وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
جواهر من نهج البلاغة – الأول

إعداد - مصطفى الحاج

يُعد الحديث عن نهج البلاغة عملاً غير سهل بلحاظ الوقوف على كُنهه ومعرفته حقيقته والإحاطة بكافة جوانبه الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

من الميادين التي طرحها الامام (ع) في ذلك السفر الزاخر ومما لاشك فيه ان من يروم اتحام هذا الميدان ومعرفة اعماق هذا البحر الزاخر ان يُعد الكتُب والمجلات لعله يحصى بعض هذه الجواهر هذا الكنز العجيب ولكن في هذه العجالة يمكن ان تقف على شي بشكل موجز وبشرح مستعين بالله تعالى اولاً وببعض المصادر المهمة التي استقرأت ذلك السفر العظيم وبين للذي يطلب العلى ان تذيقه من شهد ما قاله امير الحكماء وسيد البلغاء امام الانُس والجان علي ابن ابي طالب (عليه السلام) ولعل ما قاله الشريف الرضي (رض) في مقدمته الرائع لوصف النهج بقوله ( كان امير المؤمنين (ع) مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها وعنه اخُذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق مقصرو وقد تقدم وتأخروا)ان الفضل ما شهد به الاعداء .

لقد شهد اعداء علي (ع) بفصاحته وبلاغته ولم يستطيعوا ان يتجاوزوه فمنهم ( الغزالي ) الذي قال (( اذا شئت ان تفوق اقرانك في العلم والادب وصناعة الانشاء فعليك بحفظ القران ونهج البلاغة )) ومثله ما قاله (الجاحظ) عندما يستعرض بعض قصار الكلام لامير المؤمنين (ع) اذا قال (( قيمة كل امرئ ما يحسنه )) فقال الجاحظ: لو لم تكن في كل هذا الكتاب الا هذه الجملة لكفت ، بل وازدادت ،فافضل الحديث ما كان قليلاً ومفهومه ظاهراً جليا ويغنيك عن الكثير .

وكأن الله كساه ثوباً من الجلال والعظمة وحجاباً من نور الحكمة بما يتناسب وطهر قائلهُ وعلو فكره وشدةً تقواه ) واما السبط بن الجوزي : احد ابرز المؤرخين والمفسرين المعروفين العامة الذي صرح في ( تذكرة الخواص ) قائلاً (( وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة والطلاوة والفصاحة لم يسقط منه كلمة ولا بادت له حجة اعجز الناطقين وحاز عقب السيف في السابقين الفاظ يشرف عليها نو النبوة ويجر الإفهام والألباب )) وما قاله (معاوية ) لابن ابي محفن عندما قال له محفن اني جئتك من عند اعيا الناس ! قال له معاوية : ويحك كيف (يقصد علي (ع) يكون اعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره)) .

لقد سلك نهج البلاغة سبيل تحرير الانسان من اسر الهول الشهوات التي تؤدي به الى البؤس والشقاء وكذلك تحريره من قبور الطواغيت والظلمة فهو يستفيد من كل فرحة لتحقيق هذا الهدف المقدس الى جانب تأكيده على انه (ما جاع فقير الا بما مُتع به غني ) وان تراكم الثروة يفيد تضييع الحقوق وعدم العمل بالاحكام الشرعية ) وان ايسر دليل على ان النغمات العرفانية التي يتغنى بها ذلك النهج انما تتناغم مع الأرواح المتعطشة للحكمة فتسقيها الشراب الطهور الذي يُسكرها بالعلم والمعرفة. فحين تقرأ في خطبة المتقين مثلاً. حين سأله ذلك العارف (همام) عن صفات المتقين صُعق همام صعقة كانت نفسهُ فقال امير المؤمنين (( اما والله خفتها عليه ، هكذا تفعل المواعظ البالغة في اهلها )) .

ان مما يذكر من خطب الامام (ع) فيذكر ابتداء خلق السماء والارض وخلق ادم وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد الله وخلق العالم وخلق الملائكة واختيار الانبياء ومبعث النبي والقران والاحكام الشرعية ذا يقول (ع) ((الحمد لله الذي لايبلغً مدحتهُ القائلون ولايحصى نعماءهُ العادون ولايؤدي حقه المجتهدون)) يقول اية الشيخ مكارم شرازي (دام بركاته) في هذه الخطبة ( من اهم خطب النهج وما تصدرها النهج الا دلالة واضحة على براعة السيد الرضي في الاختيار فالخطبة تتضمن الرؤية الاسلامية للصفات الكمالية والجمالية ، ثم تشير الى قضية خلق العالم بصورة عامة ومن ثم خلق السموات والارض والملائكة ) وبعدها يذكر الشيخ في الشرح والتفسير لمضمون الخطبة اعلاه ( ان نظرة عابرة الى مضامين هذه الخطبة تفيد اشارة الامام علي (ع) الى اثنى عشر صفة من الصفات الالهية وبتصوير فني رائع ونظم شاهق ففي المرحلة الاولى يشير الى كيفية عجز العباد عن اظهار المدح والثناء واداء حق الشكر الالهي .

وتتمة الى ما ورد في خطبته فقد استهل الامام (ع) خطبته بحمد الله والثناء عليه مع التصريح بالعجز عن اداء حق لحمد فقال (ع) (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون) وذلك لان اوصافه (الكمالية) و(الجمالية) لا تعرف الحدود فيما يؤديه الملائكة والناس من مدح وحمد وانما يتوقف على مقدار معرفتهم بالذات المطلقة لا بمقدار كمالاته جل وعلا.

وهذا النبي الاكرم (ص) الذي يمثل اعظم انبياء الله يظهر عجزه عن معرفة الخالق المتعال فيصرح قائلاً (ما عرفناك حق معرفتك) فاذا عجز الانسان عن معرفته فكيف يسعه حمده ومدحه) ولعل اجمل ما نقل في الحديث عن الامام الصادق (ع) ان الله اوحى الى نبيه موسى (ع) ان اشكرني حق شكري.

قال (ع): الهي كيف اؤدي حق شكرك وشكرك نعمة تحتاج الى شكر (وهكذا يكون التوفيق الى شكر نعمة اخرى تستحق الشكر) فقال الله عز وجل: يا موسى الان شكرتني حين علمت ان ذلك مني) .

