وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
أكذوبتان حول الشريف الرضي

جعفر مرتضى العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعذائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد..

فقد سنحت لي الفرصة للبحث حول أمرين يرتبطان بالشريف الرضي رحمه الله تعالى..

وقد يرىالبعض: أنه يمكن تأجيل البحث في موضوعات كهذه إلى فرصة أخرى.. بل لا ضرورة للإشتغال في بحث أمور ترتبط بالأشخاص، والأفراد، من أجل توفير الفرصة الى ما هو أهم وأولى..

ولكننا نرى: أن هذا الرأي لا يملك ما يكفي لتوفير الحد الأدنى من الإقناع لدى العلماء والباحثين، الذين يرون كيف تمتد الأيدي المشبوهة لتتلاعب ولتشوه الحقائق، ولطمس معالم الشخصية الفكرية والقيادية للكثيرين من الذين يتحول الارتباط بهم من حالة فكرية الى حالة تنطلق من اعماق الوجدان، وتغدوها العاطفة..

فتشويه المعالم الحية والنبيلة في الشخصية الفكرية القيادية وزعزعتها، ثم تدمير العلاقة الروحية والفكرية، والعاطفية بين تلك الشخصية وبين الآخرين ينشأ عنه ان يصبح التعامل لهؤلاء مع تلك الشخصية جافاً وجامداً، ورياضياً اكثر مما هو تعامل يزخر بالمعاني السامية، وتحركه حرارة العاطفة، وتهيمن عليه روح الحب، والود والصفاء..

واذن.. فلا يكون البحث عن احوال، واتجاهات وسلوك بعض الشخصيات التي تسمو الى مستوى القدوة والاسوة ـ لايكون ـ ترفاً فكرياً، يراد منه اشباع غريزة حب الإستطلاع، ولا أثر له على الصعيد الفكري والعقيدي، والسلوكي.

وانما يكون خطوة وأساسية على طريق تركيز الربط والعلاقة الروحية والفكرية على اسس صحيحة، وقوية، وثابتةبين التابعين والسابقين، من اجل تجسيد المثل الأعلى، وتوضيح معالم الشخصية التي تسمو حتى تصل الى مستوى القدوة والأسوة..

ومن هذا المنطلق بالذات كانت دراستنا لبعض ما يرتبط بشخصية الشريف الرضي رحمه الله.. وتوضيح صحة أو زيف بعض ما ينسب إليه رضوان الله تعالى عليه..

وعلى أمل أن يفيد ذلك في خدمة الدين والحق..

والله هو الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

تمهيد:

الشريف الرضي.. هو ذلك الرجل العظيم، الذي يمتلك الشخصية الفذة، التي يعنو لها كل عظماء التاريخ الذين جاؤا بعده بالاجلال والاكبار، وكانت ولاتزال تستأثر منهم، ومن كل مفكر ونيقد بأسمى آيات التعظيم والتكريم، حيث يجدون فيها كل الخصائص الانسانية النبيلة، التي تملأ نفوسهم، وتنبهر بها عقولهم، وتعنو لها ضمائرهم..

ولعل من يسبر ثنايا التاريخ لايكاد يعثر على أي مغمز أو هنات في شخصية هذا الرجل العملاق على الاطلاق، بل على العكس من ذلك تماماً.. فإنك مهما قرأت عن حياة هذا الرجل، فإنك لن تجد إلا آيات المدح والثناء، والمزيد من الاعجاب والاطراء، من محبيه ومناوئيه على حد سواء.

إلا أننا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع أن نولي هذا التاريخ كل الثقة، ولا أن نمنحه كل الطمأنينة.. فلعل.. وعسى.. وقد.. ولربما.

فما علينا إلا أن ندرس التاريخ ونصوصه دراسة مستوعبة وشاملة، من شأنها أن تقضي على كل أمل بالعثور على المزيد مما له مساس بهذه الشخصية أو بتلك..

كما أن علينا أن نهتم بكل صغيرة وكبيرة، وأن لا نعتبر هذا تافهاً، وذاك ثميناً، إلا بعد البحث والتمحيص والتدقيق والمعاناة.. فالتافه ما أثبت البحث تفاهته، وكذبه وزوره، والثمين ما استمد قيمته من صدقه، ومن واقعيته، وذلك هو ما يثبت أصالته وجدارته أيضاً.. شرط أن لا يفوتنا ملاحظة الدوافع والأجواء التي شجعت أصحاب المطامع والأهواء على ارتكاب جريمة الوضع والاختلاق والتزوير والتجني، فإن لذلك أهمية خاصة في أية دراسة تريد أن تكون مثمرة ونافعة، وبناءة، كما هو معلوم لدى كل أحد..

