وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
ضرورة نشر تعاليم نهج البلاغة في عالم الإسلام

الإمام السيد الخامنئي

إنه لباعث على فائق السرور أن نشاهد عقد مؤتمر آخر حول نهج البلاغة بفضل همّة الأخوة الأعزاء في المؤسسة. وإنني باعتباري فرداً مسلماً، وكوني قضيت مدة من حياتي الفكرية ومطالعاتي في مجال أبحاث نهج البلاغة، وباعتبار أنني أحد المسؤولين في نظام الجمهورية الإسلامية، أعتبر هذا التحرك مباركاً وضرورياً ويؤدي إلى نتائج حسنة. كذلك أعتبر هذه المرحلة الحالية مرحلة ابتدائية باتجاه الوصول إلى المراحل النهائية.

تحوز همّة الأخوة على تقدير عالٍ، وعلينا أن لا نقنع بما وصلنا إليه، بل أن نعتبر خدمة "نهج البلاغة" عملاً دائماً ومستمراً. وبالطبع في المدة التي مرّت بين المؤتمر السابق وهذا المؤتمر، أنجزت أعمال وجرت مساعٍ عديدة في مجالات عدّة حيث تم إطلاعي على بعضها.

ولكن أريد أن أؤكد على أن تكون هذه الاجتماعات مقدِّمة لأعمال عظيمة وكبرى. لقد طوينا زمناً طويلاً بعيدين عن الارتباط بنهج البلاغة. وعلينا أن نغتنم فرص اليوم لجبران تلك النقائص.

وممّا لا شك فيه أن الذين عملوا في نهج البلاغة ليسوا قلّة، سواء في إيران أو بعض البلدان الإسلامية الأخرى، ولكن الأعمال الأساسية التي يمكن أن تنشر مدرسة نهج البلاغة في أجواء العالم الإسلامي كلّه ما زالت تنتظر دورها، وإن كانت مقدّمات هذه الأعمال تأخذ طريقها تدريجياً إلى حيِّز التحقق. إنّ "نهج البلاغة" في الواقع كنز عظيم لا يمكن بهذه السهولة الوصول إلى حقيقته، أو فهمه، وإذا فهمناه أتى دور العمل الأساسي وهو الاستفادة والتطبيق.

وإننا ولحد الآن لم ندرك هذه الحقيقة، وهذا الأمر مشترك مع الكثير من المصادر الإسلامية الثرية. ولكن "نهج البلاغة" له وضع استثنائي بما يتمتع به من رتبة ومقام عال، ويجب التعامل معه على أساس أنّه كنز استثنائي.

عندما أتأمّل أجد أن الأمل الذي كنا نعيشه وما زلنا هو أن يصل مجتمعنا إلى حالة الألفة والأنس بهذا الكتاب العزيز. وبالنسبة لمن هو مثلي لا يتوقع منه أن يقوم بالأعمال التحقيقية، إلا إذا وفقنا الله تعالى للرجوع ذات يوم إلى حجرتنا الدراسية والاشتغال بمثل هذه الأعمال.

وأريد هنا أن أطلق تحذيراً فيما يتعلق بالتوجه الذي نحمله حول "نهج البلاغة". إننا لا نحمل هذا التوجه بالشكل المطلوب، وكأننا لا نعلم أي كنز للمعرفة اللامتناهية قد أودع في هذا الكتاب، أو كأنه لم يتضح إلى الآن وبشكل كامل بالنسبة لشعبنا وحتى بالنسبة لمجتمعنا أهمية الرجوع إلى هذا النبع العظيم الموجود في هذا الكتاب الذي لا نظير له.

