معرفة الزمان وأهله
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه" . (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٥، ص ٨٠).
أهمّيّة الزمن
يقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالزمان، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾﴾ [١]. ﴿وَالضُّحَى﴾ [٢]. وفي قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَر﴾ [٣].
وما تلك الأقسام بالزمان إلّا للإشارة إلى أهميَّة الزمان. والزمان مؤلّف من ماض وحاضر ومستقبل، ومن الضروريّ للإنسان أن يعرف الماضي أي التاريخ الذي مضى على الناس أفراداً وجماعات؛ ليعتبر ويتّعظ، فيأخذ بحسنات الماضي ويترك سيئاته وضلاله وهفواته. يقول الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته للإمام الحسن عليه السلام: " أي بُنيّ إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم. بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله وتوخّيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر..." [٤].
معرفة الحاضر والمستقبل
ومن المهمّ للإنسان أيضاً أن يعرف حاضره أي عصره وزمانه الذي يعيش فيه، فلكلّ عصر أهله وخصائصه وضروراته ومتطلّباته وأولويّاته، وهي تنطلق من المتغيرات الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية الطارئة على مفاصل الحياة. فالمؤمن الواعي هو الذي يفهم أهل عصره وضروراته ومتطلّباته، ويدرك المشاكل والأولويّات..
أمّا أولئك الذين لا يدركون هذه المسائل، أو لا يتفاعلون معها بسبب عدم انتمائهم إلى عصرهم، فهم الهامشيون المنعزلون الذين يحسبون أنّهم يعيشون في صحراء منعزلة فلا يقدرون على التأثير ولا على المعالجة، بل يقفون دوماً متأسّفين ومتحسّرين وشاكين ومشتبهين ومستسلمين.
وهذا ما أشار إليه أمير كلّ زمان الإمام عليّ عليه السلام: "حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه" وعنه عليه السلام: "أعرف الناس بالزمان، من لم يتعجّب من أحداثه" [٥] ، وعنه عليه السلام: "مَن أمنَ الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه" [٦].
وفي وصية أمير المؤمنين للحسن صلوات الله عليهما "يا بُنيّ إنّه لا بدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه، فليحفظ لسانه، وليعرف أهل زمانه" [٧] .
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس" [٨]. واللوابس تعني الشبهات.
ومعرفة العصر الحاضر تفيد في قراءة المستقبل وفي صناعته، فإنّنا بصناعتنا للحاضر نصنع مستقبل أولادنا وأحفادنا.
من أسباب ضياع فلسطين أنّ أهل ذلك العصر لم يقرأوا حاضرهم بشكل صحيح، لذلك لم يصنعوا مستقبل أولادهم وأحفادهم بشكل صحيح.
فعلينا أن لا نضع الحقّ على الزمان في فشلنا وتراجعنا وانهزامنا فـ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم﴾ [٩].
عن الريّان بن الصلت: أنشدني الرضا عليه السلام لعبد المطّلب :
يعيب الناس كلّهم زمانا ***** وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا ***** ولو نطق الزمان بنا هجانا
وإنّ الذئب يترك لحم ذئب ***** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لبسنا للخداع مسوك طيب ***** وويل للغريب إذا أتانا [١٠]
علم الأنبياء والأئمّة بزمانهم
كان الأنبياء جميعهم يدركون متطلّبات عصورهم، فيقودون مجتمعاتهم على أساسه. وإن نسخ الأديان الماضية من قبل الأنبياء من أولي العزم أفضل دليل على إثبات دور الزمان في القيادة، حسب رؤية الأديان السماوية كلها.
إنّ معرفة العصر في الحقيقة أحد العناصر الأصلية للوعي السياسيّ والاجتماعيّ. وكلّما ازدادت معرفة القائد بشعبه وأدرك مطالبه وحاجاته المادية والمعنوية بنحو أدقّ وأحاط بنقاط قوّته وضعفه كان أنجح. ولا جرم أنّ الأنبياء عليهم السلام جميعاً كانوا يتّسمون بهذه الصفة.
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما كلّم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم العباد بكنه عقله قطّ. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم" [١١].
وتدلّ دراسة سيرة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم - من منظار معرفته بزمانه وإدراكه لمتطلّبات عصره - على أنّه نموذج بارز للقائد العارف بزمانه، يتلوه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والأئمّة من بعده.
