إسلام الموسوي
ويقول عبد الرحمان بن أبي ليلى الفقيه، وهو ممّن قاتل مع الإمام في صفّين، أنّ الإمام كان يقول لهم حين لقوا أهل الشّام:
«أيُّها المؤمنُون. إنَّهُ من رأى عُدواناً يُعملُ بهِ، ومُنكراً يُدعى إليه فأنكرهُ بِقلبهِ فقد سلمَ وبَرئَ، ومن أنكرهُ بِلسانهِ فقد أُجِرَ، وهو أفضلُ من صاحبهِ. ومن أنكرهُ بالسَّيف لِتكُون كلِمةُ اللّه هي العُليا وكلِمةُ الظّالمين هي السُّفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهُدى وقام على الطَّريقِ، ونوَّر في قلبِه اليقينُ» [١] .
ونلاحظ هنا أنّ الإمام وضع للإنكار بالسّيف - وهو أقصى مراتب الإنكار باليد - شرطاً، هو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة اللّه لا العصبيّة العائلية أو العنصريّة، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشّخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إِلا أنّ الإمام عليه السّلام صرّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة على القيام بها من حيث أنّها قد تؤدّي إلى الجرح والقتل.
ويقدّر الإمام أنّ كثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير فلا يأمرون بالمعروف تاركه ولا ينهون عن المنكر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلك إلى الإضرار بهم: أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الإجتماعية للإهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للإنقطاع... وما إلى ذلك من شؤون.
وقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر والنهي عن المنكر عدم ترتب ضرر معتدٍّ به على الآمر والناهي.
ولكنّ كثيراً من الناس لا يريدون أن يمسّهم أيّ أذى أو كدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلوّ لا يمكن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعهِ كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فهو إنسان يستبدّ به القلق لأيّ انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلى أن يتصدّى للإنحراف بالشّكل المناسب، وهو الّذي قال فيه الامام في النّص السّابق «المستكمل لخصال الخير».
لقد نبّه الإمام - في موضعين من نهج البلاغة على أنّ التّخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذى ناشئ عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسهُ الّذي يشلّه فيحول بينه وبين الحركة المباركة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدى خطبه، وقد كانوا بحاجة إلى هذا التّوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورّط فيه كثير منهم من فتنة الجمل:
«وإنّ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق اللّه سُبحانهُ، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن أجلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ» [٢].
ونوجّه النظر إلى قوله عليه السّلام أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه عزّ وجلّ، فاللّه هو الآمر بكلّ معروف، والناهي عن كلّ منكر، وإذن، فإنّ المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل - حين يأمر وينهى - للّه تعالى ويتبع سبيله الأقوم.
وقال الإمام في موقف آخر :
«وإنَّ الأمرَ بالمعرُوف والنَّهي عنِ المُنكرِ، لا يُقرِّبان من أجلٍ ولا ينقُصان من رزقِ» [٣].
قلنا إنّ إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع الدّائمة، وإحدى الطّاقات الفكرية الحيّة المحرّكة للمجتمع كان من شواغل الإمام الدّائمة.
وكان يحمله على ذلك عاملان :
أحدهما أنّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمّته، ويعلّمها ما جهلت، ويعمّق وعيها مما علمت، ويجعل الشّريعة حيّة في ضمير الأمة وفي حياتها.
وثانيهما هو قضيته الشّخصيّة في معاناته لمشاكل مجتمعه الدّاخلية والخارجية في قضايا السّياسة والفكر.
فقد كان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمكن علاجها والتغلب عليها إِلا بأن يجعل كلّ فرد بالغ في المجتمع - والنّخبة من المجتمع بوجه خاص - من قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، في كلّ موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.
لقد شكا الإمام كثيراً من النّخبة في مجتمعه، وأدان هذه النّخبة بأنّها نخبة فاسدة في الغالب لأنّها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنّما تخلّت عن هذه القضية سعياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية...
أكثر من هذا: لقد اتّهم الإمام هذه النخبة مراراً بأنّها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الّذي لا مبرّر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذ يئس الإمام من التّأثير الفعّال في هذه النّخبة فقد توجّه بشكواه رأساً إلى عامة الشّعب محاولاً أن يحركه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة، موجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذراً له من تطلّعات نخبته.