أهمية قِدَم نهج البلاغة

أولاً إن هذا الكتاب يُعدّ من الكتب الإسلامية الأولى. وفي هذه الظروف التاريخية حيث يفصلنا عن صدور الإسلام حوالي ١٤٠٠ سنة، تتمتع المصادر ذات الأول والأصيل بأهمية خاصة وذلك لأنّ مع مرور الزمن يزداد الميل إلى التأويل وتزداد التوجهات المأوِّلة، وهذا الأمر يعدّ أحد آفات الفكر الإلهي (الإلهيات؛ الأبحاث في مجال ما وراء الطبيعة).

فعندما يقطع الزمان شوطاً بعيداً عن نشوء الدين، فإن الأذهان، والابتكارات والميول الباطنية للأشخاص الأذكياء تسوقهم نحو الاستنباط الذي نراه أكثر ما يعتمد على السلائق. وهذا هو السبب اللامرئي وراء تحريف الأديان. فالأديان السابقة التي حُرِّفت، كان أحد أهم آفاتها أن متونها الأساسية الأولى لم تبقَ سالمة بشكل كامل.

نحن بالطبع عندنا القرآن المصون من التحريف، وهذا بنفسه امتياز كبير جداً، وهو كان عاملاً لوجود محور للاستنباطات الإسلامية المختلفة مع تلك الوفرة الكبيرة في السلائق المتعددة. أي أنّ الأمر في النهاية كان يرجع إلى نقطة تعتمد عليها كل الآراء والعقائد المختلفة، وهي القرآن. لكن هذا لم يكن كافياً، لمنع التأويل واتبّاع الآراء والسلائق والأهواء والبدع. وهنا نجد أمير المؤمنين "عليه السلام" يقول لعبدالله بن عباس: "لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه" (مشيراً إلى الخوارج).

حقاً، فإن أولئك الذين طبقوا قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله﴾ ـ الذي نزل بحق علي "عليه السلام" ـ على ابن ملجم. كيف هو ذهنهم، وهل يمكن معهم الاستناد والرجوع إلى القرآن؟

وقد شاهدنا هذه الحقيقة في أيامنا هذه، أشخاص يعتمدون على آيات القرآن مستخدمين وسائل التأويل.. في مثل هذه الظروف كلّما كانت النصوص والمتون الإسلامية أقرب إلى صدر الإسلام، كانت إمكانية الاستنباط الصحيح بالنسبة للمحققين أكبر.

أهل التأويل والالتقاط

في الماضي شاهدنا بأنفسنا كيف كان المؤِّلة، أو بعبارة أخرى الالتقاطيون لا يعتنون أبداً بالروايات والأحاديث. فبمجرد أن نقول "حديث" يقولون: "ألا تؤمنون بالقرآن؟". وكأنه يوجد تعارض بين الاعتقاد بالقرآن والاعتماد على الحديث!.

في البداية كنا نتعجب، ولم نكن ملتفتين كثيراً. وعندما شاهدنا كيف يتصرفون بالقرآن وكيف يردون الحديث الصريح والصحيح، فهمنا حينها سبب مخالفتهم للحديث. وفي ذلك الموضع نجد أمير المؤمنين "عليه السلام" يقول لابن عباس: "ولكن حاججهم بالسنّة لأنها لا تقبل التأويل".

ونحن لو استطعنا في مثل هذه الظروف الحالية للعالم الإسلامي ـ حيث يمثل المسلمون نسبة كبيرة من السكان ويشغلون مناطق واسعة من العالم، وتحكمهم الآراء والعقائد والمذاهب المختلفة ـ أن نحيي متون صدر الإسلام فإننا نساهم كثيراً في إيجاد محور أساسي لهذه الاجتهادات.

فانظروا إلى نهج البلاغة من هذه الزاوية. لأنه لا مجال لمقارنة أي كتاب روائي لفلان الصحابي أو التابعي ـ الذي جاء بعد خمسين أو مئة سنة من الهجرة ـ بنهج البلاغة. إن نهج البلاغة هو كلام أول من آمن بالوحي المحمدّي، وهو كلام خليفة الرسول الذي اتّفق جميع المسلمين على خلافته، وكلام إمام هو باعتقاد الشيعة والكثير من أهل السنة أفضل الصحابة.