واما ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه للخطبة انفاً فاخذ فصولا منها انه قال (الذي عليه الادباء والمتكلمين ان الحمد والمدح اخوان لا فرق بينهما، تقول حمدتُ زيداً على انعامه، ومدحته على انعامه، وحمدته على شجاعته ومدحته على شجاعته فهما سواء، فيدخلان فيما كان من فعل الانسان وفيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين، فاما الشكر فاخص من المدح، لانه لا يكون الا على النعمة خاصة، ولا يكون الا صادراً من منعم عليه) الى ان يقول بعد كلام له (والمدح هيئة المدح، كالركبة هيئة الركوب والجلسة هيئة الجلوس، والمعنى مطروق جداً، ومنه في الكتاب العزيز كثيراً كقوله تعالى (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وفي الاثر النبوي (الا اضفي ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك) والى هنا انتهت الفقرة الاولى من شرح الخطبة انفاً، وتتمة لما سبق من شرح الخطبة نشرع بشرح الفقرة الثانية من قوله (ع) (ولا يحصي نعمائه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعد الهمم ولا يُنال غوص الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود) .

ذكر اية الله الشيخ الشيرازي بقوله (وذلك لان نعمة المادية والمعنوية والظاهرية والباطنية والفردية والجماعة لأكثر واعظم من ان تعد وتحصى ، فبدن الانسان على سبيل المثال، مؤلف ممالا يحصى من الخلايا والانسجة والتي تشكل كل واحدة منها كائنا حياً ومركباً معقداً فاذا عجز الانسان عن احصاء نعم الله في هذا الجانب اليسير فقط فكيف يسعه ان يحصي جميع هذه النعم والآلاء على المستويات المادية او المعنوية؟ الى ان يقول فان ظفر الانسان بالنعم والآلاء انما يتناسب طردياً واتساع مدى علمه ومعرفته الامر الذي يؤدي الى الاذعان وكما يقول امير المؤمنين (ع) بهذه الحقيقة (لا يحصى نعمائه العادون) وقول الامام (ع) (ولا يؤدي حقه المجتهدون) اذا يقول الامام في هذا الوصف وفي هذه الجملة انما هي الحقيقة استنتاج ترتيب على العبارة السابقة فاذا تعذر احصاء النعم فكيف يمكن اداء حقها؟ وبعبارة اخرى فان حقه عظمة ذاته المقدسة في حين شكرنا وحمدنا بقدر قدرتنا الزهيدة فاين الحمد من ذلك الحق!!

ولذلك يرتب – الشيخ الشيرازي- اثر في شرح الخطبة (ولذلك اردف الامام (ع) وفي اطار بيانه لوصفين اخرين قائلاً (الذي لا يدركه بُعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن) وكأن التعبير ببعُد الهمم وغوص الفطن اشارة الى حقيقة ان الافكار الخارقة مهما انطلقت في قوس الصعود والفطن المتوهجة في قوس النزول فانها تبقي عاجزة عن ادارك كنه ذاته المقدسة ولا يترك الامام الاقرار بهذا العجز دون تقديم الدليل. فيقول (ع) (الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا اجل ممدود) اي انى لنا الاحاطة بكنه ذاته، والحال ان فكرنا بل جميع كياننا محدوداً لا يحسن سوى ادراك الاشياء المحدودة، بينما لا تعرف الذات الالهية من حدود من جميع النواحي، فليس هناك من احد او وصف قابل للإدراك لصفاته المطلقة من الازل الى الابد والتي تأبى الاولية والاخروية والبداية والنهاية ولا يقتصر هذا الامر على الذات، فصفاته هي الاخرى ليس لها من حدود ، فعلمه لا يعرف الحدود، وقدرته لا متناهية.

وبعبارة اخرى فان لله وجودا مطلقا ليس له اي قيد وشرط، ولو كان لقيد او شرط وحد من الحدود من سبيل الى ذاته لا صبح مركباً، في حين نعلم بان المركب - كما يقول الفلاسفة - ممكن الوجود لا واجب الوجود - وعليه فواجب الوجود ذات مطلقة غير محدودة في كافة ابعادها ولذلك كان سبحانه وتراً واحداً ليس له كفئاً ولا شبيهاً لاستحالة قيام وجودين مطلقين من جميع الجهات.

بعد ان تعرض الامام (ع) لصفات الجمال والجلال (الصفات الثبوتية والسلبية) وكما اسلفنا سابقاً من الحلقتين، اشار (ع) الى جانب من صفاته الفعلية سبحانه يقول الامام (ع) ((فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته ووتد بالصخور ميدان ارضه)) ويشرح الشيخ الشيرازي تلك العبارات بقوله (لقد استوحيت هذه التعبيرات من بعض الايات القرانية .

فالعبارة (فطر الخلائق بقدرته) مستوحاة من الاية الشريفة ((فاطر السموات والارض )) التي وردت في عدة سور قرانية من قبيل سورة يوسف (( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) والعبارة (نشر الرياح برحمته) من الاية الشريفة ((وهو الذي يُسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)) والعبارة (ووتد بالصخور ميدان ارضه) من الاية من سورة النمل (( والقى في الارض رواسي ان تميد بكم )) وبالالتفات الى ما ذكرنا من معنى (فطر) فانه شبه الخلق بشق الحجاب الظلماني للعدم، الحجاب المنسق والمنسجم الذي لا شق فيه ، غير ان قدرته المطلقة تشقه وتخرج منه المخلوقات ، وليس من شأن اية قدرة سوى قدرته ان تفعل هذا. فقد اتفقت كلمة الفلاسفة والمفكرين على استحالة استحداثنا لشيء من العدم.

او تحولينا من وجود الى عدم . وكل ما من شان قدرتنا فعله ، هو تغير شكل الموجودات من شكل الى اخر ولا غير، اما التعبير بالرحمة عن حركة الرياح فهو تعبير عذب ورائع ينسجم ولطافة النسيم وهبوب الرياح واثاره المختلفة من قبيل حركة السحب والغيوم نحو الاراضي القفار وتلقيح الازهار ونمو النباتات واعتدال الجو وحركة السفن والفلك في البحر وانخفاض درجات الحرارة وسائر الخيرات والبركات المكنونة في هذه الحركة، اما عن كيفية توتيد الارض بهذه الجبال والصخور فالحق لا يمكن قبول النظريات والأطروحات التي اوردها قدماء العلماء بهذا الشأن وذلك قولهم بسكون الارض وعدم حركتها.

