الدرس الثاني (التشكيك في نسبة نهج البلاغة)
أهداف الدرس
١- أنْ يتأكّد الطالب من نسبة نهج البلاغة للإمام عليّ عليه السلام.
٢- أنْ يجيب على شبهة الإضافات على نهج البلاغة.
التشكيك في نسبة النهج
لم يذكر الشريف الرضيّ في صدر كتابه المصادر الّتي رجِع إليها حين اختيار كلام الإمام عليّ عليه السلام أو الشيوخ الّذين نقل عنهم، إلّا أنّه - كما يبدو من تضاعيف الكتاب - نقل في بعض ما نقل عنه، عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ، والمقتضب للمبرِّد، والمغازي لسعيد بن يحيى الأمويّ، والمقامات لأبي جعفر الإسكافيّ وغيرها من الكتب.
وهذا الأمر كان سبباً هامّاً في تشكيك بعضٍ في مدى صحّة ما نسبه الرضيّ إلى الإمام عليه السلام في نهج البلاغة من كلام.
فقال بعضهم إنّه كلّه من كلام جامعه لا من كلام مَن نُسِب إليه، وبعضهم أخطأ في اسم جامعه فنسبه إلى الشريف المرتضى (أخي الشريف الرضيّ)، وادّعى أنّه من وضعه لا من كلام الإمام عليّ عليه السلام، وبعضهم تنازل عن هذه الدعوى إلى ما هو أخفّ منها فقال إنّه قد دخل فيه ما ليس من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
ولعلّ أوّل من بذر بذرة التشكيك في نسبة النهج إلى الإمام عليّ عليه السلام وفي جمعه هو ابن خلّكان صاحب كتاب (وفيّات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان) حيث قال في ترجمة سيرة وحياة السيّد المرتضى:
"وقد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، هل جَمْعُهُ أم جَمْعُ أخيه الرضيّ؟ وقد قيل: إنّه ليس من كلام عليّ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هو الّذي وضعه، والله أعلم" [١].
ثمّ جاء من بعد ابن خلّكان من يتابعه على هذا الرأي الفاسد، فنسج على منواله شُبهاً وأوهاماً هي أوهن من بيت العنكبوت، ومن هؤلاء:
١- ابن تيميّة (توفي سنة ٧٢٨هـ) في (منهاج السنّة) حيث يقول: "وهذه الخطب المنقولة في نهج البلاغة لو كانت عن عليّ ومن كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنّف (أي كتاب نهج البلاغة)، منقولة عن أعلى الأسانيد" [٢].
٢- الذهبيّ (توفي سنة ٧٤٨هـ) في (ميزان الاعتدال)، حيث يقول في ترجمة الشريف المرتضى: "عليّ بن الحسين الحسينيّ الشريف المرتضى.. وهو المتّهم بوضع كتاب نهج البلاغة. وله مشاركة قويّة في العلوم. ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين عليه السلام، ففيه السَبُّ الصراح، والحطّ على السيّدين أبي بكر وعمر، وفيه التناقض والأشياء الركيكة والعبارات الّتي من له معرفة بنفَس القرشيّين الصحابة وبنفَس غيرهم ممّن بعدهم من المتأخّرين جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل" [٣].
٣- الصفديّ (توفي سنة ٧٦٤هـ) في (الوافي بالوفيات).
٤- اليافعيّ (توفي سنة ٧٦٨هـ) في (مرآة الجنان).
٥- ابن حجر (توفي سنة ٨٥٢هـ) في (لسان الميزان).
٦- جرجي زيدان (توفي سنة ١٣٣٢هـ) في (آداب اللغة العربيّة).
٧- محمّد كرد عليّ (توفي سنة ١٣٧٢هـ- ١٩٥٣م) في (الإسلام والحضارة العربية).
٨- أحمد أمين (توفي سنة ١٣٧٣هـ- ١٩٥٤م) في (فجر الإسلام).
٩- أحمد حسن الزيّات (توفي سنة ١٩٦٨م) في (تاريخ الأدب العربيّ).
١٠- محمّد سيّد كيلانيّ (معاصر)في (أثر التشيّع في الأدب العربيّ).