إنسان في هذا المستوى من العظمة والأهمية، وقد بقي عين كلامه، وخطبه. ويمكن أن يكون مظهراً لمتن عظيم وأصيل المعارف الإسلامية. ففيه الأخلاق، والزهد والقيادة في المجتمع، والنظام السياسي، والنظام الاجتماعي والعرفان. ونحن قادرون على أن نجد الأصول الاعتقادية الكاملة والجامعة للإسلام في هذا الكتاب.

القرآن ونهج البلاغة

إن هذا الكتاب عندما يوضع إلى جانب القرآن، فإنه يعد تالي القرآن. فليس لدينا كتاباً آخر له هذا المستوى من الاعتبار والجامعية والأقدمية. لهذا فإن إحياء نهج البلاغة ليس وظيفتنا نحن الشيعة فقط، بل هو وظيفة جميع المسلمون. أي أنّ كل من يقبل بعلي بن أبي طالب "عليه السلام" وهو مسلم ـ لأنه لا يوجد من المسلمين من لا يقبل هذا العظيم ـ فعليه أن يحي نهج البلاغة بعنوان كونه تراثاً لا نظير له في الإسلام.

وليس هذا الإحياء في كثرة طباعته، فقد حصل هذا، بل بمعنى العمل والتحقيق في مجاله، كما حصل هذا الأمر في مجال القرآن الكريم، حيث أُعدِّت التفاسير الكثيرة، وكذلك في علوم القرآن. ومثلما يُقرأ القرآن ينبغي أن نقرأ نهج البلاغة، لأنه تالي القرآن. ومثلما يعتبر المسلمون أنفسهم مكلّفين بإيجاد رابطة عميقة مع القرآن، ويعدوّن الجهل به منقصة، كذلك ينبغي عدّ الجهل بنهج البلاغة نقصاً.

النقطة الأخرى الفائقة الأهمية، وهي برأيي تكليف على الجميع، أن نتعرف جيداً على موقع صدور هذه الكلمات وأحوال قائلها، وأن نعلم أنّ هذه المعرفة والوعي هما علاج شاف وسريع بالنسبة للكثير من أمراض مجتمعنا.

لأننا عندما نطالع في حال قائل هذه الكلمات، نجد أنه ليس إنساناً عادياً، بل له خاصيتان تجعل كلامه من هذا المنطلق كلاماً استثنائياً. إحدى هاتين الخاصيتين هي حكمته، والأخرى حاكميته. فهو "عليه السلام" أولاً حكيم ومن الذين {يؤتي الحكمة من يشاء}. فقد أوتي الحكمة الإلهية حيث عرف العالم والإنسان وحقائق الخلقة ودقائق الوجود. فهو الحكيم، الذي له اطّلاع على حقائق الوجود.

وهذا الاطّلاع ـ عند من يعتقد بأنه إمام معصوم ـ قد حصل بالإلهام الإلهي، وباعتقاد الذين لا يرون عصمته قد حصل عليه بتعليم الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلم" ومن الإسلام. وعلى كل حال فلا يشك أحد بأنه إنسان بصير وحكيم استفاد من حكمة الأنبياء واطّلع على حقائق الخلق وخزائن الله.

فهذه هي الخاصية الأولى له. والخاصية الثانية هي أنه كان "عليه السلام" في زمان خاص حاكم المجتمع الإسلامي ويتحمل مسؤولية الحكومة.

ومن هاتين الخاصيتين كان الكلام ينبعث ليفوق الحكمة العادية، ويجعله متميزاً ببعد إضافي.

