ وسَلَمَ) )) [٣٧] يقول ابن ابي الحديد: ((يمكن أن يعني بالمستحفظين الخلفاء الذين تقدموا لأنهم الذين أستحفظوا الإسلام أي جعلوا حافظين له، وحارسين لشريعته ولحوزته ويجوز أن يعني به العلماء والفضلاء من الصحابة لأنهم استحفظوا الكتاب أي كلفوا بحفظه وحراسته)) [٣٨] .
ونعتقد هنا أنها الإشارة إلى الصحابة الذين كان لهم دور في حفظ الإسلام وتثبيت أركانه والدفاع عنه، ذلك انهم وقفوا هذا الموقف سواء في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو زمن الخلفاء من بعده، وكان مبتغاهم في ذلك هو خدمة الإسلام، ولو لا المواقف البطولية المشرفة لهؤلاء الصحابة لم يستطع الخلفاء النهوض بأعباء هذا الدين والوصول به إلى هدفه المنشود.
ولابن أبي الحدد تأويلات في كلام الإمام (عليه السلام): ((إنَّما تًؤتِي الأرضُ)) [٣٩]، يقول:- ((إنما تدهى الأرض من أعوز أهلها وفقرهم، والسبب الموجب لاعوازهم طمع ولاتهم في الجباية وجمع الأموال لأنفسهم، ولسلطانهم وسوء ظنهم بالبقاء ويحتمل الإمام (عليه السلام) أراد انهم يجمعون الأموال لأنفسهم ويظنون البقاء وينسون الموت والزوال، وأيضاً يحتمل أن يريد به انهم يتخيلون العزل والصرف فيتخذون الفرص ويجمعون الأموال ولا ينظرون إلى عمارة البلاد)) [٤٠] .
وفي الموضوع نفسه أي الفقر والفقراء يقول (عليه السلام):- ((فإِنَّ للأقصَى مِنهُم مَثْلُ الذي للأدنَى وكلٌّ قَد آسترعَيتُ حقَّهً)) [٤١] وكلام الإمام (عليه السلام) هنا الإشارة إلى مبدأ المساواة في توزيع العطاء الذي اتبعه في عملية أو سياسة توزيع الأموال على المسلمين، ومعلوم أن هذه السياسة كان معمولاً بها زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلافة أبي بكر، ألا أنها تغيرت زمن خلافة عمر بن الخطاب، الأمر الذي أوجد حالة من التفاوت الشاسع بين جماعة الصحابة واحدث فجوة في المجتمع الإسلامي، ولعلها السبب الفاعل في حدث (الفتنة) زمن الخليفة عثمان، وعودة الإمام (عليه السلام) إلى هذه السياسة لم ترض فئة كبيرة من الصحابة أو من كبار رؤساء القبائل من ميل الكثير منهم إلى معاوية [٤٢] .
وفي هذا القول هناك تأويل لابن أبي الحديد يقول فيه: أن يكون كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم من العطاء، ليس فيها أقصى أو أدنى وان لا يؤثر من هو قريب نسبا وعلاقة، على من هو بعيد ليس له سبب أو نسب إليك، ولا علاقة بينه وبينك وان لا تصرف غلات ما كانت من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك البلد فأن حق البعيد عن ذلك البلد فيها مثل حق المقيم في ذلك البلد [٤٣] .