نجد هذا التّوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهراً في الخطبة القاصعة الّتي تضمّنت ألواناً من التّحذير، النّابض بالغضب، من السقوط في حبائل النّخبة.
وكانت قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر - فيما يبدو - والتراخي أو اللامبالاة الّتي تظهرها النّخبة نحو هذه القضية - إحدى أشدّ القضايا إلحاحاً على ذهن الإمام وأكثرها خطورة في وعيه.
وكان أسلوب التّنظير بالتاريخ إحدى الوسائل الّتي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفكري لهذه الفريضة.
لقد كانت شكواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع بوجه خاص.
ولا بدّ أنّ هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام مراراً كثيرة مثل الشّكوى التّالية الّتي قالها في أثناء كلام له عن صفة من يتصدّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:
«إلى اللّه أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهالاً ويمُوتُون ضُلالاً. ليس فيهم سِلعة أبورُ [٤] مِن الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنكرِ» [٥].
كان النّهج الّذي سار عليه الإمام في حكمه نهج الإسلام الّذي يستجيب لحاجات عامّة النّاس في الكرامة، والرّخاء، والحرّيّة.
وكان هذا النّهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الّذِين اعتادوا على الإستماع بجملة من الإمتيازات في العهد السّابق على خلافة أمير المؤمنين علي (ع).
وقد كان لهذه الطّبقة ذات الإمتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتّى الأساليب دون تسلّم الإمام للسّلطة في الفرص الّتي مرّت بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وبعد وفاة أبي بكر، وبعد وفاة عمر، ولكنَّه بعد وفاة عثمان تسلّم السلطة على كراهية منه لها، وعلى كراهية من النّخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأكثرية الساحقة من المسلمين في شتّى حواضر الإسلام شلّ قدرة النّخبة المالية وطبقة الأعيان على التأثير في سير الأحداث، فتكيّفت مع الوضع الجديد الّذي وضع الإمام علياً - بعد انتظار طويل - على رأس السّلطة الفعليّة في دولة الخلافة.
وقد كشفت الأحداث الّتي ولدت فيما بعد عن أنّ هذا التكيّف كان مرحليّاً، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة ما - لتأمين مصالحها وامتيازاتها.
وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمكان التّأثير على الإمام وتبدّدت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييراً ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراكزها القديمة، ويبوّئها مراكز جديدة ويمدّها بالمزيد مِن القوة والسّلطات على القبائل والموالي من سكّان المدن والأرياف... حين يئست هذه الطّبقة من كلّ هذا وانقطع أملها.. طمع كثير من أفراد هذه الطّبقة بتطلّعاته إلى الشّام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التّعامل مع أمثالهم ما يتّفق مع فهمهم ومصالحهم... وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسكرية في مواجهة النشاط العسكري المتزايد الّذي قام به الخارجون عن الشّرعية في الشّام، هذا النّشاط الّذي اتّخذ في النّهاية طابع الغارات السّريعة وحروب العصابات.
وكان تخاذلاً لا يمكن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شك على الإطلاق.
ولا يمكن تبريره بقلّتهم، فقد كانت الأمّة قادرة على أن تزود حكومتها الشرعية بجيوش جرّارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح الّتي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.
ولا يمكن تبريره بنقص في التّسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السّلاح نشطة لتأمين إحتياطي ضخم من السّلاح لمجتمع كان لا يزال محارباً.
ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الإقتصاديّة، فقد كان المال العام وفيراً بعد أن أصلحت الإدارة الماليّة في خلافة الإمام.
لم يكن إذن ثمة سبب للتّخاذل سوى الموقف السّياسي غير المعلن الّذي صممت النّخبة من الأعيان وزعماء القبائل على التّمسك به والتّصرّف في القضايا العامّة وفقاً له، إلى النّهاية، وذلك بهدف تفريغ حكومة الإمام علي من قوة السّلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفّر الوسائل الضّرورية لها، وهذا ما يؤدّي في النّهاية إلى انتصار التّمرّد على الشّرعية.
كان هذا الموقف السّياسي غير المعلن هو سبب التّخاذل.
وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النّخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأنّ هذه النخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمّة أن يكتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.
وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصاً كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوماً قاسياً مرّاً على تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدّفاع عن الشرعية، ولا شكّ أنّ الإمام في آخر عهده كان مضطرّاً للإكثار من هذا اللّوم والتقريع، كقوله في إحدى خطبه:
«ألا وإنّي قد دعوتُكم إلى قتالِ هؤلاءِ القوم ليلاً ونهاراً، وسِرّاً وإعلاناً، وقلتُ لكُم: اغزُوهُم قبل أن يغزوكُم، فو اللّه ما غُزي قوم قطُّ في عُقرِ دارهِم [٦] إلا ذلُّوا، فتواكلتُم وتخاذلتُم [٧]، حتّى شُنَّت [٨] عليكُمُ الغاراتُ، ومُلِكت عليكُمُ الأوطانُ...
فيا عجباً! عجباً واللّهُ يُميتُ القلب، ويجلبُ الهمَّ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلِهم، وتفرُّقِكم عن حقِّكم! فقُبحاً لكُم وترحاً [٩] حين صِرتُم غرضاً يُرمى: يُغارُ عليكم ولا تُغيرُون، وتُغزون ولا تغزُون، ويُعصى اللّه وترضون.
«فإذا أمرتُكم بالسَّيرِ إليهم في أيّامِ الحرِّ قلتُم: هذه حمارةُ القيظ أمهلنا يُسبخُ عنّا الحرُّ [١٠]، وإذا أمرتُكُم بالسير إليهم في الشتاء قلُتُم: هذه صبارَّةُ القُرِّ [١١] ...
كُلُّ هذا فِراراً من الحرِّ والقُرِّ، فإذا كُنتُم مِن الحرِّ والقُرِّ تفرُّون، فأنتُم واللّهِ من السيف أفرُّ.»
«يا أشباه الرِّجالِ ولا رجال ! حلُومُ الأطفالِ، وعُقُولُ ربَّاتِ الحجالِ [١٢] لوددتُ أنّي لم أركُم ولم أعرفكُم معرفةً - واللّه - جرَّت ندماً وأعقبت سدماً» [١٣].
«قاتلكُمُ اللّهُ! لقد ملأتُم قلبي قيحاً، وشحنتُم صدري غيظاً، وجرعتُمُوني نُغب التَّهمامِ أنفاساً [١٤] وأفسدتُم عليّ رأيي بالعصيانِ والخذلانِ، حتَّى لقد قالت قُريش: إن ابن أبي طالبٍ رجُل شُجاع ولكن لا عِلم لهُ بالحرب، للهِ أبُوهُم وهل أحد منهُم أشدُّ لها مراساً وأقدمُ فيها مقاماً منِّي لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين وهأنذا قد ذرَّفتُ [١٥] على السِّتِّين! ولكن لا رأي لِمن لا يُطاعُ» [١٦].
بهذه المرارة، وبهذا الغضب، وبهذه السّخرية، وبهذا الإحتقار كان الإمام يواجه هذه النخبة الّتي تخاذلت عن القيام بواجبها، أو خانت قضية شعبها.
ويبدو أن هذه الطبقة - أو فريقاً منها - كانت تحاول، ستراً لمواقفها الّتي عمل الإمام على فضحها، أن تتظاهر في بعض الحالات بالغيرة والحميّة الدّينية، فتتخذ مواقف لفظية آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر دون أن تترجم ذلك إلى أفعال وممارسة عملية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين ممّن يسترون خياناتهم وأنانيتهم، وحرصهم على المتاع الدّنيوي بالمواقف الأخلاقية اللّفظية.
ولكنّ الإمام عليّاً كان يعرف هؤلاء، ومن السّهل معرفتهم في كلّ زمان، وكان يفضح هذه المواقف المنافية بقسوة، لأنها تضيف إلى جريمة الخيانة السّياسيّة رذيلة النّفاق والتّمويه على بسطاء النّاس، فيقول مبصِّراً مجتمعه بفساد العلاقات الناشئ من فساد النّخبة:
«...وهل خُلقتُم إلا في حُثالةٍ [١٧] لا تلتقي إلا بذمِّهمُ الشَّفتان، استصغاراً لقدرهِم، وذهاباً عن ذكرهِم، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون».
«ظهر الفسادُ فلا مُنكر مُغيِّر، ولا زاجر مُزدجِر. أفبهذا تُريدُون أن تجاورُوا اللّه في دارِ قُدسهِ، وتكُونوا أعزَّ أوليائهِ عندهُ ؟ هيهات! لا يخدعُ اللّه عن جنَّتهِ، ولا تُنالُ مرضاتُهُ إلا بطاعتهِ.»