ومن الّذين سلكوا هذا المسلك في عصرنا الحاضر الأستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم حيث قال في مقدّمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:
"وعلى مرِّ العصور والأزمان كانت نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام مثاراً للشكّ عند العلماء والباحثين المتقدّمين والمتأخّرين" [٤].
الجواب عن التشكيك
أوّلاً فيما يتعلّق بجامع النهج:
جامع النهج هو الشريف الرضيّ، دون غيره مطلقاً، والدليل على ذلك:
أ- اتفاق محقّقي العلماء والمؤرّخين على أنّ نهج البلاغة من جمع الشريف الرضيّ وحده، لا من جمع غيره، بحيث إنّه انفرد وحده في القيام بهذا العمل ولم يشترك أحدٌ معه في ذلك. وعليه لا يضرُّ بذلك ما يقوله بعض الشُذَّاذ.
ب- إجازات تلاميذ الشريف الرضيّ وسلسلة تلاميذه من بعدهم خلفاً عن سلف بما يصل إلى حدّ التواتر. وهذه الإجازات تتضمّن نسبة هذا الكتاب إلى الشريف الرضيّ وحده.
ج- تصريحات الشريف الرضيّ نفسه في مواطن كثيرة بأنّ النهج من جمعه وحده شخصيّاً، مثل ما ورد في مقدّمة كتابه (خصائص الأئمّة) الّذي هو من تأليفه بإجماع العلماء حيث يقول فيه:
"ابتدأت تأليف كتاب (خصائص الأئمّة) عليهم السلام... وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب. ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة".
وعلى هذا الأساس وبعد تصريح الرضيّ نفسه بأنّه هو الجامع للنهج وأنّه من كلام الإمام عليّ عليه السلام، فنحن نسأل لماذا لم يدّعِ الرضيّ أنّ الكتاب من تأليفه؟ وما الداعي لأن يُخفي ذلك؟ ولماذا لم ينسب الكتاب إلى نفسه رغم أنّه لو ادّعى ذلك لاعتُبِر الرضيّ من الرجال الأفذاذ ولكان ذلك مفخرةً وزيناً له؟
ومن المفيد جدّاً أن نذكر هنا ما قاله الأمير شكيب أرسلان عندما سُئل عن رأيه فيما ذكره أحد الجالسين في محضره من أنّ نهج البلاغة موضوع على لسان الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: إذا كان نهج البلاغة موضوعاً فمن هو واضعه؟ هل هو الشريف الرضيّ؟ فقالوا له: نعم.
فقال: إنّ الشريف الرّضي لو قُسِّم أربعين رجلاً ما استطاع أن يأتي بخطبةٍ واحدة قصيرة من خطب نهج البلاغة، أو جملةٍ من جمله، ونهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام دون شكٍّ أو ريب، ولكنّ الّذي أوجب الشكّ فيه اشتماله على القدح في الصّحابة الّذين هم مقدّسون في أنظار الناس [٥].
ثانياً: في ما يتعلّق بكون ما بين دفّتي (نهج البلاغة) من جمع الرضيّ، وهذا ما يُثبته:
أ - إنّ خطب أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه وكتبه وأوامره حظيت بعناية العلماء والأدباء والمتكلِّمين من قبل أن يولد الشريف الرضيّ، حيث اهتمّ كثير منهم بجمع الكثير منها حتّى تكوّن من ذلك مجاميع عديدة ذكر منها صاحب كتاب (مصادر نهج لابلاغة) ثمانية وعشرين كتاباً في الخطب والكتب والرسائل والكلمات والعظات، وكلّها لمؤلِّفين توفُّوا جميعاً قبل أن يولد الشريف الرضيّ بما لا يقلّ عن مائة عام [٦].
ب -إنّ بعضهم كان يحفظ كثيراً من كلام الإمام عليّ عليه السلام ويستعين به في إنتاجه الفنّي من أمثال: الحسن البصريّ، وعبد الحميد الكاتب، وابن نباتة، وابن المقفّع كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ج - إنّ خطبه عليه السلام وحدها الّتي كانت متداولة بين الناس تجاوزت الأربعمائة خطبة كما ذكر اليعقوبيّ المتوفّى سنة ٢٩٢ هـ في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم) حيث قال: "حفظ الناس عنه عليه السلام الخطب، فإنّه خطب بأربعمائة خطبة، حُفِظت عنه وهي الّتي تدور بين الناس ويستعملونها في خطبهم" [٧].
