وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
أفكار في الوحدة مقدمة لقراءة في نصوص نهج البلاغة

أ. السيد هاني فحص (*)

ليس هناك من داع للخوف من اختلاف العلماء والفقهاء داخل الأديان وأهل الدين الواحد أو المذهب الواحد.. الخ، لأن استقطاب الوحدة قائم،وما علينا إلا أن نواكبه بعقلانية وواقعية، لا تصل إلى حد اعتبار الخلاف أو الاختلاف عائقاً، فنقع في مثالية مستحيلة كالتي وقعت فيها أفكار وفلسفات ومناهج مادية (كالماركسية مثلا) عندما حاولت مستحيلا فانحلّت وتحللت. بينما كانت الرؤية القرآنية لمسألة الوحدة على قاعدة الاختلاف وموضوعيته أشد ملاءمة للتكوين والامكان والطموح،تقول الآية الكريمة:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)

بهذه المعيارية (التقوى)أفسحت الآية مجالا للتنافس على الخير، تتجلى فيه وعليه، من خلال حالات التوحيد، التي تتقدم وتتراجع، وتبقى هاجساً دائماً وسعياً مفتوحاً على الإنسان والمكان والزمان والوجدان والوعي والتاريخ، ولا يُلتزم القرآن ولا يلزم بمفهوم حصري للوحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). وفي آية أخرى.(فاتقون).

وعندما يقرأ المفسرون هذه الآية يتفقون على أن المعيار والمناط هو الإنسان، وإن المقصود هو النوع الإنساني، إذن فالوحدة لا تتحيز، وإن كانت تأخذ حيزاً، فلكي تهيئ نفسها بمقتضى نظام قيم وأفكار وغايات محددة وفسيحة، لتنطلق نحو مداها الإنساني الأرحب.

واللافت أن الترتيب القرآني لعناصر الآيتين اللتين جلتا الربوبية وما تقتضيه من عبادة هادفة (للواحد)مترتبة أو تابعة في السياق المؤكد واقعياً من وحدة البشر أو النوع الإنساني، وما اقتضى توسيع مفهوم الأمة والخروج به عن الحصر والاختيار المحكوم بنزوع محدود، عرقي أو لوني أو جغرافي.. الخ، من دون أن يعني ذلك أي لون من ألوان الدعوة للاستقالة من الهموم الخاصة أو الأشد خصوصية في سبيل الهم العام، بل هي دعوة دائمة إلى اكتشاف النسق التواصلي بين الخاص الوطني والعام القومي، بين الخاص الوطني والقومي والعام الإسلامي، وبين العام وبين العام الإنساني إلى آخر المكونات العامة والخاصة، التي تحكمها نسبية العموم والخصوص وتنأى بها عن الإطلاق حذراً من إغلاقها، وإغلاق الذات على الذات، ما يضعها على شفا التنصل من أواصرها ووشائجها العامة، ويضعها على طريق النبذ والإلغاء والعنف من قبلها الآخر، ومن قبل الآخر لها، وبالتالي من قبل بعضها بعضاً ضد بعضها بعضاً، من دون إمكان أن تكون هناك معايير للإلغاء ثابتة مع اليقين بأنها لن تكون عادلة بحال من الأحوال.

كأننا مدعوون إلى الكف عن القبول التسامحي، الاستعلائي الهروبي بالتعدد.. والأقسى منه هو القبول الاستيعابي الذي يعكس قدراً عالياً من الغرور يتمثل شفقة في غير محلها، على المختلف أيا كان.. ومدعوون إلى رفع التعدد أطروحة حضارية تجعل من الوحدة شرطاً غائياً للتعدد، ومن التعدد شرطاً واقعياً عملياً للوحدة، وشرطاً موضوعياً للحركة والإبداع، من هنا نحمل شعاراً وهماً ومشروعاً على حذر من الوقوع في ظلم النفس والغير معاً.

بالتأكيد بأننا لا نحاول محالاً، أو نستسهل صعباً، فالوحدة شأن صعب، في المطلق، وهي شأن أصعب بلحاظ المعطيات والشروط الملموسة فماذا نفعل؟

إن هذا الكلام يبقى وجيهاً لو كانت الوحدة التي نتكلم عنها وندعوإليها مشروعاً ينتظم الشعوب الإسلامية كلها من طنجة إلى جاكرتا، في وحدة سياسية واحدة، دولة تحت ظل خليفة أو رئيس!

إن ذلك يعني في المنظور كما يعني في المدى البعيد. إلجاء وإكراها وقسراً يحتاج إلى عقود من العنف ويؤسس لعنف يمتد مدى الحياة، إلا أن تعود الأمور بإنقلاب أو إنفصال أو إنشقاق عنيف، إلى نصابها في التجزئة، أي إلى منحدر أشد إنحداراً تصبح فيه التجزئة أشد عمقا وبعدا ورسوخاً (ما انتهت إليه حال المنظومة الإشتراكية عموماً والإتحاد السوفياتي خصوصاً ) فتتضاعف وتتفاقم خسائر وتبعات العنف المعاد تأسيسه، إلى حد إغراء شعوب أو أقوام أو دول أو أحلاف طامعة بالعدوان الشامل الساحق الذي يدوم طويلا ويكلف الخلاص منه غالياً.

حروب الفرنجة

ونستذكر الحروب الصليبية مثلاً، حروب الفرنجة حسب إلتزام المؤرخين العرب، هؤلاء الفرنجة قدموا بكل عصبيتهم وخلافاتهم وصراعاتهم إلى هذا المشرق فاحتلوه واضطهدوه وعبثوا بافكاره وقيمه وتراثه ومدخراته وأحلامه وتطلعاته، قدموا مختلفين على حالة من الخلاف أشد عندما (اختلف السلاطين) حكام التجزئة (كما في تلخيص ابن الأثيرلأهم الأسباب المؤاتية الموجبة).