«لعن اللّهُ الآمرين بالمعرُف التّاركين لهُ، والنّاهين عن المُنكر العاملين بهِ» [١٨].
وإذا كانت مصلحة الحكم المستبد الطبقي أو الفئوي تقضي بأن يصمت الشعب ولا يرتفع منه صوت اعتراض أو احتجاج، أو إدانة مهما أصابه من مظالم، ومهما حلّ بحقوقه من انتهاكات، فإنّ مصلحة الحكم الشّعبي الملتزم بالمصالح الحقيقيّة للناس العاديّين البسطاء هي على العكس من ذلك...
إنّ مصلحة هذا الحكم الّذي يستمدّ فاعليته وقوته من مجموع الشعب هي في أن يتكلّم النّاس في الشّأن السّياسي مؤيدين أو منتقدين لحماية مصالحهم الحقيقيّة في مواجهة البنى العليا في المجتمع الّتي تتبع سياسات مضادّة لمصالح مجموع الشعب على المدى القريب أو البعيد، والّتي تعمل باستمرار لتكوين حالات اجتماعية، ومشاغل واهتمامات فكريّة تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهرية [١٩] وتقعد بها عن مساعدة الحكم الشّعبي الّذي يمثل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البنى العليا في أن تؤلّب بعض فئات الشّعب - نتيجة للتّضليل - ضد هذا الحكم.
وسكوت الشّعب في حالة النّشاط المعادي الّذي تقوم به البنى العليا، أو عدم مبالاته، بترك السّاحة خالية أمام هذه القوى لتفسد على الحكم الشّعبي سياساته المستقبليّة دون أن تخشى عقاباً، لأنّ الحكم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلك القوى وهو أعزل، وهذا يمنعها من التّغلب عليه أو من تجاوزه. وهذا ما كان يحدث في كثير من الحالات في عهد الإمام عليه السّلام، وكان يثير غضبه على النّخبة لفسادها، ويحمله على كشف عيوبها أمام أعين النّاس.
لقد كان الإمام عليه السّلام حريصاً أشدّ الحرص على أن يحرّك الجماهير ويدفع بها دوماً إلى أن تعبّر عن رأيها، وتعلن عن مواقفها.
وتعكس لنا النّصوص إدراك الإمام العميق للأهميّة الكبرى والحاسمة الّتي تبيّنها هذه المسألة في عمله السّياسي، وذلك في مظهرين:
الأوّل :
كثرة المناسبات الّتي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتنوّع الأساليب الّتي شرحه بها. وهذا أمر ملفت للنّظر بالنّسبة إلى حكم شرعي ثابت في القرآن الكريم والسّنّة النبوية ويعتبره الفقهاء من الأحكام القطعية الضّرورية، إنّ هذا الإهتمام المستمر على مسألة الأمر والنّهي يكشف عن أنّ الإمام كان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحكم الشّرعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخ عن القيام بهذه الفريضة الإسلامية على وجهها، وهذه الغفلة وهذا التّراخي حملاه على أن يذكّر المسلمين بفريضة الأمر والنّهي ما استطاع.
الثّاني :
عنف الأسلوب الّذي عبّر به الإمام عن أفكاره وعن معاناته حين كان يوجّه خطاباته إلى المسلمين في هذا الموقف أو ذاك مقرّعاً لائماً، أو مشجعاً حاثاً لهم على أداء هذه الفريضة... وهو ما يكشف عن أنّ الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مكبوت نتيجة لما يراه في المجتمع من إهمال. وتراخ.
وقد حثّ الإمام المسلمين على الإلتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في حياتهم العامّة وعلاقاتهم الإجتماعية والسّياسيّة بأساليب متنوعة، ونظر إليها من زوايا متعدّدة.
ومن جملة الأساليب الّتي اتّبعها في تعليمه الفكري والسّياسي بِالنّسبة إلى هذه الفريضة أسلوب التّنظير التّاريخي، فمن ذلك قوله في الخطبة القاصعة:
«وإنَّ عِندكُمُ الأمثال مِن بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيّامهِ ووقائعهِ، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بأخذهِ، وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسهِ، فإنّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم، إلا لتركِهمُ الأمر بالمعرُوف والنّهي عن المُنكر، فلعنَ اللّه السُّفهاء لِرُكُوبِ المعاصي، والحُلماء لترك التَّناهي» [٢٠].
