وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
في رحاب نهج البلاغة – الأول

المدخل

نهج البلاغة كتاب عظيم بما يحمل من علوم ومعارف إلهيّة، وبما له من قدرة على حلّ جميع المشاكل البشرية في شتّى مجالات الحياة، وتشخيص الأمراض النفسية والروحية، وتشخيص علاجها بالصورة الصحيحة والدقيقة، وبيان المعايير والموازين التي على أساسها تُعرف قيمة الإنسان، وبيان كيفية تنظيم علاقة الإنسان بربّه من خلال الالتزام بالأوامر والنواهي، وعدم التعلّق بالدّنيا وألاّ يتّخذها غاية وهدف لوجوده، كذلك يبيّن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وكيفية التعامل معه.

نهج البلاغة كتابٌ إنساني بما للكلمة من معنى؛ لأنّه لم يجعل المعيار في التفاضل بالمال أو المنصب أو الجاه أو الحرّية والعبودية، وإنّما بالتّقوى وبالقيم والمبادئ والأخلاق، وطالب في المساواة في الحقوق بين الناس لا على أساس التمييز العنصري.

لاريب أنّ نهج البلاغة هو من أثمن وأهمّ تراث ثقافي في الإسلام بعد القرآن الكريم والسنّة النبويّة؛ لأنّه صدر من إنسان عظيم في علمه وكماله وفضائله وفصاحته وبلاغته، إنسان ارتقى إلى أعلى مراتب الكمال بعد النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل هو نفس النبيّ؛ وهو سيّد الموحّدين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

وسنتعرّف في هذا الدرس على الكتاب ومؤلفه :

المبحث الأول : التعرّف على الكتاب والمؤلّف

نتعرّض في هذا العنوان إلى قسمين:

أوّلاً: حياة الشريف الرضي

للتعرّف على حياة وشخصية الشريف الرضي ومكانته وفضله لابدّ من بيان عدّة اُمور:

١ ـ نسبه الشريف

هو أبو الحسن محمّد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر

الصادق(عليه السلام) [١].

اُمّه فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن الناصر، ينتهي نسبها إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام).

٢ ـ ولادته ووفاته

ولد الشريف الرضي في بغداد سنة (٣٥٩هـ) وترعرع في اُسرة عُرفت بالتقوى والورع والعلم وشرف النسب من جهة الأعمام والأخوال، وتوفّي في بغداد سنة (٤٠٦هـ) [٢]، ودفن فيها في جانب الكرخ.

٣ ـ حياته العلمية

بدأ السيّد الرضي منذ طفولته ـ وبمعيّة أخيه السيّد المرتضى ـ باكتساب العلوم التمهيدية، فأبدى ذكاءً وقّاداً ومواهب نادرة في شتّى الأصعدة العلميّة. ولم يكن قد مضى من عمره الشريف عشرة أعوام حينما شرع بنظم الشعر، وأبدى في هذا المجال قريحة غير مسبوقة، ولم يتجاوز العشرين من سنّه إلاّ وكان قد تميّز عن كلّ أقرانه في جميع المعارف والعلوم الإسلاميّة، وبلغ في نظم الشعر مرتبة لم يبلغها غيره.

وقد كان فذّاً في كلّ الصفات الحميدة، كعزّة النّفس، وبُعد النظر، والسخاء، والسماحة، والالتزام بالشرع، واجتناب التملّق والضعة، والزهد، والتقوى. وكان حرّ النفس والتفكير.

قال العلاّمة الأميني :

«على الباحث عن مواقفه ومقاماته ونفسياته الكريمة أن يقرأ ولو بصورة مصغّرة دروس المناصب التي تولاّها الشريف، فعندئذٍ يجد صورة مكبّرة تجاه عينه، ممثلة من العلم، والفقه، والحكمة، والثقة، والسداد، والأنَفَةِ، والفتوّة، والهيبة، والعظمة، والجلال، والروعة، والوفاء، وعزّة النفس، والرأي، والحزم، والعزم، والبسالة، والعفّة، والسؤدد، والكرم، والإباء، والغنى عن أيّ أحدٍ» [٣].

٤ ـ ألقابه

لقّبه بهاء الدولة سنة (٣٨٨هـ) بالشريف الأجلّ، وفي سنة (٣٩٢هـ) بذي المنقبتين، وفي سنة (٣٩٨هـ) بالرضيّ ذي الحسبين، وفي سنة (٤٠١هـ) أمر أن تكون مخاطبته ومكاتباته بعنوان «الشريف الأجلّ»، وهو أوّل من خوطب بذلك من الحضرة الملوكية [٤].

٥ ـ المناصب التي شغلها الشريف الرضي

تولّى الشريف نقابة الطالبيّين [٥] ، وإمارة الحاجّ والنظر في المظالم سنة (٣٨٠هـ) .

