وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
الأخلاق الإجتماعية في نهج البلاغة – الثاني

ثالثاً: حلم الإمام
ولقد كان الإمام (عليه السلام) قمة في حلمه وعفوه عمن يسيء الأدب معه فهو لا يعرف الغضب إلا حين تنتهك للحق حرمته أو تتعدى حدود الله تعالى، أو يتعدى على حقوق الأمة وتضر مصلحتها.
وخلق الإمام (عليه السلام) في الحلم والصفح عن المسيء ظل هو هو لم يتغير، فعلي (عليه السلام) في صفحه وحلمه قبل خلافته، كعلي في صفحه وعفوه أيام قيادته المباشرة للأمة، على أن عظمة الإمام (عليه السلام) تزداد قوة وجلاء حين يظل يصفح ويمعن في عفوه حتى عن أشد خصومه في وقت يمتلك القدرة على العقاب والإرهاب والقتل.
فهو في أيام خلافته في مركز يؤهله أن يقتص من خصومه، فهو رئيس الدولة، والمطاع الأول بين أتباعه غير أنه مع هذا وذاك ظل يحمل نفس الروح من العفو والتجاوز كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواء بسواء.
وهذه نماذج من عفوه:
- أسر مالك الأشتر (رضي الله عنه) مروان بن الحكم يوم الجمل فلما مثل مروان بين يدي الإمام (عليه السلام) لم يستقبله بسوء قط، وإنما عاتبه على موقفه الخياني اللئيم فحسب [١] ثم أطلق سراحه ومروان هو هو في حقده على الإسلام والإمام (عليه السلام)، وهو في دسائسه ومكره، ودوره الخبيث في تأجيج الفتن في وجه الإمام (عليه السلام) أشهر من أن نذكره، فهو الذي عارض البيعة للإمام (عليه السلام) وهرب من المدينة المنورة بعد البيعة مباشرة، وهو الذي ساهم في فتنة البصرة، وألهب الناكثين وأغراهم بالتعجيل بها.. إلى غير ذلك من مواقفه الخسيسة.
- ولقد عفا الإمام (عليه السلام) كذلك عن عبد الله بن الزبير [٢] بعد أسره يوم الجمل، وعبد الله بن الزبير هو الذي كان يقود الفتنة في حرب الجمل.
- وجيء بموسى بن طلحة بن عبيد الله، وكان طرفاً في فتنة الجمل فلما وقف بين يدي الإمام (عليه السلام) خلى سبيله، ولم يعنفه عن دوره في الفتنة، وإنما طلب منه أن يستغفر الله ويتوب إليه ثم قال:
اذهب حيث شئت، وما وجـــدت لك في عسكــــرنا من سلاح أو كراع فخـــذه، واتق الله فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك [٣].
ومن عظيم عفوه ما رواه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) إذا أخذ أسير في حروب الشام أخذ سلاحه ودابته واستحلفه أن لا يعين عليه» [٤] .
أرأيت موقفاً إنسانياً كهذا الموقف؟
لقد كان الإمام (عليه السلام) مدركاً أن الذين يقاتلونه من أهل الشام إنما يقاتلونه وهم عن حقيقته غافلون، فقد أغراهم معاوية بالمال، وسد عليهم منافذ التفكير والوعي على الحقائق بما استخدمه من وعاظ وسوء وواضعي حديث ممن باعوا ضمائرهم للانحراف صوب الجاهلية.
وبناء على هذا الوعي العلوي لحقيقة مقاتليه ممن أغراهم معاوية وغرر بهم، فقد سبق حلم الإمام (عليه السلام) عدله في معاملتهم فلم يعاقب من اتخذ منهم أسيراً، وإنما يجرده من أداة الشر، ويضعه أمام الله والضمير كي لا يعود لقتال معسكر الحق الذي يقوده الإمام (عليه السلام).
ويذكرنا هذا الموقف الكريم بموقف معاوية وعمرو بن العاص اللذين كانا يصران على قتل الأشراف من جيش الإمام (عليه السلام)، بيد انهما خشيا الفضيحة إذا أقدما على ذلك بعد أن خلى الإمام (عليه السلام) عن أسراهم ابتداء فعدل معاوية وصاحبه عن موقفهما لا لطيب خلق منهما، وإنما خشية نقمة الرأي العام الإسلامي [٥] .