وبالنسبة للشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه، فإنه لم يسلم أيضاً من سهام الدس والتزوير، والافتراء,, رغم أن البحث المستقصى قد أثبت عظمته وجدارته، وأبان بما لا يقبل الشك عن نبله، وسمو نفسه، وعن كرائم أخلاقه، وحميد خصاله، وجميل فعاله..

نعم.. لم يسلم السيد الشريف، من سهام الحقد والضغينة، ولا كان في منأى عن الدساسين والوضاعين.. حيث نجد فيما بين أيدينا نصين متميزين وغريبين في نفسهما، مما اضطرنا لخوض غمار البحث، من أجل إثارة الكوامن، وتسليط الاضواء الكاشفة، لينكشف زيف الزائف، ويبطل خداع السراب.

الأكذوبة الاولى:

هل كان الشريف الرضي زيديا ؟ !

اتهام ابن عنبة:

قال ابن عنبة:

«ووجدت في بعض الكتب أن الرضي كان زيدي المذهب، وأنه كان يرى أنه أحق من قريش بالامامة»[١].

مناقشة النص:

ونقول: إن ذلك لا يصح، فإن كونه رحمه الله إماميا أشهر من النار على المنار، ومن الشمس في رابعة النهار.. ووضوح ذلك لا يحتاج إلى حد: أنه لا يحتاج إلى بيان، ولا إلى إقامة برهان..

ومع ذلك، فإننا نشير إلى ما يلي:

١ـ قال السيوطي، عن والد الشريف الرضي، في كتابه: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة:

«.. كان الشريف أبو أحمد، سيداً عظيماً، مطاعاً، وكانت هيبته أشد هيبة، ومنزلته أرفع المنازل. ولقبه بـ: «الطاهر» و «الأوحد» و «ذوي المناقب» وكانت فيه كل الخصال الحسنة، إلا أنه كان رافضياً هو وأولاده، على مذهب القوم..»[٢].

٢ـ بل لقد كان هو وأبوه، وأخوه من رؤساء الشيعة، قال ابن تغرى بردى: «.. عالي الهمة متديناً، إلا أنه كان على مذهب القوم، إماماً للشيعة، هو، وأبوه، وأخوه.. »[٣].

وواضح: أنه يقصد كونه إماماً للشيعة الاثني عشرية الإمامية، الذين كانوا يعيشون في بغداد، ولاسيما في محلة الكرخ المشهورة، وكان الشريف، وأبوه، وأخوه من كبار الشخصيات التي قامت بدورها هام في الدفاع عن هؤلاء الشيعة والحفاظ عليهم في الفتن التي كان تحصل بينهم وبين غيرهم وكذلك قامت بالدور القوي والفاعل في نشر وترسيخ هذا المذهب..

٣ـ ومما يؤيد إمامياً: أنه ألف في حداثة شبابه كتاباً في خصائص الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، ولكنه لم يتمه[٤].

٤ـ كما أن مما يؤيد ذلك أنه قد ذكر قبور الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، في قصيدته البائية، التي منها:

سقى الله المدينة من محل لباب              الماء، والنطف العذاب
وجاد على البقيع وساكنيه   رخى الذيل، ملان الوطاب
وأعلام الغرى وما استباحت   معالمها من الحسب اللباب

وقبر بالطفوف يضم شلواً.. إلى آخر القصيدة[٥].

٥ـ وقال الدكتور عبد الفتاح الحلو: وربما أكد نسبة الرضي إلى الإمامية قوله في مخاطبة بني أمية:

بني أمية ما الأسياف نائمة عن ساهر في أقاصي الأرض موتورفهو يعني الإمام الثاني عشر المنتظر، إن لم يكن يعني نفسه[٦].

٦ـ ويؤيد ذلك أنه رحمه الله قد ذكر الأئمة الاثني عشر في قصيدته الأخرى، المشهورة، التي قالها وهو بالحائر الحسيني، والتي مطلعها:

كربلا لازلت كربـاً وبـلا              ما لقي عندك آل المصطفى

إلى أن قال:

معشر منهم رسول الله و              الكا شف للكرب إذا الكرب عـرا
صهره البـاذل عنـه نفسه   وحسام الله فـي يـوم الوغى
أول الناس إلى الداعي الذي   لم يقـدم غيـره لمـا دعـا
ثم سبطـاه الشـهيدان فـذا   بحسي السـم وهـذا بالظبـا
وعلي وابنه الباقـروالصـا   دق القـول،وموسى والرضا
وعلــي، وأبـوه وابنـه   والـذي ينتـظر القـوم غدا
يا جـبال المجد عزا وعـلا   وبدور الأرض نـوراً وسـنا

هل هذه القصيدة منحولة؟!