ومن تأويلات ابن ابي الحديد ما كان في كلام للإمام (عليه السلام) يقارن فيها بين الشجرة الطيبة محمد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) والشجرة الخبيثة (بني أمية) يقول (عليه السلام):- ((وأَنّى يَكُونُ ذَلكَ كَذلكَ ومِنّا النبُّي ومِنكُم المًكذِّبُ ومِّنا أَسدُ اللهِ ومنّكُم أسدُ الأَخَلافِ)) [٤٤]، ((أي كيف يكون شرفكم كشرفنا، ومنا النبي ومنكم المكذب يعني أبا سفيان بن حرب، كان عدو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمكذب له والمجلب عليه، وهؤلاء الثلاثة أبو سفيان بأزاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاوية بازاء علي (عليه السلام) ويزيد بازاء الحسين (عليه السلام) بينهم من العداوة ما لا تبرك عليه الإبل)) [٤٥] ، وفي قوله (عليه السلام):- ((ومِنّا أَسْدُ اللهِ ومّنكُم أَسدُ الأحلاَفِ)) فقد عني بالأول حمزة، وفي الثاني عتبة ابن ربيعة)) [٤٦] ، ويقول (عليه السلام) ((ومِنّا سِيَدّا شبابِ أهل الجَنَّةِ)) [٤٧]. يعني حسنا وحسينا (عليهما السلام):- ((ومِنّكُم صِبيةُ النّارِ)) [٤٨] هي الكلمة التي قالها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعقبة ابي ابي معيط حين قتله صبرا في يوم بدر، وقد قال ((كالمستعطف من للصبية يا محمد؟ قال: النار، وقوله (عليه السلام):- ((وَمّنا خَيرُ نِسَاءِ العَالمِينَ)) يعني فاطمة(عليها السلام) نص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك لا خلاف فيه، ((ومِنْكُم حَماّلةُ الحَطَبِ)) وهي أم جميل بنت حرب بن أمية، امرأة أبي لهب الذي ورد نص القرآن الكريم فيها بما ورد)) [٤٩].
ونلحظ تأويل ابن أبي الحديد لهذا النص فيه حالة من الربط الموضوعي بين كلام الإمام (عليه السلام) والحوادث التاريخية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمعنى هذا الكلام وهذا مما يبعث على القول أن ابن أبي الحديد قد جعل تأويلاته اكثر واقعية، فضلا عن ذلك إنها استندت إلى نصوص الآيات القرآنية وأحاديث الرسول (صلى اله عليه وآله وسلم) والسيرة مما يعطي هذه التأويلات انطباعاً تاريخياً دقيقاً.
وعند تأويله كتاب الإمام (عليه السلام) لأهل مصر بتوليه الأشتر عليهما:- ((أَمّا بَعد فَقَد بَعثْتُ إليكُم عَبداً مِنْ عِبادِ اللهِ لا يَنَامُ أيَامَ الخَوفِ...)) [٥٠] ، يجد القارئ لهذا التأويل طعم الثقة وحلاوة النقاش الموضوعي المشتمل على طرح السؤال والإجابة عنه وهو أسلوب دقيق وعلمي يدل على سعة الاطلاع والخلفية التاريخية الثرية.
ومما يشار إليه هنا ان المصادر التاريخية قد ذكرت أسماء القتلة المباشرين كعمرو بن جرموز الذي قاتل فيما بعد مع أصحاب الجمل وبعدها قتل الزبير ومن ثم خرج مع الخوارج في النهروان وقتل هناك [٥١]، وكذلك هرقوص بن زهير من أهل البصرة من بني سعد، خرج مع الخوارج وقتل في النهروان [٥٢] .
وفيما يتعلق بقول الإمام (عليه السلام): ((إنِ الحكمُ إلاّ للهِ)) يقول ابن أبي الحديد في تأويله ((أي ليس حي من الأحياء ينفذ حكمه لا محالة ومراده لما هو من أفعاله إلا الحي القيوم وحده، فهذا هو معنى خذه الكلمة، وظلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين (عليه السلام) موافقته على التحكيم، وقالوا كيف يحكم، وقد قال الله سبحانه ((إن الحكم إلا لله))، فخلطوا لموضع اللفظ المشترك، وليس هذا الحكم هو ذلك الحكم، فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل لأنها حق على المفهوم الأول ويريد بها الخروج نفي كل ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى وذلك باطل لان الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع)) [٥٣].
---------------------------------------------------------------------
[١] . شرح نهج البلاغة : لابن ابي الحديد : ٧/ ٩٨ .
[٢] . ينظر : شرح نهج البلاغة : ٧/ ٩٩ .
[٣] . ينظر : المصدر نفسه : ٣/ ١٢ .
[٤] . المصدر نفسه: ٧/ ٩٨ .
[٥] . المصدر نفسه : ٧/ ١٠١ .
[٦] . ينظر : المصدر نفسه : ٣ / ١٢ .