ولكن حقاً، ما هو كلامه؟ وماذا كان يقول في كلماته؟ بماذا نطق هذا الأمير الحكيم الذي حكم المجتمع الإسلامي؟ من البديهي أن حديثَه سيكون مطابقاً للحاجات، وأنه سيقول ما يمثل حاجة قطعية في تلك المرحلة من تاريخ الإسلام. وليس من الممكن أن يقول غير ذلك.

ليس من المتصوَّر أن يصف هذا الطبيب الحاذق المشفق علاجاً ودواءً لا يحتاج إليه المريض. لهذا سنجد في هذه الوصفة الطبية لأمير المؤمنين "عليه السلام" شيئاً آخر. فما هو؟ إنه وضع المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان.

ولن نجد تأويلاً وتفسيراً ناطقاً بهذا القدر. ولن يكون هناك تقرير دقيق بهذا المستوى، بحيث يبيّن لنا أوضاع وظروف المجتمع في ذلك الزمان، كما بيّنه لنا علي بن أبي طالب "عليه السلام".

إننا نعيش اليوم في عصر نميل إلى تشبيهه بعصر صدر الإسلام، أي الولادة الجديدة للإسلام. فذلك العصر هو الولادة الأولى، وهذا العصر هو الولادة الثانية.

وفي ذلك العصر كانت أحكام الإسلام تطبّق، ونحن اليوم نتّجه نحو تطبيق هذه الأحكام.

وفي ذلك الزمان كان أعداء الإسلام أي أعداء هذه المعارف والأحكام مخالفين للمجتمع النبوي، وهؤلاء الذين يخالفون الثورة الإسلامية ليسوا مخالفين للجمهورية الإسلامية، بل للإسلام وليس الإسلام بالاسم، بل روحه وواقعيته.

وليس هذا بالأمر البسيط. ومن الطبيعي أن يخالفوا، لأنهم مستكبرون ومتسلطون ومستغلون وعنصريون ومحقِّرون للقيم الإنسانية ومتآمرون على القيم الإنسانية، ينفون القيم الإلهية. فلو لم يخافوا من الإسلام لَكُنَّا تعجبنا. لأنهما ضدان. وهذه الخصوصية كانت موجودة في ذلك الزمان أيضاً.

بيان الأمراض وعلاجها

ونحن شعب إيران الذي حملنا أركان هذا النظام على عاتقنا لو راجعنا اليوم "نهج البلاغة" لوجدنا فيه شيئاً ملفتاً. فالأمراض والآفات التي تهددنا في هذه المرحلة وكذلك علاج هذه الأمراض الذي يعدّ بالنسبة لنا أمراً مصيرياً، موجودة فيه. ولا أريد أن أقول إن جميع الحوادث التي حصلت في عصر صدر الإسلام تحدث اليوم كما هي. كلا، ولكن التوجهات واحدة. فقلوب المؤمنين في العصرين وآمالهم، وكذلك تردد المنافقين وضعاف الإيمان في العصرين أيضاً شيء واحد. وتعاون المخالفين والمتآمرين يتشابه في العصرين.

ومحورية نظامنا اليوم مثل محورية نظام صدر الإسلام، جماهيرية النظامين كذلك وقبول القرآن كسند أساسي ووصفة كاملة ومجسِّمة للأهداف والتطلعات هي شيء واحد في العصرين. فمن الطبيعي إذاً، إذا كنا نواجه أمراضاً مشابهة لأمراض ذلك العصر، وتعرفنا عليها مسبقاً، فإننا نصبح مستعدين لمواجهتها. ونهج البلاغة يعرفنا على تلك الأمراض واحداً واحداً. مع أنه بحسب الظاهر ليس كتاباً لتقرير التاريخ، ولكن كلام أمير المؤمنين يمثل تقريراً للتاريخ.

وبالطبع، لو أردت أن أذكر شاهداً على ما أقول، وكيف أن أمير المؤمنين "عليه السلام" قد رسم لنا معالم المجتمع الذي عاصره مع ذكر أمراضه وأدوائه، لو أردنا شرح ذلك وبيان كيف عالج "عليه السلام" كل مرض وقدم له وصفته العلاجية لاحتجنا إلى رسالة مستقلة.