ولم نذهب بعيداً وتلك معركة صفين تحمل أحداثها الكثير الكثير من مواقف الصفح العلوي.. فحين سبق جيش معاوية إلى ماء الفرات أصر على منع الماء عن جيش علي (عليه السلام).. فأوفد الإمام (عليه السلام) لمعاوية وفداً كي يغير موقفه. ولكنه مضى في إصراره وموقفه اللاأخلاقي...
فاضطر الإمام (عليه السلام) لتحريك قوة من جيشه لفك الحصار. وكانت النتيجة أن سيطر جيش الإمام (عليه السلام) على الماء.. ولكن علياً حمله حلمه الرفيع وكرم نفسه على بذل الماء لخصمه قائلاً لجنوده : «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم. وخلوا عنهم فإن الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم» [٦] .
ولقد كان مقدراً للإمام (عليه السلام) أن يذيقهم الهزيمة الشاملة لو أنه منعهم الماء وحال بينهم وبينه، ولكنها الأخلاق الإلهية التي يتمسك بها ويجسدها حية في دنيا الناس تأبى عليه ذلك اللون من المواقف..
حتى يقع التمييز الحاسم بين منهج الهدى والصراط المستقيم في الفكر والعمل الذي يمثله علي (عليه السلام) وبين سبيل الانحراف والالتواء واللاأخلاق التي يجسدها معاوية بن أبي سفيان..
ولنا أن نعرض شواهد من حلم الإمام (عليه السلام) وعظيم صفحه في حياته الخاصة كذلك : «دعا الإمام (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت فقال: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك. فقال (عليه السلام): الحمد لله الذي جعلني ممن يأمن خلقه، أمض فأنت حرّ لوجه الله» [٧].
- وقد خاطبه رجل من الخوارج بقوله«.. قاتله الله كافراً ما أفقهه!». فوثب أصحاب الإمام (عليه السلام) ليقتلوه.. فقال الإمام (عليه السلام): رويداً إنما هو سبحانه سب أو عفو عن ذنب  [٨] .
وهكذا شمل الرجل بعفوه، وحال بين القوم وبين معاقبته.
هذا وفي سيرة الإمام (عليه السلام) الكثير من مثل هذه المواقف التي تعبر عن خلق إلهي كريم أطرت به شخصية علي (عليه السلام)، على أننا لو غضضنا الطرف عن كافة مواقف الحلم التي اصطبغت بها حياة علي (عليه السلام) بالنسبة إلى المسيئين له أو أعدائه لكان في موقف الإمام (عليه السلام) من قاتله ابن ملجم المرادي أعظم شاهد على تمتع الإمام (عليه السلام) بنمط من الأخلاق السامية لم يتمتع بها سوى الأنبياء والمقربين من البشر، فهل أنبأك التاريخ عن إنسان عامل عدوه بنفس الروح التي عامل بها علي (عليه السلام) قاتله، لقد شدد الإمام (عليه السلام) على أهل بيته أن يطعموا قاتله ويسقوه ويحسنوا إليه فعن الإمام الباقر (عليه السلام) وهو بصدد ذكر إحدى وصايا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في آخر حياته يقول:
أن علي بن أبي طالب عليه السلام.. قال للحسن والحسين (عليهما السلام): «احبسوا هذا الأسير –يعني ابن ملجم المرادي– وأطعموه واسقوه، وأحسنوا إساره فإن عشت فأنا أولى بما صنع في، إن شئت استقدت وإن شئت صالحت، وإن مت فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا به» [٩] .
رابعاً : التورع عن البغي
والتورع عن البغي أصل من أصول نفسية الإمام (عليه السلام) وخلق من أخلاقه الكريمة، وهو مظهر من مظاهر التقوى التي يمتاز بها، فهو يتحاشى البغي حتى على أشد الناس خصومة له وللحق الذي هو عليه، وحتى إذا بغى عليه يبقى مصراً على التزام خطه في النأي عما له صلة بأي لون من ألوان البغي..
ومن أجل ذلك كان الإمام (عليه السلام) داعية السلم الأكبر، مع كثرة الشغب والفتن التي أثارها بعض الناس في طريق مسيرته الإصلاحية:
- بذل كل ما في وسعه أن يجنب الأمة المسلمة سفك الدماء وتمزق الصف، حين ألح على الزبير وطلحة أن يعدلوا عن موقفهم، سواء من خلال المراسلة، أم الوفود أم اللقاءات الشخصية المباشرة مع الزبير وطلحة  [١٠].
