وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
فصاحة الإمام عليه السلام وبلاغته

الإمام عليّ عليه السلام : إنّا لَاُمَراءُ الكَلامِ ، وفينا تَنَشَّبَت [١] عُروقُهُ ، وعَلَينا تَهَدَّلَت [٢]  غُصونُهُ [٣] .
المناقب لابن شَهر آشوب عَنِ الرِّضا عَن آبائِهِ ع: إنَّهُ اجتَمَعَتِ الصَّحابَةُ فَتَذاكَروا أنَّ الأَلِفَ أكثَرُ دُخولاً فِي الكَلامِ ، فَارتَجَلَ عليه السلام الخُطبَةَ المونِقَةَ الَّتي أوَّلُها : حَمِدتُ مَن عَظُمَت مِنَّتُهُ ، وسَبَغَت نِعمَتُهُ ، وسَبَقَت رَحمَتُهُ ، وتَمَّت كَلِمَتُهُ ، ونَفَذَت مَشِيَّتُهُ ، وبَلَغَت قَضِيَّتُهُ . . إلى آخِرِها [٤].
ثُمَّ ارتَجَلَ خُطبَةً اُخرى مِن غَيرِ النُّقَطِ الَّتي أوَّلُها : الحَمدُ للّه ِ أهلَ الحَمدِ ومَأواهُ ، ولَهُ أوكَدُ الحَمدِ وأحلاهُ ، وأسرَعُ الحَمدِ وأسراهُ ، وأظهَرُ الحَمدِ وأسماهُ ، وأكرَمُ الحَمدِ وأولاهُ . . . إلى آخِرِها [٥] .  وقَد أورَدتُهُما فِي المَخزونِ المَكنونِ .
ومِن كَلامِهِ : تَخَفَّفوا تَلحَقوا فَإِنَّما يُنتَظَرُ بِأَوَّلِكُم آخِرُكُم .
وقَولُهُ : ومَن يَقبِض يَدَهُ عَن عَشيرَتِهِ فَإِنَّما يَقبِضُ عَنهُم بِيَدٍ واحِدَةٍ ، ويَقبِضُ مِنهُم عَنهُ أيدٍ كَثيرَةٌ ، ومَن تَلِن حاشِيَتُهُ يَستَدِم مِن قَومِهِ المَوَدَّةَ . وقَولُهُ : مَن جَهِلَ شَيئا عاداهُ ، مِثلُهُ : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ» [٦] .
وقَولُهُ : المَرءُ مَخبوءٌ تَحتَ لِسانِهِ ، فَإِذا تَكَلَّمَ ظَهَرَ ، مِثلُهُ : «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ»  [٧] .
وقَولُهُ : قيمَةُ كُلِّ امرِئٍ ما يُحسِنُ ، مِثلُهُ : «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» [٨] .
وقَولُهُ : القَتلُ يُقِلُّ القَتلَ ، مِثلُهُ : «وَ لَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَوةٌ» [٩]  , [١٠] .
تاريخ دمشق : قالَ مُعاوِيَةُ : إن كُنّا لَنَتَحَدَّثُ أ نَّهُ ما جَرَتِ المَواسي [١١] عَلى رَأسِ رَجُلٍ مِن قُرَيشٍ أفصَحَ مِن عَلِيٍّ [١٢] .
الإمامة والسياسة (في ذِكرِ قُدومِ ابنِ أبي مِحجَنٍ عَلى مُعاوِيَة) : قالَ مُعاوِيَةُ : فَوَاللّه ِ لَو أنَّ ألسُنَ النّاسِ جُمِعَت فَجُعِلَت لِسانا واحِدا لَكَفاها لِسانُ عَلِيٍّ [١٣] .
مُروج الذَّهَب (في ذِكرِ لُمَعٍ مِن كَلامِ عَلِيٍّ عليه السلام) : وَالَّذي حَفِظَ النّاسُ عَنهُ مِن خُطَبِهِ في سائِرِ مَقاماتِهِ أربَعُمِئَةِ خُطبَةٍ ونَيِّفٌ وثَمانونَ خُطبَةً يورِدُها عَلَى البَديهَةِ ، وتَداوَلَ النّاسُ ذلِكَ عَنهُ قَولاً وعَمَلاً [١٤].
نَثر الدُّرّ عن محمّد ابن الحنفيّة (في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام) : كانَ إذا تَكَلَّمَ بَذَّ [١٥]، وإذا كَلَمَ [١٦] حَذَّ [١٧] وهذا مِثلُ قَولِ غَيرِهِ : كانَ عَلِيٌّ إذا تَكَلَّمَ فَصَلَ وإذا ضَرَبَ قَتَلَ [١٨] .
الشّريف الرَّضِيّ في مُقدَّمة نهج البلاغة :. . . وسَأَلوني [جَماعَةٌ مِنَ الأَصدِقاءِ وِالإِخوانِ ]عِندَ ذلِكَ [أي بَعدَ تَأليفِ كِتابِ خَصائِصِ الأَئِمَّةِ] أن أبتَدِئَ بِتَأليفِ كِتابٍ يَحتَوي عَلى مُختارِ كَلامِ مَولانا أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في جَميعِ فُنونِهِ ، ومُتَشَعِّباتِ غُصونِهِ : مِن خُطَبٍ وكُتُبٍ ومَواعِظَ وأدَبٍ ، عِلما أنَّ ذلِكَ يَتَضَمَّنُ عَجائِبَ البَلاغَةِ ، وغَرائِبَ الفَصاحَةِ ، وجَواهِرَ العَرَبِيَّةِ ، وثَواقِبَ الكَلِمِ الدّينِيَّةِ وَالدُّنيَوِيَّةِ ، ما لا يوجَدُ مُجتَمِعا في كَلامٍ ، ولا مَجموعَ الأَطرافِ في كِتابٍ . إذ كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مَشرَعَ الفَصاحَةِ ومَورِدَها ، ومَنشَأَ البَلاغَةِ ومَولِدَها .
