بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله [١] الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص، واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه واقتضت حكمته ان نافس الحاذق في حذقه فأحتسب به عليه من رزقه وزوى[٢] الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه ولا السابق بسبقه.
وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف واختص الأفضل من جلائل الماثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ويجل عن التكييف. وصلى الله على رسوله محمد، الذي[٣] المكنى عنه شعاع من شمسه، وغصن من غرسه، وقوه من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبه الغد إلى يومه، واليوم إلى أمسه، فما هما الا سابق ولاحق، وقائد وسائق، وساكت وناطق، ومجل ومصل، سبقا لمحه البارق، وأنارا سدفه الغاسق، صلى الله عليهما ما استخلب[٤] خبير، وتناوح حراء وثبير[٥].
وبعد، فان مراسم المولى الوزير الأعظم، الصاحب[٦]، الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد، المرابط [٧] مؤيد الدين عضد الاسلام، سيد وزراء الشرق والغرب، أبي محمد ابن أحمد بن محمد العلقمي[٨]، نصير أمير المؤمنين - أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها، وأحله من مراقب السعادة مراتب السيادة أشرفها وأعلاها - لما شرفت عبد دولته، وربيب نعمته بالاهتمام بشرح " نهج البلاغة " - على صاحبه أفضل الصلوات، ولذكره أطيب التحيات - بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم، ثم حمله[٩] أمر جزم، وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر، ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة[١٠] لا تشفى أو اما، ولا تزيد الحائم الا حياما، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك المنهج، وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه، نثرا ونظما، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث فصلا فصلا، وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفه، ولوح إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفه، ورصعه من المواعظ الزهدية، والزواجر الدينية، والحكم النفسية، والآداب الخلقية، المناسبة لفقره، والمشاكلة لدرره، والمنتظمة مع معانيه في سمط، والمتسقة مع جواهره في لط [١١]، بما يهزأ بشنوف النضار، ويخجل قطع الروض غب القطار، وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية، وبرهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية، لاشتمالها على الاخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية.
الاخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية. وبين من مقامات العارفين، التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون. وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظه يرسلها، ومعضلة[١٢] يكنى عنها، وغامضة يعرض بها، وخفايا يجمجم بذكرها، وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثه المصدور، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب.
فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه، واحدا بين أبناء جنسه، ممتعا بمحاسنه، جليلة فوائده، شريفة مقاصده، عظيما شانه، عاليه منزلته ومكانه. ولا عجب ان يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب، وبواحد العصر إلى أوحد الدهر، فالأشياء بأمثالها أليق، وإلى اشكالها أقرب، وشبه الشئ إليه منجذب، ونحوه دان ومقترب.
ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه الا واحد، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي[١٣]، وكان من فقهاء الإمامية، ولم يكن من رجال هذا الكتاب، لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده، وأنى للفقيه ان يشرح هذه الفنون المتنوعة، ويخوض في هذه العلوم المتشعبة، لا جرم ان شرحه لا يخفى حاله عن الذكي، وجرى الوادي فطم على القرى[١٤].
وقد تعرضت في هذا الشرح لمنا قضته في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها، وأعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره ونقضه كبير فائدة.
وانا قبل ان أشرع في الشرح، أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة والتفضيل، والبغاة والخوارج. ومتبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين عليه السلام، ولمع يسيرة من فضائله. ثم أثلث بذكر نسب الرضى أبى الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله، وبعض خصائصه ومناقبه. ثم أشرع في شرح خطبه " نهج البلاغة " التي هي من كلام الرضى أبى الحسن رحمه الله[١٥]، فإذا أنهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله وتوفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا.
ومن الله سبحانه استمد المعونة، واستدر أسباب العصمة، واستميح غمائم الرحمة، وأمتري إخلاف البركة، واشيم بارق النماء والزيادة، فما المرجو الا فضله، ولا المأمول الا طوله، ولا الوثوق الا برحمته، ولا السكون الا إلى رأفته " ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا انك أنت العزيز الحكيم "[١٦].
اتفق شيوخنا كافه رحمهم الله، المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعه أبى بكر الصديق بيعه صحيحه شرعية، وانها لم تكن عن نص وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالاجماع، وبغير الاجماع كونه طريقا إلى الإمامة.
واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، وأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبى معن ثمامة بن أشرس، وأبى محمد هشام بن عمرو الفوطي، وأبى يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام، وجماعه غيرهم.
ان أبا بكر أفضل من علي عليه السلام، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ومتأخروهم، كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى عيسى بن صبيح، وأبى عبد الله جعفر بن مبشر، وأبى جعفر الإسكافي، وأبى الحسين الخياط، وأبى القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته ان عليا عليه السلام أفضل من أبى بكر.
وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته. وقال في كثير من تصانيفه: ان صح خبر الطائر فعلى أفضل[١٧].
ثم إن قاضى القضاة رحمه الله ذكر في شرح " المقالات " لأبي القاسم البلخي ان أبا على رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي عليه السلام، وقال إنه نقل ذلك عنه سماعا، ولم يوجد في شئ من مصنفاته. وقال أيضا: إن أبا على رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، - وكان قد ضعف عن رفع الصوت - فألقى إليه أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام.
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه، كان متحققا بتفضيله، ومبالغا في ذلك وصنف فيه كتابا مفردا.
وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله، ذكر ابن متويه عنه في كتاب " الكفاية " في علم الكلام انه كان من المتوقفين بين علي عليه السلام وأبى بكر، ثم قطع على تفضيل علي عليه السلام بكامل المنزلة.
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام أبو محمد الحسن بن متويه صاحب " التذكرة " نص في كتاب " الكفاية " على تفضيله عليه السلام على أبى بكر، احتج لذلك، وأطال في الاحتجاج.
فهذان المذهبان كما عرفت.
وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما، وهو قول أبى حذيفة واصل بن عطاء، وأبى الهذيل محمد بن الهذيل العلاف، من المتقدمين. وهما - وان ذهبا إلى التوقف[١٨] بينه عليه السلام وبين أبى بكر وعمر - قاطعان على تفضيله على عثمان.
ومن الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي على رحمهما الله، والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله.
واما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون، من تفضيله عليه السلام.
وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثوابا أو[١٩] الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبينا انه عليه السلام أفضل على التفسيرين معا.
وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره، ولهذا موضع هو أملك به.
واما[٢٠] القول في البغاة عليه[٢١] والخوارج، فعلى[٢٢] ما أذكره لك:
اما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم الا عائشة وطلحة والزبير، ( رحمهم الله )[٢٣] فإنهم تابوا، ولولا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي.
واما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم الا بالنار، لإصرارهم على البغي وموتهم عليه، رؤساؤهم والاتباع جميعا.
واما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار.
وجملة الامر ان أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه، ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهه أو بغير شبهه فاسق، وليس هذا مما يخصون به عليا عليه السلام، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الاسلام العدول[٢٤] لكان حكمهم حكم من خرج على على صلوات الله عليه.
وكان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير، يقول: لا خير فيه.
وقال مرة: لا يعجبني صلاته وصومه، وليسا بنافعين له مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: " لا يبغضك الا منافق ".
وقال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه: ما صح عندي انه تاب من يوم الجمل، ولكنه استكثر مما كان عليه.
فهذه هي المذاهب والأقوال، اما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن.