وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
وصايا الأمير عليه السلام – الثالث

الدرس الرابع : حال المؤمن في الدنيا
"إن ّما مثلُ منْ خبرٍ الدُّنْيا كمثل قوْمٍ سفْرٍ، نبا بهمْ منْزلٌ جديبٌ، فأمُّوا منْزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحْتملُوا وعْثاء الطّريق، وفراق الصّديق، وخُشُونة السّفر، وجُشُوبة الْمطْعم، ليأتُوا سعة دارهمْ، ومنْزل قرارهمْ، فليْس يجدُون لشيْءٍ منْ ذلك ألماً، ولا يروْن نفقةً مغْرماً، ولا شيْء أحبُّ إليْهمْ ممّا قرّبهُمْ منْ منْزلهمْ، وأدْناهُمْ منْ محلّهمْ. ومثلُ من اغْترّ بها كمثل قوْمٍ كانُوا بمنْزلٍ خصيبٍ، فنبا بهمْ إلى منْزلٍ جديب، فليْس شيْءٌ أكْره إليْهمْ ولا أفْظع عنْدهُمْ منْ مُفارقة ما كانُوا فيه، إلى ما يهْجُمُون عليْه، ويصيرُون إليْه".

تمهيد
يصف الإمام عليه السلام في وصيته هذه لولده حال الإنسان المؤمن وحال الإنسان الكافر في هذه الدنيا وكيف يعيش كل منهما.
حال المؤمن
- "قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً"
المؤمن في هذه الدنيا والذي يكون همه الآخرة، هو كالمسافر الذي أراد السفر من أرض قاحلة جدباء لا نبات فيها ولا ثمر ـ كناية عن الدنيا ـ إلى أرض مثمرة وخصبة ـ كناية عن الآخرة ـ ويعاني المؤمنون في سفرهم هذا الصعاب ولكنهم يملكون القدرة على تحمل ذلك لأنهم يريدون الوصول إلى حيث النعم الوافرة.
وتشبيه حال الإنسان في هذه الدنيا بالمسافر، ورد في العديد من الروايات:
فعن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"  [١] .
وعن الإمام علي عليه السلام: "هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه تنزهوا عن الدنيا... ثم اقتص الصالحون آثارهم... وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لأحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ..." [٢].
ولذا يصف الإمام حال المؤمن بالتالي:
١- "احتملوا وعثاء الطريق"
الدنيا محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وهذه المخاطر ليست هي خصوص المخاطر المادية أو الابتلاءات الجسدية، بل من أعظم هذه المخاطر هو الاغترار بهذه الدنيا، فهي تزين نفسها للناس، وتدعوهم إليها، وترغبهم بها، وأشدهم مقاومة لها هو الذي ينتصر عليها، وأعظم تشبيه ورد في وصف صعوبة هذه الدنيا، هو وصفها بالسجن، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه".
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله"  [٣].
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار"  [٤].
٢- وفراق الصديق.
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل"  [٥] .
المؤمن في هذه الدنيا غريب، لا يرى صديقا يسير معه في هذا الطريق لأنه طريق معاناة ومشقة. وعدم وجود رفيق لهذا الإنسان في سفره هذا يزيد من مشقته ويجعله يعاني المزيد من الصعاب، ولكنه مع ذلك يصبر في سبيل الوصول إلى الآخرة والمستقر الأبدي.
٣- وخشونة السفر
إذا علم المؤمن أن هذه الدنيا هي دار ممر وأنه في سفر، علم أنه لا قرار له فيها، وتحمل ما فيها من خشونة وصعاب، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك في أصحاب القبور" [٦] .
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن الدنيا دار خبال ووبال، وزوال وانتقال، لا تساوي لذاتها تنغيصها، ولا تفي سعودها بنحوسها، ولا يقوم صعودها بهبوطها" [٧] .
٤ـ "وجشوبة المطعم"
الطعام الجشب هو الطعام الغليظ الذي لا تميل إليه النفس ولا ترغب به. والمؤمن وإن كان يستفيد من هذه الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، ولكن هذه الأمور ما دامت ليست هدفاً له، فإنها لا تحتل الأولوية أمام أهدافه الحقيقية، وبالتالي فهو يصبر على تركها إذا وقفت عائقاً أمامه لتحصيل رضا الله تعالى.
وكثرة الطعام توقع صاحبها في الابتعاد عن الله عز وجل، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة"  [٨].
إن الطعام متى كان من الملاذ تناول الإنسان منه ما يزيد عن حاجته فابتلي بكثرة الأكل، وأما لو كان الطعام من غير ما تميل إليه النفس وتلتذ به فإنه سوف يكتفي منه بقدر الحاجة، ومن الروايات المحذرة من كثرة الطعام، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن ومورثة للسقم ومكسلة عن العبادة" [٩] .
٥ـ رضا النفس عند المؤمن
ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألما ولا يرون نفقة فيه مغرما ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم.
بعد أن أوضح الإمام عليه السلام حال المؤمن في هذه الحياة الدنيا، أراد بيان حالة الرضا عند المؤمن بما هو عليه، فالمؤمن لا يتحمل كل هذه الصعاب والمشقات وهو مكره عليها، بل يؤديها وهو شاكر لله عز وجل وراض بما يقوم به، لأنه لا يشعر بالألم ولا بالخسارة في فعل كل ما يقربه إلى مقصوده الأساسي، ألا وهو رضا الله عز وجل، والفوز بالجنة. بل إن هذه المصاعب والمشقات أحب إليه من الرخاء والهناء إذا كانت من أسباب القرب إلى نيل مراده. ولذا يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بقوله: "صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها"  [١٠] .