نلاحظ أنّ الإمام عبّر في هذا النّص، كما في نصوص أخرى - عن إنكاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاون وتراخ في امتثال فريضة الأمر والنّهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرّقيقة الهادئة إلى الإنذار الشّديد، والتّحذير من أهوال كبرى مقبلة، واستعان على تصوير ذلك بالتذكير بما حلّ في القرن الماضي من اللّعن نتيجة لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.
واللّعن هنا ليس عقاباً روحياً وأخروياً فقط، إنّه هنا يأخذ معنى سياسيّاً، إنّ اللّعن هو البعد عن رحمة اللّه ورعايته، وهذا يعني أنّ الملعون يتعرّض للنّكبات السياسيّة والإجتماعيّة الّتي تؤدي به في النهاية إلى الإنحطاط والإنهيار.
والظاهر أنّ الإمام يعني بالقرن الماضي الإسرائيليّين، فإنّ في كلامه هنا قبساً من الآية الكريمة:
«لُعِنَ الذينَ كفرُوا من بني إسرائيلَ على لِسانِ داوُد وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانُوا يعتدُونَ. كانوا لا يتناهونَ عن مُنكرٍ فعلُوهُ لبئسَ ما كانُوا يفعلُون» [٢١].
في النّص التالي اتّبع الإمام أسلوب التّنظير بالتاريخ أيضاً في تعليمه الفكري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، معيداً إلى أذهان مستمعيه قصة ثمود القرآنية، والنّكبة المرعبة الّتي أبادتهم حين عصوا أمر اللّه تعالى إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح (ع).
وليس من همنا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني، وإنّما نبغي الكشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفكري.
والإمام في التّنظير الوارد في النّص التّالي يثير مسألة ذات أهمية بالغة في العمل السّياسي، وهي أنّ حركة التاريخ تقودها دائماً جماعة قليلة العدد من الناس تملك القدرة على الحركة فتبادر إلى اتخاذ المواقف، في حين أنّ غيرها من الناس يكون في حالة سكون، فتكوّن بحركتها وقائع جديدة تحمل الناس على قبولها، وتضع السّلطة أمام أمر واقع.
وحين تكون هذه الجماعة المتحركة القليلة العدد ملتزمة بقضايا مجتمعها، عاملة في سبيل مصلحته، فإنّ واجب المجتمع أن يساندها ويقدّم لها العون المعنوي والمادّي في جهادها.
أمّا حين تعمل هذه الجماعة ضد مصالح المجتمع العليا والحقيقة - رغم ما توشّي به عملها من ألوان خادعة - فإنّ على المجتمع أن يتحرك ويقف في وجهها، ويلجم اندفاعها ذوداً عن مصالحه.
أمّا سكوت المجتمع وسكونه وسلبيته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنّه جريمة يرتكبها في حق نفسه، لأن الكارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحركة لا تميّز بين المسبّبين لها وبين السّاكتين عنهم. إنّها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع كلّه، بل لعلّها، في قضايا السّياسة والفكر، تصيب السّاكتين عنها أكثر ممّا تصيب المسبّبين لها، والّذين تكمن مصلحتهم في الإنحراف والتزوير.
ومن هنا فإنّ ما اصطلح عليه في لغة السّياسة في هذه الأيام باسم الأكثريّة الصّامتة، هذه الأكثريّة الّتي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة،... هذه الأكثريّة الصّامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطئ على الجريمة.
وذلك لأن الصّمت في هذه الحالات ليس علامة على البراءة والطّيبة، وإنّما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤولية.
وهذه السّلبية الّتي هي في مستوى الجريمة لا تعفى من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السّلطة وإنّما تقوم به القوانين الإجتماعية الّتي تصنع الكارثة، يقوم به القدر الّذي لا يميّز بين السّاكن والمتحرك وإنّما يجرف الجميع، يقوم به اللّه تعالى الّذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم: المتحركين بذنب المعصية، والساكتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتكبوا جرائمهم.
ولذا، فإنّ الأكثرية الصّامتة، من هذا المنظور، لا تضمّ أبرياء، وإنّما تضمّ متواطئين وجبناء، سبّبوا، بإيثارهم للسّلامة الشخصية العاجلة، كوارث عامّة مستقبليّة، وجبنهم الّذي يكشف عن أنانيتهم الرّخيصة والذلّيلة يكشف عن أنّهم ليسوا جيلاً صالحاً لأن يبني حياة مزدهرة.