وفي عصرنا الحاضر الوليّ الفقيه هو من يتولّى قيادة الأمّة فهو العارف بزمانه فلذلك لا تهجم عليه اللوابس، فينبغي لنا إطاعته ففي طاعته هدي من الضلال وأمان من الفتنة ومن كيد الأعداء.
.... يقول الإمام الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه في دور معرفة الزمان في هداية الناس وقيادتهم، وفي ضرورة الاطّلاع على متطلّبات العصر بوصفه شرطاً للاجتهاد:" الزمان والمكان عنصران حاسمان في الاجتهاد. والمسألة التي كان لها حكم في الماضي ربّما يكون لها حكم جديد في العلاقات التي تحكم الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنظام من الأنظمة. أي: إن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تجعل الموضوع الأوّل الذي لم يختلف عمّا كان عليه في الماضي من حيث الظاهر موضوعاً جديداً يتطلّب حكماً جديداً لا محالة.
وينبغي للمجتهد أن يلمّ بقضايا عصره. ولا يستسيغ الناس والشباب بل حتّى العوامّ أن يقول المرجع والمجتهد: لا رأي لي في القضايا السياسية، فالاطّلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد العالميّ، ومعرفة ضروب السياسة والسياسيين ومعادلاتهم المفروضة، وإدراك الموقع الذي يحتلّه النظام الرأسماليّ والشيوعيّ في العالم، والتعرّف على نقاط قوّتهما وضعفهما إذ هما اللذان يحدّدان استراتيجية التسلّط على العالم، كلّ ذلك من صفات المجتهد الجامع" [١٢].
من أسباب نجاح غير المؤمنين
إنّ هناك أسباباً لتقدّم ونجاح وانتصار بعض الكفّار والفاسقين في الحياة الدنيا، وتأخّر بعض المؤمنين، ومن هذه الأسباب أنّ الطائفة الأولى رغم خلوّهم من عنصر الإيمان يتحلّون - أحياناً - ببعض نقاط القوّة الّتي يحقّقون في ظلّها ما يحقّقون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخّرهم وانحطاطهم. فنحن نعرف أشخاصاً - رغم انقطاعهم عن الله - يتّسمون بالجديّة الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالاستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلّباته، ومقتضياته ومستجدّاته، ومن الطبيعيّ أن يحقّق هؤلاء مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر - في الحقيقة - إلّا مطبقين لتعاليم الدين وبرامجه من دون إسنادها إلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.
وفي المقابل، هناك أشخاص متديّنون أوفياء للعقائد الدينية، لكنّهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإحجام، ويفتقرون إلى الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتّحاد والتعاون، وقراءة العصر والواقع، وطبيعيّ أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة. ولكنّ هذه الهزائم والإخفاقات ليست أبداً بسبب إيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإخفاق.
إنّهم يتصوّرون (وبالأحرى يظنّون) بأنّهم سيتنصرون بمجرّد إيمانهم بالله وانتسابهم إلى الدين في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدّم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة. إنّ لكلّ شيء سبباً، ولكلّ نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصة، وقد أتى الدين بكلّ ذلك، وبيّنه في تعاليمه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقّق نجاح بغير هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل، ومن هذه التعاليم المهمّة المعرفة بالزمان.
فالنجاح في الحياة والانتصار يقتضيان الوعي ولا يكفي الإيمان الساذج البسيط.
لا تسألوا فوق الكفاف
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"الْحَمْدُ لِلهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَلَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَلَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ.وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَلِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرَاءُ وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ وَلَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَلَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغ". (نهج البلاغة، الخطبة ٤٥) .
معنى القناعة
الرضا بالكفاف يعني القناعة "والقناعة... الرضا بالقسم... وفي الحديث: "القناعة كنز لا يفنى"؛ لأنّ الإنفاق منها لا ينقطع، كلّما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضي. وفي الحديث: "عزّ من قنع وذلّ من طمع، لأنّ القانع لا يذلّه الطلب فلا يزال عزيزاً... وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع..." [١٣].