وللأسف، كما قلت لكم لا ينبغي أن تنظروا من أمثالي هذا العمل وعلى الأخوة الذين لديهم وقت أن يقوموا به. ولكن أقول أيضاً إن تتبع هذا الأمر في "نهج البلاغة" لا يتطلب جهداً كبيراً. فتِّشوا، وبمجرد تصفح صفحاته سيبرز لكم ذلك.

حب الدنيا (الدنيوية)

أذكر كنموذج عدة فقرات من أمراض ذلك العصر، والتي كان أمير المؤمنين "عليه السلام" بصدد معالجتها. وأحد هذه الأمراض هو حب الدنيا. في "نهج البلاغة" ما أكثر ما نجد ذم الدنيا والانخداع بها والتحذير منها ومن مخاطرها. وأحد الأقسام المهمة في نهج البلاغة هو ما يتعلق بالزهد.

فلماذا كان الحديث عن الزهد؟ وما هو الواقع الذي يظهر من هذا الحديث؟ أين أصبح ذلك الزمان الذي كان رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" يقول فيه: "الفقر فخري"، وكان أصحابه يفتخرون بأنهم لم يتلوثوا بمال الدنيا، أمثال أبي ذر وسلمان وعبد الله بن مسعود وأصحاب الصفة الذين كانوا من أشراف أمة النبي، ولم يعتنوا بالدنيا ولا بذهبها وزخارفها. وكان شرف المال لا يساوي شيئاً أمام الشرف الآخر الذي عبر عنه رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" قائلاً: "أشراف أمتي أصحاب الليل وحملة القرآن".

ماذا حدث بعدها في المجتمع الإسلامي بحيث نجد أن نصف كلمات حدث بعدها في المجتمع الإسلامي بحيث نجد أن نصف كلمات أمير المؤمنين "عليه السلام" تقريباً تدور حول الزهد. لماذا امتلأ "نهج البلاغة" بالزهد والترغيب به، وعلى أي شيء يدل هذا الأمر؟ نعم، إنه يدل على مرض، كان أمير المؤمنين "عليه السلام" يصف علاجه متحدّثاً بهذا المقدار عن حب الدنيا والتعلّق بها، لأن الناس قد فتنوا بها. فبعد ثلاث وعشرين سنة من وفاة رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" أسَرِ الناس في الدنيا، وكان سعي أمير المؤمنين "عليه السلام" لتحريرهم منها.

في "نهج البلاغة" عندما نصل إلى موضع ذكر الدنيا نلاحظ شيئاً بارزاً، ونشعر أنّ في كلام أمير المؤمنين هنا لهجة ولوناً آخر.

لم أقدر على عدم ذكر هذا المقطع، من كلماته التي تبلغ المئات من شدة جماله، "فإنَ الدنيا رَنِقٌ مَشربُها رَدعٌ مشرعُها يُونِقُ منظرُها. ويُوبِقُ مخبَرُها، غرورٌ حائِل، وضوءٌ آفِل، وظلٌ زائل، وسِنَاد مائل، حتى إذا أنِسَ نافِرُها، واطمأنّ ناكِرُها، قَمَصت بأرجلُها وقَنَصت بأحبُلِها، وأقصَدَت بأسمهُمِها، وأعلقَتِ المرءَ أوهاقَ المنيَّة قائدةً له إلى ضَنْكِ المضجَعِ ووحُشَهِ المرجِع". فانظروا كم هو جميل هذا الكلام. إنه غير قابل للترجمة.