بالإضافة إلى ما ذكره المسعوديّ المتوفّى سنة (٣٤٦) في (مروج الذهب) حيث قال: "والّذي حفظ الناس من خطبه، في سائر مقاماته أربعمائة ونيّف وثمانين خطبة يوردونها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً" [٨].
هذا وقد تصدّى جماعة من علماء السنّة والشيعة لدحض هذه الشبهات والأقوال وتناولوها بالبحث والتدقيق، وممّن تعرّض للدفاع عن نسبة النهج إلى الإمام عليّ عليه السلام وإبطال قضيّة التشكيك ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرحه للنهج حيث يقول:
"كثير من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلامٌ مُحدَثٌ صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضيّ أبي الحسن أو غيره، وهؤلاء أعمت العصبيّة أعينهم". وأجاب عن هذا الكلام فقال: لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه.
والأوّل: باطل بالضرورة, لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. وقد نقل المحدّثون - كلّهم أو جلّهم - والمؤرّخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني: يدلّ عليّه ما قلناه، لأنّ من قد أنِس بالكلام والخطابة، وشَدَا طَرَفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب, لا بُدَّ أن يُفرِّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد.
وإذا وقف على كرّاسٍ واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلا بُدَّ أن يُفرِّق بين الكلامين، ويُميّز بين الطريقتين...
فإنّنا نرى أنّهم حذفوا من شعر أبي نوّاس كثيراً لمّا ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شِعره... وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونفَساً واحداً، وأسلوباً واحد, كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة, وكالقرآن العزيز أوّله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه، وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً، وبعضه صحيحاً، لم يكن ذلك كذلك..." ثمّ قال: "إنّ فتح هذا الباب يؤدّي بنا إلى عدم الثقة بصحّة أيّ من كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" [٩].
ونحن لو حاولنا التأمّل بدقّة وبعين البصيرة والإنصاف لوجدنا أنّ الباعث لهؤلاء على إنكار نهج البلاغة كلّه أو بعضه إنّما هو اشتماله على ما يعدّونه قدحاً في الصّحابة المقدَّسين عن كلِّ قدحٍ كالّذي اشتملت عليه الخطبة الشقشقيّة وغيرها، واشتماله على ما يظهر منه التألّم ممّن تقدّمه في الخلافة وإظهار أنّه أحقّ بها منهم.
شبهة الإضافات في نهج البلاغة
من الشُبه الّتي حامت حول "نهج البلاغة" شبهة الزيادات فيه، فقد زعم بعضهم أنّ الشريف الرضيّ بعد فراغه من جمع نهج البلاغة ترك أوراقاً من البياض في آخر كلّ باب من أبوابه الثلاثة "لاقتناص الشارد واستلحاق الوارد"، فلم يبقَ "النهج" على ما وضعه الرضيّ بل تعرّض لإضافات وزيادات حتّى بلغ إلى هذا الحدّ من الضخامة.
وهذه الدعوى من الافتراءات الّتي تُشبه القول بأنّ نهج البلاغة من وضع الشريف الرضيّ، وهي مردودة لأمور:
١ - إنّ النسخة الّتي بخطّ الرضيّ كانت موجودة في زمن ابن أبي الحديد المتوفّى سنة (٦٥٥ أو ٦٦٦) هـ، والّذي ألّف شرح نهج البلاغة ما بين سنة (٦٤٠) و (٦٤٤)هـ. "فالنهج" إلى هذا الحدّ سالم من التغيير والإضافة، بل وإلى زمن كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى سنة (٦٧٦) هـ. لأنّه أشار إلى نسخة الرضيّ في مواضع من شرحه على نهج البلاغة.
٢- إنّ العادة كانت جارية بأنّهم يروون "نهج البلاغة" خلفاً عن سلف، ولا يكتفي بعضهم بروايته من طريق واحد.