فالقناعة لغة هي الرضا بالقسم، وهو يلتقي مع معناها في المرتكزات الشرعية حيث تعني القناعة: أن يقنع الإنسان بما قسم الله له من الأمور الدنيوية، بمعنى أنّ الإنسان إذا كانت طاقته لا تتحمَّل أن يتقدّم مادياً، وظروفه لا تساعده، فعليه أن يقنع بما هو عليه من المستوى الماليّ، إلى أن يفتح الله عليه باباً من أبوابه الحلال. وهذا لا يعني أن لا يسعى الإنسان إلى تحسين حاله المادّيّ إن استطاع عن طريق الكسب الحلال.
ولا تعمُّ القناعة الأمور المعنوية، فالإسلام دعا المسلمين إلى التزوّد والتنافس في الأمور المعنوية، كالعلم والإيمان والتقوى والخصال الأخلاقية الحميدة.
قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾ [١٤].
وقال سبحانه: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [١٥].
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متنافسين، فتنافسوا في الخصال الرغيبة" [١٦].
المجتمع الغربيّ والحرص
وإذا أردنا أن نعرف أهميّة صفة القناعة، فما علينا إلّا أن ننظر إلى المجتمعات المادية، كالمجتمعات الغربية (أوروبا وأمريكا)، فإنّ هذه المجتمعات لا قناعة فيها، وقيمها قيم مادية، يتنافس الناس في هذه البلاد على جمع الأموال وتحصيل المناصب، ويتكالبون على الدنيا نهماً وشراسة، لذلك وقع هذا المجتمع في أمراض روحية ونفسية وسلوكية خطيرة.
وإليكم تقرير يشهد لما نقول: ففي إحصاء صدر في الولايات المتحدة الأميركية "أنّ أكثر من ٦% من السكّان يعانون نوعاً من سوء التوافق (أي تعب نفسيّ)، وأنّ واحداً من كلّ عشرة من السكّان يحتاج إلى معونة الطبيب النفسيّ إن عاجلاً أو آجلاً، وأنّ واحداً من كلّ ثمانية عشر شخصاً ينفق بعض الوقت في مشفى عقليّ، وأنّ عدد من يدخلون في المشافي في كلّ عامّ يساوي عدد من يتخرّجون من الجامعات، وأنّ المصابين بأمراض عقلية أي جنون يشغلون من أسرّة المشافي أكثر مما يشغله جميع المرضى بكافّة الأمراض الأخرى، وأنّ نصف من يتردّدون على أطبّاء لعلل جسمية يعانون في الواقع من اضطرابات نفسية" [١٧].
فمن هذا التقرير نشهد مدى ما يعانيه المجتمع الغربيّ من متاعب نفسية وأمراض نفسية، وما ذلك إلّا لأنّهم يحبّون المال حبّاً جمّاً ويحرصون على جمعه والاستزادة منه، تاركين التنافس على المعنويات.
فالمجتمع الغربيّ لا يعيش الحياة الطيّبة التي تسبّبها القناعة. سُئل الإمام عليّ عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة﴾ [١٨] ، قال: "هي القناعة" [١٩] .
فمن الأمور المهمّة في طمأنينة الروح، وسعادة الحياة، وطيب العيش، وراحة البال، القناعة الّتي هي كنز لا ينفد.
آفات الحرص
ولعدم القناعة على مستوى الفرد (والتي تنسحب على المجتمع) آفات كثيرة منها:
١- الغمُّ في الدنيا: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّاً" [٢٠] .
٢ - الحسد: فإنّ من لا يقنع بما رزُق، فمن المحتمل أن يقع في آفّة الحسد. والوقاية من آفّة الحسد والطمع سكينة وعافية، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "صحّة الجسد من قلّة الحسد" [٢١].
أمّا الطمع فصاحبه طول حياته هائم وحائر، كيف يجمع ويدَّخر.
٣ - الوقوع في الشّرّ: فغير القانع ربَّما يسلك مسالك منحرفة لكي يحصل على الأموال، فربّما يسرق أو يغصب أو يقتل، يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "خير المؤمنين القانع، وشرّهم الطامع" [٢٢].
٤- فساد النفس: يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أعون شيء على صلاح النفس القناعة" [٢٣] ، فالحرص لا يساعد على صلاح النفس.
٥- ذلّة النفس: في الحديث: "ثمرة القناعة العزّ" [٢٤] فمن لا يقنع يذلّ نفسه.