ينبغي أن يقوم البلغاء والشعراء بدراسة كل كلمة على حدة قبل ترجمتها. وما يلفت نظر الإنسان، وما لفت نظري هو أنه عندما يتحدث عن الدنيا يقول: "غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل" ثم يذكر نقطة من بعدها: "حتى إذا أَنِسَ نافرُها" فالدينا بكل مظاهرها وخدعها تظهر لأولئك الذين كانوا قد فروا واستوحشوا منها بحيث تجعلهم بعد ذلك يأنسون بها "واطمأنَ ناكرُها" وأولئك الذين لم يكونوا مستعدين لمدّ أيديهم إليها، تراهم بعدها يشعرون بالطمأنينة إلى جانبها.

هذا هو المرض، فأولئك الذين كانوا مع رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" وقد تركوا أموالهم وعيالهم وأوطانهم وتجارتهم في سبيل الإسلام وهاجروا إلى المدينة مع الرسول، وطووا على الجزع والمخمصة والشدة، نراهم بعد عشرين، ثلاثين سنة من وفاة رسول "صلى الله عليه وآله وسلم" عندما يتوفون يحتاج ورثتهم إلى الفؤوس ليقسّموا الذهب الذي تركوه. هؤلاء هم مصداق قوله "عليه السلام": "حتى إذا أَنِسَ نافرَها واطمأنّ ناكرُها".

فهذا أوج كلام أمير المؤمنين "عليه السلام"، وهو نموذج من كلماته "عليه السلام" في موردنا الدنيا.

ومن المواضيع الأخرى التي تكرر ذكرها في نهج البلاغة التكبر. الذي هو المحور الأساسي للخطبة "القاصعة". وبالطبع لم يرد فقط في هذه الخطبة، بل تكرر في مواضع كثيرة.

قضية التكبر التي تعني اعتبار النفس أفضل من الآخرين، هي تلك الآفة التي أدَّت إلى تحريف الإسلام والنظام السياسي الإسلامي، وأبدلت الخلافة إلى سلطنة، وقضت تقريباً على جميع إنجازات النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" في برهة قصيرة من الزمان.

ولهذا كان أمير المؤمنين "عليه السلام" يولي هذا الموضوع إهتماماً كبيراً كما نرى في "نهج البلاغة". ففي هذه الخطبة القاصعة التي تعرفونها، ما أجمل وأروع ما يبيّنه الإمام "عليه السلام" حول هذا الأمر محذراً منه بشدة، أنقل لكم الآن قسماً منه:

"فالله الله في كِبْرِ الحَميَّة، وفخر الجاهلية، فإنه ملاقحُ الشنآن، ومنافخُ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية حتى أعنَقوا في حنادِس جهالته ومهاوي ضلالته ذُلُلاَ عن سِياقه، سُلُساً في قياده... ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا على حَسَبهم وترفّعوا فوق نسبهم". هذا هو تحذير أمير المؤمنين "عليه السلام".

إنه يحذر أفراد المجتمع بشدة من شيئين: الأول التكبّر والإستعلاء، والثاني من قبول هذا التوجه الخاطئ من الآخرين. فلا ينبغي أن تعتبروا أنفسكم أفضل من الآخرين، ولا ينبغي أن تتقبلوا مثل هذا التصور الخاطئ من غيركم. فأمير المؤمنين "عليه السلام" يؤكد على عدم قبول التكبّر من الآخرين، وهو "عليه السلام" لا يتكبّر ولا يقبل ذلك من أحد. فهذان ضامنان لتطبيق الأخلاق الإسلامية بين الناس وبين مسؤولي المجتمع الإسلامي.

وهذا يحكي عن وجود هذا المرض أو هذين المرضين. وإذا أردتم المزيد من التأكد اذهبوا وطالعوا التاريخ.