هذا.. وقد حكم البعض على هذه القصيدة، أو احتمل كونها منحولة، وليست من شعر الشريف الرضي رحمه الله تعالى، وإنما دسها عليه بعض الإمامية. ثم استدلوا على ذلك بقولهم:

لما فيها من العقائد، والليونة، التي لا توائم نفس الشريف نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لسداد الرأي، وخلوص العمل. وهو ولينا، وهو الهادي إلى الرشاد والسداد.

الخطأ في فهم النصوص:

إننا حين نقرأ نصوصاً كتبها أو قالها غيرنا، فقد نفهمها على حقيقتها، ونقف على المراد منها، كما لو كنا نحن الذين كتبناها أو قلناها، وقد نقع في الخطأ في ذلك.

ويتمثل هذا الخطأ في عدة حالات: فقد يتمثل في مجانبة الحقيقة إلى غيرها بصورة كاملة أحياناً، أو جزئية أحياناً أخرى، وذلك بسبب القصور عن نيل المراد من النص، أو لأي سبب آخر ينشأ عنه ذلك.

وقد يظهر هذا الخطأ بصورة تضخيم المراد، وتجاوزه إلى غيره، إلى درجة لا تقل في خطورتها وسوئها عن مجانبة المعنى نفسه، والابتعاد عنه إلى غيره.

وقد يتجلى ذلك فيما نجده لدى البعض من إصرار على الأخذ بحرفية جانب من النص، والإباء الشديد عن الأخذ بنظر الاعتبار ما يكتنفه من حدود وقيود، وذلك رغبة منه في تأكيد معنى أو مفهوم يسعى إلى تأكيده وترسيخه في الأذهان بصورة خفية وذكية.

وعدا عن جميع ذلك فإننا نجد لدى آخرين اهتماماً بالموارد المتشابهة، التي يحتاج فهمها إلى الرجوع إلى الراسخين في العلم من أهل بيت العصمة عليهم السلام، فيحاول هؤلاء إثارتها بصورة عشوائية ليغرقوا الناس في بحر من الشبهات التي تبعدهم عن الهدى وتصدهم عن الرشد. وهذا هو الأسلوب الذي يتبعه أهل الزيغ، ومثيروا الفتنة، الذين جاءت الإدانة الصريحة لهم في كتاب الله سبحانه حيث يقول:

(منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، يقولون: آمنا به كل من عند ربنا. وما يتذكر إلا أولوا الألباب)[٧] وقد جاءت النصوص العديدة لتؤكد على أن في الحديث الشريف أيضاً ـ كما في القرآن ـ ناسخاً ومنسوخاً، ومحكماً ومتشابهاً، وخاصاً وعاماً[٨].

وثمة فريق آخر من الناس ما أسهل عليه أن يبادر إلى رفض النص، والحكم عليه بالتحريف تارة، وبالتزوير والاختلاق أخرى، وبإظهار البراءة من عهدته بأسلوب إثارة الشبهة في ثبوته ثالثة أو يتجنب الإجابة الصريحة بأسلوب التقليل من أهمية النص الوارد عن المعصوم، حين يقول: هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله (!!!) ـ إنه يفعل ذلك ـ لأنه عجز عن تبريره وتوجيهه، وفقاً للنهج الذي ارتضاه لنفسه غير ملتفت إلى أن قصوره هذا لا يبرر له التشكيك بثبوت النص، أو بسلامته من التحريف.

وإنما قلنا: «وفقاً للنهج الذي ارتضاه لنفسه»؛ لإدراكنا: أن كثيراً من النصوص القرآنية والحديثية الواردة عن المعصومين يحتاج فهم المراد منها إلى الاعتماد على خلفيات فكرية، وسوابق ذهنية، من شأنها أن تتحكم في مسارها، وتحدد نقطة الانطلاق والارتكاز منها وفيها. وتخرجهاـ من ثم ـ عن دائرة الإجمال والترديد، لتضعها في دائرة الوضوح والتعين والتحديد.

كما أن هذه الخلفيات تساعد على معرفة الحدود التي ينتهي إليها ويقف عندها النص، وتفصح عن امتداداته وغاياته؛ فتحصنه عن القصور والتقصير في شموليته وانحساره على حد سواء.

كما أن هذه الخلفيات تساعد على معرفة الحدود التي ينتهي إليها ويقف عندها النص، وتفصح عن امتداداته وغاياته؛ فتحصنه عن القصور والتقصير في شموليته وانحساره على حد سواء.

فإذا كان ثمة خلل أو نقص في تلك الخلفيات فلسوف يؤثر ذلك على فهم النص بصورة سليمة وقويمة.

وأما رد الروايات بالاحتمالات العقلية، فهو غيرصحيح ولا مقبول. إلا إذا صادمت الرواية الحكم العقلي القاطع والصريح.