إلى كثير من الآفّات التي تشكّل خطورة كبيرة على حياة الإنسان الدنيوية ومصيره في الآخرة.
علاج الحرص والطمع (عدم القناعة)
١ - أن تعرف مضارّ عدم القناعة، وتأخذ العبرة من المجتمعات والأشخاص المبتلين بعدم القناعة.
٢ - أن لا تطلب فوق طاقتك، وفوق ظروفك، بمعنى أن ترضى بما قسم الله لك، وبما أعطاك من طاقة، وهيّأ لك من ظروف.
٣ - أن يكون اهتمامك في المعنويات، وتنافسك في معالي الأخلاق، لا في اكتساب الأموال.
٤ - أن تأخذ بنصيحة الإمام الصادق عليه السلام: "أنظر إلى من هو دونك في المقدرة ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك" [٢٥] .
ونصيحة أخرى للإمام الصادق عليه السلام، فقد جاءه شخص يشكو إليه عدم القناعة فقال له: "إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكلّ ما فيها لا يغنيك" [٢٦].
٥ - أن تعرف أنّ الله يوم القيامة لا ينظر إلى الأموال بل ينظر إلى الأعمال الخالصة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [٢٧] .
عن النبيّ الأكرم: "اقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب" [٢٨].
خاتمة
إذا أردتم راحة الدنيا قبل الآخرة، وسعادة الأولى قبل الآخرة، فما عليكم إلّا بالتمسُّك بصفة القناعة في المادّيات.
وإن كنتم لا تقنعون، فلتكن عدم قناعتكم في المعنويات، فلتتنافسوا فيها، لتعمر نفوسكم وعقولكم بالغنى، فإنّ الغنى الحقيقيّ هو غنى المعنويات، لا غنى المادّيات.
عن نوف البكاليّ قال: "بتّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلام فكان يصلّي الليل كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن، قال: فمرّ بي بعد هدوء من الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين، قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك الذين اتّخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً، على منهاج عيسى ابن مريم عليه السلام..." [٢٩].
وقال عليه السلام: "طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله" [٣٠].
معرفة القرآن الكريم
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا ـ إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ ـ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ....". (نهج البلاغة، الخطبة ١) .
فضل القرآن وعظمته
لقد أرسل الله تعالى الأنبياء لهداية البشرية إلى سواء السبيل، وأنزل على بعضهم كتباً لتكون منارات يستهدي بها الناس، ولكن للأسف حرّف الناس كتب الله تعالى كما في التوراة والإنجيل، وبذلك انحرفوا عن الصراط المستقيم ووقعوا في ضلال مبين.
إلى أن أرسل الله تعالى نبيّه الكريم محمّداً صلى الله عليه واله وسلم ليرجع الناس إلى طريق الله، ويزيلهم عن الانحراف، وينير لهم الطريق، فأنزل على قلبه الكتاب الكريم القرآن المجيد وحفظه تعالى من التحريف:﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [٣١].
فكان الهادي والمبين والموعظة والمنير لطريق السالكين إلى الله تعالى،فهو الكتاب السماويّ الوحيد الذي لم تمسّه يد التحريف. يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [٣٢].
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [٣٣] .
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين﴾ [٣٤].
وحسب القرآن عظمة وكفاه منزلة وفخراً وفضلاً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم وفي جميع أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل.
هو كلام الله و"فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" [٣٥].
هو وصيّة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الأولى والثقل الأكبر الذي خلّفه قائلاً: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض" [٣٦] .
يصف الإمام عليّ عليه السلام كتاب الله ويبيّن منزلته حين يقول: "ثمّ أنزل عليه الكتابَ نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، وسراجاً لا يخبو توقُّدُه، وبحراً لا يدركُ قعرُه، ومنهاجاً لا يُضِلّ نهجُه، وشعاعاً لا يُظِلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمدُ بُرهانُه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعزاً لا تُهزَم أنصارُه، وحقّاً لا تُخذَلُ أعوانُه.
فهو معدِن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحرٌ لا ينَزْفَه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجَها المسافرون، وأعلامٌ لا يعمى عنها السائرون، وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون.
جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولّاه، وسلماً لمن دخله، وهدىً لمن ائتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسّم، وجُنّة لمن استلأم، وعِلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى" [٣٧].
اعتراف المفكّرين بعظمة القرآن
وقد اعترف بعظمة القرآن وفضله المنصفون من الملل الأخرى، يقول ول ديورانت: "وقد ظلَّ (القرآن) أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرتهم (المسلمين)، يستثير خيالهم، ويشكِّل أخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس... أسهل العقائد، وأبعدها عن التقيّد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرّراً من الوثنية والكهنوتية. وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقيّ والثقافيّ، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعيّ والوحدة الاجتماعية، وحضّهم على اتّباع القواعد الصحية، وحرّر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسن أحوال الأرقّاء، وبعث في نفوس الأذلّاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين (إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين) درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أيّة بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض..." [٣٨].
هذه شهادة - من شهادات كثيرة - للقرآن الكريم من أحد الغربيين، وهو مؤرّخ كبير معروف، أليس في شهادته دلالة على فضل القرآن وعظمته؟
أليس في شهادته وشهادة أمثاله، دلالة على مدى تأثير القرآن وفاعليته وهدايته للبشرية؟
العمل بالقرآن
ولأجل ما يحمل القرآن الكريم من فضل وعظمة وأهميّة كان وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: "فالله الله أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه.. وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتّى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضي لنفسه، وأنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال ومكارهه، ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد" [٣٩].
والوصية بالقرآن تعني العمل به وإلّا ما فائدة أن نقرأ القرآن لقلقة لسان، كما أنّه لا فائدة لوصفة الطبيب دون أن نعمل بها.
ومن هنا يوصي الإمام عليّ عليه السلام بالعمل بالقرآن: "والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم" [٤٠].
فهل نستفيد من القرآن الكريم إن زيّنّاه وألبسناه ذهباً وعلّقناه في المنزل؟!
هل نعطي للقرآن حقّه إن نسيناه في زوايا البيوت وعلاه الغبار؟!
هل إن تعلّمنا رسوم التجويد وحسّنّا أصواتنا في ترتيله، هل بهذا نؤدّي حقّه؟! نعم إنّ ذلك مطلوب وجيّد ولكن ليس هو الهدف والمبتغى وما لأجله نزل القرآن الكريم.
هل نستفيد من القرآن المجيد إن تلوناه على الأموات وكان مقروءاً في مناسبات الموت أمّا في مناسبات الحياة فنحن ناسونه ومعرضون عنه؟!
هل إنْ طبعنا عدداً كبيراً من القرآن المجيد ووزّعناه في مناسبات الموت ثمّ ألقينا به على الرفوف ليعلوه الغبار، هل نكون قد أدّينا واجبنا؟!
القرآن الكريم جاء للحياة لنحيا به، جاء ليسلك طريقه في الحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل مجالات الحياة.
الإمام عليّ عليه السلام يحذّرنا
لقد حذّرنا الإمام عليّ عليه السلام من الإعراض عن العمل بالقرآن وأن لا يبلغ ألسنتنا وبذلك ندخل النار: "ومن قرأ القرآن فمات، فدخل النّار، فهو ممّن كان يتّخذ آيات الله هزواً" [٤١].
ولقد نبّه الإمام عليه السلام إلى أنّه سيبتعد الناس عن القرآن فقال: "يأتي على النّاس زمان، لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه، ومن الإسلام إلاّ اسمه" [٤٢].
اللهمّ إنّا نعوذ بك من أن ندخل النار ونحن نقرأ القرآن.
اللهمّ أعنّا على تلاوة القرآن والعمل به.
اللهمّ أعنّا على تعليم أولادنا القرآن الكريم فـ "حقّ الولد على الوالد: أن يحسّن اسمه، و يحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن" [٤٣] .
اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات المتّقين فقد قال عليه السلام يصف المتّقين: "أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً. يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم" [٤٤].
اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات الزاهدين فقد قال عليه السلام في صفة الزاهدين: "أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطاً، و ترابها فراشاً، و ماءها طيباً، و القرآن شعاراً [٤٥] , والدّعاء دثاراً" [٤٦].
محبّة أهل البيت عليهم السلام
من خطبة له عليه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.
فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان". (نهج البلاغة، الخطبة ١٢ ).
تمهيد
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور﴾ [٤٧].
أجمع أهل البيت وأولياؤهم على أنّ المقصود في (القربى) هنا إنّما هم: عليّ وفاطمة وأبناؤهما، والمعنى: قل لا أسألكم على أداء الرسالة أجراً إلا أن تودّوا قرابتي وتحفظوني فيهم. وهذا في الحقيقة ليس أجراً له صلى الله عليه واله وسلم، لأنّ قرابته حجج الله البالغة على الخلق، ونعمه السابغة لديهم، فمودّتهم لازمة للخلق، ونفعها عائد عليهم، كما قال في سورة سبأ - وهو أصدق القائلين-: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [٤٨] ، يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرَض الدنيا ليتّهمني المنافقون، وما طلبت منكم أجراً من مودّة قرابتي فإنّما هو لكم.
وقد روى الزمخشريّ وهو من أعلام المفسّرين السنّة، قال: "أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه (النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وتلاها عليهم)" إلى أن قال (أي الزمخشري): "والظاهر العموم في أيّ حسنة كانت إلا أنّها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّليّاً كأنّ سائر الحسنات لها توابع" [٤٩] .
وروى ابن حجر الهيثميّ وغيره: عن ابن عبّاس قال: لما نزلت ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: "عليّ وفاطمة وابناهما" [٥٠].
وفي الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بلغة للباحث وهداية للطالب وقد ذكره أعلام المسلمين في كتبهم، إذ يقول صلى الله عليه واله وسلم : "من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له.... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله..." [٥١].
وبعد هذا كلّه يتبيّن لنا أنّ محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم الخالصة هي سبيل النجاة، وسبب الفلاح، ومنطلق الوصول إلى ساحة رضا الله تعالى، وبدونها لا يقبل العمل إذ إنّ سائر الحسنات لها توابع.
ولنعم ما قيل:
إذا أنا لم أهوَ النبيّ وآله ***** فمن غيرهم لي في القيامة يشفع
فلا دين إلا حبّ آل محمّد ***** ولا شيء في يوم القيامة أنفع
لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحبّتهم عليهم السلام؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال يظهر ممّا روي عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام حيث روى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن محمّد عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري أنّ العالم كتب إليه يعني الحسن بن عليّ العسكريّ: "إنّ الله تعالى بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليها بل رحمة منه إليكم -لا إله إلا هو- ليميز الخبيث من الطيّب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته ففوّض عليكم الحجّ والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرايض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمّد صلى الله عليه واله وسلم والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرايض، وهل تدخل قرية إلا من بابها؟!
فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم صلى الله عليه واله وسلم قال الله عزّ وجلّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فاعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء إليه لا إله إلّا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون [٥٢] والعاقبة للمتّقين والحمد لله ربّ العالمين" [٥٣].
فمحبّة أهل البيت عليهم السلام واتّباعهم هي امتحان للمؤمنين برسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم بها يميّز الله سبحانه الخبيث من الطيب ويرفع الدرجات ويجعل البركة في الدنيا والآخرة.
ولنعم ما قال الفرزدق:
هم معشر حبّهم دين وبغضهم ***** كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم ***** ويستربّ به الإحسان والنعم
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ***** في كلّ برّ ومختوم به الكلِم
كيف تكون المحبّة؟
إنّ المحبّ صنفان فصنف أحبّ بقلبه ولم يظهر ذلك الحبّ بعمله وصنف أحبّ بقلبه وأيّد ذلك بعمله، فأيّ الصنفين يُقصد من محبّة أهل البيت عليهم السلام؟
نجد الجواب عن هذا السؤال أيضاً في كلام إمامنا الباقر عليه السلام حيث قال لجابر بن عبد الله الأنصاريّ:" يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه؛ وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.
قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال عليه السلام: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلى الله عليه واله وسلم خير من عليّ عليه السلام ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع" [٥٤].