حتى جاءت النظريات الحديثة التي تنسجم مع الحقائق العلمية من جهة وتتفق والايات القرانية والروايات الواردة وذلك لوجود الجبال على سطح الكرة الارضية يؤدي الى الحد من اثار ظاهرة المد والجزر التي تشهدها اليابسة بفعل جاذبية القمر، فلو اجتاحت الاراضي الرخوة سطح الارض لأصبح المد والجزر كالبحار والانهار بما يجعل من المتعذر العيش على هذه الارض. ثم ان الجزر والجبال متصلة مع بعضها تحت القشرة الارضية وكانها درع قد احاط بالارض .

ولولاها لماجت الارض وعاشت الحركة باستمرار وفقدت استقرارها بفعل الضغط الداخلي. الذي تفرزه الغازات الداخلية والمواد الذائبة . وما الزلازل التي تقع نتيجة طبيعية لمثل هذا الضغط الذي يتجاوز الحدود المعينة، ولولا هذه الجبال لتواصلت هذه الزلزلة دون انقطاع ، وبناءً على ما تقدم فان الجبال انما توتد الارض وتحول دون فقدانها لاستقرارها .

وناهيك عما تقدم فان الجبال تُعد من اهم مصادر الحياة الجوفية للانسان .

وان كافة العيون والانهار انما تنبع من مصادر الجبال الجوفية . وتلك التي على سطح الارض ليتضح هنا الدور الحيوي الذي تلعبه الرياح والجبال في حياة الانسان وسائر الكائنات الحية، اما الراوندي فيقول في شرح تلك الفقرات من خطبة الامام (ع) بقوله ( فان قيل تركيب هذه الجملة يدل على انه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات والارض قلنا : قد اختلف في ذلك فقيل : اول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتاً حية، يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلت ذبه ، ولهذا قيل : تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عيب وقبيح ، وقيل : لا مانع من تقديم خلق الجماد وان علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له .

ولقائل ان يقول : اما الى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على انه تعالى فطر خلقه قبل السموات والارض . وانما قد يوهم قائل كلامه (ع) فيما بعد شيئاً من ذلك لما قال (( ثم انشأ سبحانه فتق الاجواء )) على انا اذا تاملنا لم نجد في كلامه (ع) ما يدل على تقديم خلق الحيوان ، لانه قيل ان بذكر خلق السماء لم يذكر الا انه فطر الخلائق .

وتارة قال (( انشأ الخلق )) ودل كلامه ايضاً على انه نشر الرياح وانه خلق الارض وهي مضطربة فارساها بالجبال ، كل هذا يدلُ عليه كلامه (ع) وهو مقدم في كلامه على فتق الهواء والفضاء وخلق السماء. فاما تقديم خلق الحيوان او تاخير فلم يتعرض كلامه (ع) له ، فلا معنى لجواب الراوندي وذكره المتكلمون من انه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان ام لا.

(اول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الاخلاص له وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة انها غير الموصوف).

اعتمد امير المؤمنين (ع) عبارات مقتضبة عميقة المعنى بحيث قدم صورة عن الحق تبارك وتعالى لا يمكن الاتيان بأحسن منها حتى لو جمعنا كافة دروس التوحيد والمعارف اليها وجعلنا بعضها الى جانب البعض الاخر، فانها تعجز عن رسم مثل تلك الصورة .

لاشك ان الدين هنا مجموعة العقائد والواجبات والاخلاق، ومن المعلوم ان دعامتها الاساسية هي (معرفة الله) وعليه فمعرفة الله تمثل الخطوة الاولى على الطريق من جانب والمحور الرئيسي لكافة اصول الدين وفروعه من جانب اخر، وليس لهذا الدين من حيوية دون هذه المعرفة.

ان المعرفة التي اودعت في فطرة الانسان لا تتطلب ادنى تبلغ، وانما بعث الانبياء لاستبدال هذه المعرفة الاجمالية بتلك المعرفة التفصيلية الكاملة واغناء جميع جوانبها وتطهير الفكر البشري من ادران الشرك، ثم قوله (ع) (وكمال معرفته التصديق به) يقول - الشيخ الشيرازي في شرحه - (هنالك عدة تفاسير للفارق بين التصديق والمعرفة. بادئ بدء المراد هنا بالمعرفة الفطرية، والمقصود بالتصديق المعرفة العلمية والاستدلالية.

او ان المراد بالمعرفة هنا المعرفة الاجمالية، والمقصود بالتصديق المعرفة التفصيلية او المعرفة تشير الى العلم بالله، والتصديق يشير الى الايمان، لان العلم لا يفارق الايمان، فالانسان قد يوقن بشيء الا انه لا يؤمن به قلبيا - بمعنى التسليم له والاذعان به قلبيا، او بتعبير اخر الاعتقاد به - واحيانا يضرب الفضلاء مثلا لانفصال هذين الامرين عن بعضهما فيقولون : ان اغلب الافراد يشعرون بالهلع ولاسيما في الليلة المظلمة حين البقاء الى جانب ميت في غرفة خالية. رغم علمهم بانه ميت، لكن كأن العلم لم ينفذ الى اعماقهم ويتسلل الى قلوبهم، فلم يحصل ذلك الايمان المطلوب وبالتالي فقد تمخض عن هذا الهلع والخشية، وبعبارة اخرى فان العلم هو تلك المعرفة القطعية بالشيء .

الا انها قد تكسب صبغة سطحية فلا تنفذ الى اعماق وجود الانسان وروحه، فاذا انفذت الة اعماقه وبلغت مرحلة اليقين بحيث اذعن الانسان بذلك قلبيا، فان ذلك العلم يكتسب صفة الايمان. ثم قال (ع) في المرحلة الثالثة (وكمال التصديق به توحيده) فمما لاشك فيه ان الانسان لم يبلغ مرحلة التوحيد الكامل على اساس معرفته التفصيلية لله او بتعبير اخر بالمعرفة القائمة على اساس الدليل والبرهان. فالتوحيد التام ان ينزه الذات الالهية عن كل شبه ومثيل ونظير.

وذلك لان من جعل له شبيها لم يعرفه، فالله وجود مطلق غني بالذات عما سواه وليس كمثله شيء، ومن طبيعة الاشياء التي لها اشباه وامثال ان تكون محدودة لان اي من الشبيهين منفصل عن الاخر وفاقد لكمالاته. اذن فالانسان لا يبلغ مرحلة الكمال الا بالتصديق بذاته المنزهة في انه احد، واحد لا عن عدد، بل واحد بمعنى خلوه من الشبيه والمثيل.