ولقد بلغ الأمر بالإمام (عليه السلام) حين التقى الجيشان في البصرة
أن يدعو الزبير فيخرج الإمام (عليه السلام) بلا سلاح، ويعانقه طويلاً! وربما بكى علي (عليه السلام) في ذلك الموقف، ثم عاتب الزبير على خروجه لقتاله، وذكره بعلائق المودة القديمة بينهما كما ذكره بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهما: «أنشدك الله يا زبير أما تذكر، قال لك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا زبير أتحب علياً، فقلت وما يمنعني من حبه، وهو ابن خالي؟
فقال (صلى الله عليه وآله): أما أنك ستخرج عليه وأنت له ظالم. فقال الزبير: اللهم بلى، قد كان ذلك  [١١].
وحين أفلت الزمام وأصر الناكثون على إشعال نار الحرب بقي الإمام (عليه السلام) عند موقفه الرافض للبغي والعدوان، فلنصغ إليه وهو يخاطب جنوده: «أيها الناس أنشدكم الله أن لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تستحلوا سبياً ولا تأخذوا سلاحاً، ولا متاعاً» [١٢] .
وحتى بعد انتهاء المعركة بقي الإمام (عليه السلام) عند موقفه النائي عن العدوان فأعلن العفو العام عن جميع المشتركين في حربه: القيادات والقواعد على حد سواء [١٣] .
- وذاك الخلق العلوي تجلى في حوادث صفين من بدايتها إلى نهايتها: يقطع البغاة عن طريق الوصول إلى الماء وهو في حيويته لجيش مقاتل كبير فلا يبادر لاستعمال العنف، بل يرسل الوفود، ويبذل المحاولات لتغير الموقف بالتي هي أحسن.. لكي لا تراق للمسلمين
دماء.. ولكن البغي الأموي الحاقد الذي يجسده قولهم «ولا قطرة حتى تموت ظماً»  [١٤] . حمله على إصدار أوامره لقواته بالتحرك لكسر الحصار وهكذا كان.. وحين امتلك الماء أباحه لجيش عدوه منذ الساعة الأولى من سيطرة قواته عليه.
- ومع أصحاب النهروان بذل الإمام (عليه السلام) كل مسعى لأجل إبعاد الناس عن القتال، ولكن إصرارهم على قتال الإمام (عليه السلام) حال دون بلوغهم الصراط المستقيم فعاشوا في الأرض فساداً وقتلوا نفوساً بريئة، وأثاروا البلبلة في البلاد مما اضطر علياً (عليه السلام) إلى قتالهم، ولكن بعد محاولات عديدة أيضاً لجمع الصف، ودعوات مستمرة لإقرار السلم وإلقاء السيف [١٥] .
وفي وصايا الإمام (عليه السلام) لجيوشه وجباة المال والولاة مؤشرات أخرى على التزام علي (عليه السلام) لمنهاج اللابغي واللاعدوان على أحد كائناً من كان ما ذكرنا منه طرفاً في الصفحات الماضية في هذا البحث.
- وما أعظم علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ينص في عهده لمالك الأشتر على وجوب التزام الرفق بالناس، وعدم التعامل بأي لون من ألوان البغي والتعالي على الناس، وغمط حقوقهم المفروضة في شرع الله العظيم «.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.. فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه.
أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك،
ومن لك هوى فيه من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله دحض حجته، وكان الله حرباً حتى ينزع، ويتوب»  [١٦].
ولم يكن منهاج علي (عليه السلام) هذا خاصاً بأهل مصر، وإنما هو منهاجه الشامل لكل البلاد التي رفرفت راية دولته الكريمة عليها.
- ولقد كان الإمام (عليه السلام) يعهد إلى ولاته في الأمصار مثل الذي عهده إلى مالك (رضي الله عنه) في وجوب إشاعة العدل، والرفق بالناس، وعدم البغي عليهم بحال من الأحوال أو معاملتهم بأي لون من ألوان الظلم..
ولقد طرحنا بعضاً من وصاياه للولاة فيما مضى من حديث.
خامساً : شواهد من صبر الإمام
وقوة الإرادة والروح العالية في مواجهة مصاعب الحياة ركن أساسي في شخصية علي (عليه السلام) وقد لا نغالي إذا اعتبرناها قاعدة للكثير من مواقف الإمام (عليه السلام) في حياته العملية، مما ذكرناه أو مما لم نذكره، فشدة تعلقه بالله وكثرة عبادته، وتورعه عن البغي وزهده في الحياة الدنيا، وصفحه عمن يسيء إليه وغيرها مؤشرات ضخمة على تسلح الإمام (عليه السلام) بصبر لا يعرف الهزيمة ولا النكوص عن القصد بشكل جعل الإمام (عليه السلام) وكأنه الصبر صار إنساناً.