وهو ابن إمارة الحاجّ [٦]، والنظر في المظالم [٧] سنة (٣٨٠هـ)، وهو ابن (٢١) عاماً على عهد الطائع، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة سنة (٣٩٧هـ)، ثمَّ عهد إليه في ٦ محرّم سنة (٤٠٣هـ) بولاية اُمور الطالبيّين في جميع البلاد، فدُعي: «نقيب النقباء» [٨].

٦ ـ ما جاء في حقّه على لسان العلماء

قال الرفاعي :

«فإنّه الشريف الأجلّ، نقيب النقباء ببغداد، ذو الفضائل الشائعة والمكارم الذائعة، وكان صاحب ورع وعفّة، وعدل في الأقضية، وهيبة في النفوس» [٩].

قال النسّابة العمري:

«إنّه نقيب نقباء الطالبيّين ببغداد، وكانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفّة وتقشّف، وفيه مراعاة للأهل وغيرة عليهم، وعسف على الجاني منهم، وكان أحد علماء الزمان، قرأ على أجلاّء الرجال» [١٠].

قال العلاّمة الأميني :

«وسيّدنا الشريف الرضي هو مفخرة العترة الطاهرة، وإمامٌ من أئمّة العلم والحديث والأدب، وبطلٌ من أبطال الدين والعلم والمذهب، هو أوّلٌ في كلّ ما ورّثه سلفه الطاهر من علم متدفّق، ونفسيات زاكية» [١١].

ونقل العلاّمة الأميني جملة من الأقوال في مدح الشريف الرضي وفضله، منها:

قال الثعالبي: «هو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق» [١٢].

قال الباخروزي في دمية القصر: «له صدر الوسادة بين الأئمّة والسادة، وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء: ما أنورك! ولحضارة: ما أغررك! وله شعر إذا افتخر به أدرك للمجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه» [١٣].

ثانياً : نظرة حول الكتاب

نهج البلاغة هو العنوان الذي اختاره السيّد الرضي(رحمه الله) لمختارات من خطب الإمام عليّ(عليه السلام) ومواعظه، ورسائله، وعهوده، وكلماته القصار. إنّه كتاب يتألّق في الثقافة الإسلامية كالشمس في رابعة النهار، وكالصَدَفة المكتظّة بجواهر الحكم الرفيعة.

وللتعرّف على هذا الكتاب لابدّ من بيان عدّة اُمور:

١ ـ مكانة الكتاب

لاريب أنّ نهج البلاغة هو من أثمن وأهمّ تراث ثقافي في الإسلام من بعد القرآن الكريم. إنّه منظومة من كافّة الأبعاد التكوينية لإنسانٍ كامل؛ باعتبار صدوره عن وجود يُعدّ الوجود الأسمى في الإنسانية من بعد الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قال الشيخ محمّد تقي التستري :

«لم يؤلّف أحد مثل كتاب الشريف الرضي هذا، فإنّ أهمّية كلّ كتاب بمقدار فائدته، وقيمته بقدر عائدته، ولم يبلغ بكتابه هذا بعد كتاب الله تعالى كتاب، فإنّه تاليه في الفصاحة والبلاغة، وفي الاشتمال على كلّ نصح وحكمة» [١٤].

وقال الإمام الخميني (قدّس سره الشريف) في وصف مكانة هذا الكتاب الشريف:

«إنّ كتاب نهج البلاغة وهو رشحات روحه الشريفة، يعدّ ـ لتربيتنا وتعليمنا نحن الغافين في أسرّة الأنا وخلف حجب الأنانية ـ دواء للشفاء، ومرهماً لكلّ الأوجاع الفردية والاجتماعية، ومنظومة بأبعاد الإنسان والمجتمع الإنساني كلّه، منذ زمن صدورها وإلى أيّ مدى يبلغه التاريخ، مهما يظهر من المجتمعات والاُمم، ومهما يصله المفكّرون والفلاسفة والباحثون، وحيثما يغورون فيه ويتعمّقون» [١٥].

٢ ـ دوافع التأليف

معرفة العامل الذي حدا بالشريف الرضي لتأليف نهج البلاغة وإيجاد مثل هذا الأثر العظيم، يعتبر من الاُمور المهمّة لمعرفة هذا الكتاب. وفي المقدّمة التي كتبها الشريف الرضي لنهج البلاغة يعرض دوافع جمع وتأليف هذا السفر على النحو التالي:

«فإنّي كنت في عنفوان السنّ وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمّة(عليهم السلام)، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، وفرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين عليّاً(عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب .

محاجزات الأيّام ومماطلات الزمان.

وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً، وفصّلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نُقل عنه(عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة؛ فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره معجَبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في جميع فنونه ومتشعّبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وأدب، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالماً بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر، ومذخور الأجر.