ومِنهُ عليه السلام ظَهَرَ مَكنونُها ، وعَنهُ اُخِذَت قَوانينُها ، وعَلى أمثِلَتِهِ حَذا كُلُّ قائِلٍ خَطيبٍ ، وبِكَلامِهِ استَعانَ كُلُّ واعِظٍ بَليغٍ ، ومَعَ ذلِكَ فَقَد سَبَقَ وقَصَّروا ، وقَد تَقَدَّمَ وتَأَخَّروا ؛ لِأَنَّ كَلامَهُ عليه السلام الكَلامُ الَّذي عَلَيهِ مَسحَةٌ مِنَ العِلمِ الإِلهِيِّ ، وفيهِ عَبَقَةٌ مِنَ الكَلامِ النَّبَوِيِّ .

فَأَجبَتُهُم إلَى الِابتِداءِ بِذلِكَ ، عالِما بِما فيهِ مِن عَظيمِ النَّفعِ ومَنشورِ الذِّكرِ ، ومَذخورِ الأَجرِ ، وَاعتَمَدتُ بِهِ أن اُبَيِّنَ عَن عَظيمِ قَدرِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في هذِهِ الفَضيلَةِ ، مُضافَةً إلَى المَحاسِنِ الدَّثرَةِ ، وَالفَضائِلِ الجَمَّةِ ، وأ نَّهُ عليه السلام انفَرَدَ بِبُلوغِ غايَتِها عَن جَميعِ السَّلَفِ الأَوَّلينَ ، الَّذينَ إنَّما يُؤثَرُ عَنهُم مِنهَا القَليلُ النّادِرُ ، وَالشّاذُ الشّارِدُ .

فَأَمّا كَلامُهُ فَهُوَ البَحرُ الَّذي لا يُساجَل ، وَالجَمُّ الَّذي لا يُحافَلُ . وأرَدتُ أن يَسوغَ لِيَ التَّمَثُّلُ فِي الاِفتِخارِ بِهِ عليه السلام بِقَولِ الفَرَزدَقِ : اُولئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم إذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ [١٩] ۰
وقالَ في ذَيل قَولِهِ عليه السلام : «قيمَةُ كُلِّ امرِىً ما يُحسِنُهُ» ، وهِيَ الكَلِمَةُ الَّتي لا تُصابُ لَها قيمَةٌ ، ولا توزَنُ بِها حِكمَةٌ ، ولا تُقرَنُ إلَيها كَلِمَةٌ [٢٠] .
وقالَ في ذَيلِ قَولِهِ عليه السلام : «فَإِنَّ الغايَةَ أمامَكُم ، وإنَّ وَراءَكُمُ السّاعَةَ تَحدوكُم . تَخَفَّفوا تَلحَقوا ، فَإِنَّما يُنتَظَرُ بِأَوَّلِكُم آخِرُكُم» ، أقولُ : إنَّ هذَا الكَلامَ لو وُزِنَ ، بَعدَ كَلامِ اللّه ِ سُبحانَهُ وبَعدَ كَلامِ رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، بِكُلِّ كَلامٍ لَمالَ بِهِ راجِحا ، وبَرَّزَ عَلَيهِ سابِقا . فَأَمّا قَولُهُ عليه السلام : «تَخَفَّفوا تَلحَقوا» فَما سُمِعُ كَلامٌ أقَلَّ مِنهُ مَسموعا ولا أكثَرُ مِنهُ مَحصولاً ، وما أبعَدَ غَورَها مِن كَلِمَةٍ ! وأنقَعَ [٢١] نُطفَتَها [٢٢]مِن حِكمَةٍ ! وقَد نَبَّهنا في كِتاب «الخَصائِصِ» عَلى عِظَمِ قَدرِها وشَرَفِ جَوهَرِها  [٢٣].
وقالَ في ذَيلِ الخُطبَةِ السّادِسَة عَشَرَةَ : إنَّ في هذَا الكَلامِ الأَدنى مِن مَواقِعِ الإِحسانِ ما لا تَبلُغُهُ مَواقِعَ الاِستِحسانِ ، وإنَّ حَظَّ العَجَبِ مِنهُ أكثَرُ مِن حَظِّ العَجَبِ بِهِ ! وفيهِ ـ مَعَ الحالِ الَّتي وَصَفنا ـ زَوائِدُ مِنَ الفَصاحَةِ لا يَقومُ بِها لِسانٌ ولا يَطَّلِعُ فَجَّها إنسانٌ ، ولا يَعرِفُ ما أقولُ إلّا مَن ضَرَبَ في هذِهِ الصَّناعَةِ بِحَقٍّ ، وجَرى فيها عَلى عِرقٍ «وَ مَا يَعْقِلُهَآ إِلَا الْعَــلِمُونَ» [٢٤] .
ابن أبي الحَديدِ في شَرحِ نَهجِ البَلاغَةِ : وأمَّا الفَصاحَةُ فَهُوَ عليه السلام إمامُ الفُصَحاءِ ، وسَيِّدُ البُلَغاءِ ، وفي كَلامِهِ قيلَ : دونَ كَلامِ الخالِقِ ، وفوقَ كَلامِ المَخلوقينَ . ومِنهُ تَعَلَّمَ النّاسُ الخِطابَةَ وَالكِتابَةَ .

قالَ عَبدُ الحَميدِ بنُ يَحيى : حَفِظتُ سَبعينَ خُطبَةً مِن خُطَبِ الأَصلَعِ ، فَفاضَت ثُمَّ فاضَت .

وقالَ ابنُ نُباتَةَ : حَفِظتُ مِنَ الخِطابَةِ كَنزا لا يَزيدُهُ الإِنفاقُ إلّا سَعَةً وكَثرَةً ، حَفِظتُ مِئَةَ فَصلٍ مِن مَواعِظِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ .

ولَمّا قالَ مِحفَنُ بن أبي مِحفَن لِمُعاوِيَةَ : جِئتُكَ مِن عِندِ أعيَى النّاسِ ، قالَ لَهُ : وَيحَكَ ، كَيفَ يَكونُ أعيَى النّاسِ ! فَوَاللّه ِ ما سَنَّ الفَصاحَةَ لِقُرَيشٍ غَيرُهُ . ويَكفي هذَا الكِتابُ الَّذي نَحنُ شارِحوهُ دَلالةً عَلى أنَّهُ لا يُجارى فِي الفَصاحَةِ ، ولا يُبارى فِي البَلاغَةِ . وحَسبُكَ أ نَّهُ لَم يُدَوَّن لِأَحَدٍ مِن فُصَحاءِ الصَّحابَةِ العُشرُ ولا نِصفُ العُشرِ مِمّا دُوِّنَ لَهُ ، وكَفاكَ في هذَا البابِ ما يَقولُهُ أبو عُثمانَ الجاحِظُ فى ¨ مَدحِهِ في كِتابِ «البَيان وَالتَّبيين» وفي غَيرِهِ مِن كُتُبِهِ [٢٥].
وقالَ في ذَيلِ الكِتابِ ۳۵ : اُنظُر إلَى الفَصاحَةِ كَيفَ تُعطي هذَا الرَّجُلَ قِيادَها ، وتُمَلِّكُهُ زِمامَها ، وأعجَبُ لِهذِهِ الأَلفاظِ المَنصوبَةِ ، يَتلو بَعضُها بَعضا كَيفَ تُؤاتيهِ وتُطاوِعُهُ ، سَلِسَةً سَهلَةً ، تَتَدَفَّقُ مِن غَيرِ تَعَسُّفٍ ولا تَكَلُّف ٍ، حَتَّى انتَهى إلى آخِرِ الفَصلِ فَقالَ : «يَوما واحِدا ، ولا ألتَقي بِهِم أبَدا» . وأنتَ وغَيرُكَ مِنَ الفُصَحاءِ إذا شَرَعوا في كِتابٍ أو خُطبَةٍ ، جَاءَتِ القَرائِنُ وَالفَواصِلُ تارَةً مَرفوعَةً ، وتارَةً مَجرورَةً ، وتارَةً مَنصوبَةً ، فَإِن أرادوا قَسرَها بِإِعرابٍ واحِدٍ ظَهَرَ مِنها فِي التَّكَلُّفِ أثَرٌ بَيِّنٌ ، وعَلامَةٌ واضِحَةٌ وهذَا الصِّنفُ مِنَ البَيانِ أحَدُ أنواعِ الإِعجازِ فِي القُرآنِ ، ذَكَرَهُ عَبدُ القاهِرِ قالَ : اُنظُر إلى سورَةِ النِّساءِ وبَعدَها سورَةِ المائِدَةِ ، الاُولى مَنصوبَةُ الفَواصِلِ وَالثّانِيَةُ لَيسَ فيها مَنصوبٌ أصلاً ، ولَو مَزَجتَ إحدَى السّورَتَينِ بِالاُخرى لَم تَمتَزِجا ، وظَهَرَ أثَرُ التَّركيبِ وَالتَّأليفِ بَينَهُما ، ثُمَّ إنَّ فَواصِلَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما تَنساقُ سِياقَةً بِمُقتَضَى البَيانِ الطَّبيعِيِّ لَا الصَّناعَةِ التَّكَلُّفِيَّةِ . ثُمَّ انظُر إلَى الصِّفاتِ وَالمَوصوفاتِ في هَذا الفَصلِ ، كَيفَ قالَ : وَلَدا ناصِحا ، وعامِلاً كادِحا ، وسَيفا قاطِعا ، ورُكنا دافِعا ، لَو قالَ : وَلَدا كادِحا ، وعامِلاً ناصِحا ، وكَذلِكَ ما بَعدَهُ لَما كانَ صَوابا ولا فِي المَوقِعِ واقِعا . فَسُبحانَ اللّه ِ مِن مَنحِ هذَا الرَّجُلِ هذِهِ المَزايَا النَّفيسَةَ وَالخَصائِصَ الشَّريفَةَ ! أن يَكونَ غُلامٌ مِن أبناءِ عَرَبِ مَكَّةَ يَنشَأُ بَينَ أهلِهِ ، لَم يُخالِطِ الحُكَماءَ وخَرَجَ أعرَفَ بِالحِكمَةِ ودَقائِقِ العُلومِ الإِلهِيَّةِ مِن أفلاطونَ وأرَسطو ! ولَم يُعاشِر أربابَ الحِكَمِ الخُلقِيَّةِ ، وَالآدابِ النَّفسانِيَّةِ ؛ لِأَنَّ قُرَيشا لَم يَكُن أحَدٌ مِنهُم مَشهورا بِمِثلِ ذلِكَ ، وخَرَجَ أعرَفَ بِهذَا البابِ مِن سُقراطَ . ولَم يُرَبَّ بَينَ الشَّجعانِ ؛ لِأَنَّ أهلَ مَكَّةَ كانوا ذَوي تِجارَةٍ ولَم يَكونوا ذَوي حَربٍ ، وخَرَجَ أشجَعَ مِن كُلِّ بَشَرٍ مَشى عَلَى الأَرضِ .