ومع أن تلك المواقف والممارسات تمنح الدليل تلو الدليل على حجم الصبر الذي يتمتع به الإمام (عليه السلام) فإنه من المناسب أن نذكر إلى جانب ذلك مواقف وأحداث جرت في حياة علي (عليه السلام) وقد آثر الصبر، ورباطة الجأش التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) في طرحها في دنيا الواقع..
- فحين أجمعت قريش في دار الندوة على قتل المصطفى (صلى الله عليه وآله) من خلال عملية جماعية يتولاها من كل قبيلة شاب قوي ليذهب دم الرسول (صلى الله عليه وآله) هدراً بزعمهم دون أن تستطيع بنو هاشم –عشيرة النبي– أن تطالب بدمه..
حين أجمع رؤوس الشرك على تدبير ذلك الجرم، أنبأ الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) بأمرهم:
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال/ ٣٠).
وأمره تعالى بوجوب الهجرة إلى دار الإسلام «يثرب» فخرج (صلى الله عليه وآله) مهاجراً بعد أن ترك علياً (عليه السلام) في فراشه ملتحفاً ببردته فقضى الإمام (عليه السلام) ليلته في فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون أن يكترث بما حوله من مكر مبيت.

فلقد كان محتملاً أن ينقض أولئك الأوغاد على الإمام (عليه السلام) بسيوفهم دون رحمة، مدفوعين بالحقد الجاهلي الأسود البليد، دونما أقل اكتراث، ظناً منهم أنه الرسول (صلى الله عليه وآله)، والإمام (عليه السلام) كان يتوقع ذلك منهم، ولكن إرادة علي ورباطة جأشه المعروفة المستمدة من الثقة المطلقة بالله والإيمان الكامل بقدره وقضائه تعالى وقوة صبر الإمام (عليه السلام) على مواجهة المصاعب والأحداث قد حملته على أن يسخر بما يبيتون، حتى إذا طلع هجم القوم على حجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) فيها وهم يظنون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).. فواجههم الإمام (عليه السلام) بصلابة إرادته المعهودة:
ما شأنكم؟ قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا، فقد خرج عنكم!!
هكذا يخاطب الإمام (عليه السلام) المتآمرين بمنتهى الصبر والإباء والصرامة ساخراً بأولئك الأوباش.
إنه موقف شجاع تتصاغر أمامه إرادة الأبطال من الرجال!
وبتلك الإرادة بقي الإمام (عليه السلام) في مكة بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يواجه مسؤولياته في تنفيذ وصايا الرسول (صلى الله عليه وآله) وأداء كافة المهمات المناطة به.
- وفي يوم هجرته خرج الإمام (عليه السلام) جهاراً يقود قافلة المهاجرات من أهل البيت: فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت أسد وسواهما، فجرت محاولة من المشركين للحيلولة دون هجرته، ولكن إرادة علي (عليه السلام) وقوة تحمله للعقبات أفشلت المحاولة، فلم يعبأ بالفرسان الثمانية الذين أرسلوا لاعتراض سبيله، فواجههم بسيفه، وأهوى به على قائدهم بضربة قاضية، تحول الرجل بعدها إلى جثة هامدة يخور بدمه في تلك الفلاة من الأرض، ففر الباقون مخلفين قائدهم في الميدان [١٧]..
وفي دار الهجرة واجه الإمام (عليه السلام) مسؤولياته العظيمة كجندي من جنود الرسالة في الرعيل الأول، فأبدى (عليه السلام) من قوة الإرادة ومضاء العزيمة والقدرة على مواجهة المصاعب ما يعد مفخرة يعتز بها إنسان الإسلام بامتداد وجوده التاريخي، فالإمام (عليه السلام) عبر المعارك الهجومية
والدفاعية –التي خاضها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أجل نشر الرسالة الإلهية أو حماية وجودها العملي في حياة الناس– كان قطب رحاها الخائض المقدام لغمراتها الذي لا تأخذه في الله لومة لائم من أجل إخماد طغيان الشرك والمشركين وكافة أعداء الرسالة المتربصين، فما من حرب تسعر وما من معركة تدور رحاها إلا دعي علي (عليه السلام) لإخماد فتنتها وتنكيس رايات الجاهلية فيها: في بدر، وأحد والأحزاب، وحنين، وخيبر.. و..