إنّ كثيراً من الروايات جاءت دالة على نفس هذا المعنى وفيه تحذير واضح لكلّ من ادّعى محبّة وودّ وولاية أهل البيت ولم يعمل بعملهم، فالأمر الإلهيّ بمودّتهم عليهم السلام لا عن عبث بل المراد منه أنّهم وصلوا إلى هذه الدرجة بطاعتهم لله فكلّ عمل يقدمون عليه لا يمكن أن تشوبه شائبة المعصية، وإلّا فكيف يأمر الله تعالى بمودّة العصاة ومحبّتهم، إنّه سبحانه يأمر بمودّة المطيعين، لأنّ محبّتهم من محبّة عملهم، فإن كنت من أهل هذا الحبّ فعليك بالعمل الموافق له، وإلّا تكون كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام في وصفه لأهل الكوفة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".
الاقتداءُ بالإمام عليّ عليه السلام في جميع الأبعاد
وفي هذا يقول الإمام الخمينيّ : "نُقِل عن أمير المؤمنين عليه السلام شغله بعامَّة المسلمين وفكره بالجائعين، فكان يُعاني شظفَ العَيْش وشدّة الجوع خشية أن يكون أحد في الثغور الإسلاميّة من هو أكثر جوعاً منه.
ذلك أميرُنا، هو سيِّدنا، إمامُنا، وما أكثر ما نقول عنه: إمامُنا، ولا نقتدي به!
فليس لنا اقتداء في الأعمال، أهذا هو معنى (الإمام)؟! في حين أنّ معنى الإمام والشيعة هو أن يتقدّمَهم، ويقتفوا أثره(فلو كان هناك جنازة فيها نعش ومن يريد تشييع صاحب النعش يمشي في طريق غير طريقه أكان يسمّى مشيّعاً؟!).
هكذا يجب أن يكون الشيعة؛ أن يتّبعوا علياً- عليه السلام -(في أعماله وأفعاله) ولا قدرة لنا طبعاً أن نكون مثلَه( يعني أن نصل إلى مقامه ومنزلته). لا أحد يمتلك هذه القدرة، لكن(بالإمكان أن) نتّبعه في الزهد والتقوى والانتصار للمظلومين ومساعدة الفقراء" [٥٥].
ومن خطبة للإمام عليّ عليه السلام: "ألا وإنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه (الثوب الخلق)، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد" [٥٦].
أهوى أخيك معنا؟
فمن كان يمتلك هذه الخصائص ولديه هذا الحبّ فهو ممّن ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في معركة الجمل إذ سأله بعض أصحابه فقال: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.
فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: "فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان" [٥٧].
إنّ الجواب من الإمام عليه السلام فيه أمل المحبّ ومنية المريد إذ معناه أنّ من كان يحبّنا ويميل بقلبه إلينا فهو معنا ومشارك فيما صنعنا وشريك في أجرنا حتّى إن لم يكن معنا في مكاننا وزماننا.
ونحن نلاحظ تأكيد الإمام عليه السلام على الهوى، فإنّ من كان قلبه معه فهو مشارك في هذا المشهد، إذ لا فرق بين حاضر وغائب، ولا بين زمان ومكان، وقد أنبأ الإمام أنّه سيأتي رجال يرعف ويجود بهم الزمان بعد حين، تكون قلوبهم معنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، وهؤلاء كأنّما هم حاضرون معنا في معركتنا هذه...
فالهوى هنا هوى من لو أدرك أمير المؤمنين عليه السلام لكان معه في جنده وحارب بين يديه وبين يدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في معارك بدر وأحد وخيبر والأحزاب، بل كان ممّن نصر الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء ووقاه بنفسه الحتوف وحدّ السيوف.
نقول في زيارته عليه السلام: "لبّيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني فقد أجابك قلبي وشعري وبشري ورأيي وهواي" [٥٨].
--------------------------------------------------------------------------
[١] . العصر: ١ ـ ٢ ـ ٣.
[٢] . الضحى: ١.
[٣] . المدثر: ٣٤.
[٤] . نهج البلاغة، الخطبة ٣١.
[٥] . عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ١٢٦.
[٦] . م. ن، ص ٤٣١.
[٧] . بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج٦٨، ص ٢٨١.
[٨] . الكافي، الشيخ الكليني، ج ١، ص ٢٧.
[٩] . الرعد: ١١.
[١٠] . بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج ٤٩، ص ١١١.
[١١] . الكافي، الشيخ الكليني، ج ١، ص ٢٣.