٣ - هناك نسخ خطيّة من "نهج البلاغة" لا تزال موجودة تختلف تواريخها ولا تختلف محتوياتها. فمن أين تسرّبت هذه الزيادات؟ ولماذا لم يُعثر على نسخة واحدة خالية من هذه الإضافات المزعومة؟! ولماذا لم يقل بهذا أحدٌ من القدامى حتّى الّذين يذهبون إلى أنّ في (النهج) شيئاً "منحولا"؟
وكيف تواطأ ناسخو النهج وشرّاحه ورواته مع اختلاف أوطانهم وأزمانهم، بل واختلاف مذاهبهم ومشاربهم على الإضافة والتغيير؟
بقي شيء آخر لا بُدَّ من التنبيه عليه، وهو اختلاف ترتيب نسخ النهج بتقديم بعض الخطب والكلمات في نسخة وتأخيرها في نسخة أخرى، والسبب في ذلك أنّ بعض النسّاخ كتب الخطبة اللاحقة قبل السابقة سهواً ثُمّ تنبّه فكتب السابقة قبل اللاحقة من دون تنبيه فجاء من بعده فنقلها كما وجدها. وهذا لا يضرّ، ولا يُقلِّل من أهميّة الكتاب ولا يقدح في نسبته بعد الاتفاق على أنّ كلّ واحدة من نسخ (النهج) اشتملت على ما اشتملت عليه الأخرى، وقلّ أن يخلو كتاب من ذلك.
الدرس الثالث (شبهات حول نهج البلاغة)
أهداف الدرس
١. أنْ يتعرّف الطالب إلى بعض الشبهات حول نهج البلاغة.
٢. أنْ يتمكّن من الإجابة على الشبهات إجمالاً.
تمهيد
تعرّضنا فيما تقدّم إلى السبب الأساس الّذي دفع ببعضهم إلى التشكيك في نسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام، وهو عدم ذكر الرضيّ لأسانيد الخطب الّتي جمعها في كتابه، وقدّمنا جواباً عامّاً عن هذه القضيّة.
وقد ذكر السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة كلّ الإشكالات الواردة في هذا المضمون وأجاب عنها بشكلٍ تفصيليّ [١٠].
ومن الّذين تعرّضوا أيضاً لهذه الشبهات والرّد عليها، السيّد الخطيب في كتابه "مصادر نهج البلاغة وأسانيده". وقد تولّى استخراج المصادر والأسانيد للنهج. ولعلّ هذا الأمر وحده كافٍ في ردِّ كلام هؤلاء المعترضين.
وفيما يلي نستعرض أهمّ الشبهات الّتي أُثيرت حول نهج البلاغة مع الإجابة عليها.
الشبهة الأولى:
إنّ نهج البلاغة من اختلاق الشريف الرضيّ وليس من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
تحدّثنا فيها عن كيفيّة جمع النهج -الجواب الكافي عن هذه الشبهة، حيث ذكرنا أسماء كبار العلماء والأدباء الّذين جمعوا كلمات الإمام قبل زمن الرضيّ، وكذلك كلام المسعوديّ الّذي قال بأنّ الناس حفظت عن الإمام عليّ عليه السلام أربعمائة خطبة ونيّف وثمانين خطبة،والمسعوديّ عاش قبل زمن الرضيّ.
هذا بالإضافة إلى تساؤلنا عن السبب الّذي يُمكن أن يدفع الرضيّ لأن ينسب لنفسه ما ليس له، وهو المعروف بورعه وتقواه، فضلاً عن السبب الّذي يدعو الرضيّ لأن يُضيِّع على نفسه عملاً بهذه الضخامة وينسبه إلى الإمام عليّ عليه السلام.
الشبهة الثانية:
خلوّ نهج البلاغة من الأسانيد
كان الهمّ الأساس للشريف الرضيّ هو جمع محاسن الخطب والكتب والحِكَم ممّا قاله أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا ما دفعه إلى عدم الاهتمام بذكر مصادر هذه الخطب والكلمات. وهذا الشيء دفع بعضهم إلى التشكيك في النهج من هذه الزاوية.
الجواب: يتبيّن لنا من خلال مطالعة نهج البلاغة أنّ الشريف الرضيّ اعتمد في جمعه لكلمات الإمام عليّ عليه السلام على كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، و"المقتضب" للمبرّد، و"المغازي" لسعيد بن يحيى الأمويّ، و"الجُمَل" للواقديّ، و"المقامات" في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الإسكافيّ، و"تاريخ الطبريّ"، وحكاية أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، ورواية اليمانيّ عن أحمد بن قتيبة، وخبر ضرار بن حمزة، وغيرها من الكتب الّتي لم يصرّح عنها الشريف الرضيّ.