وفي كثير من المواقف يسود الهلع في معسكر المسلمين، ويستبد الوهن والنكوص عن مواجهة العدو، فيعيد سيف علي (عليه السلام) الثقة للنفوس ويجدد في معسكر الإيمان روح القدرة على المواجهة وصد العدوان..
الأمر الذي يكشف عما يتمتع به الإمام (عليه السلام) من نفس كبيرة تعلو على كل وهن، وتسخر بكل ضعف، وترتفع فوق كل ذلة وهوان.. إنها قوة الإرادة.. ومضاء العزيمة وشدة الصبر على المكارة مقرونة باليقين العميق بالله تعالى، والاستمداد منه والتوكل عليه دون سواه.
وقد تولى الإمام (عليه السلام) الخلافــــة في ظروف صعـــبة دقيقة على مضض، وبعد محاولات عديدة من الرفض لـــها من قبله [١٨] ، وما أن عقدت له البيعة حتى نكث قوم وقسط آخرون، ومرق غيرهم، كل ذلك من أجل أن يحال بين الإمام (عليه السلام) وبين استئناف المسيرة الإسلامية التي بدأها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولقد تحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) ما تحمل من الآلام والمشقات في سبيل إخماد الفتن السوداء التي أثارها أصحاب المنافع الشخصية وأصحاب المصلحة من سياسة الانحراف، في طريق مسيرته الإصلاحية، فقابل كل ذلك بالصبر الجميل، وبالتسليم لقضاء الله تعالى، حتى رحل إلى ربه الأعلى شهيداً مثقلاً بالمتاعب والآلام.
- وإذا تركنا تلك الأمور جانباً وألقينا نظرة على جوانب أخرى من حياة الإمام (عليه السلام) لنحدد مواقع الصبر والإرادة الصلبة لما صح أن تفوتنا مواقف الصبر التي وقفها أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يفارق أحبته ورفاق الدرب، وأولهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي فاضت نفسه الشريفة في حجر الإمام (عليه السلام) [١٩] .

وواراه الثرى بنفسه، وعاش مأساة فراقه بكل أبعادها، وها هو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يلي غسله وتجهيزه بكلمات حزينة تدمي القلب وتزرع الأسى: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء. خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك؟ وعممت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، ولا نفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلاّ بك، ولكنه ما لا يملك رده، ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وأمي. أذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك» [٢٠] .
وإذا أعدنا إلى الأذهان ما يحظى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حب وتعظيم في نفس أمير المؤمنين (عليه السلام) لأدركنا حجم الأسى الذي صب على الإمام (عليه السلام) بفقده (صلى الله عليه وآله)، فعلي (عليه السلام) قد حظي بتربية الرسول (صلى الله عليه وآله) ورعايته وإعداده ومصاحبته منذ الصبا حتى فارق رسول الله الدنيا.
ولقد كانت تلك التربية وتلك الأخوة بينهما مليئة بضروب الود والحنان والوفاء والإخلاص مما ليس له نظير [٢١] . على أن الإمام (عليه السلام) التزم جانب الصبر راضياً بقضاء الله المحتوم في رسول الله (صلى الله عليه وآله).
- وفي خضم الأحداث المريرة التي عاشها أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الفترة، ألمت بالزهراء سيدة نساء العالمين العلة التي توفيت على أثرها فلحقت بالراحل العظيم أبيها حيث كان الإمام (عليه السلام) طوال فترة المرض الذي عانت منه فاطمة (عليها السلام) يعيش ما تعاني بملء كيانه، فهي وديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومدرسة الإمامة التي خرجت قادة الأمة الهداة (عليهم السلام) وهي الصابرة المحتسبة وهي بعد ذلك زوجته الوفية التي عاشت معه آماله وآلامه طوال حياتها معه..
لقد رأى الإمام (عليه السلام) زهراء الإسلام، بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله): وهي تعيش مرارة الأسى ثم وهي تستسلم لفراش المرض فيشحب لونها، وتتردى أوضاعها الصحية يوماً بعد يوم، ثم يراها وهي تفارق الدنيا، فيباشر تغسيلها وتجهيزها ودفنها عليها السلام، ثم يقف على شفير قبرها مودعها بعبارات تذيب القلوب الحديدية «السلام عليك يا رسول الله عني، وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك! قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك «فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة! أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودع، ولا قال، ولا سئم، فإن انصرف، فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين [٢٢] .
فالنتيجة أن الإمام (عليه السلام) استسلم لقضاء الله تعالى واستعان على الأسى بجميل الصبر.