وظلوا مقيمين ما بقيت التجزئة مقيمة مستشرية، يرسخونها ويثمرونها ويفتحونها على أمداء أخرى، قتالاً داخلياً واقتتالاً وغيلة وغدراً وبيعاً وشراء وفتناً بين الأمراء والحكام ليوسعوا نفوذهم ويعمقوه، حتى أتيح لعماد الدين زنكي أن يؤسس حالة وحدودية بهدف التحرير، لم يلبث ولده نور الدين محمود أن أنجزها، ووضعها على طريق التحرير، الفعلي ليأتي من بعده صلاح الدين قاطفاً ثمرتها السائغة في حطين والقدس، التي لم يلبث بعد أن حررها أن توفي تاركاً مقاليد الأمور فيأيدي أعضاء أسرته، الذين ورثوا من نسب ومن غير تعب أو نصب، فعادوا الى سيرة الحكام في التجزئة والصراعات الداخلية والتنازل للعدو من أجل التفرغ للقريب، أو ابن العم، حتى اعيدت القدس على يد الكامل إلى قبضة المحتل من خلال صلح مذل.

ونستذكر في المناسبة أن التجزئة عادت لتستشري في مرحلة متقدمة من مراحل الاحتلال الفرنجي، الى حدأنها أغرت التتار بالزحف في عرض الفرنجة، ومرى أخرى كان الرد هو الوحدة التي أمنت الشرط الموضوعي للتحرير ليعود التحرير فيشكل شرطاً موضوعياً لها، من هنا أتى الظاهربيبرس والمنصور بن قلاوون والأشرف خليل بن قلاوون الذي في عهده ورعايته استكملت عملية التحرير في عكا.. وكانت معركة دمياط والمنصورة في مصر رافعة جهادية وحدودية على الطريق.

الفقهاء والحكام

وفي حالات التجزئة والهزيمة والتراجع والخيانة والتواطؤ مع الخارج ضد الداخل، كما في حالات الوحدة والتفاهم والتقدم،كان لابد من غطاء فكري وفقهي يبرر ويسوغ، على المعهود من علاقة التكامل بين الحاكم الصالح والعالم الصالح والتواطؤ بين الحاكم الفاسد والعالم التابع.

ولم تخل بعض الفقرات من تميز بعض الحكام عمن حولهم من علماء وأدباء وفقهاء ومستشارين، كان الحاكم أحياناً يضع سلم أولوياته ويعطي الأولوية لسلامة الوجود والأصل، فيتنازل عن الخاص منأجل ان يحفظ العام، مثل ما أثر عن المعتمد بن عباد حاكم قرطبة، عندما أصبحت جيوش الفرنجة على وشك الهجوم عليها بعد إحتلال طليطلة (٨٧٤هـ ) فجمع مستشاريه من اهل الفقه والرأي وانتهى إلى ضرورة الاستعانة بيوسف تاشفين زعيم المرابطين فحذره المستشارون من انه اذا انتصر يوسف ونجح في رد غائلة الفرنجة فسوف يصبح راعياً لإبله، فأجابهم بانه خير لهأن يصبح راعياً لإبل ابن تاشفين من أن يصبح راعياً لخنازير الفونسو زعيم الفرنجة وقائدهم (الأذقوش).

ويؤثر أن نور الدين محمود ارسل في لحظة حرجة من تاريخ حروب الفرنجة على امراء الأطراف بالتعبئة والتجهيز لرد حملات الفرنجة في شمال فلسطين، ولكن أمراء الأطراف كانوا قد أخلدوا إلى الدعة على طمأنينة إلى حالهم، وإستعدادا إذا ماداهمهم خطر أن يمالئوا المغير ويواطئوه، كما حدث أكثر من مرة، ولكن نور الدين عاد  فالتف عليهم فأرسل الرسائل بالشكوى والتحريض الى العلماء والفقهاء والزهاد وشيوخ الزوايا والطرق من أهل العرفان وأهل الصلاح من إمارات الاطراف، فقرئت رسائله في المساجد والزوايا والتكايا على الملأ، فثارت الناس ونادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، واضطروا أمراءهم إلى التعبئة والتجهيز.

ولو لم تكن حالة الوحدة راسخة ومنتشرة ومستندة إلى قناعة الحاكم والمحكوم واستقلالية العلماء وذوي الرأي والشأن ووحدويتهم وتوحيدهم لكان المآل مختلفا، ولما بكى أهل حلب وهم يستمعون إلى شكوى نور الدين وترجموا حزنهم غضباً على أمرائهم.

في هذا المجال نطل على اشكالية علاقة الفقيه بالحاكم بعد انقضاء عهد الراشدين ، وبدء الدولة تشكيل جهازها الديني، حيث ينقسم الفقهاء في هذا الصدد الى ثلاثة أقسام :

القسم الأول الأعظم أثراً أن يبقى على علاقة بالأمة بعيداً عن الارتباط بالدولة، ما عرض كثيراً منهم للإضطهاد والتنكيل.

والقسم الثاني تواصل مع الدولة على قاعدة حفظ النظام العام، فساعدها في الحق وتبرأ منها في الباطل.

والقسم الثالث: يسمون فقهاء السلاطين وهم الذين استحوذت عليهم الدولة فأصبحوا الجزء الوحيد من نجاح الدولة في مشروع وضع اليد على الشرع وعلى الإسلام.

ان هذا يحدد لنا مساحتين للعمل الوحدوي أو ثلاثاً:

المساحة الأولى : هي مساحة الحكام، والثانية: هي مساحة الأمة والجمهور، المساحة الثالثة الأشد اتصالاً بشأننا كأهل علم ودين هي مساحتنا، مساحة العلماء والفقهاء لان انقسام المجتمع لأسباب داخلية أو خارجية وانقسام الحكام يبقى اقل خطراً إذا ما ظل تقيم الوحدة وافكارها محفوظة في نصابها العلمي والفقهي وحركة الفقه والفقهاء.