[٧] . شرح نهج البلاغة : البحراني : ٣ / ٣١٢ .
[٨] . ينظر : المصدر نفسه : ٣/ ٣١٣ .
[٩] . منهاج البراعة : ٩ / ٢٠٦ .
[١٠] . ينظر : شرح نهج البلاغة :المعتزلي : ٦/ ١٤٧ ، شرح نهج البلاغة : البحراني : ٣/ ١٧٣ .
[١١] . شرح نهج البلاغة : المعتزلي : ١٦ / ١٤٨ .
[١٢] . المصدر السابق : ١٦ / ١٥١-١٥٢ .
[١٣] . شرح نهج البلاغة : ٥ / ٨٠ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة : المعتزلي : ٨/ ١٢٥ .
[١٥] . المصدر نفسه : ٨ / ١٢٦ .
[١٦] . ينظر : منهاج البراعة : ٧ / ١٤٦ .
[١٧] . شرح نهج البلاغة : ٢ /٣٨٧ .
[١٨] . ينظر : منهاج البراعة : ١٠ / ٢٠٧ .
[١٩] . شرح نهج البلاغة : المعتزلي : ٨/ ١٢٦ .
[٢٠] . ينظر : شرح نهج البلاغة : للبحراني : ٢ / ٩٢ .
[٢١] . ينظر : منهاج البراعة:١٠ /٢٠٧.
[٢٢] . المصدر نفسه: ٨ /٣١٧.
[٢٣] . منهاج البراعة: ٨/١٥٦، وينظر: شرح نهجة البلاغة: للمعتزلي: ٨/٣١٨.
[٢٤] . منهاج االبراعة: ٨/١٥٦.
[٢٥] . المصدر نفسه: ٨/٢٣٨.
[٢٦] . المصدر نفسه: ١٢/١٩.
[٢٧] . المصدر نفسه: ١٢/٢٣.
[٢٨] . المصدر نفسه: ١٢/٢٤.
[٢٩] . شرح نهج البلاغة: المعتزلي: ١/٢١٤.
[٣٠] . المصدر نفسه.
[٣١] . شرح نهج البلاغة: المعتزلي: ١/٢٧٦.
[٣٢] . المصدر نفسه: ١/٢٨٠.
[٣٣] . ينظر في ذلك: التاريخ اليعقوبي: ٢/١٧٧، العلل: احمد بن حنبل: ١/٢٨٧، المعيار والموازنة: الإسكافي: ٢٣.
[٣٤] . شرح نهج البلاغة: لابن ابي الحديد: ٤/٥٤.
[٣٥] . المصدر نفسه: ٤/١٢٥.
[٣٦] . شرح نهج البلاغة: ٤/١٢٥.
[٣٧] . المصدر نفسه: ١٧/٨٦.
[٣٨] . ينظر: المصدر نفسه.
[٣٩] . المصدر نفسه: ١٧/٨٦.
[٤٠] . المصدر نفسه.
[٤١] . شرح نهج البلاغة: ١٧/٨٥.
[٤٢] . للمزيد من التفاصيل ينظر: الغارات، الثقفي: ١/١٤٨، تاريح الطبري: الطبري: ٤/٥٤١، الفائق: الزمخشري: ١/٢٩٦.
[٤٣] . ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ١٧/٨٦-٨٧.
[٤٤] . المصدر نفسه: ١٥/١٨٢.
[٤٥] . المصدر نفسه.
[٤٦] . شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ١٥/١٩٦.
[٤٧] . شرح نهج البلاغة: ١٥/١٨٢.
[٤٨] . المصدر نفسه: ١٥/١٩٧.
[٤٩] . المصدر نفسه.
[٥٠] . ينظر: شرح نهج البلاغة: لابن ابي الحديد: ١٦/١٥٦.
[٥١] . ينظر: شرح نهج البلاغة: للمعتزلي: ١/٢٣٦، بحار الأنوار: المجلسي: ٣٢/٣٣٦.
[٥٢] . ينظر: المصدر السابق: ٢/٢٦٨، كشف الغمة: الاربلي: ١/٢٦٥.
[٥٣] . شرح نهج البلاغة: ١٩/١٧.
يتبع ....