وممّا يدعم هذا الجواب أنّه يوجد الكثير من خطب الإمام عليّ عليه السلام في بعض الكتب السابقة على عهد الشريف الرضيّ، ومنها:
١- الكافي: للكلينيّ المتوفّى سنة (٣٢٨ هـ - ٩٣٩م).
٢- التوحيد: للصّدوق محمّد بن بابويه القمّي المتوفّى سنة (٣٨١ هـ - ٩٩١ م). وفيه عدد من خطب التوحيد. وذكر الصّدوق أيضاً بعض الخطب في كتبه: من لا يحضره الفقيه، والأمالي، والخصال، وعلل الشرائع، ومعاني الأخبار.
٣- الإرشاد: للشيخ المفيد المتوفّى سنة (٤٢٣ هـ - ١٠٢٢م)
٤- العقد الفريد: لأحمد بن عبد ربّه المتوفّى سنة (٣٢٧ هـ- ٩٣٨م).
٥- تحف العقول: لابن شعبة الحرّانيّ (القرن الرابع الهجري).
٦- تاريخ الأمم والملوك: لمحمّد بن جرير الطبريّ المتوفّى سنة (٢١٠ هـ - ٨٢٥ م).
٧- مروج الذهب: للمسعوديّ، المتوفّى سنة (٣٤٦هـ - ٩٥٧م).
والحاصل كما ذكرنا أنّ الشريف الرضيّ لم يكن الهدف الأساس عنده ذكر أسانيد هذه الخطب. ولعلّ السبب في ذلك كما يظهر من تصريح الكثيرين أنّ كلمات الإمام عليّ عليه السلام وخطبه كانت من المسلّمات والبديهيّات بحيث لم يحتج إلى إيراد أسانيدها.
الشبهة الثالثة:
الاعتراض على كثرة الخطب وطولها، لأنّ هذه الكثرة وهذا التطويل مما يتعذّر حفظه وضبطه قبل عصر التدوين.
الجواب: تؤكِّد الشواهد التاريخيّة أنّ قوّة الحافظة في العصور السابقة كانت عند الناس بالشكل الّذي يسمح باستيعاب هذا العدد من الخطب، والشاهد على هذا القول هو ما ذكره المسعوديّ حيث قال:
"والّذي حفظ الناس عنه (أي الإمام عليّ عليه السلام) في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيّف وثمانين خطبة" [١١].
وهكذا لو قارنّا حفظ نهج البلاغة مع حفظ المعلّقات السبع من قبل الكثيرين الّتي تعتبر أطول من كثير من الخطب.
وممّا يدلّ على أنّ ملكة الحفظ كانت موجودة بشكل قويّ، وجود علل من الحفّاط منهم ابن عبّاس الملقّب بحبر الأمّة، الّذي حفظ جلّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الشبهة الرابعة:
وجود بعض الخطب والأقوال منسوبة لغير الإمام عليّ عليه السلام، وهي في نفس الوقت منسوبة له عليه السلام في مكان آخر.
الجواب: إنّه قد ثبت للعلماء والباحثين وجود سرقة لأكثر الخطب المنسوبة للإمام عليّ عليه السلام، وإلصاقها بمن هم أبعد ما يكونون عن بلاغة الإمام وفصاحته.
وقد رصد السيّد الشهرستانيّ في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ المتوفّى سنة (٢٥٥ هـ - ٨٦٨ م) فقداً لخطبة يُقال إنّها لمعاوية وقد قالها عندما حضرته المنيّة. يقول الجاحظ: "منها أنّ هذا الكلام لا يُشبه السبب الّذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أنّ هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الإخبار عنهم وعمّا هم عليه من القهر والإذلال ومن التقيّة والخوف أشبه بكلام عليّ وبمعانيه بحاله منه حال معاوية... والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منه" [١٢].
وفي هذا الكلام تشكيك بنسبة الخطبة إلى معاوية مع الخوف من المجاهرة بذلك.