قيلَ لِخَلَفٍ الأَحمَرِ : أيُّما أشجَعُ عَنبَسَةُ وبِسطامُ أم عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ؟ فَقالَ : إنَّما يُذكَرُ عَنبَسَةُ وبِسطامُ مَعَ البَشَرِ وَالنّاسِ لا مَعَ مَن يَرتَفِعُ عَن هذِهِ الطَّبَقَةِ . فَقيلَ لَهُ : فَعَلى كُلِّ حالٍ . قالَ : وَاللّه ِ لَو صاحَ في وُجوهِهِما لَماتا قَبلَ أن يَحمِلَ عَلَيهِما . وخَرَجَ أفصَحَ مِن سَحبانِ وقُسٍّ ، ولَم تَكُن قُرَيشٌ بِأَفصَحِ العَرَبِ ، كانَ غَيرُها أفصَحَ مِنها ، قالوا : أفصَحُ العَرَبِ جُرهُمُ وإن لَم تَكُن لَهُم نَباهَةٌ . وخَرَجَ أزهَدَ النّاسِ فِي الدُّنيا وأعَفَّهُم ، مَعَ أنَّ قُرَيشا ذَوو حِرصٍ ومَحَبَّةٍ لِلدُّنيا ، ولا غَروَ فيمَن كانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله مُرَبِّيَهُ ومُخرِجَهُ ، وَالعِنايَةُ الإِلهِيَّةُ تَمُدُّهُ وتُرفِدُهُ ، أن يَكونَ مِنهُ ما كانَ [٢٦] !
وذَكَرَ عَن شَيخِهِ أبي عُثمانَ قالَ : حَدَّثَني ثُمامَةُ ، قالَ : سَمِعتُ جَعفَرَ بنَ يَحيى ـ وكانَ مَن أبلَغِ النّاسِ وأفصَحِهِم ـ يَقولُ : الكِتابَةُ ضَمُّ اللَّفظَةِ إلى اُختِها ، أ لَم تَسمَعوا قولَ شاعِرٍ لِشاعِرٍ وقَد تَفاخرا : أنَا أشعَرُ مِنكَ لِأَنّي أقولُ البَيتَ وأخاهُ ، وأنتَ تَقولُ البَيتَ وابنَ عَمِّهِ ! ثُمَّ قالَ : وناهيكَ حُسنا بِقَولِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام : هَل مِن مَناصٍ أو خَلاصٍ ، أو مَعاذٍ أو مَلاذٍ ، أو فِرارٍ أو مَحارٍ ! .
قالَ أبو عُثمانَ : وكانَ جَعفَرٌ يُعجَبُ أيضا بِقَولِ عَلِيٍّ عليه السلام : أينَ مَن جَدَّ واجتَهَدَ ، وجَمَعَ وَاحتَشَدَ ، وبَنى فَشَيَّدَ ، وفَرَشَ فَمَهَّدَ ، وزَخرَفَ فَنَجَّدَ ؟ ! قالَ : ألا تَرى أنَّ كُلَّ لَفظَةٍ مِنها آخِذَةٌ بِعُنُقِ قَرينَتِها ، جاذِبَةٌ إيّاها إلى نَفسِها ، دالَّة عَلَيها بِذاتِها ؟ ! قالَ أبو عُثمانَ : فَكانَ جَعفَرٌ يُسَمّيهِ فَصيحَ قُرَيشٍ .

وَاعلَم أ نَّنا لا يَتَخالَجُنا الشَّكُّ في أنَّهُ عليه السلام أفصَحُ مِن كُلِّ ناطِقٍ بِلُغَةِ العَرَبِ مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ ، إلّا مِن كَلامِ اللّه ِ سُبحانَهُ ، وكَلامِ رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ؛ وذلِكَ لِأَنَّ فَضيلَةَ الخَطيبِ وَالكاتِبِ في خِطابَتِهِ وكِتابَتِهِ تَعتَمِدُ عَلى أمرَينِ ،هُما : مُفرَداتُ الأَلفاظِ ومُرَكَّباتُها . أمَّا المُفرَداتُ : فَأَن تَكونَ سَهلةً ، سَلِسَةً ، غَيرَ وَحشِيَّةٍ ولا مُعَقَّدَةٍ ، وألفاظُهُ عليه السلام كُلُّها كَذلِكَ . فَأَمَّا المُرَكَّباتُ فَحُسنُ المَعنى ، وسُرعَةُ وُصولِهِ إلَى الأَفهامِ ، وَاشتِمالُهُ عَلىَ الصِّفاتِ الَّتي بِاعتِبارِها فُضِّلَ بَعضُ الكَلامِ عَلى بَعضٍ ، وتِلكَ الصِّفاتُ هِيَ الصَّناعَةُ الَّتي سَمّاهَا المُتَأَخِّرونَ البَديعَ ، مِنَ المُقابَلَةِ والمُطابَقَةِ ، وحُسنِ التَّقسيمِ ، ورَدِّ آخِرِ الكَلامِ عَلى صَدرِهِ ، وَالتَّرصيعِ ، وَالتَّسهيمِ ، وَالتَّوشيحِ ، وَالمُماثَلَةِ ، وَالاستِعارَةِ ، ولَطافَةِ استِعمالِ المَجازِ ، وَالمُوازَنَةِ ، وَالتَكافُوَ ، وَالتَّسميطِ ، وُالمُشاكَلَةِ . ولا شُبهَةَ أنَّ هذِهِ الصِّفاتِ كُلَّها مَوجودَةٌ في خُطَبِهِ وكُتُبِهِ ، مَبثوثَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ في فُرُشِ كَلامِهِ عليه السلام ، ولَيسَ يوجَدُ هذانِ الأَمرانِ في كَلامِ أحَدٍ غَيرِهِ ، فَإِن كانَ قَد تَعَمَّلَها وأفكَرَ فيها ، وأعمَلَ رَوِيَّتَهُ في رَصفِها ونَثرِها ، فَلَقَد أتى بِالعَجَبِ العُجابِ ، ووَجَبَ أن يَكونَ إمامَ النّاسِ كُلِّهِم في ذلِكَ ، لِأَنَّهُ ابتَكَرَهُ ولَم يَعرِف مَن قَبلَهُ ، وإن كانَ اقتَضَبَها ابتِداءً ، وفاضَت على لِسانِهِ مُرتَجِلَةً ، وجاشَ بِها طَبعُهُ بَديهَةً ، مِن غَيرِ رَوِيَّةٍ ولَا اعتِمالٍ ، فَأَعجَبُ وأعجَبُ ! وعَلى كِلَا الأَمرَينِ فَلَقَد جاءَ مُجَلِّيا ، وَالفُصَحاءُ تَنقَطِعُ أنفاسُهُم عَلى أثَرِهِ .