حال الكافر المغتّر بهذه الدنيا
"ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب"
إنها صورة معاكسة لحال المؤمن، فالدنيا هي جنة الكافر، فهو يرى نفسه في سفر ولكنه في سفر من النعيم إلى الجحيم. وهذا ما يفسره لنا كراهة الموت لدى هذا الإنسان، فمن لم يضع نصب عينيه سوى هذه الدنيا فإنه سوف يرى في فنائها فناءه، وفي زواله نهاية كل شيء لديه، وعن لإمام الحسن عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد" [١١] .
إنهم ولشده حبهم لهذه الدنيا يصعب عليهم فراقها، بل هو من أصعب ما يعانون منه، ولذا وصفهم الإمام عليه السلام بقوله: "فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه".
وعن الإمام زين العابدين في وصف حال الموت وفراق الدنيا للمؤمن وللكافر يقول عليه السلام: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب" [١٢] .

الدرس الخامس : قواعد التعامل مع الناس
"يا بُنيّ اجْعلْ نفْسك ميزاناً فيما بيْنك وبيْن غيْرك، فأحْببْ لغيْرك ما تُحبُّ لنفْسك، واكْرهْ لهُ ما تكْرهُ لها، ولا تظْلم كما لا تُحبُّ أنْ تُظْلم، وأحْسنْ كما تُحبُّ أنْ يُحْسن إليْك، واسْتقْبحْ منْ نفْسك ما تسْتقْبحُهُ منْ غيْرك، وارْض من النّاس بما ترْضاهُ لهُمْ منْ نفْسك، ولا تقُلْ ما لا تعْلمُ وإنْ قلّ ما تعْلمُ، ولا تقُلْ ما لا تُحبُّ أنْ يُقال لك. واعْلمْ، أنّ الْإعْجاب ضدُّ الصّواب، وآفة ُالْألْباب. فاسْع في كدْحك، ولا تكُنْ خازناً لغيْرك".
القاعدة العامة في المعاملة
اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك.
بهذه الكلمات المختصرة والموجزة يبيّن الإمام علي عليه السلام الطريقة الصحيحة في التعامل مع الناس، وهي طريقة العدل والإنصاف، بأن تجعل نفسك معيارا بينك وبين الآخرين.
وقد وردت العديد من الروايات في آداب التعامل مع الناس، وأفرد العلماء في كتب الحديث بابا خاصا تحت عنوان "آداب العشرة" بينوا فيه الطرق العامة لمعاشرة الناس وحسن المعاملة معهم بالنحو الذي يعكس فيه المؤمن التعاليم الصحيحة.
وقد قرن الله عز وجل الأمر بعبادته وتوحيده بالأمر بالإحسان إلى الناس سواء ما ارتبط بالوالدين أو بالأصحاب قال تعالى: "واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركُوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً وبذي الْقُرْبى والْيتامى والْمساكين والْجار ذي الْقُرْبى والْجار الْجُنُب والصّاحب بالْجنْب وابْن السّبيل وما ملكتْ أيْمانُكُمْ إنّ اللّه لا يُحبُّ منْ كان مُخْتالاً فخُوراً) [١٣] .