ولا يُستبعد أنّ الّذين جاؤوا من بعد الإمام عليه السلام نحلوا من خطبه أو اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم. وفي شرحه للنهج يقول ابن أبي الحديد عند مقارنته لكلام ابن نباتة بخطبة الجهاد للإمام عليّ عليه السلام.
"واعلم أنّ التحريض على الجهاد والحضّ عليه قد قال فيه الناس فأكثروا وكلّهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فانظر إليها (خطبة ابن نباتة) وإلى خطبته عليه السلام بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليه كمخنّث بالنسبة إلى الفحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد... ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام" [١٣].
أمّا عن تغلغل كلام الإمام عليّ عليه السلام في شِعر المتنبّي المتوفّى سنة (٣٥٤ هـ - ٩٦٥ م)، أي قبل ولادة جامع نهج البلاغة الشريف الرضيّ بخمس سنوات، فالشواهد كثيرة، وقد جمعها السيّد عبد الزهراء الخطيب في كتابه "مائة شاهد وشاهد من معاني كلام الإمام عليّ عليه السلام في شعر أبي الطيّب المتنبّي"؛ وحسبنا منها على سبيل المثال لا الحصر ما قاله المتنبّي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ***** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
"إذا قصرت يدك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر" [١٤].
الشبهة الخامسة:
وجود بعض العبارات في نهج البلاغة تتعرّض بالذمّ للصّحابة، وهذا غير ما كانت عليه سيرة الإمام عليه السلام وأقواله. ولعلّ الإشكال الأساس في هذا الموضوع هو على الخطبة الشقشقيّة.
الجواب: أورد السيّد الشهرستانيّ "الخطبة الشقشقيّة" من أكثر من مصدر: من نهج البلاغة، ومن الشيخ المفيد في الإرشاد، ومن البرقيّ في علل الشرائع، ومن الجلوديّ ومن كتاب معاني الأخبار.
وذكر الشهرستانيّ الناقلين للخطبة الشقشقيّة قبل الشريف الرضيّ، ومنهم أبو عليّ الجبائيّ المتوفّى سنة (٣٠٣ هـ - ٩١٥ م)، وكذلك ابن عبد ربّه المتوفّى سنة (٣٢٧ هـ - ٩٣٨ م) في العقد الفريد.
وينقل البحرانيّ عن الشيخ أبي محمّد بن الخشّاب، قوله: "لا والله. ومن أين للرضيّ هذا الكلام ولا ينتظم في سلكه؟ على أنّه قد رأيت هذه الخطبة بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم ومن قبل أن يُخلق الرضيّ فضلاً عنه، وأقول (يعني الشيّخ الخشّاب): وقد وجدتها في موضوعين تاريخهما قبل مولد الرضيّ بمدّة أحدهما أنّها متضمّنة في كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبيّ أحد شيوخ المتعزلة وكانت وفاته قبل مولد الرضيّ، الثاني أنّي وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، وكان وزير المقتدر بالله وذلك قبل مولد الرضيّ بنيّف وستّين سنة. والّذي يغلب على ظنّي أنّ تلك النسخة كانت قبل وجود ابن الفرات بمدّة. وهذا ما يؤكد صحّة إسناد الشقشقيّة إلى الإمام علي ّعليه السلام" [١٥].
هذا مع العلم أنّ التمعّن الدقيق في الخطبة الشقشقيّة يُبيّن لنا بوضوح أنّها لا تخرج عن طور الشكاية الخفيّة والتظلّم بزفرات وحسرات وتنهّدات بدليل قوله عليه السلام لابن عمّه ابن عبّاس:
"هيهات يا ابن عبّاس تلك شقشقة هدرت ثُمَّ قرّت" [١٦].
فالخطبة الشقشقيّة نوع من الشكاية والتظلّم، ونوع من النقد المهذّب واستذكار لوقائع حدثت مع الإمام الّذي وإنّ أبرز هذه المظالم لكنّه أبرزها بشكلٍ لم يخرج فيه عن الإطار الأدبيّ للكلام، خصوصاً مع ملاحظة كلمات الصحابة الآخرين ونقدهم العلنيّ بعضهم لبعض، وعلى سبيل المثال نستعرض:
١ - اتهام عمر لخالد بن الوليد بالزنى، والطلب من أبي بكر معاقبته لقتله مالك بن نويرة والاختلاء بأرملته ليلة قتله، وكان جواب أبي بكر: "هيه يا عمر تأوّل فأخطأ" [١٧].