ثم انتقل (ع) الى المرحلة الرابعة وهي مرحلة الاخلاص فيقول( وكمال توحيده الاخلاص له) والاخلاص من مادة الخلوص بمعنى تصفية الشيء عن الغير، بمعنى التصفية والتنزه.

وهناك خلاف بين مفسري نهج البلاغة بشأن الاخلاص، وهل المراد به الاخلاص العلمي ام القلبي ام العقائدي . والمراد بالاخلاص العلمي هو ان يعيش الفرد ذروة التوحيد الالهي فلا يسأل سواه ولا يرى غيره فيما يقوم به من افعال واعمال . وهو الامر الذي تناوله الفقهاء في بحث الاخلاص في العبادة، وام الخلاص القلبي والذي عبر عنه (الشارح البحراني ابن ميثم) بالزهد الحقيقي فهو يعني توجه القلب الى الله وعدم التفكير بما سواه والانشغال بغيره الا اننا – والكلام ما يزال للشيخ الشيرازي – نرى ان الاخلاص مفهوم عظيم وسامي وما اورده الشراح في هذه العبارات، ومن المستبعد ان يكون هذا هو المراد به.

ان المفهوم الوحيد الذي يناسبه هو تنزيه الاعتقاد بالله تبارك وتعالى ، اي تنزيهه في وحدته عن كل شبيه ومثيل، الى جانب تقديسه عن التركيب من الاجزاء.

واما – عز الدين بن هبة الله المدائني فيقول - بشرحه لمعنى الاخلاص ( فالمراد بالاخلاص له ها هنا هو نفي الجسمية والعرضية ولزومها عنه، لان الجسم مركب وكل مركب ممكن، وواجب الوجود ليس بممكن. وايضا فكل عرض مفتقر، وواجب الوجود غير مفتقر والوجود ليس بعرض .

وايضا فكل جرم محدق، وواجب الوجود ليس بمحدث، فواجب الوجود ليس بجرم. وايضا فكل حاصل في الجهة، اما جرم او عرض، وواجب الوجود ليس بجرم ولا عرض، فلا يكون حصلا في جهة، فمن عرف وحدانية الباري ولم يعرف هذه الامور كان توحيده ناقصا .

ومن عرف هذه الامور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه ومعرفته تكون اتم واكمل .

لقد اشار الامام (ع) في قوله ((وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه )) فلما بلغ الاخلاص غاص في التفاصيل حيث الاخلاص في التوحيد يتطلب تنزيهه عن كافة الصفات التي يتخصص بها المخلوق سواء كانت هذه الصفات بمعنى التركيب من الاجزاء ام غيرها .

ولأنه جميع الممكنات بما فيها العقول والنفوس المجردة هي في الواقع مركبة وحتى المجردات : اي الموجودات الخارجة عن المادة هي الاخرى ليس مستثناة من هذا التركيب .

اما الموجودات المادية فكلها متركبة من الاجزاء الخارجية لكن الذات الالهية المقدسة لا تشتمل على الاجزاء الخارجية ولا الاجزاء العقلية .

ولا يمكن تجزئته في الخارج ولا في ادراكنا . وكل من غفل عن هذه الحقيقة لم يظفر بالتوحيد الخالص . لذلك يتضح بان قوله (ع) (( كمال توحيده نفي الصفات عنه )) ليس الصفات الكمالية ، لان كافة الصفات الكمالية من قبيل العلم والقدرة والحياة وما الى ذلك من الصفات ثابتة له .

بل المراد صفات المخلوقين المشوبة بالنقص. فالمخلوق له حظ من علم وقدرة. وان العلم والقدرة هذه مشوبة بالجهل والضعف والعجز . بينما الذات الالهية منزهة عن مثل هذا العلم والقدرة وافضل دليل على ذلك ما اورده الامام علي (ع) في ذيل هذه الخطبة – التي سنأتي على تفصيلها بالحلقات التالية – بشأن الملائكة فوصفهم بقوله (( لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين )) اضافة الى ذلك فان صفات المخلوقين منفصلة دائماً عن ذواتها .

وانها زائدة على ذواتها . فالإنسان شيء وعلمه وقدرته شيء اخر ولذلك فهو مركب من هذين الشيئين بينما والحال هذه ان صفات الله عين ذاته . وليس من سبيل الى التركيب .

واردف الامام علي (ع) قائلاً ((الشهادة كل صفة – من الممكنات – انها غير الموصوف وشهادة كل موصوف – من الممكنات – انه غير الصفة )) اذن بكلامه (ع) دليل واضح وجلي في ان الصفات الزائدة على الذات تشهد بلسان حالها انها غير الموصوف .

وكل موصوف يشهد بأنه ليس من الصفات .

ثم يعمق الامام (ع) المعنى بعبارة قصيرة فيقول (( فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه وممن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاءه ومن جزاءه فقد جهله )) فيشرح الشيخ الشيرازي (دام ظله ) بقوله ( فالواقع ان كلام الامام (ع) يفيد ان اثبات الصفات التي تتصف بها المخلوقات لله يستلزم التركيب في وجوده سبحانه ، اي كما ان المخلوق – الانسان – مركب من الذات والصفات فان الله مركب كذلك .

بينما لا ينسج هذا المعنى وواجب الوجود . لان كل مركب يحتاج الى اجزائه والحاجة تتناقض والغنى المطلق لواجب الوجود .

وهناك تفسيران اخران ذكر لهذه العبارة : الاول اننا اذا اعتبرنا صفاته سبحانه غير ذاته ، فان ذاته ستكون مركبة ، لان الذات والصفات على فرض التناقض ستمثلان على جهات مشتركة ومتمايزة والذي يعبر عنه (( ما به الاشتراك )) (وما به الامتياز) لان كليهما مشترك في الوجود وفي نفس الوقت متمايزان عن بعضهما وفي هذه الحالة لابد ان تعتبر ذاته مركبة من جهتين مختلفتين ايضاً .

واما الثاني : ان نؤمن بوحدة الذات الالهية : ولا نعني بها الوحدة العددية بل نعني بها الوحدة بالنسبة للذات الالهية انها منزهة عن التشبيه والمثيل والنظير. وبشكل عام فان الوجود المطلق من كل الجهات يأبى ان يكون له شبيه ومثيل ، فان قلنا بان صفات الله كذاته ازلية وابدية ومطلقة نكون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبيه له من جانب اخر ( لابد من التأمل في هذا الكلام ) وهذا معنى الذي كشف عنه الامام (ع) في اطار توضيحه للاخلاص فقال (( فمن وصف الله سبحانه ) اي وصفه بصفات المخلوقين ( فقد قرنه ) بالاشياء الاخرى (( ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاءه ومن جزاءه فقد جله )) لانه حين جزاه بمعنى جعل ذاته متركبة من اجزاء وحقاً لم يعرف الله سبحانه من اعتقد بتركيب ذاته ، وذلك لانه تصور كائناً على شاكلته – من حيث التركيب والمحدودية – واسماه الله ) .

وقد تكلف ( الراوندي ) لتطبيق تعليله ( ع) نفي الصفات عنه بقوله ( لشهادة كل صفة انها غير الموصوف ) بكلام عجيب قال ( معنى هذا التعليل ان الفعل في الشاهد لا يتشابه مع الفاعل ، والفاعل غير الفعل ، لان ما يوصف به الغير انما هو الفعل او معنى الفعل ، كالضارب والفهم ، فان الفهم والضرب كلاهما فعل ، والموصوف بهما فاعل والدليل لا يختلف شاهداً وغائباً ، فاذا غير الموصوف بانه خالقها ومدبرها .

انتقض كلامه ثم قال ( الاول ) على وزن ( افعل ) يستوي فيه المذكر والمؤنث ، واذا لم يكن فيه الالف واللام فاذا كانا فيه قيل للمؤنث (الاولى) وهذا غير صحيح لأنه يقال : كملت فضلاهن وليس فيه الالف واللام وكان ينبغي ان يقول اذا كان منكراً مصحوباً بمن استوى المذكر والمؤنث في لفظ (افعل) تقول : زيد افضل من عمرو وهذا احسن من هذا.

يقول الامام علي (ع) ((ومن جهله فقد اشار اليه ، ومن اشار اليه فقد حده ، ومن حده فقد عده )) يذكر الشيخ الشيرازي في شرحه على النهج في ذلك احتمالين بشان قول الامام (ع) ( من اشار اليه ) وهما الاول منه ان يكون المراد بها الاشارة العقلية والثاني ان يكون المراد بها الاشارة العقلية والحسية وتوضيح ذلك ان الانسان اذا لم يعرف الله بتلك الحقيقة المطلقة اللا متناهية فانه سيمتلك في ذهنه مفهوما محدوداً وخاصاً عنه سبحانه، او بتعبير اخر فانه يشير اليه بالإشارة العقلية وبالطبع سيكون محدوداً في هذه الحالة تصوراً ، وذلك لتعذر ادراك وتصور اللا محدودة واللامتناهي على الانسان المحدود والمتناهي فالانسان انما يدرك ما يحيط به من اشياء بسعة تجسيمها في فكره المحدود. وبالطبع فان مثل هذه الموجودات محدودة .

وعلى هذا الضوء فان الله سيكون في مصاف المعدودات والاشياء القابلة للعد.

لان من لوازم المحدود هو امكان تصور موجود اخر في موضع اخر مثله . لقد كشف الامام الباقر ( ع) عن هذه التوصيف بقوله ( كل ما ميزتموه بأوهامكم في ادق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود اليكم ) لذلك فقد اشار امام الموحدين علي (ع) الى حقيقية التوحيد في عبارات قصيرة ذات معنى عميق فوصف الباري سبحانه بما يفوق الخيال والقياس والظن والوهم .

والثاني قد يراد ( بالإشارة ) هي الاشارة العقلية والاشارة الحسية ايضاً .

وذلك لان الله ليس بجسم ولا عرض والاعتقاد بجسمية الله جهل محض . ونتيجة لذلك كون الذات الالهية محددة لان كل مشار اليه فهو محدود فالمشار اليه لابد ان يكون في جهة مخصوصة وكل ما هو في جهة فله حد محدود .

وينبغي الالتفات الى نقطة مهمة في هذا البحث وهي ان معرفة الله وكنهه الذات المقدسة مهما وصل الانسان الى علم فهي معرفة اجمالية دون المعرفة التفصيلية والاستحالة لمعرفة الذات المقدسة وهي بطبيعة الحال انه تعالى غير محدود ولا احد يستطيع ان يعرفه لانه ((من حده فقد عده )) ثم انتقل الامام بقوله ( ع) (( ومن قال ( فيم) فقد ضمنه ، ومن قال ( علام ) ؟ فقد اخلى منه ، كائن لاعن حدث ، موجود لاعن عدم مع كل شي لا بمقارنة )) ان تعرض الامام (ع) في هذه العبارات القصار والدقة في المعاني وسعتها تحت عدة نقاط هي اولاً كون الذات المقدسة الالهية منزهة عن المكان فقد قال ( ومن قال ( فيم ) فقد ضمنه ) ويلاحظ ان كلمة ( في ) تستعمل في شان المكان الذي يحوي الشيء ويحيط به من قبيل قولنا ( زيد في الدار ) ونتيجة ما تقدم هو عدم سؤال ( علام) بشان الله .

تعبير محدودية سبحانه وتعالى لانه اخلى منه سائر المواضيع ولان مثل هذه الاسئلة تستلزم كون الذات القدسية محدودة .

وبناءاً على ما تقدم فكل من تصوره ( الذات المقدسة ) على العرش او على الحوادث او اي مكان اخر فقد جرد نفسه من التوحيد الخالص لذلك شطح من قال وجهل من اعتبر تفسير الآية القرآنية ( الرحمن على العرش استوى ) انها دلت على جسمية الله وانه على العرش ! في حين ان كلمة ( استوى ) هي معنى السيطرة على الشيء ولا تقتصر على معنى التربع على الشيء او الاستقرار عليه ، حيث جاءت هنا تعبير ( كنائي ) معروف حول تزعم الامور والاخذ بزمامها، اذن الاية تفيد استقرار حكومته وسلطانه سبحانه على العرش، ثم يقول (ع) ((موجود لا عن عدم )) هنا الفارق بينه وبين جميع المخلوقات المسبوقة بالعدم والحدوث .