واعتمدت به أن اُبيّن عن عظيم قَدر أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذه الفضيلة، مضافةً إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمّة، وأنّه(عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأوّلين الذين إنّما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذّ الشارد، فأمّا كلامه فهو من البحر الذي لا يُساجَل، والجمّ الذي لا يُحافَل» [١٦].

بمثل هذه المحفّزات والتوجّهات بدأ الشريف الرضي العمل، وراح ينتقي ويصنّف جواهر كلام أمير المؤمنين(عليه السلام).

٣ ـ تبويب الكتاب

استخرج السيّد الرضي كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) من كتبٍ شتّى، ونظّمه باُسلوب جيّد ومحبّب. وقد كتب هو عن اُسلوب تبويبه لموادّ الكتاب ما نصّه:

«ورأيت كلامه(عليه السلام) يدور على أقطابٍ ثلاثة، أوّلها: الخُطَب والأوامر. وثانيها: الكتب والرسائل. وثالثها: الحِكَم والمواعظ. فأجمعت بتوفيق اللّه‏ تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب؛ مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً، ومفصّلاً فيه أوراقاً؛ لتكون مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً ويقع إلي آجلاً» [١٧].

٤ ـ عدد الخطب والرسائل والأقوال في «نهج البلاغة»

اختار الشريف الرضي من كلام أمير البيان عليّ(عليه السلام): (٢٤١) خطبة وكلاماً، و(٧٩) رسالةً ومكتوباً، و(٤٨٩) حكمةً وموعظةً [١٨].

وقد أشار هو إلى أنّ ما جمعه في هذه المجموعة إنّما هو مختارات من كلام ورسائل الإمام عليّ(عليه السلام)، وليس جميع ما موجود في الكتب من كلامه ورسائله. وهذا ما يوضّحه في مقدّمة نهج البلاغة على النحوالتالي :

«ولا أدّعي ـ مع ذلك ـ أنّي اُحيط بأقطار جميع كلامه(عليه السلام) حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ، ولا يندّ ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إلي، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي» [١٩].

قال اليعقوبي المؤرّخ المشهور (ت سنة ٢٨٤هـ):

«...وحفظ الناس الخطب، فإنّه خطب بأربعمئة خطبة حفظت عنه، وهي التي تدور بين الناس ويستعملونها في خطبهم وكلامهم» [٢٠].

وكتب المؤرّخ المعروف المسعودي (ت سنة ٣٤٦هـ):

«الذي حفظ الناس عن عليّ من خطبه وسائر مقاماته أربعمئة خطبة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً» [٢١].

إنّ هذا العدد من الخطب المتداولة الشائعة هو تقريباً ضعف ما اختاره الشريف الرضي، ولاشكّ أنّ خطب الإمام(عليه السلام) وكلماته وكتاباته وحكمه ومواعظه أكثر من هذا بكثير.

٥ ـ وجه التسمية

جعل الشريف الرضي عنوان مؤلّفه القيّم نهج البلاغة، وكتب حول وجه هذه التسمية:

«ورأيت من بعدُ تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة؛ إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرّب عليه طلاّبها، فيه حاجة العالم والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد» [٢٢].

وقد اختار الشريف الرضي لهذا الكتاب الخالد أنسب ما يناسبه من العناوين، بخصوص هذا الأمر قال الشيخ محمّد عبده:

«ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيّد الشريف الرضي من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم اللّه‏ وجهه؛ جمع متفرّقة، وسمّاه بهذا الاسم نهج البلاغة، ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه» [٢٣].

٦ ـ أساليب شرح «نهج البلاغة»

ولأهميّة هذا الكتاب الخالد توالت عليه الشروح منذ العهد القريب من الشريف الرضي بما يزيد على

السبعين شرحاً، وكان أوّل من شرحه السيّد عليّ بن الناصر، الذي كان معاصراً للشريف الرضي، الذي أسماه بأعلام نهج البلاغة [٢٤].

وقد اتُّبِعت في شرحه الأساليب التالية:

الاُسلوب الترتيبي

وهو دراسة وشرح الخطب والرسائل والحكم والكلمات القصار بشكلٍ متسلسلٍ، من بداية الكتاب إلى نهايته.

وهذا هو الاُسلوب الذي اعتمده كثير من شُرّاح النهج، من منظارٍ معيّن بحسب منحاه وميوله الفكرية، وطفق يشرح ويفسّر وجوهاً معيّنة من هذه المجموعة، مركّزاً على جوانب خاصّة انطلاقاً من نمط رؤيته للاُمور.