تطبيقات القاعدة
بعد أن ذكر الإمام عليه السلام هذه القاعدة العامة في العشرة، ذكر بعض التطبيقات لهذه القاعدة، والتي من خلال سلوكها يتمكن الإنسان من اتباع تعاليم الإسلام:
أ- أحبب لغيرك ما تحب لنفسك.
لكل إنسان طريقة خاصة في التعامل معه، فكما تحب أن يعاملك الآخرون عليك أن تلجأ إلى التعامل معهم. وهذا لا يختص بالأخ أو بالصديق بل يشمل الناس كافة، فأنت تحب من أخيك وصديقك أن يخلص لك في صداقته بأن يبذل لك كل ما تطلبه منه من مال أو خدمة، فعليك ان تبادله ذلك، بأن تبذل له ما يطلبه منك.
وأنت كذلك تحب من عدوك ومن قامت الخصومة بينك وبينه أن يعاملك بالعدل والإنصاف بأن لا يتجنّى عليك ولا يتهمك بهتانا مهما كانت عداوتك معه، فعليك ان تعامله بذلك، بأن تظهر عداوتك له في ظلمك به ولا تتعدى عن ذلك فتتهمه بما لم يفعله أو تتقول عليه بما لم يقله.
وأما سائر الناس فإن غاية ما تحبه منهم هو أن يقابلوك بوجه رحب وطليق، وان يبادروا إلى إلقاء التحية عليك، وإظهار الاحترام لك، فبادرهم بذلك، فرحّب بهم، وبادرهم بالتحية، وتعامل معهم باحترام.
وهذا ما ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ابذل لأخيك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وإحسانك"  [١٤] .
ب- اكره له ما تكره لها.
وكما هو الحال في الحب، كذلك الحال في الكره والبغض، فكل ما تكرهه لنفسك عليك ان تكرهه للآخرين. فإذا كنت تكره أن يتحدث عنك الآخرون بالسوء فعليك أن تتجنب الحديث عنهم بالسوء. وإذا كنت تكره أن يأخذ الآخرون حقا من حقوقك فعليك أن تحذر من الأخذ بحقوق الآخرين.
فالقاعدة التي تحكم علاقة الاخوان تتضمن نوعا من المبادلة، ولذا ورد في الرواية عن الإمام الهادي عليه السلام: "لا تطلب الصفا ممن كدرت عليه، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، فإنما قلب غيرك لك كقلبك له" [١٥] .
فغيرك ينظر إليك ويعاملك كما تعامله، فإن كنت تكره منه أمرا فلا تعامله به.
ج- لا تظلم كما لا تحب أن تظلم.
إن أكثر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان هو ما يكون فيه ظلم للغير. فليضع الإنسان نفسه مكان المظلوم ليجد كم أن الظلم صعب وعسير. وقد ورد التحذير من الظلم لا سيما وأنه يذهب بحسنات المؤمن ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه ليأتي العبد يوم القيامة وقد سرته حسناته، فيجئ الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار"  [١٦].
د- أحسن كما تحب أن يحسن إليك.
قال تعالى: "وابْتغ فيما آتاك اللّهُ الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك منْ الدُّنْيا وأحْسنْ كما أحْسن اللّهُ إليْك" [١٧] .
إذا تذكر الإنسان أن وجوده وما بين يديه من النعم هو من فضل الله وإحسانه إليه، علم أن عليه ان يبادر إلى الإحسان إلى الناس، وهذا ما تدل عليه الآية المباركة.
وعن الإمام علي عليه السلام: "أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وبسط بالقدرة يديه" [١٨].
هـ- استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك.
كثيرا ما ينظر الإنسان إلى بعض ما يصدر عن الغير بعين السخط، ويراه قبيحا، ولكن قبل أن يصدر حكمه على ذلك الغير فليرجع إلى نفسه، وليضع نفسه مكان ذلك الشخص، وفي الظروف التي يعيشها ذلك الشخص، ولينظر هل سيقوم بفعل ذلك الذي يراه قبيحا أو لا؟ المشكلة تكمن في إننا ننظر إلى ما يقوم به الآخرون بعين أنفسنا لا بعين غيرنا.
 