بينما الذات الالهية المقدسة لم تسبق بمثل ذلك العدم والحدوث بل لا يمكن وصفه بصفتي ( كائن ) ( والموجود) دون تنقية مفهومها من صفات المخلوقين، ان الفارق بين المخلوق والخالق هو فارق بين وجود مستقل من جمع الجهات ووجود تابع له والله سبحانه ليس منفصل عن عالم الوجود ( كما انه ليس عين الموجودات) اما عبارته ( ع) فقد قال ((فاعل لا بمعنى الحركات والالة )) ان الانسان لابد له ان يستعين ببعض الوسائل والادوات ليس بها النقص الذي يشوب قدرته فهو يستعين بالمكائن والآلات الضخمة لنقل الاحمال الثقيلة من مكان الى اخر الى غير ذلك من الامثلة الحية في واقعنا ولكن الله سبحانه منزه عن الجسمية وقدرته غنية مطلقة حيث ان فاعلية لا تعني القيام بحركات ابداً .

لذلك فان قدرته غنية عن الاستعانة بالأدوات والآلات وان كان محتاج للآلة اذن فهو مفتقر .

لان امره كما قيل بين ( الكاف والنون ) والاشارة هنا الى امر مهم ان فاعلية الله سبحانه وتعالى لا ينبغي ان تقارن مع فاعلية الانسان نعم فقد جرت عادته على ايجاد الحوادث عن طريق الاسباب الطبيعية لان ارادته شاءت ذلك لقوله تعالى ( فالمدبرات امراً ).

يقول الامام علي (ع) ((إنشاء الخلق إنشاء وابتداه ابتداءً بلا روية اجالها ولا تجربة استفادها ولا حركة احدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها احال الاشياء لأوقاتها ولام بين مختلفاتها وغرز غرائزها ....)).

يقول الشيخ (مكارم الشيرازي) بشرحه تلك الخطبة بقوله ( فالامام (ع) بين البون الشاسع بين الخلق الالهي والاعمال والافعال التي تصدر عن المخلوقات .

فالانسان مثلاً اذا اراد ان يقوم بعمل ولم يكن لهذا العمل من سابقة وظن وفكرة وتامل لينطلق اليه . وان كان له سابقة اقتدى بتجربته وتجارب الاخرين كما يعمد الى خزينه الذهني والفكري بشأن ترتيب مقدمات العمل بغية التوصل الى نتائجه وكيفية ادائه ، واحياناً يتيه في ترديده وحيرته بحيث يحكم رأيه ويقوم بالعمل على اساسه وليس هنالك من سبيل لاي من هذه الحالات والاحتمالات للذات الالهية المقدسة ، فما حاجة الى الفكر والتامل ولا الى التجارب السابقة ولا الحركة الفكرية استناد الى ترتيب المقدمات والحصول على النتائج ولا الترديد والاضطراب في الاعمال والقرارات .

فليس وجوب الشي الا ارادته ( انما امره اذا اراد شيا ان يقول له كن فيكون ) وبعبارة اخرى فان هذه الاحتمالات الاربع انما تتعلق بحصيلة اعمال الافراد الذين لهم حظ محدود من العلم والقدرة. والارادة تلك الحاجة وافكار الاخرين وتجاربهم والشعور بالاضطراب والقلق ولا سبيل لهذه الحالات الى من خرج علمه وقدرته عن الحدود حيث الخلق).

لقد بين (ع) في بداية خطبته كيفية خلق العالم وكيفية ابتدأ الخلق والعجائب التي انطوت عليها السماء والارض، فبداء بكلمة (إنشاء) وهي من مادة (إنشاء) بمعنى الايجاد ولكن ذكر لها معاني عديدة ، واما كلمة ( روية ) فهي بمعنى ( الري ) من الماء كما ورد في معاجم اللغة وجاءت هنا بمعنى التفكير بالدقة اي انه اداء حق التفكير وكلمة (اجال) جاءت هنا بمعنى (الحركة والتجوال) وكلمة (همامة) فقد عناها بعض الشراح ومفسرو نهج البلاغة بانها الرغبة القطعية الباطنة بالشيء بحيث ينزعج لفقدانها ( كما ذكره ابن ميثم البحراني ) وقد قال عنها اخرون انها تعني الاهتمام بالشيء او انها نفي التردد في القيام بالعمل .

وقد ذكر ان ابن ابي الحديد بين في شرحه لنهج البلاغة عند قول الامام ( ع) ( ولا همامة نفس اضطرب فيها ) ان فيه رد على المجوس القائلين بالهمامة الذين يعتقدون بان النور الاعظم حين هم بمجابهة الظلمة بدا عليه الشك والترديد فخرج من ذاته بشيء يسمى ( بالهمامة ) وقد يبدو ان المراد بها الضعف والعجز بحيث يتخذ الشخص قرار بصعوبة .

ان افعال الله ليست من جنس افعال العباد وتختلف عنها تماماً ، وذلك لان افعاله سبحانه تستند الى علمه المطلق بمصالح الاشياء ومفاسدها ومعرفته الكاملة بالنظام الاحسن للخلقة والقدرة التامة على جميع الاشياء وارادته قاطعة تامة لا لبس فيها ولا ترديد ولا تأمل وتفكير في افاضته الوجود على الموجودات وارداته كانت وما زالت نافذة في الخلق.

ثم اشار (ع) الى كيفية خلق الموجودات والتدبير الالهي في ظهور الاشياء طبق للمخطط والبرامج المنظمة فقول (ع) (احال الاشياء لاوقاتها) اي ان الله جعل لخلق كل موجود وقتاً معيناً وذلك لان خلقه قائم على اساس التدريج والتخطيط الزماني بغية ايضاح عظمة تدبيره وقدرته الفريدة الفائقة.

ثم عرج (ع) الى النظام الداخلي والتركيبي فقال (ع) ((ولام بين مختلفاتها )) اي بمعنى الجمع والاصلاح وضم الشيء الى شيء اخر والملائمة بينهما ، وحيث الف الله سبحانه بين مختلف الموجودات لتبدو منسقة وكانها شي واحد وهي من عجائب الخالق تعالى ، فقد لائم بين البارد والحار والظلمة والنور والموت والحياة والماء والنار .

وخلق النار من الشجر الاخضر وخلق الانسان والحيوان والنبات مركباً من مواد تامة الاختلاف ذات طبائع متنوعة .

واوجد رابطة عميقة محكمة بين الروح والجسم وهي تنتميان الى عالمين مختلفين تماماً ، احدهما مجرد نوراني وشفاف للغاية والاخر مادي وظلماني وخشن للغاية .