إنّ الكوارث الإجتماعية، كالكوارث الطّبيعيّة، تجرف في طريقها، حين تقع النّبات النّافع والنّبات الضّار، ولا تميّز بينهما في الدّمار.
قال عليه السلام:
«...وإنّهُ سيأتي عليكُم من بعدي زمان ليس فيه شيء من الحقِّ، ولا أظهر من الباطلِ، ولا أكثر من الكذبِ على اللّه ورسُوله، وليس عند أهلِ ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته، ولا أنفق منهُ إذا حُرِّفَ عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكرَ من المعرُوف ولا أعرف من المنكرِ، فقد نبذ الكتاب يومئذٍ حملتُهُ، وتناساهُ حفظتُهُ فالكِتابُ يومئذٍ وأهلُهُ طريدانِ منفيّانِ، وصاحبان مُصطحبان في طريقٍ واحدٍ لا يؤويهُما مؤو...
فالكتابُ وأهلُهُ في ذلك الزمانِ في النّاسِ وليسا فيهم، ومعهُم وليسا معهُم، لأنّ الضَّلالةَ لا تُوافِق الهُدى وإن اجتمعا...» [٢٢].
وتصور الفقرة الأخيرة من هذا النّص أبلغ تصوير واقع الإنفصال بين الأمّة وبين قيادتها الفكريّة نتيجة لاغترابها الثقافي، وانفصالها - في مجال تكوين المفاهيم والتوجيه - عن أُصولها الفكريّة.
وهذا الإغتراب الثّقافي - الحضاري النّاشئ عن هجر الأصول - وليس عن التّفاعل مع الآخرين - يؤدّي إلى موقف في المنكر والمعروف خطير، فإنّ ثمّة مقياسينِ للقيم والمثل الأخلاقية. أحدهما المقياس الموضوعي، والآخر المقياس الذّاتي.
المقياس الموضوعي هو الّذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعاً للقيم الأخلاقية ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، يكون منبع القيم هو العقيدة والشّريعة الإسلاميتان.
وكذلك الحال في مجتمع مسيحي مثلاً أو بوذي.
وهذا المقياس يقضي بأن يكون المجتمع ملتزماً بعقيدته وشريعته في مؤسساته ونظمه وعلاقاته بدرجة تجعله تعبيراً عن تلك العقيدة والشّريعة.
والمقياس الذّاتي هو الّذي يجعل منبع القيم الأخلاقية شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الّذي يخترع أخلاقياته وقيمه الّتي تكيّف سلوكه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل المجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقيم خارج الذّات للقيم والأخلاقيّات.
قال عليه السلام :
«أيُّها النّاسُ. إنَّما يَجمَعُ النّاسَ الرِّضَى والسُّخْطُ ،وَانَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُل وَاحِد، فَعَمَّهُمُ اللّه بِالعَذابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَى » [٢٣].
وقد حذر الإمام بجتمعه في إحدى استبصاراته نحو المستقبل من وضعية فكرية وثقافية تودّي إالى هجر الأصول الثقافية والفكرية التي تكوّن روح المجتمع الإسلامي وتسمه بطابعه الخاص المميّز له عن سائر التجمعات الثقافية - الحضارية ، وتعطيه دوره المميز والخاص في حركه التاريخ العالمي وبناء الحضارة ... وتؤدي به - نتيجة لاتبثاقه عن أصوله - إلى أن يكون نسخة من ثقافة أُخرى ، ووحدة من وحدات حضارة اخرى ، وتغدو الاصول الثقافية التي ترجع كلّها الى الكتاب والسنّة مجرّد أشكال يتداولها النّاس دون أن يكون لها دور في تكوين المفاهيم، وبناء الشخصية، ورسم طريق العمل.
إنّ المسلمين أنفسهم، يومئذٍ سينبذون الكتاب باعتباره مصدراً للمفاهيم الفكريّة، ويتّجهون نحو منابع غريبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم، يستمدّون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوكي.
وننبّه هنا إلى أنّ الإغتراب الثقافي النّاشئ عن هجر الاُصول - وهو ما حذّر الإمام منه - غير الإنفتاح الثقافي- الحضاري الذي يتولّد من الطموح إلى التّفاعل مع الآخرين واكتشاف صيغهم الحضاريّة والتعرّف على فتوحهم الفكريّة مع الحفاظ على الأصول، والأمانة للذّات ومقوّماتها...فهذا الإنفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقد مارسه المسلمون وكانوا سادة فيه حين أنشأواالحضارة الإسلاميّة العظيمة التي انفتحت على كلّ الإنجازات الخيّرة في الحضارات الأخرى، فاكتشفوها وكيّفوها وفقاً لقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيات الإسلام المستمدة من الكتاب والسّنّة والفقه.