لكلام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) أوجهٍ شتّى وتجلّيات وجاذبيات مختلفة، ولأجل دركه واستيعابه بصورةٍ أفضل وأشمل، لابدّ من دراسته من زوايا وجِهات عدّة، من الناحية اللغوية والأدبية والبلاغية، من حيث شأن الصدور، من الناحية التاريخية، من الزاوية الاجتماعية والسياسية، من الناحية الحقوقية، من البعد العقيدي والفكري، من الناحية الفلسفية والعرفانية، من الزاوية التربوية والتعليمية، من زاوية علم النفس الفردي والاجتماعي، من منظار الإدارة ونظام الحكم، من الناحية الفقهية، من الناحية التفسيرية، من الناحية الأخلاقية، ومن جوانب وأبعاد اُخرى؛ حيث إنّ كلّ مقطع من كلام الإمام له صلته بالأبعاد المذكورة أعلاه، وغير المذكورة أيضاً.

ومن جملة الذين شرحوا  نهج البلاغة بالاُسلوب الترتيبي، هم:

• ظهير الدّين أبو الحسن عليّ بن زيد البيهقي،المعروف بفريد خراسان، وهو من علماء القرن السادس(ت سنة ٥٦٥هـ )، في معارج نهج البلاغة.

• قطب الدين أبو الحسن سعيد بن هبة اللّه‏ بن حسن الراوندي، المعروف بالقطب الراوندي، وهو من علماء القرن السادس (ت سنة ٥٧٣هـ)، في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة.

• أبو الحسن محمّد بن الحسين البيهقي النيشابوري، المعروف بقطب الدين الكيدري، من كبار علماء الشيعة في القرن السادس، في حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة.

• عزّ الدين عبد الحميد بن هبة اللّه‏ بن أبي الحديد المعتزلي، وهو من علماء القرن السابع (ت سنة ٦٥٦هـ)، في شرح نهج البلاغة.

• كمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني، وهو من علماء القرن السابع (ت سنة ٦٧٩هـ)، في شرح نهج البلاغة.

• المولى فتح اللّه‏ الكاشاني، وهو من علماء القرن العاشر (ت سنة ٩٨٨هـ)، في تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين.

• ميرزا حبيب اللّه‏ بن محمّد الخوئي، وهو من علماء القرن الرابع عشر (ت سنة ١٣٢٤هـ)، في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة.

الاُسلوب التجزيئي

وهو انتخاب جزء من نهج البلاغة، أو بعض الخطب والكلام، أو الرسائل والمكتوبات، أو الحكم والكلمات القصار؛ ليتمّ شرحها ودراستها.

ويشبه هذا الاُسلوب الاُسلوب الترتيبي، مع فارق أنّ الذي يخضع للشرح والدراسة هو جزء مختار من النهج، ومن الطبيعي أنّ بالمستطاع التدبّر في ذلك الجزء من جهات وزوايا مختلفة، واستلهام الدروس منه والاهتداء به.

إنّ الميزة الرئيسية في هذا الاُسلوب هي إمكانية التركيز على الخطبة أو الرسالة أو الحكمة المنتقاة والتعمّق فيها، ولن تكون ثمّة حاجة إلى زمن طويل للمراجعة، بينما تحتاج المراجعة والدراسة الترتيبية إلى زمن طويل.

ومن الكتب التي اُلّفت في هذا الاُسلوب: كتاب شرح في رحاب نهج البلاغة للشهيد مرتضى مطهري.

الاُسلوب الموضوعي

اختيار موضوع معيّن من نهج البلاغة، وتشخيص كافّة الموادّ ذات الصلة المباشرة أو غير المباشرة بهذا الموضوع، ودراستها وتبويبها، ومن ثمّ عرض النتائج المستخلصة منها، وهكذا يمكن مناقشة مختلف الموضوعات التربوية والعقيدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ضوء نهج البلاغة.

ومن خصائص هذا الاُسلوب أنّه قلّما يفرض على الباحث تشتّتاً موضوعياً، إنّما يمكن الوصول عبره إلى نتائج موضوعية مركّزة، بعد دراسة الجوانب المختلفة لموضوعٍ معيّن، وتقديم شرح وبيان كامل حول ذلك الموضوع. وبالمقدور من خلال هذا الاُسلوب تحديد آراء الإمام عليّ(عليه السلام) ـ وهو تجسيد الإسلام الخالص الجامع ـ حول موضوع معين، والتعرّف على سيرته ومنهجه بخصوص الأحوال والموضوعات المختلفة.

في هذا الاُسلوب تفسّر بعض كلمات الإمام(عليه السلام) المستخرجة من مواضع شتّى، فتدلّ بذلك على الاتّجاه الصحيح لفهم نهج البلاغة، ذلك أنّ نهج البلاغة مجموعة واحدة ومتجانسة برمتها لا يختلف أوّلها عن آخرها. وعلى حدّ تعبير ابن أبي الحديد المعتزلي:

«وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونَفسَاً واحداً، واُسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ في الطريق والنظم لباقي السور» [٢٥].

إنّ هذه السمة الفذّة في نهج البلاغة توفّر الأرضية اللاّزمة للمراجعة الموضوعية والتأشير إلى المشكلات واستخلاص الحُلول وسبل العلاج.

ومن أهمّ الكتب التي كُتبت في هذا الاُسلوب، هي:

• بهج الصباغة تأليف الشيخ محمّد تقي التستري، يحتوي على أربعة عشر مجلّداً، جمع فيه من الأدب والتاريخ والأخبار والآثار، فرتّبه بحسب المعنى، فجمع ما هو راجع إلى التوحيد في موضع، وما هو راجع إلى النبوّة في موضع، وما هو راجع إلى الإمامة في موضع، إلى غير ذلك؛ فرتّبه على فصول، وتحت كلّ فصّل عناوين.

• نظام الحكم عند الإمام عليّ(عليه السلام) تأليف الشيخ محمّد مهدي شمس الدين.

المبحث الثاني: آفات الدين والتدين في نهج البلاغة

قبل أن نبدأ بالبحث عن هذا الموضوع نتحدث عن:

أوّلاً: مفهوم آفات الدين والتديّن

الآفة لغةً هي: العاهة، أو عرض مفسد لما أصابه [٢٦].

الآفة اصطلاحاً هي: تلك الاُمور والمفاهيم التي من شأنها أن تؤدّي إلى فساد الدين والانحراف عنه.

وقد وردت هذه المفاهيم كراراً في كلام الإمام عليّ(عليه السلام):

• «صن إيمانك من الشكّ، فإنّ الشكّ يفسد الإيمان كما يفسد الملح العسل» [٢٧].

• «آفة الدين سوء الظنّ» [٢٨].

• «سبب فساد الدين الهوى» [٢٩].

• «غلبة الهوى تفسد الدين»[٣٠].

• «طاعة الشهوة تفسد الدين» [٣١].

• «لا يسلّم الدين مع الطمع» [٣٢].

• «فساد الدين الطمع» [٣٣].

• «كثرة الكذب تفسد الدين وتعظم الوزر» [٣٤].

• «دع الحسد والكذب والحقد؛ فإنّهنّ ثلاثة تشين الدين وتهلك الرجل» [٣٥].

ثانياً: أهمّية التعرّف على آفات الدين والتديّن

الدين هو: أجمل تجلّيات الرحمة الإلهيّة لهداية البشر.

والتديّن هو: الإقبال على هذه الرحمة والسير في طريق هديها.

وللدين معنيان:

الأوّل: بمعنى التشريع الصادر من الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يمكن أن تصل إليه الآفات.

الثاني: بمعنى تطبيق هذه الشريعة وفهمها، وهذا هو المقصود منه في هذا البحث، والذي تصل إليه الآفات؛ لأنّه من الشؤون البشرية.

لذا فإنّ الآفات والمضارّ في مبحث آفات الدين والتديّن إنّما ترجع إلى نمط توجّه الناس نحو الدين، أو فهم الإنسان واستيعابه للدين، أو نوع المعرفة الدينية، أو اُسلوب التديّن؛ وهذه كلّها شؤون كانت على الدوام موضع اختلاف وعرضه للآفات والمضارّ.

وقد وضّح ذلك الإمام عليّ(عليه السلام) حينما بعث عبد الله بن عبّاس لمحاورة الخوارج قائلاً له:

»لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً» [٣٦].

كان للخوارج توجّهات سطحية للدين وفهم جامد للقرآن، الأمر الذي سار بهم في طريق الخطأ، ووضعهم على جادّة الضياع، إلاّ أنّهم كانوا يعتبرون تصوّراتهم القرآنية والدينية هذه عين الصواب.

يستوعب التديّن مجالين في الحياة:

الأوّل: النظري، وهو الأفكار والمعارف والمعتقدات الدينية والإيمان.

الثاني: العملي، وهو الإقرار والأفعال والسلوك الديني.

أي إنّه يشمل الأفكار والمعارف والمعتقدات الدينية والإيمان، كذلك الإقرار والأفعال والسلوك الديني. ورد في حِكم أمير البيان: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان» [٣٧].

وكلا المجالين النظري والعملي، عرضة للإصابة بالآفات والمضارّ المختلفة.

وبعد أن استعرضنا هذه المقدّمة، نذكر آفات الدين والتديّن في نهج البلاغة، وأودّ أن أقول بأن الآفات والأضرار التي تهدّد الدين والتديّن في أقوال وكتب الإمام(عليه السلام)، بعضها داخلية أي من داخل الدين، وبعضها خارجية أي من خارج الدين، ولأجل ذلك سيتمّ التعرّف في هذا الدرس على قسمين:

أوّلاً: الآفات الداخلية للدين والتديّن

المراد من الآفات الداخلية: فهم الدين فهماً خاطئاً، كالإكراه والإجبار، وعدم التدرّج والتمكّن من الهداية والتربية، وجرّ التديّن إلى التكلّف.