موقع الوحدة في نظام الاعتقاد

إذن تصبح الوحدة عقيدة، أو يجب أنتكون كذلك لدى المسلم بمقتضى ظواهر الكتاب والسنة المعروفة.

'إن الذين فرقوا دينهم شيعاً لست منهم في شيء' وهذا لا يخرج الوحدة من التاريخ، يعني أنها في فترات الأزمات والتراجع، وحتى في فترات التقدم قد تتراجع كمشروع سياسي، ولكنها لا تزايل موقعها في نظام الاعتقاد، لأن ذلك من شأنه أن يمس عقيدة التوحيد والإيمان بسوء واهتزاز،ويبقى المسلم ملزما بقيمها وأفكارها وتجسيدها في الحدود المتاحة مع الطموح الدائم إلى الارتقاء، أما إذا أردنا أن نرفع المعتقد الفكري والديني والسياسي الوحدوي في لحظة التراجع من المستوى الاعتقادي إلى المستوى العملي والحركي، فإنها تصبح أقرب إلى الافتعال الذي يقيمها تعسفاً وقسراً على معطيات غير مؤاتية مما ينتهي إلى انتكاسات كبرى.

لقد كان المخلصون في سورية ومصر وحولهما يرتاحون إلى الإدارة الوحدوية والاتجاه الوحدوي لدى الحكام والمحكومين رداً على العدوان الثلاثي وحلف بغداد وتداعياتها المحتملة.

ووافق الجميع على الوحدة الاندماجية حذراً من أن تكون المعارضة مساً بالفكرة الأساسية، لكن النتيجة سرعان ما تحولت إلى السلب فأثر النمو التاريخي فيإطار المستعمر وآليات الاستعمار، أي النمو غير المتكافئ وغير المتناظر في تسريع حدوث الانفصال الحاد الذي دفع الجميع ثمنه.

إذن انتجت التجزئة وتنتج خصوصيات ومعطيات وعوائق لابد من أخذها بعين الاعتبار والالتفات اليها أو التعامل معها على أساس وحدوي، يفترض أنه يبقى راسخاً مهما تكن الظروف وإن كان التعبير عنه يتقدم ويتراجع تبعاً للظروف والأحداث.

وإذن فالوحدة، أي وحدة بين أي طرفين تستدعي أنظمتهما الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، وحدة بينهما، إذا قامت في غير أوانها وعلى غير مثالها المتاح والممكن والواقعي والقابل للحياة، تسهم في اتساع نطاق التجزئة، حتى تطال المتحدات الأكثر تقارباً،وحينئذ يصبح الدين على خطر،أن يصبح أدياناً،والمذهب مذاهب،والطائفة طوائف،والوطن أوطاناً.

هنا نصل إلى تحديد المطروح والمنشود والمقصود بالوحدة الإسلامية، أي وحدة المسلمين، على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم وأوطانهم، مع دفع سريع للوهم أو التوهم بإمكان أن نغامر الآن وحتى أجل غير محدد بطرح مشروع سياسي يطابق بين الدولة والأمة الإسلامية، من دون مصادر على من يطرحون هذا الأمر أو يعملون له، وإن كانوا قد أصبحوا قلة، لأن الحركة الإسلامية التي تتجاوز الآفاق الضيقة للرؤية الحزبوية أصبحت من الواقعية بحيث صارت ترى إلى أي مدى أصبح هذا الموضوع مؤجلاً؟ وإن كان بعضها قد استغرق في مذهبية مرة وفي أقليمية مرة، بحيث صار أمر الوحدة بهذا المعنى مستبعداً، وأخذ التبشير بالمذهب لدى أهل المذهب الآخر ينتشر، وكأن المذهب الآخر على النقيض من الدين والعياذ بالله!!!

إن الوحدة المطروحة هي وحدة تطال المستوى المعرفي والمنهجي العام، والذي يجد في الفقه أوسع مجال لتجسده وتجسيده، لأن الفقه يطل على يوميات الناس وسلوكياتهم وعلائقهم وعوائدهم وحالتهم الوحدوية المحفوظة في الاجتماع المتعدد وطنيا وداخل الوطن الواحد، ولكن نصاب الوحدة محفوظ في تعدده بالتوحيد.

المنهج الإيماني يتسع لحركة متنوعة

فهل في النية أن تكون هذه الوحدة مفتوحة على الاحتمال الأبعد، وهل يمكن توحيد المذاهب الفقهية بكل تفرعاتها وشعابها في مذهب واحد؟ علما بأن هناك إسلاما، على مستوى النص التأسيسي، كتاباً وسنة، وهناك تراث إنساني تكون عليهما وعلى وقائع الحياة والتاريخ، وهما مصدر الرؤيا والمعرفة ولكن هناك خلافاً في المباني، وفي التعاطي معها وفي طريق تحصيل المعرفة منها، وعلى المشترك من المباني داخل الفرقة الواحدة أو المذهب الواحد تتفرع مبان تصل من الاختلاف داخل المذهب الواحد إلى مستوى نوعي يعادل ويضاهي الخلاف بين مذهب ومذهب آخر، الحنفي والحنبلي مثلاً، والأصولية والإخبارية لدى الشيعة الإمامية مثلاً آخر وهكذا.

إن تتعدد المعرفة، من دون المعروف واقعاً، ولكنه يتعدد اعتباراً أي بلحاظ تعدد العارف، الذي يقترب مرة ويبتعد مرة، ويلتقي مع غيره هنا ويفترق هناك، ثم يعود ليلتقي هناك ويفترق هنا.

والفقهاء عندما يعرفون الاجتهاد، المسلك المعروف في النظر في الأدلة وإعادة قراءتها وعرضها على المستجد من عناوين وحاجات ومعارف واعتبارات، يقولون بأنه بذلك الجهد من أجل تحصيل العلم أو الظن بالحكم الشرعي، وحتى العلم هنا المقصود به هو الظن المعتبر شرعا، من دون استبعاد لليقين.