وحينئذٍ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرّسمية وشريعته، وبين أخلاقيّات وقيم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، أو مسيحي أو بوذي، لا بّد أن نكتشف - في حالة شيوع المقياس الذاتي للقيم بين الأفراد - أن التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شكلي يرافق الإلحاد العملي.
والأثر الذي يترتب على التزام المقياس الموضوعي للقيم في المجتمع أو المقياس الذّاتي هام جداً.
أولاً :
يؤدّي اعتماد المقياس الموضوعي إلى نمو الفرد دون عُقد وتمزقات داخلية، لأنه يوفّر حالة التّجانس والتّكامل بين محتوى الضّمير والعقل وبين التعبير السّلوكي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.
أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى خلاف ذلك، لأنّ اتباع المقياس الذّاتي يحدث للفرد تمزقات داخلية وعُقداً في نفسه، لأنّه يجعله دائماً في حالة تعارض وتجاذب بين الزام العقيدة والشّريعة وبين رغبات الذّات باعتبارها مصدراً للقيم، ويؤدي ذلك إلى انعكاسات ضارة لا تقتصر على الأفراد، وإنّما تتجاوزهم إلى المجتمع نفسه.
وثانياً :
إنّ المقياس الموضوعي بما يوفّره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقياته من جهة ومعتقده وشريعته من جهة أخرى يؤدي إلى تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع، ويكوّن لدى المجتمع نظرة إلى المشكلات، ويؤدّي أيضاً إلى تكوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التّحديات الّتي تواجه المجتمع.
أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى العكس من ذلك. إنّه يؤدّي إلى تخلخل البنية الإجتماعية، وتعدّد الفئات ذات المنازع الفكريّة والسّياسيّة المختلفة، ويكوّن مناخاً ملائماً لتولّد المشاكل الإجتماعية وتعاظمها، لأنّ المقياس الذّاتي لدى الأفراد والجماعات شديد التنوّع والإختلاف.
وهذا التّشرذم يؤدّي: أمّا إلى العجز عن اتخاذ مواقف موحّدة على الصّعيد القومي أو الوطني نتيجة لتعدّد الإرادات والميول، وأمّا إلى الإستسلام للدّعاية السّياسيّة الّتي يخطط لها وينفذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصة يخضع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها على قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقية للأمّة، وإنّما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الّذي يملك وسائل الدّعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدّي إلى كوارث كبرى على الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلى الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخرى، حيث يعرّض سلام العالم كلّه أو سلام قارّة بكاملها لمطامح ومطامع حفنة صغيرة من الناس تكيّف عقول شعوب بكاملها، دافعة بها إلى اتخاذ مواقف سياسيّة تناقض مصالحها الوطنية، ومصالح جميع الشّعوب، وقضية فلسطين أكبر شاهد على ما نقول.
لقد نبّه الإمام عليه السّلام إلى هذا الخطر، وحذّر منه مجتمعه، فقال :
«فيا عجباً، وما لي لا أعجبُ مِن خطإِ هذه الفرقِ على اختلاف حُججها في دينها، لا يقتصُّون أثر نبيٍّ، ولا يقتدُون بعملِ وصيٍّ، ولا يؤمنون بغيبٍ، ولا يعفُّون [٢٤] عن عيبٍ. يعملُون في الشُّبُهات ويسيُرون في الشَّهواتِ. المعروفُ فيهم ما عرفُوا والمُنكر عندهُم ما أنكروا. مفزعُهُم في المُعضلاتِ إلى أنفُسهم وتعويلُهُم في المُهمّاتِ على آرائهم، كأنَّ كُلَّ امرئٍ منهُم إمام نفسهِ، قد أخذَ منها فيما يرى بعُرىً ثقاتٍ وأسبابٍ مُحكماتٍ» [٢٥].
وأخيراً، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عند الإِمام علي (ع) أنّه جعلها إحدى وصاياه البارزة الهامّة لابنيهِ الإمامين الحسن والحسين.