ومن جملة هذه الآفات:

١ ـ الإكراه في الدين

الدين حقيقة معنوية وجوهر روحاني يتعامل ويتعاطى مع روح الإنسان وفؤاده، وما لم يحصل التقبّل والإقبال القلبي عليه سينسلخ السلوك الديني عن هويّته الحقيقية، ويبتعد عن ماهيّته الفطرية.

المعتقد الديني والإيماني ليس شيئاً يحصل بالإكراه والإجبار، والتهديد والتطميع، والشدّة والعنف؛ لأنّهما من سنخ الحبّ والارتباط القلبي للإنسان بأجمل التجلّيات الرحمانية للحقّ تعالى؛ وإذا انقلبت أجمل التجلّيات الرحمانية هذه بواسطة الإكراه والإجبار والتهديد والتطميع والشدّة والعنف، فلن يبقى معنى للحبّ، ولا قبول من أعماق الوجود والتسليم الحقيقي والاتّباع الانتخابي الواعي.

ليس للإكراه والإجبار معنىً في الاُمور المتعلّقة بقلب الإنسان وروحه؛ والدين أمر يتعلّق بقلب الإنسان وروحه، والتديّن حصيلة نمط من العلاقة يقيمها الإنسان مع الحقيقة المتعالية للدين.

ومن هنا، كان الإكراه والإجبار في الدين ممّا يؤدّي إلى أضرار أساسية في الدين والتديّن. قال تعالى:

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [٣٨].

الإيمان معرفة واعتقاد قلبي، والتديّن نابع من مثل هذا الإيمان، ولا سبيل إلى الإكراه والإجبار فيما هو من سنخ المعرفة والاعتقاد القلبي. قال الإمام عليّ‏(عليه السلام) في حكمة متألّقة حول ماهيّة الإيمان وتجلّياته حينما سألوه عنه:

«الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان» [٣٩].

إذا كان للإكراه والإجبار دور في الاُمور ذات العلاقة بقلب الإنسان وروحه، فسيؤدّي ذلك إلى نفور الفؤاد وعماه، وما يرشح عن القلب الأعمى فهو مصاب بشتّى الآفات والأمراض. وللإمام عليّ‏(عليه السلام) في هذا الشأن كلام واضح وصريح حينما قال:

«إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا اُكره عَمِي» [٤٠].

٢ ـ سوء فهم الدين

إذا لم يُفهم الدين بصورة صحيحة عميقة، فسيحصل لدى الإنسان فهم عليل وتصوّرات ناقصة ومريضة، ومثل هذا الفهم لا يقود إلى مقاصد الدين، إنّما يدور حول نفسه. قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

«المتعبّد على غير فقه، كحمار الطاحونة، يدور ولا يبرح» [٤١].

التديّن الفارغ من الفهم الصحيح للدين، مسرحية لأعمال دينية في ظاهرها، لكنّها خالية من روح الدين وحقيقته، وبالطبع فهي خالية من محتوى الدين ولا نصيب لها من النتائج المترتّبة عليه. وعلى حدّ تعبير الإمام عليّ(عليه السلام):

«كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوع والظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلاّ السهر والعناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم» [٤٢].

إذا كان الانشداد إلى الدين خالياً من الفهم الصحيح، فإنّه سيؤدّي إلى الإضرار بالدين والتديّن، ومثل هذا التديّن معناه تنسّك جاف وتعبّد بلا روح وفهم معوج.

حذّر الإمام عليّ(عليه السلام) من هكذا تعامل مع الدين قائلاً:

«ولا تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن اللَّه يعقلون، كقيض بيض في أداحٍ يكون كسرها وزراً ويخرج حضانها شرّاً» [٤٣].

إنّ سوء فهم الدين خطير وكارثي إلى درجة حذّر منه الإمام بهذه الصورة، وشبّه عديمي الفهم العميق للدين بأنّهم وحالهم كبيضة أفعى في عشّ طيور، كسرها ذنب؛ لأنّها قد تكون بيضة طائر، لكن ما يخرج منها شرّ وضرر؛ لأنّها في الحقيقة بيضة أفعى.

هكذا فهم الإمام عليّ(عليه السلام) المتديّنين في الظاهر، لكنّهم بسبب عدم فهمهم للدين يسيرون على جادة الجاهلية، أي أنّ معاقبتهم والتصدّي لهم غير جائز؛ لأنّهم يظهرون الإسلام، ولكنّهم لعدم فهمهم يتسبّبون في ألف شرًّ وفسادٍ، وقد عبّر(عليه السلام) عن هكذا تديّن وتنسّك بقوله: «ربّ متنسّك ولا دين له» [٤٤].

٣ ـ التكلّف في الدين والتديّن

التكلّف لغةً: هو بمعنى التجشّم أو المشقّة [٤٥].