إذن مساحة التنوع والاختلاف على قاعدة الظن الذي قد يتعدد بتعدد المجتهدين واسعة، وكذلك اليقين، لأن اليقين هو يقيني ويقينك ويقينه.

فما هي المعرفة الملزمة؟

إن الملزم هو النهج الإيماني والتوحيدي العام، الذي يتسع لحركة متنوعة فيه وعليه ومنه وإليه، تكون مصدر غنى وتجديد وحوار مستمر.

إذن فالمتوخى والمرتجى والمنسجم والمطلوب والممكن والواجب هو التقارب والاقتراب والتقريب الدائم، وهو حقل منزوع الأوهام والألغام التي لا تلبث أن تنفجر في حقولها الصعبة (الوحدة بالمعنى المطلق) لتعود العلاقة والحوار إلى انتكاس وارتكاس تترتب عليها مظالم كثيرة ليس الدم الذي جرى في تاريخها أقلها، وسيبقى هذا الدم (الهابيلي)صارخاً في البرية لا تشربه الأرض لأنها تضيق به، لأنه عقم ودليل عقم وضيق، والأرض واسعة فسيحة ومظنة خصب دائم بين مختلف البذور التي تنبت فيها وتطلع منها صنوان وغيرصنوان يلذ الناظر ويمعن في الروح حياة وإحياء لمقتضيات الألفة وأسباب الجمال والانسجام الذي قد تفسده الوحدة إذا لم ترسُ على نصاب وأطروحة ميسورة، لا يتركها العقلاء والمؤمنون سعياً وراء المعسور أو المستحيل، إلا في لحظة ليست هي في كل حال شأن الإنسان، بل هي شأن الرحمن الذي خلقنا مختلفين، فكان ذلك تجلياً  لحكمة من حكمته.

وإلا فقد كان من المقدر أن يسود الثابت القاتل واليباس والجفاف مقدمة لنهاية محتومة.. أو أنها ليست نهاية، ولكنه يتعطل إذا ما رصدته نهايات توضع له ولا يحتملها على هذا النهج الطامح غير المتعسف، تضيق المسافات وتتسع المساحات وتتحرر من قيودها وأوابدها، والموانع المصطنعة فيما بينها، فيما تبقى الفواصل الضرورية للحيوية والإبداع قائمة عاملة على الوصل، إلا عندما يراها الرائي بعين واحدة على حرف واحد، ويوظفها في توسيع الفواصل وتحويلها إلى موانع وعوائق.

إن قراءة متأنية لأفكار وسلوك الأئمة (ع) من أهل البيت (ع) والتابعين لهم والسائرين على نهجهم، تكشف إلى أي حد كان توحيدهم الصافي والمطلق متجسداً في سلوكهم الوحدوي، الذي يعطي الأولوية المطلقة لسلامة ووحدة الأمة في جسدها وروحها وعقيدتها ، ومن هنا جاء مايمكن اعتباره تنازلا أو إغضاء عن استحقاقاتهم في سبيل الهدف الأعظم، أي الوحدة باعتبارها الشرط الأول لقوة الأمة واستمرارها على وظيفتها في الشهادة للحق والحقيقة.

إن قراءة وحدوية لنهج البلاغة، تبين لنا كم كان الإمام علي(ع) رائدا، وكان نصه تأسيساً لهذا السلوك التوحيدي الوحدوي، والعبرة في سلوك الإمام ونصوصه واضحة ساطعة، خاصة وأن المتفجرات والإلغام التجزيئية، التي كادت شظاياها أن تصيب الناظم أو النصاب العقائدي للأمة، قد ذرت قرنها في عهده وتحت عينيه، ولكنه كان ممعناً في توحيده، فلم تؤثر التصدعات والارتجاجات الكبرى في إرادته وتفانيه في ترجيح الوحدة على التجزئة، وصيانة أسس التوحيد من عوادي الانحراف التجزيئي، وقد أرسى لنا منهجا فيصلا في رؤيته النسبية للحق الخاص على صفحة الحق العام وإن كان حقه الخاص هو استحقاقه واستحقاق الأمة معه، أي أن حقه الخاص لم يكن منفصلاً واقعاً عن حق الأمة والإسلام، لكن الضرورة كانت تقضي بالتجاوز، لأن هذه المسألة لم تكن قد ارتقت في وعي الأمة إلى المستوى المطلوب ، فكان لابد من مراعاة مستوى وعي الأمة وهكذا قالها صريحة فاصلة.

'لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة'.

على هذه الرؤية ندعو إلى قراءة نصوص الوحدة والتجزئة في نهج البلاغة، باعتبارها نصوصاً كاشفة عن عقدية توحيدية وحدوية وباعتبارها مقدمات أو ثمرات سلوك يرقى إلى مستوى النص في عمقه ووضوحه وأحكامه.

من يقرأ نصوص نهج البلاغة يلمس قدراً كبيراً من العناء والمعاناة من الفتنة والتجزئة، التي يرى الإمام علي بن أبي طالب(ع) أن ليس من سبب لها سوى الاختلال في عقيدة التوحيد أو سطحيتها وعدمعمقها، وعندما نتابع النصوص، التي تدور حول الوحدة والتجزئة نكتشف كثرة هذه النصوص، مما يؤكد أن المعاناة كانت شديدة، وأن الإمام علي(ع) يرى أنها القضية المفصل، وأنه دون الوحدة وتلافي الخطر المحتم على التوحيد والشريعة والعدل، الذي كان هاجسه يسكنه ويتغلغل فيه عمقاً جعله يراه مستحيلا دون الوحدة.