وبِحَقٍّ ما قالَ مُعاوِيَةُ لِمِحفَنٍ الضَّبِّيِّ ، لَمّا قالَ لَهُ : جِئتُكَ مِن عِندِ أعيَى النّاسِ : يَابنَ اللَّخناءِ ، ألِعَلِيٍّ تَقولُ هذا ؟ ! وهَل سَنَّ الفَصاحَةَ لِقُرَيشٍ غَيرُهُ ؟ ! وَاعلَم أنَّ تَكَلُّفَ الِاستِدلالِ عَلى أنَّ الشَّمسَ مُضيئَةٌ يُتعِبُ ، وصاحِبَهُ مَنسوبٌ إلَى السَّفَهِ ، ولَيسَ جاحِدُ الاُمورِ المَعلومَةِ عِلما ضَرورِيّا بِأَشَدَّ سَفها مِمَّن رامَ الِاستِدلالَ بِالأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ عَلَيها [٢٧] .
وقال أيضا في ذيل الخطبة ۹۱ ـ الَّتي تُعرَفُ بِخُطبَةِ الأَشباحِ ـ : «إذا جاءَ نَهرُ اللّه ِ بَطَلَ نَهرُ مَعقِلٍ» ! إذا جاءَ هذَا الكَلامُ الرَّبّانِيُّ واللَّفظُ القُدسِيُّ بَطَلَت فَصاحَةُ العَرَبِ وكانَت نِسبَةُ الفَصيحِ مِن كَلامِها إلَيهِ نِسبَةَ التُّرابِ إلَى النُّضارِ الخالِصِ ، ولَو فَرَضنا أنَّ العَرَبَ تَقدِرُ عَلَى الأَلفاظِ الفَصيحَةِ المُناسَبَةِ أوِ المُقارَبَةِ لِهذِهِ الأَلفاظِ ، مِن أينَ لَهُمُ المادَّةُ الَّتي عَبَّرت هذِهِ الأَلفاظُ عِنها ؟ ! ومِن أينَ تَعرِفُ الجاهِلِيَّةُ بَلِ الصَّحابَةُ المُعاصِرونَ لِرَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله هذِهِ المَعانِيَ الغامِضَةَ السَّمائِيَّةَ لِيَتَهَيَّأَ لَهَا التَّعبيرَ عَنها ؟ ! أمَّا الجاهِلِيَّةُ فَإِنَّهُم إنَّما كانَت تَظهَرُ فصاحَتُهُم في صِفَةِ بَعيرٍ أو فَرَسٍ أو حِمارِ وَحشٍ أو ثَورِ فَلاةٍ أو صِفَةِ جِبالٍ أو فَلَواتٍ ونَحوَ ذلِكَ . وأمَّا الصَّحابَةُ فَالمَذكورونَ مِنهمُ بِفَصاحَةٍ إنَّما كانَ مُنتَهى فَصاحَةِ أحَدِهِم كَلِماتٍ لا تَتَجاوَزُ السَّطرَينِ أوِ الثَّلاثَةَ ؛ إمّا في مَوعِظَةٍ تَتَضَمَّنُ ذِكرَ المَوتِ أو ذَمَّ الدُّنيا أو ما يَتَعَلَّقُ بِحَربٍ وقِتالٍ من تَرغيبٍ أو تَرهيبٍ ، فَأَمَّا الكَلامُ فِي المَلائِكَةِ وصِفاتِها وصُوَرِها وعِباداتِها وتَسبيحِها ومَعرِفَتِها بِخالِقِها وحُبِّها لَهُ ووَلَهِها إلَيهِ ، وما جَرى مَجرى ذلِكَ مِمّا تَضَمَّنَهُ هذَا الفَصلُ عَلى طولِهِ فَإِنَّهُ لَم يَكُن مَعروفا عِندَهُم عَلى هذَا التَّفصيلُ ، نَعَم رُبَّما عَلِموهُ جُملَةً غَيرَ مُقَسَّمَةٍ هذَا التَّقسيمَ ولا مُرَتَّبَةً هذَا التَّرتيبَ بِما سَمِعوهُ مِن ذِكرِ المَلائِكَةِ فِي القُرآنِ العَظيمِ .
وأمّا مَن عِندَهُ عِلمٌ مِن هذِهِ المادَّةِ كَعَبدِ اللّه ِ بنِ سَلامٍ واُمَيَّةَ بنِ أبِي الصَّلتِ وغَيرِهِم فَلَم تَكُن لَهُم هذِهِ العِبارَةِ ولا قَدَروا عَلى هذِهِ الفَصاحَةِ ، فَثَبَتَ أنَّ هذِهِ الاُمورَ الدَّقيقَةَ في مِثلِ هذِهِ العِبارَةِ الفَصيحَةِ لَم تَحصُل إلّا لِعَلِيٍّ وَحدَهُ ، واُقسِمُ أنَّ هذَا الكَلامَ إذا تَأَمَّلَهُ اللَّبيبُ اقشَعَرَّ جِلدُهُ ورَجَفَ قَلبُهُ ، وَاستَشعَرَ عَظَمَةَ اللّه ِ العَظيمِ في رَوعِهِ وخَلَدِهِ وهامَ نَحوَهُ وغَلَبَ الوَجدُ عَلَيهِ ،وكادَ أن يَخرُجَ مِن مَسكِهِ شَوقا وأن يُفارِقَ هَيكَلَهُ صَبابةً ووَجدا  [٢٨].