٢ - قول عمر: "بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها" [١٨].
٣ - تسمية عائشة لعثمان: "نعثلاً"، والنعثل: الكثير شعر اللحية والجسد، وفتواها: "أقتلوا نعثلاً فقد كفر" [١٩].
فالمُلاحظ أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يصل في شكواه ونقده للصّحابة إلى هذا الحدّ.
وأخيراً... فإنّنا تعرّضنا لذكر بعض الشبهات الّتي أُثيرت حول صحّة نهج البلاغة من باب المثال فقط، وليكون القارئ الكريم على اطّلاع ولو إجماليّاً على كيفيّة الاعتراض على "النهج"، ليرى بنفسه مدى هشاشة هذه الاعتراضات، وعدم وصولها إلى المستوى العالي من التحدّي.
وبذلك يبقى "النهج" شعاعاً مضيئاً في سماء الأمّة يُنير لها الطريق كما كان صاحبه وما زال نبراساً وعلَماً هادياً لكلّ الأجيال عبر العصور.
ـ لقد أثيرت شبهات عديدة حول نسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام، والسبب الأساس في التشكيك هو عدم ذكر الرضيّ للأسانيد.
ـ ذكر السيّد محسن الأمين الشبهات وردّها في كتابه أعيان الشيعة، وانبرى السيّد الخطيب في كتابه: "مصادر نهج البلاغة وأسانيده" لاستخراج مصادر وأسانيد النهج، وهذا الأمر كافٍ في ردّ المشكّكين.
ـ فعليه ليس نهج البلاغة من اختلاق الرضيّ، بل هو مسندٌ، وطول خطبه لا يمنع من حفظها، ووجود خطب منسوبة لغير الإمام عليه السلام وهي منسوبة للإمام في نفس الوقت؛ يُردّ بأنّ العلماء أثبتوا وجود سرقة لأكثر الخطب المنسوبة للإمام عليه السلام، ووجود خطب تحكي عن ظلامة الإمام عليه السلام من قبل بعض الصّحابة كالخطبة الشقشقيّة لا يمنع من نسبتها إليه عليه السلام مع كونها في حدود النقد البنّاء والأخلاق.
-------------------------------------------------------------
[١] . وفيّات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن خلّكان (ت، ٦٨١)، ج٣/ص٣، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[٢] . راجع الإسلام والحضارة العربية، محمّد كرد علي،ج ٢، ص ٦١.
[٣] . ميزان الاعتدال، الذهبي، ج٣، ص١٢٤ دار المعرفة، بيروت.
[٤] . شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد، مقدّمة أبو الفضل ابراهيم، ج ١، ص٧.
[٥] . أعيان الشيعة، السيّد الأمين، ج ١، ص٥٤.
[٦] . راجع مصادر نهج البلاغة الجزء الأوّل منه. وراجع ما تقدّم في الدرس الأوّل فقرة هل كان الرضيّ أوّل من جمع كلام الإمام عليّ عليه السلام.
[٧] . نهج السعادة، المحمودي، ج١، هامش ص ١٢.
[٨] . مروج الذهب، المسعودي، ج٢، ص ٤٣١.
[٩] . شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١، ص ١٢٨- ١٢٩.
[١٠] . أعيان الشيعة، السيّد الأمين، ج١، ص٥٤٠ - ٥٤٣.
[١١] . شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١، المقدّمة.
[١٢] . البيان والتبيين, ج٢, ص ٥٩-٦١.
[١٣] . شرح النهج، ابن أبي الحديد، ج٢، ص٨٤.
[١٤] . نقلاً عن كتاب مع المرأة في نهج البلاغة، فتحيّة عطوي، ص ٤٨.
[١٥] . راجع: كتاب الأربعين، الشيخ الماحوزي، ص ٢٧١.
[١٦] . نهج البلاغة، ج١، ص ٣٨.
[١٧] . تاريخ الطبري، ج٢، ص ٥٠٣.
[١٨] . سيرة ابن هشام، ج٤، ص ١٠٧٣.
[١٩] . الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، تحقيق الزيني، ج١، ص ٥٢.
يتبع .....