نقرأ هذه النصوص الآن لنستعيد بها نفسنا الوحدوي، وإذا ما كان هناك مايوحدنا وكنا في غياب عنه وفي انجراف وراء شعارات التجزئة وأفعال التجزئيين، ونحن نعلم مايريدون وإلى ماذا يسعون، فإن التاريخ ونصوص التاريخ وقراءاتها بصفاء ومسؤولية وشعور بالأزمة، من شأنه أن يعيد لنا وعينا الوحدوي ويحفظ لنا عقيدتنا التوحيدية، التي لا يمكن أن تسلم عندما يصيبها رشاش الدم،ويجرفها سيله، ويدخل في جذعها سوس الحقد والضغينة والجهالة، ويبقى حب الرسول (ص) وأهل بيته(ع) مساحة حب، ورقعة خضراء وافرة الظلال، تصفو في ظلالها ضمائرنا وتستقيظ إرادة الوحدة فينا، نرويها بالحب ونحصنها بالشرع.

النصوص

١ـ 'وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة وأهواء منتشرة وطرائق متشتتة، بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة' الخطبة رقم ١ - ، كأنه اعتبر الضلالة هي التفرق والأهواء والتشتت الآتية من الجهالة من تشبيه أو إلحاد أو شرك، فكان الرسول(ص) الداعي إلى عبادة الواحد، داعيا إلى الوحدة في الوقت نفسه ورمزاً لها، توحدت بدعوته وحوله الأمة وحملت مشروع التوحيد والوحدة لسائر الأمممن أهل الأرض، الذين يشكون من المظاهر نفسها والأعماق الأنفصالية والتجزيئية نفسها.

٢- بعد انصرافه من صفين:

'والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلفت النجر وتشتت الأمر، وضاق المخرج وعمي المصدر، فالهدى خامل والعمى شامل. عصي الرحمان ونصر الشيطان وخذل الإيمان.. أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه وقام لواؤه ، في فتن داستهم بأخفافها ووطئتهم بأظلافها وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهود وكحلهم دموع (الخطبة رقم٢) في عنوان الخطبة أنها في حال الناس قبل البعثة ولدى انصراف الإمام مع صحبه من صفين، وكونها في صفين جعلها يختلط فيها الماضي بالحاضر.. فيه عودة بأذهان الناس إلى ماض بعيد ليطابقوا بينه وبين حاضر يجري بين أيديهم وتجري فيه الفتنة، وتعود إلى حالها الأولى تحت لواء الشيطان - التجزئة - بعيداً عن الرحمن وراية الرحمان راية الوحدة، وفي الخطبة نفسها يعود فيؤكد أن رموز الدين وقيادته هم معقد الوحدة، بما يحملون من فكر وعقيدة وبما يمثلون ويجسدون من سلوك ومنهج، يقول:

'هم موضع سره ولجأ أمره.. وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره... الخ'.

٣- لما بويع بالمدينة:

'ألا وأن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثه بالحق لتبلبلنَّ بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانو اقصروا وليُقصرنّ سباقون كانوا سبقوا' (الخطبة رقم ١٦).

إذن هنا ملامح وعلامات فتنة قائمة والحق حق تختلف مظاهره، فالوحدة الحق، التوحيد الحق، في التاريخ واحد،والتجزئة الفتنة الباطل، والشرك الباطل موصول بما كان قبل البعثة ومفض إلى ماهو أدهى، إلى امتحان لأهل الحق في ثباتهم على حقهم وعدم اختلاطهم بأهل الباطل وتميزهم عنهم.

٤- 'بعثه والناس ضُلاّل في حيرة وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء' الخطبة رقم ٩٥ . عودة إلى التذكير سلباً'.

الضلال والحيرة والفتنة والأهواء والجهل، التجزئة والشرك المتصلان اتصال السبب بالمسبب، تلك كانت حال الأمم جميعاً، وكان هذا الأمر في الروم والفرس أظهر، وقد تحولت حضارتهما عن طريق التوحيد إلى طريق الانفصال، فشاعت التجزئة وانفصمت العرى وعم الظلم، وكان ذلك أيضاً حال العرب، الذين لم يكن لديهم ضمان من عقيدة يمنع عنهم مخاطرالتجزئة حتى جاء الرسول والرسالة ضمانة وحصانة.

'دفن الله به الضغائن وأطفأ به الثوائر، ألف به اخوانا وفرق به أقرانا' (الخطبة رقم ٩٦).

قد يحلم البعض أو يتوهم أن الوحدة لا كلفة فيها ولا ثمن، بلى لها ثمن وبعض من ثمنها لون من ألوان الفرقة، الانفصال، انفصال الوحدوي عن التجزيء باتجاه الكل، انفصال عن مجموعة أو أفراد منفصلين للالتحام بالكل بالجماعة على أساس من العقيدة عقيدة الوحدة التي تتسع لتشمل وتعم. يقول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) في الدعاء الثاني من أدعية الصحيفة السجادية عن الرسول (ص) و'كاشف في الداء إليك حامته (أي أظهر العداوة في الدعوة إليك لخاصته وشريعته) وحارب في رضاك أسرته وقطع في إحياء دينك، وأقصى الأدنين على جحودهم، وقرب الأقصين على استجابتهم  لك، ووالى فيك الأبعدين وعادى فيك الأقربين'.

ويقول في الدعاء الرابع عمن استجابوا للدعوة المحمدية والرسالة الإلهية 'وقاتلواالآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به.. والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته'. كان الرسول الداعي إلى عبادة الواحد، داعيا إلى الوحدة في الوقت نفسه.

٥- 'فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاءُ مجتمعة والأهواء مؤتلفة والقلوب معتدلة والأيدي مترادفة والسيوف متناصرة والبصائر نافذة والعزائم واحدة، ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين..

فانظروا إلى ماصاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقى قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين' 'الخطبة القاصعة رقم ١٩٢'. عودة إلى الاعتبار بالماضي الذي يتكرر كثيراً وتتكرر معه المبادئ الأساسية والقوانين العامة.

٦- في الخطبة نفسها يسمي الأمم فيقول:

'فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل (عليهم السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال.. تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ومهافي الريح ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين اخوان دَبَر ووبر أذل الأمم داراً وأجدبهم  قراراً لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة والكثرة متفرقة'.