وأولئك الذين لهم إطّلاع على ذلك العصر يعلمون أنّ أسوأ الأمراض في ذلك الوقت أمران: الأول أنّ مجموعة من الناس كانت تعتبر نفسها أفضل من الآخرين، قريش من غير قريش، واتباع هذه القبيلة من اتباع هذه القبيلة. وللأسف، فإننا نلاحظ أنّ هذا المرض قد أنتشر بسرعة بعد وفاة رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، ولهذا كان أمير المؤمنين "عليه السلام" يقول: "فإنه ملاقح الشنآن..." أي أنه محل بروز وتولد الاختلاف والنزاع، وعندما تتأملون في كلمات أميسر المؤمنين ستلاحظون هذه النقاط التي ذكرت.

محاربة قبول التكبَر

ثم كان مرض قبول المتكبّر حيث تقبل تلك الجماعة المستحقر هذا الواقع. والآن اذهبوا وطالعوا في تاريخ ذلك العصر، فستلاحظون علائم قبول الظلم والتكبّر والعنصرية في حياة الناس بشكل يبعث على الأسى. وأولئك الذين كانوا يرفعون رؤوسهم ولا يقبلون بهذا الواقع، كانوا دائماً يتعرضون للمضايقة، وكان من هذه من خصوصيات أهل العراق الثابتة. نعم، ينقل عن أهل الكوفة إنّهم لم يكونوا أوفياء، وهذه الخصلة نائة من أمور كثيرة.

ولكن أهل العراق في ذلك الوقت، كانوا مترفّعين لا يقبلون حكام الشام. وأظن أن أحد أسباب هذه القضية هو حضور أمير المؤمنين "عليه السلام" بينهم، فقد تعلّموا هذا الخلق الإسلامي في برهة قصيرة منه.

على كل حال، نشاهد طوال الحكم الأموي والعباسي الذي دام حوالي ٦٠٠ سنة. أنّ المقتل الأساسي هي هذه المسألة، التي منها حصل الفساد ودخل. لهذا نجد في الكثير من الموارد في تعاليم أمير المؤمنين "عليه السلام" ما يتناول دحض روح التكبّر والاستعلاء والتبعيض.

المسألة الأخرى ترتبط بالفتنة، وهنا نجد كلاماً عجيباً لأمير المؤمنين "عليه السلام". إنّ من يتأمل في هذا الكلام العميق، الجميل والجامع يصاب بالحيرة والاندهاش.. ما هي الفتنة؟ إنها تعني الشبهة واختلاط الصفوف، أي اختلاط الحق والباطل:

"ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه". وفي هذه القضية حين يخلط الحق والباطل، يستفاد من شعارات الحق لمآرب أهل الباطل، لأجل إحكام قواعد وأسس الباطل. وهذا مرض وبلاء كان مستفحلاً في عصر أمير المؤمنين "عليه السلام"، ولهذا كان "عليه السلام" يكشف عنه ويفضحه.

في باب الفتنة نجد نوعين من الكلام لأمير المؤمنين "عليه السلام" في "نهج البلاغة ". أحدهما ما يدور حول الفتنة بشكل عام.

وقد دوَّنتُ في هذا المجال عدة جمل. ففي الخطبة الثانية، يتحدّث عن الأوضاع التي كانت سائدة حين بعث الله تعالى نبيّه الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلم" فيقول: "في فتنِ داستهم باخفافِها، ووطئتهم باظلافِها وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار وشر جيران، نومهم سُهُود وكحلهم دموع".

وهذا المقطع أيضاً غير قابل للترجمة. ويحتاج إلى الشعراء وأهل الذوق لكي يجدوا معادلاً دقيقاً لكل كلمة ولكل تركيب.. إنه حديث عن الفتن السائدة في المجتمعات قبل ظهور الأنبياء، وهو يريد أن يبيّن الأوضاع التي آل إليها المجتمع والناس في زمانه.

والمورد الآخر من كلام أمير المؤمنين "عليه السلام" عندما يذكر فتنة محددة، كما في جميع المواضع التي ذكر فيها مخالفيه الذين شنّوا الحروب والمعارك ضده كمعاوية وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم وكذلك الخوارج.

