خلقة الطيور
ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَ مَوَاتٍ وَ سَاكِنٍ وَ ذِي حَرَكَاتٍ وَ أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَ مَسَلِّمَةً لَهُ وَ نَعَقَتْ[١] فِي أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَ مَا ذَرَأَ[٢] مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ[٣] الْأَرْضِ وَ خُرُوقَ فِجَاجِهَا[٤] وَ رَوَاسِيَ أَعْلَامِهَا[٥] مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ هَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ وَ مُرَفْرِفَةٍ[٦] بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ[٧] الْمُنْفَسِحِ وَ الْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ وَ رَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ[٨] مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ[٩] وَ مَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ[١٠] خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ[١١] فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً[١٢] وَ جَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً[١٣] وَ نَسَقَهَا[١٤] عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْأَصَابِيغِ[١٥] بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَ دَقِيقِ صَنْعَتِهِ فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ[١٦] لَوْنٍ لَا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ وَ مِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ[١٧] بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ.
الطاوس
وَ مِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي [أَحْسَنِ] أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ وَ نَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ[١٨] بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ[١٩] وَ ذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ إِذَا دَرَجَ[٢٠] إِلَى الْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ وَ سَمَا بِهِ[٢١] مُطِلًّا عَلَى رَأْسِهِ[٢٢] كَأَنَّهُ قِلْعُ[٢٣] دَارِيٍّ[٢٤] عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ[٢٥] يَخْتَالُ[٢٦] بِأَلْوَانِهِ وَ يَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ[٢٧] يُفْضِي كَإِفْضَاءِ[٢٨] الدِّيَكَةِ وَ يَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ[٢٩] أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ[٣٠] لِلضِّرَابِ[٣١] أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ[٣٢] لَا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ وَ لَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ[٣٣] فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ[٣٤] جُفُونِهِ وَ أَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ[٣٥] ذَلِكَ ثُمَّ تَبِيضُ لَا مِنْ لِقَاحِ[٣٦] فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ[٣٧] لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ[٣٨] تَخَالُ قَصَبَهُ[٣٩] مَدَارِيَ[٤٠] مِنْ فِضَّةٍ وَ مَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ[٤١] وَ شُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ[٤٢] وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ[٤٣] فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ [جَنِيٌ] جَنًى[٤٤] جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ وَ إِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ[٤٥] أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ[٤٦] وَ إِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ[٤٧] يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ[٤٨] وَ يَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَ [جَنَاحَهُ] جَنَاحَيْهِ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ[٤٩] وَ أَصَابِيغِ وِشَاحِهِ[٥٠] فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا[٥١] مُعْوِلًا[٥٢] بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ وَ يَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ[٥٣] كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلَاسِيَّةِ[٥٤] وَ قَدْ نَجَمَتْ[٥٥] مِنْ ظُنْبُوبِ[٥٦] سَاقِهِ صِيصِيَةٌ[٥٧] خَفِيَّةٌ وَ لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ[٥٨] خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ[٥٩] وَ مَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالْإِبْرِيقِ وَ مَغْرِزُهَا[٦٠] إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ[٦١] الْيَمَانِيَّةِ أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ[٦٢] وَ كَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ[٦٣] إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ[٦٤] أَبْيَضُ يَقَقٌ[٦٥] فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ[٦٦] وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ[٦٧] وَ عَلَاهُ[٦٨] بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ وَ بَصِيصِ[٦٩] دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ[٧٠] فَهُوَ كَالْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ[٧١] لَمْ تُرَبِّهَا[٧٢] أَمْطَارُ رَبِيعٍ وَ لَا شُمُوسُ قَيْظٍ[٧٣] وَ قَدْ يَنْحَسِرُ[٧٤] مِنْ رِيشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ فَيَسْقُطُ تَتْرَى[٧٥] وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً فَيَنْحَتُّ[٧٦] مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ ثُمَّ يَتَلَاحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ لَا يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ وَ لَا يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَ إِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً[٧٧] فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ[٧٨] الْفِطَنِ أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَ الْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ[٧٩] الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ[٨٠] لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً وَ أَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ.
صغار المخلوقات
وَ سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ[٨١] الذَّرَّةِ[٨٢] وَ الْهَمَجَةِ[٨٣] إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَ الْفِيَلَةِ- وَ وَأَى[٨٤] عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ إِلَّا وَ جَعَلَ الْحِمَامَ[٨٥] مَوْعِدَهُ وَ الْفَنَاءَ غَايَتَهُ.
منها في صفة الجنة-
فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ[٨٦] عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي [اصْطِفَافِ] اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ[٨٧] غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ[٨٨] الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا[٨٩] وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا[٩٠] تُجْنَى[٩١] مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ[٩٢] وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ[٩٣] لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا جَعَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ.
تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب
[قال السيد الشريف رضي الله عنه قوله (ع) يؤر بملاقحه الأر كناية عن النكاح يقال أر الرجل المرأة يؤرها إذا نكحها.
و قوله (ع) كأنه قلع داري عنجه نوتيه القلع شراع السفينة و داري منسوب إلى دارين و هي بلدة على البحر يجلب منها الطيب و عنجه أي عطفه يقال عنجت الناقة كنصرت أعنجها عنجا إذا عطفتها و النوتي الملاح. و قوله (ع) ضفتي جفونه أراد جانبي جفونه و الضفتان الجانبان. و قوله (ع) و فلذ الزبرجد الفلذ جمع فلذة و هي القطعة. و قوله (ع) كبائس اللؤلؤ الرطب الكباسة العذق[٩٤] و العساليج الغصون واحدها عسلوج].