إذن وطبقاً للرؤية القرآنية هناك سنن تاريخية تتكرر إذا ما تكررت ظروفها، أو مشابهات ظروفها في فكر الأمة وأخلاقها وسلوكها وعلاقاتها الداخلية، فمع الإيمان يكون الانسجام والألفة والوحدة والعزة والغنى، وإذا ما تزعزع هذا الإيمان فقدت الأمة تماسكها وتحولت إلى أداة طيعة في يد من يستقوي عليها، قليل من الفر قة، وتهاون يسير في القيم الأصلية، يفتح ثغرة في جسم الأمة تدلف الفتنة منها إلى الداخل لمزيد من التجزئة والشتات والضعف الذي يبقى سائراً مستمرا مستهلكاً لطاقات الأمة وكرامتها، إلى أن يحدث الانعطاف بالتوجه نحو الواحد، والدخول في سلوكيات الوحدة وفكرها، حينئذ تعود الأمة إلى الاتساق ويمسي المزيد من الوحدة ينتج نصراً على الأوضاع في الداخل والخارج والمزيد من النصر يفضي إلى مزيد من الوحدة ويعود المجد والعزة.

٧- 'وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة' (عن العرب قبل البعثة من الخطبة رقم ٢٦)، يعود إلى الأسس،الأصنام، والانفصال، ليست قيماً فكرية سلبية معلقة في الهواء. بل لها آثارها الموضوعية وانعكاسها المادي على الأرض، منها يأتي سفك الدماء وتقطيع الأرحام، وطالما أن الأمة مشدودة إليها فالآثام التي تتبع منها تبقى معصوبة بالأمة مشدودة بها وإليها متغلغلة حتى يأتي من يفك لحمتها ومايفك لحمتها، حتى يأتي الرسول والرسالة.

٨-'أنبئت بسراً قد اطلع اليمن، وأني والله لأظن أن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم بالباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم (الخطبة رقم ٢٥ بعد اعتداءات وجرائم بسر بن أرطأة في اليمن). قد يتعب أهل الحق من متابعة حقهم، قد يتسرب إلى صفوفهم الوهن فيتحولون إلى مثبطين عن متابعة الحق، هذا ماعاناه من أصحابه ولكنه لم يبدل قناعته بالحق، ولو بدلها لهان الباطل الذي قد تواتيه الفرصة من الدنيا في غفلة من الأمة أو الجهل، فيقلب القيم ويصور الحق باطلا ويحافظ على إبقاء أتباعه جهالاً كي ما يصفو له الجو، ويثير أضغاناً وضغائن وعصبيات قبلية وجغرافية وعنصرية تعمي أهل الحق عن حقهم، وترغب أهل الباطل بباطلهم، وكل ذلك مؤلم للإمام، لا عن  يأس، بل لأن التهاون في طلب الحق يستلزم حدوث مظالم هو مكلف بالسعي للحد منها أو منعها، والأمة مكلفة ولكنها لا تنهض، ويعلن الإمام ألمه يقول:

٩- ' فيا عجباً ! عجباً - والله - يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم' 'خطبة رقم ٢٩ بعد غارة الضحاك على الحجيج'.

١٠- 'أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الأعداء' 'خطبة رقم ٢٩ بعد غارة الضحاك على الحجيج'. إذن الفتنة تستلزم ازدواجية في شخصية الفرد والأمة في القول والفعل حيث تفتقد عوامل الوحدة ومظاهرها .. وتبلغ معاناته درجة حادة من الشعور بالخيبة فيخاطب أصحابه الذين يفرون من حقهم في كل اتجاه يقول:

١١ـ (ما انتم إلا كإبل ضل رعاتها فكلـّما جمعت من جانب انتشرت من آخر) 'خطبة رقم ٣٤'.

١٢- لكنه الراعي وهو لم يضل فما الذي حصل؟ يقول:

'انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله، فلو ان الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين،ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث في مزجان، فهنالك يستولي الشيطن على أوليائه وينجو (الذين سبقت لهم من الله الحسنى) 'خطبة رقم ٥٠' .

إذن فالجاهلية فكراً وسلوكاً وعلاقات، هي مناخ الفتنة وتربتها وشمسها وهواؤها ورواؤها.. ولكن على الأرض ما الذي يحصل حتى تضل الجموع وتعمى؟ قد يكون مع الباطل بعض حق، ولكنه ضئيل وذريعة ليس إلا. وأن عدم المبطل حقاً ابتدع مايشبه الحق بالتلفيق معتمداً على الجهل والتجهيل لتنطلي شبهته على الأمة، وفي هذه الحال تنفك العرى ويصبح القائد الهادي موضع تهمة، ويصبح كل واحد من الأمة قائد نفسه، يقول:

١٣- 'فيا عجباً ! ومالي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها! لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب.. مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه' (خطبة رقم ٨٨).

 إذا تعددت القيادة من دون مسوغ أو حاجة، فإن المنشأ في ذلك هو ضعف الإحساس بالحق والباطل، إذن يصبح هذا باطل يقاتل أو يصارع باطلاً هنالك بعدد القيادات وعلى حساب الأمة وحقها... ولكن ألا من سعى إلى الوحدة؟

لم يقصر (عليه السلام) في سعيه ودفعه باللين والشدة لذا نراه يقول محرضاً:

١٤- 'أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح' (الخطبة رقم٥).

ولكن أين هي الجادة الموصلة؟ يقول:

١٥- 'اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفَذ السنـّة.. وأصلحوا ذات بينكم' (خطبة رقم ١٦).

والوسط في تعبير الإمام ليس هو نقطة التوسط بين الحق والباطل، بل هو الحق إذا ما تصارع باطلان مشوبان بالحق أو شبهتان مشابهتان للحق.