أهمية الإفشاء

هذا النوع الثاني في الواقع هو الإفشاء. فأمير المؤمنين "عليه السلام" كان يكشف عن الوجوه لأجل وأد الفتن. فهذا أفضل طريق لذلك. لأن الفتنة تنشأ في ظل مواجهة بين فئتين متصارعتين ينبعث من صراعهما الغبار فلا تُعرف عندها الوجوه في الحقيقة. ولعلّه قد يحمل الأخ السيف على أخيه، أو يطعنه، أو يعتمد على عدوه ويلجأ إليه. فهذه هي الفتنة. وما هو علاجها؟

علاجها الإفشاء، ولا يوجد مثل هذا العلاج للفتن. وكان أمير المؤمنين "عليه السلام" يمارس هذا العلاج، وهذا ما يدل على وجود المرض في ذلك الزمان.

في بحثي هذا تعرضت لثلاث نقاط هي: الدنيا، الكبر والفتنة. ويمكنكم أن تجدوا في "نهج البلاغة" مئة أمثالها، لم أحصها لأقول مئة ولكن أحدس بذلك وأتصور أنّنا ربما نجد أكثر منها.

كان أمير المؤمنين "عليه السلام" يشير إلى العلاج ومنه يعلم بوجود المرض. ولو لم يكن المرض موجوداً، لم يكن هذا الحكيم الذي يتحمل مسؤولية مضاعفة تجاه المجتمع ليتحدّث عن ذلك، ولكان يتطرق إلى أشياء أخرى. فهذا الكلام يدل على حجم ابتلاء الناس بتلك الأمراض ويعرض طرق الخروج منها.

وإنّنا اليوم بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمئة سنة، ما زلنا بحاجة إلى تلك الوصفات العلاجية، لنتعرّف على العلاج ولنتعرّف أيضاً على نوع الأمراض التي تهددنا.

نحن نعيش في هذه الأيام ظروفاً تشبه تلك الظروف السابقة؛ فحب الدنيا والانكباب عليها يهددنا، ويحدق بنا مرض الكبر وحب النفس والتبعيض، كذلك نجد طوفان الفتن الاجتماعية تهددنا بالسقوط.

وعليه فإننا بحاجة في تلك العلاجات، وأكثر من أي وقت مضى إلى "نهج البلاغة"، وخصوصاً من خلال هذه الرؤية.

ومن جانبي فأنا لم أرَ أحداً يسلك هذا المنهج مع "نهج البلاغة". وكما تعلمون، يوجد أكمال كثيرة حول "نهج البلاغة" ولكن هذه الرؤية جديدة، وتحتاج بأن ننظر بواسطة مرآة هذا الكتاب إلى الأوضاع ونشاهد الوقائع والأمراض والأخطار المحدقة، ونتعرّف بعدها إلى أساليب المعالجة. ففي عصرنا الحالي نحن بحاجة ماسّة إلى تفسير وشرح "نهج البلاغة" من هذه الجهة.

وفي الختام، أشكر أولاً الأخوة الأعزاء الذين نهضوا في سبيل إحياء "نهج البلاغة"، وأضفوا على الأبحاث الدائرة حول هذا الكتاب أبعاداً علمية جدية، وأولوها الاهتمام وثابروا عليها، فأخرجوه من تحت ركام النسيان والإهمال.

وأكثر المحقّقين في هذا المجال من الشرّاح والمترجمين والجهود الأخرى القيّمة. ولكنني أرجو أن نأخذ قضية "نهج البلاغة" على محمل المزيد من الجدية [١] .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

------------------------------------------------------
[١] . الإمام السيد الخامنئي دام عزه / محاضرة ألقيت في المؤتمر الخامس لنهج البلاغة طهران ـ حسينية الإرشاد ـ رجب ١٤٠٥هـ .

منقول من شبكة المعارف الإسلامية (بتصرف)

****************************