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ***** عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ***** فإذا انتهت منه فأنت حكيم

 

و ـ أرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك.
قد يرى الإنسان جفاء في تعامل بعض الناس معه، ولا يرضى منهم ذلك، فلينظر إلى نفسه، هل يعاملهم هو أيضا بجفاء، أو أنه يبادر إلى الإحسان إليهم.
ز- لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم.
"ولا تقْفُ ما ليْس لك به علْمٌ إنّ السّمْع والْبصر والْفُؤاد كُلُّ أُولئك كان عنْهُ مسْؤُولاً" [١٩].
إن أخطر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان هو أن يدّعي العلم فيقول ما لا يعرف، ويتحدث بما لا يعلم.
بل ورد التحذير في الروايات عن قول كل ما يعلم فكيف بقول ما لا يعلم؟
ففي الرواية: "لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فإن الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة" [٢٠] .
وإنما أوصى الإمام بهذه الوصية لأن الإنسان إذا قال ما لا يعلم فإنه سوف يوقع غيره فيما يكره ولا يحب. وذلك لأن غيره قد يعتمد على قوله عندما يقدم على أمر من الأمور، فإذا أخبره بما لا يعلم أوقعه في الضرر.

الدرس السادس : الله رؤوف بالعباد
قدْ أذن لك في الدُّعاء، وتكفّل لك بالْإجابة، أمرك أنْ تسْألهُ ليُعْطيك، وتسْترْحمهُ ليرْحمك، ولمْ يجْعلْ بيْنك وبيْنهُ منْ يحْجُبُك عنْهُ، ولمْ يُلْجئْك إلى منْ يشْفعُ لك إليْه، ولمْ يمْنعْك إنْ أسأْت من التّوْبة، ولمْ يُعاجلْك بالنّقْمة، ولمْ يُعيّرْك بالْإنابة، ولمْ يفْضحْك حيْثُ الْفضيحةُ بك أوْلى، ولمْ يُشدّدْ عليْك في قبُول الْإنابة، ولمْ يُناقشْك بالْجريمة.