١٦- ويقدم منهجاً نموذجاً وموقفاً مسؤولا يبتعد به عن الوقوع في سلوك التجزئة طالما أن العدل محفوظ وحافظ للوحدة، حتى لو كان على حسابه الشخصي، إذ ليس له حساب شخصي في المحصلة، إذن فالوحدة والعدل بدونه أو معه، المهم أن تبقى القيم وتحفظ مصلحة الأمة يقول:

'ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة' (خطبة رقم ٧٤ لما عزموا على بيعة عثمان).

١٧- وماهو معيارالوحدة؟ الكثرة؟ يقول:

(إنه لاغناء في كثرة عددكم مع قلة اجتماع قلوبكم) (خطبة ١١٩).

 إذن فالوحدة تنبع من الداخل والخارج مظهرها، وقد يكون مظهراً خداعاً مظهراً لحالة من التجزئة المضمرة أو الكامنة ولكن هل هذا يعني أن الكثرة مرفوضة؟

لا بل هي مطلوبة ولا شروط عليها ولا شروط على الوحدة لأنها شرط نفسها ولا يمكن تحصيلا لاتفاق على باطل إلا لوقت يسير بينما الاتفاق على الحق أيسر وأدوم ومن ينفصل يتحمل وزر الانفصال يقول:

١٨- 'وألزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب' (كلام خاطب به الخوارج رقم ١٨). 'إذن فالخارج على الجماعة المنفصل يسقط في يد الأعداء'.

١٩- وإذا ما انتهكت الوحدة ولم تنفع الموعظة؟ ولأنه مؤمن بالوحدة معتقد بأنها الضمانة، ضمانة الاستقامة والمجد في الدنيا والرضا في الآخرة فإنه على استعداد لفرض الوحدة فرضا، يقول:

'ولكني اضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا' 'خطبة رقم ٦ '.

٢٠ - ولكن استعمال القوة مشروط بعدم انعكاسه تفرقة على الأمة يقول:

'أن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر مالم أخف على جماعتكم، فإنهم ان تمموا على فيالة (ضعف) هذا الرأي انقطع نظام المسلمين' خطبة رقم ١٦٩ عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة'. إذن هناك حدود أيضاً للصبر، حدود عدم الإسهام في تشتيت الأمة وتغليب الباطل.

٢١- وفي مجال التفيذ ماذا فعل (عليه السلام) مع المشاغبين الانفصاليين؟ يقول:

'ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض؛ فأما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت وأما المارقة فقدت دوخت وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ورجة صدره وبقيت بقية من أهل البغي ولئن إذن الله في الكرٌة عليهم لأديلن منهم إلا ما يتشذر في أطراف البلاد تشذرا' (من القاصعة رقم ١٩٢) قاتلهم قتالاً دفاعياً ابتدأوه بالقتال .

٢٢ - ولكن هل الحرب للحرب؟ أم ان هناك مخرجاً؟ بل هناك مخرج لأن قلب الإمام القائد يبقى مفتوحاً لمن يشذ حتى يعود، يكتب إلى بعض أمراء جيشه منحازاً للوحدة مغلباً لها على غيرها 'فإن عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب وان توافقت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان فانهد بما اطاعك إلى من عصاك واستغن بمن انقاد عمن تقاعس عنك فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده وقعوده أغنى من نهوضه' (كتاب رقم ٤) .

إذن فالوحدة والقتال للشقاق والمقاتل من أجل الوحدة يجب أن تكون الوحدة عقيدته يذب عنها بكل قوته وعزمه. الملاحظ هنا أن المطلوب استعادتهم إلى ظل الدولة، والتوحد تحت سقفها، وتحت السقف العقيدي العام دون اشتراط أن يعودوا عن قناعاتهم الخاصة.

٢٣- ويبطل اعذار معاوية بموقف منهجي يلغي البعد الشخصي منه لكي يحجه، يقول في كتاب له إلى معاوية:

'انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكروعمر وعثمان على مابايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وانما الشورى للمهاجرين والانصار فان اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى فان خرج عن امورهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ماخرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ماتولى' (كتاب رقم ٦).

٢٤- وان كانت القلة إلى جانب الحق فما العمل وما المقياس؟ يقول:

'أيها الناس لا تستوحشوا طريق الحق وإن قل سالكوه.. وانما يجمع الناس الرضى والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى؟' (خطبة رقم ٣٢).

إذن إن لم تتوحد الأمة على الحق وتفرقت فانها تكون قد اجتمعت على الباطل وتنال جزاءها مجتمعة والحق هو المقياس، مقياس الرجال ومقياس الكميات،هو الكيف الذي يعطي للكم روحه وهويته.

٢٥- يقاتل الانفصاليين ولكنه يصر على ابقاء الوحدويين على اخلاقهم الوحدوية، وعلى سعة صدورهم تجاه الآخرين، فربما عادوا ولايجوز للوحدوي لأن يتخلق باخلاق التجزيئي، ولابد من التمايز 'إني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان اصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبكم اياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله'، (خطبة رقم ٢٠٦) عندما سمع اصحابه يسبون أهل الشام في حرب صفين'.

السلطة والجماهير

٢٦- مناط الوحدة في منظوره - منظوره الإسلام - يتجسد في كتابه إلى الأشتر عندما ولاه مصر يقول:

'وليكن أحب الأمورإليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العام يجحف برضى الخاصة وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صغوك إليهم وميلك معهم' (كتاب رقم ٥٣)، إذن هنا مفصل الوحدة العامة، فهي ساحة العدل ودليله، دون اجحاف بالخاصة، ولكن دون تمييز لها لأنها تستثمر التمييز لمنع العدل وتأسيس التجزئة.