وقد تكرّرت هذه الوصية مرتين. إحداهما لابنه الإِمام الحسن في وصيته الجامعة الّتي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين. والأخرى في وصيته للإمامين الحسن والحسين في وصيته لهما وهو على فراش الإستشهاد بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسّيف.
قال عليه السّلام في الوصية الأولى :
«...وأمُر بِالمعرُوفِ تكُن من أهلهِ، وانكرِ المُنكر بيدك ولِسانِك وباين [٢٦] من فعلهُ بجُهدك وجاهد في اللّه حقَّ جهادِه ولا تأخُذك في اللّه لومةُ لائمٍ» [٢٧].
وقال عليه السّلام في الوصية الثّانية :
«...اُوصيكُما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغهُ كتابي... وعليكُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ، وإيَّاكُم والتّدابُر والتّقاطُع، لا تترُكُوا الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ فيُولى عليكُم شرارُكُم، ثُمَّ تدعُون فلا يُستجابُ لكُم» [٢٨].
سلام اللّه على عليّ في الخالدين..
---------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: ٣٧٣.
[٢] . نهج البلاغة - رقم الخطبة ١٥٦.
[٣] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص ٣٧٤.
[٤] . أبور - على وزن أفعل - من البور، الفاسد، بار الشيء أي فسد، وبارت السّلعة أي كسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا: أنّ العمل الحق بالقرآن كاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.
[٥] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٧.
[٦] . عُقر دارهم: أصل دراهم، والعُقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، كأنّه أصل المال.
[٧] . تواكلتم: من وكلت الأمر إليك ووكلته إليّ، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كلّ واحد على الآخر.
[٨] . شُنّت الغارات: فرقت، أي نشبت الحروب الصّغيرة في أماكن متعدّدة (حرب العصابات).
[٩] . دعاء عليهم بالخزي والسّوء: القبح، والتّرح.
[١٠] . حمارّة القيظ: شدّة حره. ويسبخ عنا الحر: بمعنى يخفّ، ويلطف الهواء.
[١١] . صبارّة الشّتاء: بتشديد الرّاء - شدة برد الشّتاء. وهذه هي الأعذار الّتي كانوا يبرّرون بها تخاذلهم ويلوذون بها دون كشف موقفهم السّياسي الّذي بيّناه.
[١٢] . الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالسّتور، والثّياب، والأسرّة.
[١٣] . السّدم: الحزن والغيظ.
[١٤] . النّغب: جمع نغبة: وهي الجرعة، والتّهمام: الهمم، أنفاساً: جرعة بعد جرعة.
[١٥] . ذرّفت: زدت على السّتين.
[١٦] . نهج البلاغة - الخطبة رقم: ٢٧.
[١٧] . الحثالة: الرديء من كلّ شيء.
[١٨] . نهج البلاغة - الخطبة رقم ١٢٩.
[١٩] . في المؤتمر الّذي عقده الخليفة عثمان بن عفان، عند تعاظم موجة الإحتجاج والتّذمر - وجمع الولاة والعمال الكبار - لمعالجة الموقف المتفجّر بالغضب والنّقمة على سياسة الدّولة - كان اقتراح عبد اللّه بن عامر، حاكم ولاية البصرة أن تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة ليشغل الجنود بمشاكل حياتهم اليوميّة عن النشاط السّياسي - ومن المؤسف أنّ هذا الإقتراح هو الّذي تمّ العمل به فأدى إلى الفتنة الكبرى.
[٢٠] . نهج البلاغة: الخطبة رقم: ١٩٢.
[٢١] . سورة المائدة (مدنيّة - ٥) الآية: ٧٨ - ٧٩.
[٢٢] . نهج البلاغة - الخطبة رقم ١٤٧.
[٢٣] . نهج البلاغة - رقم النص ٢٠١.
[٢٤] . ولا يعِفّون: أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليلٍ بيّن، أو شريعة واضحة. يثق كلّ منهم بخواطر نفسه، كأنّه أخذ منها بالعروة الوثقى على ما بها من جهل ونقص
[٢٥] . نهج البلاغة - الخطبة رقم ٨٨.
[٢٦] . باين: أي باعِد وجانِب.
[٢٧] . نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النّص: ٣١.
[٢٨] . نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النّص: ٤٧.
انتهى .
منقول من كتاب الامام علي وحركة التاريخ – إسلام الموسوي
نشر مركز الرسالة (سلسلة المعارف الاسلامية -٢٣ )