من يتصفح هذا الشعر الخالد – نهج البلاغة – يجد فيه مالم يجده في غيره يجد أروع الصور البلاغية وأصدق الكلام و أجمله فيه الحكمة والقصة والصورة والمثل فيه قوانين العلم وموجهات السلوك فيه النصح والأرشاد وفيه القدرة العالية في أستعمال الالفاظ وتكوين التراكيب اللغوية المعبرة وذات الوقع الجميل والجرس الأسر فيه مكامن العلم وبحور المعرفة وفيه ترى صورة ذلك الانسان العابد المطيع لله ولرسوله يتهجد ويتضرع ويدعو فنسمع دعاءاً صادقاً وقولاً صادر من قلب ً. لايحمل الا الايمان فهو الايمان كله بشهادة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، في هذا النهج، نهج الوضوح والاستقامة وجدنا أن الامام علي (عليه السلام ) كان في بعض خطبه ورسائله يستعمل الشعر العربي في أيضاح فكرة أو تقريب معنى، أو بسط صورة فكان الامام علي (عليه السلام) ينتقي الشعر الجميل ذي الحدث الواضح، فالصورة الجلية التي يعرفها من يسمعها منه مما خاطب به القوم وارشدهم فالشعر عند العرب ديوانهم فهم له حافظون وبه يتسامرون واليه يحتجون وبشعرائهم يفتخرون. فلقد أختار الامام علي (عليه السلام ) أبيات من الشعر ضمنها خطبه ورسائله ولذالك وددت ان استخرج هذه الابيات الشعرية وادل على موقعها في خطب الامام (عليه السلام) وأشير الى وجه التمثيل الذي اراده بها , ثم أتطرق الى من قال هذه الابيات بشيء من الايجاز موضحا ومترجما للشاعر صاحب البيت الذي سوف نتناوله ومن هذه الاشعار نجد بيت من الشعر العربي القديم ضمن خطبة للامام علي تسمى الشقشقية وهي الخطبة ذات الصيت الذائع وفيها نرى ان الامام علي (عليه السلام)تمثل بقول الشاعر الاعشى وهو يصف حاله بعد أن مضت الخلافة الى غيره وأدلى بها الاول الى الثاني يقول عليه السلام: ( أرى تراثي نهباً حتى مضى الاول في سبيله فأدلى بها الى فلاناً بعده ) ثم تمثل بقول الاعشى:
شتان مايومي على كورها |
|
ويوم حيان أخي جابر |
يقول شارح النهج أن ( الكور ) بالضم ( الرحل ) أو هو مع أدائه، وحيان هذا رجل كان سيداً في بني حُنيفة مطاعاً فيهم وكان ذا حظوة عند ملوك الفرس وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة وقد كان الاعشى ينادمه. فيما يدل معنى البيت الشعري أن هناك فرقاً واضحا بين يومه وهو على كور الناقة وبين يوم حيان ذي الرفاهية إذ اليوم الاول كان كثير على شديد الشقاء واليوم الثاني وافر النعم وافي الراحة فوجه الاستشهار بهذا البيت الشعري واضح وبّين فبينما كان الامام علي (عليه السلام) وهو المقدم عندما كان النبي يقود المسلمين صار في يومه الثاني رابع خليفة والفرق كبير والتمثيل دقيق لذالك لجأ الامام علي (عليه السلام) الى تضمين خطبته هذا البيت، إذ الشاعر شاعر مجيد تمكن من وصف حالته وقدم صورتين مختلفتين فمن هو هذا الشاعر ؟ إنه الاعشى وهو ميمون بن قيس من بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل ( ت ٧هـ -٦٢٩م ) ولقد لقب بالاعشى لأنه كان ضعيف البصر إذ الاعشى في اللغة الذي لايرى ليلاً، ويقال له أعشى قيس أو الاعشى الاكبر وهو من فحول الشعراء في الجاهلية وقد عده أبن سلام في كتابه (طبقات فحول الشعراء) من الشعراء الطبقة الاولى، وعندما سأل يونس بن حبيب: من أشعر الناس ؟ قال ( أمرئ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب والاعشى إذا طرب ) ومن هذا القول نعرف لماذا سمت العرب الاعشى بـ(صناجة العرب ) إذ كانت قصائده تغنى، ومن أشهر قصائده معلقته التي مطلعها:
ودع هريرة أن الركب مرتحلُ |
|
وهل تطيق وداعاً ايها الرجلُ |
فيما يقول عنه أبو زيد القرشي في جوهرته أن الاعشى من أمدح الشعراء فقد مدح الملوك ومن جميل مدحه قوله وهو يمدح قيس بن معد يكرب:
فجئتك مرتاداً ماخيروا |
|
ولولا الذي خيروا لم ترن |
فلا تحرمني نداك الجزيل |
|
فاني أمرؤ قبلك لم أهن |
ولقد عمر هذا الشاعر طويلاً وأدرك الاسلام غير انه لم يسلم ومات في داره في منفوحة في اليمامة وفيها قبره وهذا ماذكرته كتب التاريخ لنا.