ثم يقول (ع) ((وغرز غرائزها )) اي اودع في الانسان وسائر الكائنات الحية . الطبائع بمثابة البذور التي غرست في ارض الوجود الانساني . فقد اودعها الله سبحانه طبائعها ثم جعل لكل موجود طبيعية والهمه غريزيا.

وهذه الحكمة الالهية البالغة والتي اودعت كل موجود صورته الطبيعية من دون الحاجة الى محرك خارجي ، ولولا الدافع الذاتي لهذه الموجودات لانقطعت استمرارية الاشياء ولسادها الاضطراب والفوضى، ويوجد تعبيران مختلفان بشان هذه الدوافع الذاتية للإنسان او سائر المخلوقات والموجودات .

فأحيانا يطلق عليها اسم (الفطرة) وان معرفة الله مودوعة في الفطرة الانسانية، واحياناً اخرى قد يعبر عنها بالغريزة .

فما يقال ( غريزة الجنسية ) او ان يقال هناك (صبغة غريزية) فهي اصطلاح استعمله العلماء بهذا الشأن واحدهما تتسم بالبعد الفكري والاخر بالبعد العاطفي وكلاهما يعني الخلقة على اساس المعنى اللغوي.

يقول الامام علي (ع) (والزمها اشباحها) تضاربت اقوال المفسرين بشان هذه العبارة فذهب البعض ومنهم ابن ابي الحديد الذي قال ان الضمير المنصوب في ( الزمها ) عائد الى الغرائز ، اي الزم الغرائز اشباحها . اي اشخاصها لان كلا مطبوع على غريزة لازمه ، وبالنتيجة فان العبارة تأكيد على ثبوت غرائز الموجودات . بينما ذهب البعض الاخر الى ان المراد بالعبارة وجود التشخصات الخاصة لكل موجود ، اي ان الله سبحانه وتعالى قد وهب كل موجود بعض الخصائص والمميزات ، وبعد ان كان لها بعداً كلياً في علم الله فقد تبلورت في الخراج على هيئة جزيئات واشخاص وعلى ضوء هذا التفسير فان الضمير في الزامها يعود الى ( الاشياء ) كما ذكر البعض كلا التفسيرين على نحو الاحتمال، لكن الشيخ الشيرازي ( دام ظله ) يعتبر التفسير الثاني للعبارة ( الزامها ) اصوب واصح بتعليله قائلا ( ولما كان التفسير الاول لا يتضمن انسجام الضمير وما ذهب اليه ، اضافة الى كون العبارة تتخذ طابع التأكيد لا بيان موضوع جديد فان الذي يبدو ان التفسير الثاني اصح واصوب من التفسير الاول .

وتوضيح ذلك ان الله تبارك وتعالى قد وهب كل موجود نوعين من الخصائص التي اودعت باطن ذاتها والتي عبر عنها الامام (عليه السلام) بالغرائز والخصائص في الجوانب الظاهرية من قبيل الزمان والمكان وسائر الجزيئيات والتي عبر عنها الامام (عليه السلام) بقوله ((الزمها اشباحها )) وعلى هذ الاساس يكون الحق واستناداً لحكمته البالغة في افاضته للخصائص الباطنية والظاهرية لكل موجود ليقوم بوظائفه الخاصة به على ما يرام ويتميز عن سائر الموجودات .

ان علم الله بالحوادث التي ستقع ثابت وهذا ما اكدته الايات القرانية ، ولكن علمه سبحانه وتعالى ليس من قبيل ( العلم الحصولي ) اي ليس هنالك من انعكاس للصورة الذهنية للأشياء في ذاته ، لانه ليس له من ذهن كالمخلوقات فعلمه لا يأتي من خلال انعكاس صور الموجودات ، بل علمه (علم حضوري ) اي ان المخلوقات حاضرة عنده ، وان ليس هناك معنى للعلم الحضوري بشأن الاشياء التي تظهر للوجود، بل هذا وارد حتى بخصوص الموجودات التي زالت وانعدمت في الماضي ، لقد وقع جدل في الاوساط الفلسفية حول ( كيفية العلم الالهي بالموجودات ) فقد حدد العلماء عديد من الاجوبة بهذا الشأن منها : ان الله كان وما زال عالماً بذاته التي تعتبر علة لجميعها ، وبتعبير اخر فان لذاته اعظم الحضور لدى ذاته ، وهذا العلم بذاته هو علم اجمالي بكافة حوادث العالم وموجوداته قبل الايجاد وبعده ؟

واوضح الشيخ مكارم شيرازي (دام عزه ) بقوله ( اننا لو علمنا على نحو الدقة بعلة الاشياء فان مثل هذا العلم سيقود بالنتيجة الى العلم بنتائجها ومعلولاتها ، وذلك لان كل علة تشتمل على كافة كمالات المعلول وزيادة ، ولما كان الله علة جميع الاشياء ويعلمها بذاته ويحيط بها ، وفي الواقع فان هذا نوع من الكشف التفصيلي تجاه جميع الاشياء من خلال العلم الاجمالي ، ويمكن ايضاح ذلك : بان الحوادث الماضية لم تنعدم بالمرة ابداً وانما لها وجود وحضور في عمق حادث الحاضر ، كما ان الحوادث المستقبلية ليست معزولة عن الحوادث الحاضرة فهي مرتبطة بها ونابعة منها .

وعلى هذا الاساس فان الماضي والحاضر والمستقبل انما يوجد سلسلة من العلل والمعاليل بحيث ان العلم باحدى حلقاتها انما يعني العلم بما قبلها وما بعدها من حلقات . على سبيل المثال لو علمنا بدقة الاوضاع الجوية للكرة الارضية والعوامل المؤدية لظهور الاجواء الفعلية واحطنا بكافة جزئيات وروابط عللها ومعاليلها ، فاننا سنستطيع التعرف بدقة على اوضاع الاجواء لما قبل او بعد الاف السنين ، وذلك لان ملف حوادث الماضي والمستقبل موجودة في الحاضر .

فاليوم يحمل انعكاساً دقيقاً عن الامس والغد عن اليوم والعلم التام بجزئيات اليوم بمعنى العلم التام بالحوادث الماضية والمستقبلية. فاذا التفتنا الى هذه الحقيقة - والكلام لازال للشيخ الشيرازي - وهو ان الله سبحانه المصدر الاصلي لجميع حوادث الامس واليوم والغد وان له العلم بذاته المقدسة ، فان علينا ان نقر بانه عالم ايضاً بحوادث المستقبل والحاضر والماضي .