غير أن الأمة ليست متطابقة لا أفراد ولا مجموعات، هناك تمايزات وظيفية على الأقل، في الموقع وفي العمل، لا يمنع التجانس ، فكيف تقوم الوحدة في الداخل إذن مع التمايزات؟ انه (عليه السلام) لا يلغي التمايزات بل على أساس الإسلام يحسبها ويوجد بينها بالإسلام ويوظفها من أجل الإنسان يقول في العهد نفسه إلى الأشتر:

(واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض فمنها جنود الله) 'الكتاب نفسه' إلى آخر الطبقات ويوصي (عليه السلام) بالعلاقة بهذه الطبقات بما يحفظ توحدها مع الأمة ويختم بالقول:

'وأن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم..'

إذن سلامة الصدور هي المعيار الثابت وإلى أين يصل أفق هذه الوحدة المطلوبة المرغوبة ؟

يقول للأشتر: 'ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخلك في الدين أو نظير لك في الخلق' الكتاب نفسه 'إلغاء وإبطال لمعايير التجزئة وإيقاف للمسؤول على ثوابت الوحدة وتوسيع مداها لتشمل غير المسلم باعتباره عهدة المسلم وتتثلم الوحدة إن لم تشمله بمفهومها العام ويختل العدل إن لم يكن مطبقاً عليه، يقول:

٢٧- في كتاب له إلى أبي الأسود بن قحطبة صاحب خبر حلوان:

'أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض عن العدل' (كتاب رقم ٥٩). إذن لأن الأمة واحدة ولا فرق بين أفرادها إلا بالتقوى التي يثيب عليها الله.. ولأن الحاكم يجب أن يكون حارس الوحدة، فإن عليه التسوية والمساواة والعدل لأنه بذلك يحرس الوحدة.

٢٨- في كتاب له إلى أبي موسى الأشعري حول قضية التحكيم والحكمين يجلو قناعته صريحه وضاحة مبطلاً أرجاف المرجفين وادعاء المدعين يقول:

'وليس رجل أحرص على جماعة أمة محمد (ص) وإلفتها منى،ابتغي بذلك حسن الثواب' (كتاب رقم ٧٨).

٢٩- وهو يعلم سبب الخلاف، يعيده إلى أصله، إلى جذوره 'إلى الوحدة على أساس الاستقامة والعدل، يقول جواباً لمعاوية:

'أمابعد فانا كنا نحن وانتم على ماذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمس واليوم أنا استقمنا وفتنتم' (كتاب رقم ٤٠)، إذن فالوحدة ولكن ليس في المطلق بل على أساس الإيمان والاستقامة وإلآ فإن الوحدة التي تقوم على الانحراف هي التجزئة والانفصال والصف المعادي لها هو صف الوحدة والاتصال، طالما أن العدد ليس مقياسا لوحده؟

 بلى ولكن تركيبا في التكوين، تكوين الانسان، لا يمكن إلغاؤه، يتشكل عى أساسه لون من الوحدة المحدودة التي ان تكرست رسخت التجزئة فالإسلام يحث على الرحم وعدم قطيعتها ويعطي للرحم حقاً بصرف النظر عن الإسلام فإن أضيف الإسلام أضيف لحق الرحم حق آخر... صحيح ولكن القرآن يضع معياراً محدداً (وانذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) إذن تذهب نحوهم لتأتي بهم إلى الحق وقد لا يأتون فلا تقطع معهم ولا تذهب نحوهم لتأتي بهم إلى الحق وقد لا يأتون فلا تقطع معهم ولا تذهب إليهم لتبقى معهم على الباطل.. إن ذلك هو البرالحقيقي فالتوحيد مع الأهل بالدم بمقتضى التكوين أمر لا مفر منه، والأفضل أن يكون رشيداً ويستهدي بالحق، وإلا فإن عصبية الدم وحدها قد تتحول إلى شر يطال المتعصب ومن يتعصب له، ولا يهذبها ولا يهديها إلا الإيمان يقول:

٣٠- 'أيها الناس انه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأديهم وألسنتهم وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يرثه غيره ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده أن أمسكه ولا ينقصه أن أهلكه ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة' (خطبة رقم ٢٣).

٣١- ولكنه يعود ليضع الأمور في نصابها الهادي الرشيد يقول:

'فإن كان لابد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأمثال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل والكف عن البغي والإنصاف والخلق' (من الخطبة القاصعة رقم ١٩٢).

إذن الانصاف للخلق.. وإذن.. ليست تلك الوحدة المطلوبة في علاقات الرحم عصبية انها الحب في الله والحفاظ على الرباط واستثماره في الاتجاه الإيماني الإيجابي في اتجاه الهداية والاستقامة.. ولنوح (عليه السلام) حكاية تلقن فيها درساً بليغاً (يا نوح انه ليس من اهلك) وصدق الله العظيم.

ينضج القرآن الكريم رؤية ربانية للوحدة والتجزئة وسنن التاريخ ويضع الثوابت العقيدية والتشريعية للوحدة باعتبارها تجسيداً للتوحيد على الأرض وفي حركة المجتمع والتاريخ ويتلخص تاريخ الإسلام بأنه تاريخ الوحدة تأسيساً وترسيخاً ونضالاً ضد التجزئة على هدي التوحيد ويأتي كلام الإمام علي تجسيداً للمعاناة، معاناة الوحدة والتجزئة على الأرض من قبل إمام موحد متشبع بقيم الوحدة في مواجهةعودة الانفصال إلى الساحة قوياً بما أيقظ من قيم جائرة، يعاني الإمام ويبقى يقينه يقيناً وحدوياً لأنه يقين توحيدي، ونعاني نحن اليوم وما أحوجنا إلى جلاء يقيننا التوحيدي لنجلو به يقيننا الوحدوي فنرى من خلاله عوامل التجزئة ولا نرهبها ولا نيأس وما أجدرنا أن نقرأ القرآن والتاريخ والنصوص الصادقة بعين وحدوية وبقلب مفتوح على احتمالات الوحدة ومصاعبها.

---------------------------------
(*) مفكراسلامي من لبنان
****************************