وقال أيضا في ذيل الخطبة ١٠٩ : هذا مَوضِعُ المَثَلِ : «في كُلِّ شَجَرَةٍ نارٌ ، وَاستَمجَدَ المَرخُ وَالعَفارُ [٢٩] » الخُطَبُ الوَعظِيَّةُ الحِسانُ كَثيرَةٌ، ولكِن هذا حَديثٌ يَأكُلُ الأَحاديثَ : مَحاسِنُ أصنافِ المُغَنّين جُمَّةٌ وما قَصَباتُ السَّبقِ إلّا لِمَعبَدِ ۰
مَن أرادَ أن يَتَعَلَّمَ الفَصاحَةَ وَالبَلاغَةَ ويَعرِفَ فَضلَ الكَلامِ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَليَتَأَمَّل هذِهِ الخُطبَةَ ، فَإِنَّ نِسبَتَها إلى كُلِّ فَصيحٍ مِنَ الكَلامِ ـ عَدا كَلامَ اللّه ِ ورسولِهِ ـ نِسبَةُ الكَواكِبِ المُنيرَةِ الفَلَكِيَّةِ إلَى الحِجارَةِ المُظلِمَةِ الأَرضِيَّةِ ، ثُمَّ ليَنظُرِ النّاظِرُ إلى ما عَلَيها مِنَ البَهاءِ وَالجَلالَةِ وَالرُّواءِ وَالدّيباجَةِ ، وما تُحدِثُهُ مِنَ الرَّوعَةِ وَالرَّهبَةِ وَالمَخافَةِ وَالخَشيَةِ ، حَتّى لَو تُلِيَت عَلى زِنديقٍ مُلحِدٍ مُصَمَّمٍ عَلَى اعتِقادِ نَفيِ البَعثِ وَالنُّشورِ ؛ لَهَدَّت قُواهُ وأرعَبَت قَلبَهُ وأضعَفَت عَلى نَفسِهِ وزَلزَلَتِ اعتِقادَهُ ، فَجَزَى اللّه ُ قائِلَها عَنِ الإِسلامِ أفضَلَ ما جَزى بِهِ وَلِيّا مِن أولِيائِهِ ، فَما أبلَغَ نُصرَتَهُ لَهُ تارَةً بِيَدِهِ وسَيفِهِ وتارَةً بِلِسانِهِ ونُطقِهِ وتارَةً بِقَلبِهِ وفِكرِهِ ، إن قيلَ : جِهادٌ وحَربٌ فَهُوَ سَيِّدُ المُجاهِدينَ وَالمُحارِبينَ ، وإن قيلَ : وَعظٌ وتَذكيرٌ فَهُوَ أبلَغُ الواعِظينَ وَالمُذَكِّرينَ ، وإن قيلَ : فِقهٌ وتَفسيرٌ فَهُوَ رَئيسُ الفُقَهاءِ والمُفَسِّرينَ ، وإن قيلَ : عَدلٌ وتَوحيدٌ فَهُوَ إمام أهلِ العَدلِ وَالمُوَحِّدينَ : ۰ لَيسَ عَلَى اللّه ِ بمُستَنكَرٍ أن يَجمَعَ العالَمَ في واحِدِ [٣٠] ۰
وقال أيضا في ذيل الخطبة ٢٢١ : مَن أرادَ أن يَعِظَ ويُخَوِّفَ ويَقرَعَ صَفاةَ القَلبِ ، ويُعَرِّفَ النّاسَ قَدرَ الدُّنيا وتَصَرُّفَها بِأَهلِها ، فَليَأتِ بِمِثلِ هذِهِ المَوعِظَةِ في مِثلِ هذَا الكَلامِ الفَصيحِ وإلّا فَليُمسِك ، فَإِنَّ السُّكوتَ أستَرُ ، وَالعِيَّ خَيرٌ مِن مَنطِقٍ يَفضَحُ صاحِبَهُ ، ومَن تَأَمَّلَ هذَا الفَصلَ عَلِمَ صِدقَ مُعاوِيَةَ في قَولِهِ فيهِ : «وَاللّه ِ ما سَنَّ الفَصاحَةَ لِقُرَيشٍ غَيرُهُ» ويَنبَغي لَوِ اجتَمَعَ فُصَحاءُ العَرَبِ قاطِبَةً في مَجلِسٍ وتُلِيَ عَلَيهِم أن يَسجُدوا لَهُ كَما سَجَدَ الشُّعَراءُ لِقَولِ عَدِيِّ بنِ الرِّقاعِ : «قَلَمٌ أصابَ مِنَ الدَّواةِ مِدادَها» [٣١] فَلَمّا قيلَ لَهُم في ذلِكَ قالوا : إنّا نَعرِفُ مَواضِعَ السُّجودِ فِي الشِّعرِ كَما تَعرِفونَ مَواضِعَ السُّجودِ فِي القُرآنِ . وإنّي لَاُطيلُ التَّعَجُّبَ مِن رَجُلٍ يَخطُبُ فِي الحَربِ بِكَلامٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ طَبعَهُ مُناسِبٌ لِطِباعِ الاُسودِ وَالنُّمورِ وأمثالِهِما مِنَ السِّباعِ الضّارِيَةِ ، ثُمَّ يَخطُبُ في ذلِكَ المَوقِفِ بِعَينِهِ إذا أرادَ المَوعِظَةَ بِكَلامٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ طَبعَهُ مُشاكِلٌ لِطِباعِ الرُّهبانِ لابِسِي المُسوحِ ، الَّذينَ لَم يَأكُلوا لَحما ولَم يُريقوا دِماءً ، فَتارَةً يَكونُ في صورَةِ بِسطامِ بن قَيسٍ الشَّيبانِيِّ وعُتَيبَةَ بنِ الحارِثِ اليَربوعِيِّ وعامِرِ بنِ الطُّفَيلِ العامِرِيِّ ، وتارَةً يَكونُ في صورَةِ سُقراطَ الحَبرِ اليونانِيِّ ويوحَنَّا المَعمَدانَ الإِسرائيليِّ والمَسيحِ بنِ مَريَمَ الإِلهِيِّ .