[١٢] . صحيفة النور، ج٢١، ص ٩٨، نداء الإمام إلى علماء البلاد ومراجع المسلمين بتاريخ ١٥ رجب ١٤٠٩ ه.
[١٣] . لسان العرب، ابن منظور، ج٨، ص٢٩٨.
[١٤] . المطففين: ٢٦.
[١٥] . البقرة: ١٩٧.
[١٦] . ميزان الحكمة، الري شهري، مج٣، ص١٤٦، ح٥٠٤٢.
[١٧] . الصحة النفسية، د. مصطفى فهمي، ص٧.
[١٨] . النحل: ٩٧.
[١٩] . ميزان الحكمة، الري شهري، ح١٧١٢٤.
[٢٠] . جامع السعادات، الشيخ النراقي، ج٢، ص١٠٣.
[٢١] . فلسفة الأخلاق في الإسلام، الشيخ محمد جواد مغنية، ص٢٠٨.
[٢٢] . ميزان الحكمة، الري شهري، حديث ١٧١٤٢.
[٢٣] . م. ن، حديث ١٧١٦١.
[٢٤] . م. ن، حديث ١٧١٦٠.
[٢٥] . الكافي، الشيخ الكليني، ج٨، ص٢٤٤.
[٢٦] . الكافي، الشيخ الكليني، ج٢، ص١٣٩.
[٢٧] . الشعراء، الآيتان: ٨٨ ـ ٨٩.
[٢٨] . ميزان الحكمة، الريشهري، حديث ١٧١٦٨.
[٢٩] . بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج٦٦، ص٢٧٥.
[٣٠] . نهج البلاغة، الحكمة٤٤.
[٣١] . الحجر: ٩.
[٣٢] . الإسراء: ٩.
[٣٣] . إبراهيم: ١.
[٣٤] . آل عمران: ١٣٨.
[٣٥] . بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج ٦، ص ٨٩.
[٣٦] . الحديث متواتر رواه خمسة وثلاثون صحابياً (راجع مصادره في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الأول والثاني).
[٣٧] . نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨، بحبوحته: وسطه، وأثافيّ: جمع أُثفيّة، وهي ما يوضع عليه القِدْر، فالمراد أنه قواعد الإسلام وبنيانه. غيطانه: المستقر من الأرض. الماتحون: الذين ينزحون الماء من البئر أو العين.
لا يغيضها: لا ينضبها، غيض الماء: جفّ ونضب. معقلاً: ملجأ، ذروته: أعاليه. فلَجاً: الفلَج هو الظَفَر والغلبة، استلأم: لبس اللأمة أي الدرع، والجُنّة: الوقاية، فهو وقاء لمن أراد أن يدّرع ليقي نفسه الأخطار.
[٣٨] . قصة الحضارة، ول ديورانت، مج ١-٢، ج١، ص٤٨، دار الجيل.
[٣٩] . نهج البلاغة، الخطبة ٨٦.
[٤٠] . م. ن، الخطبة ٤٧.
[٤١] . نهج البلاغة، الحكمة ٢٢٨.
[٤٢] . م. ن، الحكمة ٣٦٩.
[٤٣] . م. ن، الحكمة ٣٩٩.
[٤٤] . نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.
[٤٥] . الشعار: ما يلي البدن من الثياب، أي يقرؤون القرآن سرّا للتفكر والاتّعاظ.
[٤٦] . نهج البلاغة، الحكمة ١٠٤.
[٤٧] . الشورى:٢٣.
[٤٨] . سبأ:٤٧.
[٤٩] . راجع الكشاف، الزمخشري، ج٣، شرح ص٤٦٨.
[٥٠] . مجمع الزوائد، الهيثمي، ج٧، ص١٠٣.
[٥١] . تفسير الرازي، ج٢٧، ص١٦٦.
[٥٢] . إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (سورة التوبة، الآية: ١٠٥).
[٥٣] . علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج١، ص٢٥٠.
[٥٤] . الكافي، الكليني، ج٢، ص٧٥.
[٥٥] . صحيفة نور، ج٨،ص١٩.
[٥٦] . نهج البلاغة، الخطبة ٤٥.
[٥٧] . م. ن، الخطبة ١٢.
[٥٨] . كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، ص٣٨٨.
يتبع .....