ذكر الراغب الإصفهاني : «إنّ تكلّف كلمة تُطلق على العمل الذي يؤدّي بمشقّة أو تصنّع أو حرص.

لذلك فهو على قسمين:

الأوّل: تكلّف محمود: وهو الحالة التي تحضّ الإنسان على بلوغ ما يريده ويصبو إليه، وتسهّل عليه العمل الذي يمارسه، وتجعله محبوباً إلى نفسه، ولذلك تُستخدم مفردة التكليف في باب التكلّف في العبادات.

الثاني: تكلّف مذموم: وهو الحالة التي يمارس فيها الإنسان فعله برياء وتصنّع، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَاْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [٤٦].

وقال الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنا وأتقياء اُمّتي براء من التكلّف» [٤٧].

التكلّف اصطلاحاً: هو فرض دساتير وقواعد في مساحة من الدين والتديّن، جعلها الشارع المقدّس منطقة فراغ وترك المكلّفين فيها أحراراً، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها} [٤٨].

ولاشكّ أنّ إيجاد مثل هذا التكلّف خلاف الدين الفطري، ولأنّه أمر مفروض على منطقة فراغ دينية، لذلك سيؤدّي إلى المشقّة، ولا يمكن التديّن بمشقّة، مضافاً إلى أنّه يفضي إلى التظاهر والرياء.

فالدين مثلاً رسم حدوداً لغذاء وملبس المؤمنين، وتركهم أحراراً داخل هذه الحدود، فإذا أقدم البعض بدافع الجهل أو التحجّر أو التعنّت أو التظاهر بالقداسة على إيجاد قيود وأغلال داخل هذه الحدود التي ترك الشارع المقدّس المؤمنين أحراراً فيها، ضاربين بعرض الجدار حرّية الاختيار وتنوّع المراتب وتعدّد الأذواق في منطقة الفراغ، فسينجرف الدين والتديّن إلى التكلّف المذموم الضارّ.

إنّ إيجاد التكلّف في الدين والتديّن بمعنى تبديل منطقة فراغ التديّن إلى منطقة مملوءة بالأوامر والنواهي، سيجرّ الناس إلى التكلّف والتصنّع، ويضعف الدين والتديّن ويضرّهما؛ لأنّ فرض أوامر ونواه داخل الحدود الحرّة للدين خلاف روح الشريعة.

روى الإمام عليّ(عليه السلام):

«قال رسول اللَّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ اللَّه تعالى حدّ لكم حدوداً فلا تتعدّوها، وفرض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وسنّ لكم سنناً فاتّبعوها، وحرّم عليكم حرمات فلا تهتكوها، وعفا لكم عن أشياء رحمةً منه [لكم] من غير نسيانٍ فلا تتكلّفوها» [٤٩].

إنّ التظاهر بالقدسية والإفراط فيها يدفع المرء إلى تجاهل مثل هذه التعاليم السامية، ظنّاً منه أنّ الدين يجب ألاّ تكون فيه منطقة فراغ، ولا ينبغي أن تُترك بعض الاُمور للمؤمنين أنفسهم ليتصرّفوا كيفما شاؤوا طبقاً لأذواقهم وبما يتلاءم مع عصرهم وبيئتهم.

إنّ التحجّر والتعنّت يفرض على الإنسان أن يطالب الدين بدساتير وقوانين في كلّ الاُمور، فإذا واجه مساحة ليس لها مثل هذه الدساتير الدينية وضع هو من نفسه دساتير وتكاليف، حتّى يصلح الحرّية والاختيار الذي منحه الشارع للناس!

مقتضى الجهل والتحجّر هو أنّ الإنسان حينما يواجه مناطق الفراغ الدينية، يتصوّر أنّ اللَّه الرحمن نسي تحديد تكاليف لهذه المناطق، إذاً فمن واجبه رسم حدود وقيود لها!

لكنّ الإمام عليّ(عليه السلام) يردّ بكلّ قوّة على هؤلاء القدسويّين المتحجّرين الجهلة حينما يقول:

«إنّ اللَّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تتعدّوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها» [٥٠].

إنّ الذين ينكرون وجود مناطق حرّة في الدين تكون ضرورية جدّاً للتديّن الصحيح، كالذين يعدّون دين اللَّه ناقصاً ويتحرّون إكماله. وعلى حدّ تعبير الإمام عليّ‏(عليه السلام):

«أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه» [٥١].

لاريب أنّ الإسلام دين كامل لكلّ الأجيال ولكلّ العصور، ومن لوازم مثل هذا الدين ألاّ يكون فيه تكلّف، بل يترك أهل الإيمان أحراراً في بعض المساحات، فتكون الحرّية هناك هي التكليف حتّى لا ينزلق الدين والتديّن إلى التكلّف.