وبالطبع فان اثار كل موجود مهما كان انما تتبع ارادة الله وامره ، الا ان سنته جرت في منح الموجودات القدرة على القيام بفعاليتها فاذا شاء جردها منها .

قال الامام علي (ع) في بيانه لبدء خلق العالم ((ثم انشأ سبحانه ، فتق الاجواء وشق الارجاء ، وسكائك الهواء )) تناول الامام (ع) بداية انبثاق الخلق فأشارالى شق الطبقات الجوية . يذكر صاحب مفتاح السعادة في شرح النهج قوله ( ان الامام (ع) ذكر ثلاثة امور وهي بمنزلة الاصول في خلق السموات اولها فتق الاجواء وثانيها شق الارجاء وثالثها سكائك الهواء ، وذلك يدل على ان الجو الفضاء الواسع بين السماء والارض كلها كانت ظلمات فلما اراد الله تبارك وتعالى خلق السماوات فتقها ولما كانت الاجواء الظلمانية في ظلمتها ثابتة ثم تطرف النور اليها حسب ما اراد الله فصح ان يقال فتقها فان الفتق الشق ) ان الخلق الاول في عالم المادة كان خلق فضاء العالم الفضاء الذي يسع استيعاب الكرات السماوية والمنظومات وما الى ذلك ، يقول الشيخ الشيرازي في شرحه ( ومن هنا يتضح ان كلمة ( ثم ) في العبارة لا تفيد معنى الترتيب التكويني . بل تفيد الترتيب والتأخير البياني ، لأنه قد اشير في العبارات السابقة الى خلق انواع الموجودات والكائنات ، ومن المتيقن الا تكون قد اعقبت بخلق الفضاء ثم كريات السماء والارض وفي الواقع فقد تضمنت العبارات السابقة ابحاثاً بشان خلق الموجودات بينما تكفلت هذه العبارة شرح تلك الابحاث وتفصيلها، على كل حال فان ظاهر هذه العبارة تفيد ان الفضاء اول مخلوق في عالم المادة ، غير ان هناك ترديد لدى بعض الفلاسفة والمتكلمين بشان الفضاء في انه امر وجودي ام عدمي ؟

فهناك من يعتقد كما ان الزمان قد ظهر بعد انبثاق الموجودات وحركتها ( لان الزمان هو وحدة الحركة ) فان المكان هو الاخر قد حصل بعد ظهور الاجسام المختلفة ومقارنتها مع بعضها . والحال يتعذر علينا تصور عدم وجود مكان مطلق اثر ظهور اول جسم الى الوجود ) وهنا يجب ان نلاحظ مسالتين مهمتين الاولى انه ثبت ان القول في شرح هذه الكلمات صارت ( حيارى ) حيث كلما ذكروه في المقام منظومات حدسيات او اوردوها على سبيل الترديد لأنه كلامه (ع) فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ولا يمكن لاحد بعد الاحاطة بكلامه ووجوه معانيه الا ابنائه المعصومين ( سلام الله عليهم اجمعين ) والمسالة الثانية وهي تثبيت ايضا الاولى انه وقع خلاف بين الفلاسفة والعلماء فهل هذا العالم مادي حادث ام قديم ازلي ؟

لقد اجاب الشيخ مكارم الشيرازي (دام ظله ) ( فالبعض يرى قديم ازلي بينما يعتقد الاعم الاغلب انه حادث ، اما دليل القائلين بالازلية والقدم فانما يستند الى الذات الالهية المقدسة القديمة وكل ما سواها فهو حادث ومخلوق وتابع لذاته المقدسة . واما انصار عقيدة حدوث العالم فأحياناً يستدلون بالادلة الفلسفية على مدعاهم واحياناً اخرى بالأدلة العلمية فبرهان الحركة والسكون من الادلة الفلسفية المعروفة التي تقول بان عالم المادة دائماً في حركة وسكون ، والحركة والسكون من الامور الحادثة وما كان معروضاً للحركة والسكون فهو حادث ايضاً ، ويمكن ايراد هذا الدليل بتعبير اوسع واشمل وهو ان عالم المادة دائماً في تغيير والتغيير والتبديل علامة على الحدوث .

لأنه لو كان ازلياً وهو مسرح على الدوام للتغير والتبديل فان ذلك سيكون جمع بين الحدوث والقدم .

اي لابد ان نرى التغييرات وهي من الامور الحادثة ازلية وهذا تناقض صريح ،اما الدليل العلمي فهو الدليل الذي يقول بان العالم في حالة تآكل دائمية وقد قامت الادلة والبراهين العلمية التي تثبت ذلك ، ويصدق ذلك على التيارات والثوابت والارض وما كان على سطحها ، فالتآكل المستمر دليل على ان هناك نهاية وخاتمة لعالم المادة .

لان التآكل لا يمكن ان يستمر الى مالا نهاية فاذا اقبلنا ان للعالم المادي نهاية ، يجب ان نذعن بان له بداية ، لان الشي لا يكون ازليا ما لم يكن ابدياً ، فالأبدية تعني اللانهاية ، والشي اللامنتهي ليس بمحدود واذا كان ليس بمحدود فلا بداية له .

وعليه فان الشي اذا لم يكن ابدياً سوف لن يكون ازلياً ، ويمكن ايراد هذه الكلمة بصيغة اخرى وهي ان العالم لو كان ازلياً وفي حالة تاكل فلابد ان يكون هذا التآكل قد انهى عمر العالم لان تناهي التاكل يساوي العدم ، وبتعبير اخر على ضوء اخر النظريات العلمية أن العالم المادي يسير نحو الروتينية . فالذرات تتلاشى تدريجياً وتتحول الى طاقة والطاقة تسير نحو الروتينية ) اذاً هنا يجب ان نؤكد شي مهماً جداً انه لم ولن يمكن زماناً قد مر ولم يكن الله من خلقه وان ذاته الفياضة قد توقفت عن هذا الفيض . بل بالعكس فان عملية الخلق مستمرة الا ان المخلوقات كانت دائماً تشهد حالة التغيير والتبديل وان جميع هذه المخلوقات تابعة لذاته المقدسة او بتعبير اخر كان له حدوثاً ذاتياً لا زمانياً .

وذلك لعدم امكانية تصور الحدوث الزماني للجميع وما ورد في الرواية (كان الله ولا شي معه ) انما يراد بها انه لم يكن شيئا مهما حياً لذاته بل مخلوقاً لها .

يتبع ......

****************************