تمهيد
من الأسماء الإلهية الحسنى التي تكرر وصف الله عز وجل بها هي صفة الرأفة والرحمة، كيف وقد قرن الله عز وجل اسمه بصفة الرحمن الرحيم في البسملة، وفي ابتداء كل سورة من سور القرآن الكريم.
ومظاهر الرحمة الإلهية ترافق هذا الإنسان منذ خلقته وإلى يوم القيامة، وهذه هي الرحمة التكوينية، والتي ترتبط بالنحو الذي خلقه الله عز وجل عليه، وبما وهبه من النعم المادية التي يتمكن من خلالها من الاستمرار في هذه الحياة والسير في الأرض.
ولكن الرحمة الإلهية لا تقتصر على ذلك، بل فتح باب الرحمة الخاصة، والتي ترتبط بالآخرة وما يقع فيه هذا الإنسان من تجاوز او معصية للأوامر الإلهية. وهنا يذكر الإمام علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن بعد مظاهر هذه الرحمة الخاصة.
- أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة
أبواب الله عز وجل مفتوحة للسائلين، يطلبون منه حوائج الدنيا والآخرة، وأما الإجابة فهي مضمونة لهم من الله عز وجل، وهذا ما ورد به القرآن الكريم فقال تعالى: "وقال ربُّكُمْ ادْعُوني أسْتجبْ لكُمْ" [٢١] .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملا واحدا، فيرى أحدهما صاحبه فوقه، فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحدا؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني" [٢٢]  .
- أمرك أن تسأله ليعطيك
الإمام الصادق عليه السلام: "ادع ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة" [٢٣].
إذا الكثير من النعم الإلهية، أو البلاءات لا ترتفع إلا من خلال الدعاء.
وعن الإمام علي عليه السلام: "اعلم أن الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه... ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه" [٢٤] .
- وتسترحمه ليرحمك.
الإنسان معرّض في هذه الحياة للإصابة بأنواع الابتلاءات، ومن هذه الابتلاءات ما لا يمكن للإنسان أن يدفعه عن نفسه من خلال التمسك بوسائل دنيوية ومادية، ولا يجد من سبيل للخلاص منه إلا من خلال الرجوع إلى الله عز وجل.
ورد في الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله، والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفة" [٢٥].
الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "هل تعرفون طول البلاء من قصره؟ قلنا: لا، قال: إذا الهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير"  [٢٦] .
وهذا الأمر لا يختص بالبلاء إذا نزل بل هو يشمل البلاء الذي لم ينزل على العبد بعد، ولذا ورد في الرواية: عن الإمام علي عليه السلام: "ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء، ما المبتلى الذي استدر به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء" [٢٧] .
- ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك.
"وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيبُ دعْوة الدّاع إذا دعان فلْيسْتجيبُواْ لي ولْيُؤْمنُواْ بي لعلّهُمْ يرْشُدُون"  [٢٨].
إن شرط إجابة الدعاء هو التوجه الخالص لله عز وجل، وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال اليأس عن أي سبب لقضاء الحاجة من الأسباب الدنيوية. وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه" [٢٩] .
- ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه.
وقد ورد في كلام للإمام عليه السلام في نهج البلاغة قوله: "فاستفتحوه واستنجحوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنكم دونه باب. وإنه لبكل مكان، وفى كل حين وأوان، ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه الحباء، ولا يستنفده سائل، ولا يستقصيه نائل".
فالشفاعة والواسطة إنما يحتاج إليها الإنسان إذا كان لا طريق له للإتصال المباشر بمن يريد ان يرفع حاجته إليه، وأما بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربّه فإنها علاقة مفتوحة ومباشرة. فلا باب ولا حاجب بين الإنسان وربه.
- ولم يمنعك إن أسأت من التوبة.
باب فتحه الله عز وجل لعباده، ومظهر من مظاهر رحمة الله ورأفته، فلا يعني إذا زلت قدم العبد ان ييأس من الرجوع إلى الله عز وجل بل ورد في الروايات الحث الشديد على التوبة فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها" [٣٠].
- ولم يعاجلك بالنقمة.
من مظاهر الرحمة الإلهية إمهال الله عز وجل خلقه وعدم التعجيل بعقابهم. وكما ورد في الآية الكريمة: {ولوْ يُؤاخذُ اللّهُ النّاس بما كسبُوا ما ترك على ظهْرها منْ دابّةٍ ولكنْ يُؤخّرُهُمْ إلى أجلٍ مُسمًّى فإذا جاء أجلُهُمْ فإنّ اللّه كان بعباده بصيراً} [٣١] .
وفي الحديث: "إن الله يمهل ولا يهمل" [٣٢] .
ولم يمهل الله عز وجل عباده لعجز والعياذ بالله بل هو الجبار المنتقم، ولكن رحمة منه بهم ليفتح لهم باب الرجوع إليه.
- ولم يعيرك بالإنابة.
ورد في العديد من الروايات الحث على التوبة، وقد عبّرت الروايات عن التائبين بعبارات المدح والثناء لا التعيير او الوقيعة فيهم، ففي رواية عن لإمام علي عليه السلام في وصف التائبين: "غرسوا أشجار ذنوبهم نصب عيونهم وقلوبهم وسقوها بمياه الندم، فأثمرت لهم السلامة، وأعقبتهم الرضا والكرامة".
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" [٣٣].
- ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى
الإنسان المذنب الذي يتجاوز عما فرضه الله حق، على الله عز وجل ان يفضحه ويستحق ذلك، ولكن الله عز وجل يستر عليه ذلك، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سمعه معاوية بن وهب يقول: "إذا تاب العبد المؤمن توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب... فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب" [٣٤] .
وعن الإمام علي عليه السلام: "من تاب تاب الله عليه، وأمرت جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وانسيت الحفظة ما كانت تكتب عليه".
- ولم يشدد عليك في قبول الإنابة.
ورد في الرواية عن لإمام الباقر عليه السلام: "لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم".
بهذا تنال المغفرة، ولكن شرط ان لا يعود إلى ارتكاب الذنب.
- ولم يناقشك بالجريمة.
إن من أصعب مواقف الذل التي قد يقع فيها الإنسان، هو أن يقف في موقف ذلّ الحساب، ولعله يكون أصعب من العقاب، وهذا ما يمكن للإنسان التخلص منه من خلال التوبة، فإذا عفا الإنسان عن المسيء له فإنه لن يمانع من توجيه اللوم له او العتاب، ولكن الله عز وجل إذا عفى عن الذنب عفا عن اللوم والعتاب أيضاً. وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين طلب الرحمة في هذا الموقف: "ارحم في هذه الدنيا غربتي وعند الموت كربتي وفي القبر وحدتي وفي اللحد وحشتي وإذا نشرت للحساب بين يديك ذلّ موقفي".