واُقسِمُ بِمَن تُقسِمُ الاُمَمُ كُلُّها بِهِ ، لَقَد قَرَأتُ هذِهِ الخُطبَةَ مُنذُ خَمسينَ سَنَةً وإلَى الآنَ أكثَرَ مِن ألفِ مَرَّةٍ ، ما قَرَأتُها قَطُّ إلّا وأحدَثَت عِندي رَوعَةً وخَوفا وعِظَةً ، وأثَّرَت في قَلبي وَجيبا  [٣٢] وفي أعضائي رِعدَةً ، ولا تَأَمَّلتُها إلّا وذَكَرتُ المَوتى مِن أهلي وأقارِبي وأربابِ وُدّي ، وخَيَّلتُ في نَفسي أنّي أنَا ذلِكَ الشَّخصُ الَّذي وَصَفَ عليه السلام حالَهُ . وكَم قَد قالَ الواعِظونَ وَالخُطَباءُ وَالفُصَحاءُ في هذَا المَعنى ، وكَم وَقَفتُ عَلى ما قالوهُ وتَكَرَّرَ وقوفي عَلَيهِ ، فَلَم أجِد لِشَيءٍ مِنهُ مِثلَ تَأثيرِ هذَا الكَلامِ في نَفسي ، فَإِمّا أن يَكونَ ذلِكَ لِعَقيدَتي في قائِلِهِ ، أو كانَت نِيَّةُ القائِلِ صالِحَةً ويَقينُهُ كانَ ثابِتا وإخلاصُهُ كانَ مَحضا خالِصا ، فَكانَ تَأثيرُ قَولِهِ فِي النُّفوسِ أعظَمَ ، وسَرَيانُ مَوعِظَتِهِ فِي القُلوبِ أبلَغَ [٣٣].
البيان والتبيين (في بَيانِ قَولِ عَلِيٍّ عليه السلام «قيمَةُ كُل) : فَلَو لَم نَقِف مِن هذَا الكِتابِ إلّا عَلى هذِهِ الكَلِمَةِ لَوَجَدناها شافِيَةً كافِيَةً ، ومُجزِئَةً مُغنِيَةً ، بَل لَوَجَدناها فاضِلَةً عَنِ الكِفايَةِ ، وغَيرَ مُقَصِّرَةٍ عَنِ الغايَةِ . وأحسَنُ الكَلامِ ما كانَ قَليلُهُ يُغنيكَ عَن كَثيرِهِ ، ومَعناهُ في ظاهِرِ لَفظِهِ ، وكانَ اللّه ُ عَزَّ وجَلَّ قَد ألبَسَهُ مِنَ الجَلالَةِ ، وغَشّاهُ مِن نورِ الحِكمَةِ عَلى حَسَبِ نِيَّةِ صاحِبِهِ وتَقوى قائِلِهِ [٣٤].
رسائل الجاحظ : أجمَعوا عَلى أ نَّهُم لَم يَجِدوا كَلِمَةً أقَلَّ حَرفا ، ولا أكثَرَ رَيعا [٣٥] ، ولا أعَمَّ نَفعا ، ولا أحَثَّ عَلى بَيانٍ ، ولا أدعى إلى تَبَيُّنٍ ، ولا أهجى لِمَن تَرَكَ التَّفَهُّمَ وقَصَّرَ فِي الإِفهامِ ، مِن قَولِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رِضوانُ اللّه عَلَيهِ : قيمَةُ كُلِّ امرِىً ما يُحسِنُ [٣٦].
المناقب لابن شهر آشوب عن الجاحظ في كتاب الغُرَّةكَتَبَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] إلى مُعاوِيَةَ : غَرَّكَ عِزُّكَ ، فَصارَ قَصارُ ذلِكَ ذُلَّكَ ، فَاخشَ فاحِشَ فِعلِكَ فَعَلَّكَ تُهدى بِهذا ، وقالَ عليه السلام : مَن آمَنَ أمِنَ ! [٣٧] , [٣٨] .
المناقب لابن شهر آشوب (في وَصفِ عَلِيٍّ عليه السلام) : وهُوَ أخطَبُهُم ، ألا تَرى إلى خُطَبِهِ مِثلِ : التَّوحيدِ ، وَالشِّقشِقِيَّةِ ، وَالهِدايَةِ ، وَالمَلاحِمِ ، وَاللُؤلُؤَةِ ، وَالغَرّاءِ ، وَالقاصِعَةِ ، وَالِافتِخارِ ، وَالأَشباحِ ، وَالدُرَّةِ اليَتيمَةِ ، وَالأَقاليمِ ، وَالوَسيلَةِ ، وَالطّالوتِيَّةِ ، وَالقَصَبِيَّةِ ، وَالنَّخيلَةِ ، وَالسَّلمانِيَّةِ ، وَالنّاطِقَةِ ، وَالدّامِغَةِ ، وَالفاضِحَةِ ، بَل إلى نَهجِ البَلاغَةِ عَنِ الشَّريفِ الرَّضِيِّ ، وكِتابِ خُطَبِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام عَن إسماعيلَ بنِ مِهرانَ السَّكونِيِّ عَن زَيدِ بنِ وَهبٍ أيضا ؟ ! [٣٩]
مطالب السؤول (إحصاءِ أنواعِ العُلومِ الَّتي عَلَّمَهُ رَسولُ) : ... رابِعُها : عَلِمَ البَلاغَةَ وَالفَصاحَةَ ، وكانَ فيها إماما لا يُشَقُّ غُبارُهُ ، ومُقَدَّما لا تُلحَقُ آثارُهُ ، ومَن وَقَفَ عَلى كَلامِهِ المَرقومِ المَوسومِ بِنَهجِ البَلاغَةِ صارَ الخَبَرُ عِندَهُ عَن فَصاحَتِهِ عِيانا ، وَالظَّنُّ بِعُلُوِّ مَقامِهِ فيهِ إيقانا [٤٠] .