وكما صبر الإمام (عليه السلام) لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء (عليها السلام)، تجمل بالصبر كذلك لفقد أخوة له في الله، انقطعوا إليه في الوفاء وبذلوا أرواحهم وكل ما يملكون في سبيل رسالة الله تعالى، وقد تصدوا لهدم الباطل، وواجهوا الانحراف، فاستشهدوا في ساحات الجهاد كعمار بن ياسر ومالك بن التيهان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري ومالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر وسواهم.
وها هو الإمام (عليه السلام) يذكرهم قبل اغتياله بأيام في خطبة له جاء فيها (.. أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار، وأين ابن التيهان، وأين ذو الشهادتين وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة. «ثم أطال البكاء» وقال:
«أوه على إخواني الذين تلو القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه..» [٢٣] .
ومن شواهد صبر الإمام (عليه السلام) كذلك رفضه للدنيا ولذاتها وتحمله لأذى الجوع، والتقشف وزهده بالمال حتى يبلغ به الحال أحياناً أن يشد حجر المجاعة  [٢٤] ، على بطنه، ولقد رأيت في حديثنا عن زهده وعدالته [٢٥] ما يغنيك عن تعداد شواهد أخرى من قوة تحمله وإرادته في مواجهة المشقات وعقبات الحياة.
وهكذا عاش الإمام (عليه السلام) حياة مليئة بالكدح والآلام، زاهرة بالرزايا، حافلة بالمحن، غير أنه واجهها جميعاً بقوة صبره، وعظيم إرادته التي لا تقهر.

--------------------------------------------------------------------
[١] . المناقب ج١ ص٣٨ ونهج البلاغة نص ٧٣.
[٢] . شرح نهج البلاغة ج١ ص٢٢.
[٣] . بحار الأنوار ج٤١ ص٥٠ نقلاً عن النهاية. الكراع: جمع الخيل.
[٤] . المناقب ج١ ص٣٨١ عن ابن بطة والسجستاني.
[٥] . الإمام علي بن أبي طالب - محمد رضا ص٢٢٣.
[٦] . نفس المصدر ص١٧٣.
[٧] . المناقب ج١ ص٣٧٩.
[٨] . نفس المصدر ص٢٨٠ وبحار الأنوار ج٤١ ص٤٩.
[٩] . بحار الأنوار ج٤١ ص٢٠٦ باب ١٢٧.
[١٠] . تذكرة الخواص ص٧٦.
[١١] . الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص٦١ وفي تذكرة الخواص رواية مشابهة وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج٢ ص١٧٦ مثلها.
[١٢] . الفصول المهمة ص٦٢ وتذكرة الخواص أيضاً.
[١٣] . راجع القسم الثاني من هذه الدراسة.
[١٤] . بحار الأنوار ج٤١ ص١٤٥ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج١ ص٢٣.
[١٥] . راجع القسم الثاني من هذا الكتاب.
[١٦] . عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر نهج البلاغة رقم ٥٣ ص٤٢٦.
[١٧] . الإمام علي رجل الإسلام المخلد - عبد المجيد لطفي ص٥٣ وأعيان الشيعة ج٣ ق١ ص١٥٦ - ص١٥٧.
[١٨] . يراجع القسم الثاني من هذا الكتاب.
[١٩] . مسند أحمد بن حنبل ج٢ ص٣٠٠ ومناقب الخوارزمي عن عائشة.
[٢٠] . نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) رقم ٢٣٥. أنفذنا: أفنينا. ماء الشؤون: منابع الدمع. الداء مماطلاً: مماطلاً بالشفاء. المد محالفاً: الحزن ملازماً. قلا: محالفة الحزن ومماطلة الشفاء قليلان لك.
[٢١] . راجع القسم الأول من هذا الكتاب.
[٢٢] . نهج البلاغة رقم النص ٢٠١. التأسي: الاعتبار. هضم: ظلم. الفادح: المثقل. إحفاء السؤال: الاستقصاء فيه. التعزي: التصبر. القالي: المبغض. ملحودة القبر: الجهة المشقوقة. السئم: الضجر. سهد: اشتد منه الأرق.
[٢٣] . نهج البلاغة أواخر خطبة رقم ١٨٢. أبرد برؤوسهم: أرسلت رؤوسهم بالبريد إلى الطغاة للتشفي منهم. أوه: كلمة توجع.
[٢٤] . شرح النهج ج١ ص٢٢.
[٢٥] . في القسم الثاني والثالث من هذا الكتاب.

انتهى .

****************************