--------------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة: الكتاب ٥٥.
[٢] . المجلسي- محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج ٧٣ / ص٩٠ / حديث ٦١.
[٣] . الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق ٤- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ٣٩٦.
[٤] . الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي- الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا- مؤسسة أهل البيت ­ع - الشيخ الكليني - ج ٢ ص ٩٠.
[٥] . نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج ٢ ص ١٨١.
[٦] . الطوسي – محمد بن الحسن - الوفاة: ٤٦٠- الأمالي - دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم: ٣٨١ / ٨١٩.
[٧] . غرر الحكم: ٣٤٨٠، ١٢٠٦، ٤٠٩.
[٨] . المحقق النوري - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل- مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث - الطبعة الأولى –: ١٢ / ٩٤ / ١٣٦١٥.
[٩] . المجلسي- محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٦٢ / ٢٦٦ / ٤١.
[١٠] . نهج البلاغة، خطبة المتقين.
[١١] . الري شهري- محمد- ميزان الحكمة - دار الحديث , الطبعة الأولى - ج ٤ ص ٢٩٥٩.
[١٢] . الري شهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج ٤ ص ٢٩٥٩.
[١٣] . النساء:٣٦.
[١٤] . المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج ٧٨ / ص ٥٠.
[١٥] . المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج ٧٤ / ص ١٨٢.
[١٦] . الري شهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج ٢ ص ١٧٧١.
[١٧] . القصص:٧٧.
[١٨] . الري شهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج ١ ص ٦٤٠.
[١٩] . الإسراء:٣٦.
[٢٠] . الري شهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج ٣ ص ٢٤٠٤.
[٢١] . غافر: ٦٠.
[٢٢] . الري شهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج٢، ص ٨٦٨..
[٢٣] . الكليني، الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: ٢/ ٤٦٦.
[٢٤] . الري شهري - محمد - ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى - ج ٢ ص ٨٦٨
[٢٥] . الكليني، الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه - علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: ٢/ ٤٦٩.
[٢٦] . الري شهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج٢، ص ٨٧٠.
[٢٧] . الري شهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج٢، ص ٨٧١.
[٢٨] . البقرة: ١٨٦.
[٢٩] . الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه - علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: ٢/ ١٤٨.
[٣٠] . الري شهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج١، ص ٣٣٨.
[٣١] . فاطر: ٤٥.
[٣٢] . علي خان المدني الشيرازي - رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام - مؤسسة النشر الإسلامي- ج٣، ص ١٢٠.
[٣٣] . الري شهري - محمد - ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى - ج١، ص ٣٣٨.
[٣٤] . المجلسي - محمد باقر - المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة: ٦ / ٢٨.

يتبع ....

****************************