الواقع أنّ هذه القاعدة إذا لم تُراع وبادر البعض إلى التكلّف في الدين والتديّن، فستلحق الدين والتديّن أضرار خطيرة قد لا يمكن جبرها.

-----------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة تحقيق محمّد عبده: ج١، ص٦، مقدّمة المحقّق.
[٢] . انظر: الغدير: ج٤، ص٢١٠.
[٣] . الغدير: ج٤، ص٢٠٤ ـ ٢٠٥.
[٤] . المصدر السابق: ص٢٠٣ ـ ٢٠٤.
[٥] . النقابة، وهي: موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب، ولا يساويهم في الشرف؛ ليكون عليهم أحبى وأمره فيهم أمضى. (الغدير: ج٤، ص٢٠٤).
[٦] . الولاية على الحجّ، وهي ضربان: أحدهما: أن تكون على تسيير الحجيج، والثاني: على إقامة الحجّ. (الغدير: ج٤، ص٢٠٨).
[٧] . النظر في المظالم، وهو: قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاهد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفّة، قليل الطمع، كثير الورع. (الغدير: ج٤، ص٢٠٧)
[٨] . الغدير: ج٤، ص٢٠٤ ـ ٢٠٥.
[٩] . المصدر السابق: ص٢٠٤.
[١٠] . المجدي في أنساب الطالبيين للنسّابة العمري: ص١٢٦.
[١١] . الغدير: ج٤، ص١٨١.
[١٢] . المصدر السابق: ص٢٠٢.
[١٣] . الغدير: ج٤، ص٢٠٣.
[١٤] . بهج الصباغة: ج١، ص١٧، مقدّمة المؤلّف، ط١، سبهر.
[١٥] . صحيفه نور (فارسي)، مجموعة توجيهات الإمام الخميني: ج١٤، ص٢٢٤، ط١، وزارة الإرشاد الإسلامي.
[١٦] . نهج البلاغة تحقيق محمّد عبده: ج١، ص١٠ ـ ١١، مقدّمة المؤلّف.
[١٧] . المصدر السابق: ص١٢.
[١٨] . انظر: نهج البلاغة ضبط صبحي الصالح: ص٥٤٤ و٧١٤ و٨٤٠.
[١٩] . نهج البلاغة تحقيق محمّد عبده: ج١، ص١٣، مقدّمة المحقّق.
[٢٠] . مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي: ص١٥، صادر دار الكتاب الجديد، بيروت.
[٢١] . مروج الذهب ومعادن الجواهر: ج٢، ص٤١٩، ط دار الهجرة، قم.
[٢٢] . نهج البلاغة تحقيق محمّد عبده: ج١، ص١٣، مقدّمة المحقّق.
[٢٣] . نهج البلاغة: ج١، ص٤.
[٢٤] . الغدير: ج٤، ص١٨٦.
[٢٥] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج١٠، ص١٢٨ ـ ١٢٩.
[٢٦] . القاموس المحيط: ج٣، ص١٧٧، ط١، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[٢٧] . عيون الحكم والمواعظ: ص٣٠١.
[٢٨] . المصدر السابق: ص١٨٢.
[٢٩] . المصدر السابق: ص٢٨١؛ مستدرك الوسائل: ج١٢، ص١٤٤.
[٣٠] . عيون الحكم والمواعظ: ص٣٤٨.
[٣١] . عيون الحكم والمواعظ: ص٣١٨؛ مستدرك الوسائل: ج١١، ص٣٤٤.
[٣٢] . المصدر السابق: ص٥٣٩.
[٣٣] . المصدر السابق: ص٣٥٧.
[٣٤] . المصدر السابق: ص٣٨٩.
[٣٥] . المصدر السابق: ص٢٥٠.
[٣٦] . نهج البلاغة: الكتاب ٧٧ .
[٣٧] . المصدر السابق: الحكمة ٢٢٧.
[٣٨] . البقرة: ٢٥٦.
[٣٩] . نهج البلاغة: الحكمة ٢٢٧.
[٤٠] . المصدر السابق: الحكمة ١٩٣.
[٤١] . الاختصاص للشيخ المفيد: ص٢٤٥.
[٤٢] . نهج البلاغة: الحكمة ١٤٥.
[٤٣] . المصدرالسابق: الخطبة ١٦٦.
[٤٤] . عيون الحكم والمواعظ: ص٢٦٥.
[٤٥] . انظر: الصحاح للجوهري: ج٤، ص١٤٢٤ «الكف».
[٤٦] . ص: ٨٦.
[٤٧] . المفردات غريب القرآن: ص٤٣٩.
[٤٨] . البقرة: ٢٨٦.
[٤٩] . الأمالي للشيخ المفيد: ص١٥٩، ح١.
[٥٠] . نهج البلاغة: الحكمة ١٠٥.
[٥١] . نهج البلاغة: الخطبة ١٨.

يتبع .......

****************************