تذكرة الخواصّ : كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَنطِقُ بِكَلامٍ قَد حُفَّ بِالعِصمَةِ ، ويَتَكَلَّمُ بِمِيزانِ الحِكمَةِ ، كَلامٌ ألقَى اللّه ُ عَلَيهِ المَهابَةَ ، فَكُلُّ مَن طَرَقَ سَمعَهُ راعَه فَهابَهُ ، وقَد جَمَعَ اللّه ُ لَهُ بَين الحَلاوَةِ وَالمَلاحَةِ ، وَالطَّلاوَةِ وَالفَصاحَةِ ، لَم يَسقُط مِنهُ كَلِمَةٌ ، ولا بارَت لَهُ حُجَّةٌ ، أعجَزَ النّاطِقينَ ، وحازَ قَصَبَ السَّبقِ فِي السّابِقينَ ، ألفاظٌ يُشرِقُ عَلَيها نورُ النُّبُوَّةِ ، ويُحَيِّرُ الأَفهامَ وَالأَلبابَ   [٤١].

--------------------------------------------------------------------
[١] . نَشِبَ الشيء في الشيء نُشوبا : أي عَلِقَ فيه (الصحاح : ج١ ص٢٢٤) .
[٢] . في حديث قُسّ : «وروضة قد تهدّل أغصانها» أي تدلّت واسترخت لثقلها بالثمرة (النهاية : ج٥ ص٢٥١) .
[٣] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٣ ، بحار الأنوار : ج٧١ ص٢٩٢ .
[٤] . راجع : ص ٢٦٥ (خطبته الخالية من الألف) .
[٥] . راجع : ص ٢٦٨ (خطبته الخالية من النقط) .
[٦] . يونس : ٣٩ .
[٧] . محمّد : ٣٠.
[٨] . البقرة : ٢٤٧ .
[٩] . البقرة : ١٧٩ .
[١٠] . المناقب لابن شهر آشوب : ج٢ ص٤٨ .
[١١] . المواسي : جمع مُوسى الحديد ؛ وهو ما يحلق به (لسان العرب : ج١٥ ص٣٩١) .
[١٢] . تاريخ دمشق : ج٤٢ ص٤١٤ ، جواهر المطالب : ج١ ص٢٩٧ .
[١٣] . الإمامة والسياسة : ج١ ص١٣٤ ؛ شرح الأخبار : ج٢ ص٩٩ وفيه «ولو لم يكن للاُمّة إلّا لسان عليّ لكفاها» .
[١٤] . مروج الذهب : ج٢ ص٤٣١ .
[١٥] . بَذَّ القومَ يَبذُّهم بَذّا : سبقهم وغلبهم (لسان العرب : ج٣ ص٤٧٧) .
[١٦] . الكلم : الجرح (النهاية : ج٤ ص١٩٩) .
[١٧] . الحَذّ ، القطع المستأصل (لسان العرب : ج٣ ص ٤٨٢) .
[١٨] . نثر الدرّ : ج١ ص٤٠٧ .
[١٩] . نهج البلاغة : مقدّمة الشريف الرضي .
[٢٠] . نهج البلاغة : الحكمة ٨١ ، بحار الأنوار : ج١ ص١٨٢ ح٧٧.
[٢١] . ماء ناقع ونقيع : ناجع يقطع العطشَ ويُذهبه ويسكّنه (تاج العروس : ج١١ ص٤٨٨) .
[٢٢] . النطفة : الماء الصافي (لسان العرب : ج٩ ص٣٣٥) .
[٢٣] . نهج البلاغة : الخطبة ٢١ وراجع خصائص الأئمّة عليهم السلام : ص١١٢ .
[٢٤] . العنكبوت : ٤٣ .
[٢٥] . شرح نهج البلاغة : ج١ ص٢٤ .
[٢٦] . شرح نهج البلاغة : ج١٦ ص١٤٥ .
[٢٧] . شرح نهج البلاغة : ج٦ ص٢٧٧ .
[٢٨] . شرح نهج البلاغة : ج٦ ص٤٢٥ .
[٢٩] . المَرْخ: من شجر النار ، سريع الوَرْي ، والعَفار : شجر يُتّخذ منه الزناد (تاج العروس : ج٤ ص٣١١ و ج٧ ص٢٤٣) . قال الميداني : استمجد المرخُ والعَفار : أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما يُضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض (مجمع الأمثال : ج٢ ص٤٤٥) .
[٣٠] . شرح نهج البلاغة : ج٧ ص٢٠٢ .
[٣١] . صدره : «تُزجي أغنَّ كأنّ إبرة روقة» (الأمالي للسيّد المرتضى : ج٤ ص٣٧) .
[٣٢] . وَجَبَ القلبُ وَجباً ووجِيباً : خَفَق واضطرَبَ (لسان العرب : ج١ ص٧٩٤) .
[٣٣] . شرح نهج البلاغة : ج١١ ص١٥٢ .
[٣٤] . البيان والتبيين : ج١ ص٨٣ .
[٣٥] . الرَّيع : الزيادة والنماء على الأصل (النهاية : ج٢ ص٢٨٩) .
[٣٦] . رسائل الجاحظ : ج٣ ص٢٩ .
[٣٧] . إذا التفتنا إلى نقطتين نستطيع حينئذٍ أن نتحسّس جمال هذا الكلام : أوّلاً : إنّه كلام مكتوب . ثانيا : إنّه لم يكن منقّطا ؛ إذ أنّ التنقيط اُحدث فيما بعد .
[٣٨] . المناقب لابن شهر آشوب : ج٢ ص٤٨ ، بحار الأنوار : ج٤٠ ص١٦٤ ؛ مطالب السؤول : ص٦١ وفيه «نفعا» بدل «تهدى بهذا . . .» .
[٣٩] . المناقب لابن شهر آشوب : ج٢ ص٤٧ ، بحار الأنوار : ج٤٠ ص١٦٢ ؛ البيان والتبيين : ج١ ص٣٥٣ وفيه «وكان عليّ أخطبهم» فقط .
[٤٠] . مطالب السؤول : ص٢٩ .
[٤١] . تذكرة الخواصّ : ص١١٩ .
****************************