مثال على ما تقدم:

ونحن نشير هنا إلى واحد من هذه النصوص التي ربما يقف عندها أو يتحير فيها، أو يخطئ بعض الناس في فهم المراد منها…للأسباب المختلفة التي أشير إلى بعضها، أو يستغل درجة الدقة والغموض فيها، وهو النص التالي:

«عن علي بن الحسن المؤدب، عن احمد بن محمد بن خالد، وأحمد بن محمد، عن علي بن الحسن التيمي، جميعاً عن إسماعيل بن مهران، قال: حدثني عبد الله بن الحارث، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

خطب أمير المؤمنين الناس بصفين ـ وذكر خطبته ـ فكان مما قاله (عليه السلام):

«فلا تكلموني بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة،[٩] ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي. ولا التماس اعظام لنفسي لما لا يصلح لي؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه.

فلا تكفوا عني مقالةً بحق، أو مشورةً بعدلٍ، فاني لست ـ في نفسي ـ بفوق [ما] أن أُخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني؛ فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون»[١٠]الخ.

الطعن الخفي، والذكي:

وقد اعتبر البعض: أن هذا النص يكاد يكون صريح الدلالة على إمكان وقوع الخطأ من المعصوم (عليه السلام)، ولتلطيف الجو قد يقال لك:

«ولكنه الخطأ غير المتعمد الذي لا يوجب عقوبة، ولا بعداً عن الساحة الإلهية، ولا يعد من الذنوب، لا من كبيرها، ولا من صغيرها».

وقد قال المعتزلي الشافعي:

«هذا اعتراف منه (عليه السلام) بعدم العصمة، فإما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم النفس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ولا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته». انتهى[١١].

رأي الشيعة:

أما الشيعة، فيقولون: إن النبي والإمام معصومان عن الذنب، وعن السهو والنسيان، والخطأ، عمدياً كان أو غير عمدي، في التبليغ وفي غيره[١٢]. وتدل على ذلك الروايات[١٣].

والعصمة هي لطف رباني، ورعاية وتسديد إلهي شامل، أين منها ملكة العدالة في عمقها وقوتها ورسوخها. ولا يمكن تجزئة الملكة، ليكون معصوماً هنا عن الخطأ غير معصوم عنه هناك.

وكيف يمكن أن نتصور الخطأ والسهو في من هو أسوة وقدوة في كل حركاته وسكناته حتى في أخص شؤونه وحالاته، وفي كل ما يمكن أن يصدر عنه حتى في أدق التفاصيل في حياته الشخصية؟!. فمن يخطئ كيف يكون أسوة وقدوة؟، وقوله وفعله وتقريره حجة ودليل على حكم الإباحة على الأقل؟.

وعلى هذا الأساس، يصبح فهم قول الإمام (عليه السلام): «لست ـ في نفسي ـ بفوق أن أخطئ» صعباً ومعضلاً، بحسب النظرة السطحية وفي بادئ الأمر.

فهل لهذا الكلام وجه وجيه ومقبول؟!

أم لا بد من الحكم عليه بالبطلان، وتكذيب نسبته إليه (عليه السلام)، لمخالفته بديهيات المذهب ثم ضرورات العقل والوجدان الحي؟!

أم أن الأصوب هو الحكم عليه بأنه قد حرف بزيادة أو نقيصة، لا نملك تحديدها؟!

أم أن الأولى هو الاعتراف بالعجز التام عن فهم مغزاه ومرماه، وإيكال أمره ـ من ثم ـ من أهله، فانهم عليهم السلام أعرف بمقاصدهم، وأعلم بمرامي كلامهم؟!

سؤال، أو أسئلة تطرح نفسها، وتتطّلب منا الإجابة عنها بإنصاف وبموضوعية وأناة.

أي ذلك أقرب وأصوب:

ونقول في الجواب:

إن هناك أكثر من إجابة على هذه الشبهة، وللقارئ أن يختار منها ما هو أولى وأقرب، وأصح وأصوب، مما هو أوفق بالمعايير الصحيحة، التي يفترض فيها أن تكون هي التي تتحكم بطريقة التعامل مع النصوص، ومع الأفكار التي يريد الإنسان أن يتبناها، وأن يلتزم ويلزم الآخرين بها.

ونذكر من هذه الإجابات ما يلي:

١ـ هضم النفس والتواضع:

لقد أشار البعض، كابن أبي الحديد المعتزلي، ومحمد بن إسماعيل المازندراني الخواجوئي وأوضحه العلامة محمد باقر المجلسي رحمه الله؛ إلى أنه (عليه السلام) قد قال مقالته تلك على سبيل هضم النفس، والانقطاع إلى الله، والتواضع، الباعث لهم على الانبساط بقول الحق، وعدِّ نفسه من المقصرين في مقام العبودية، والإقرار بأن عصمته من نعمه تعالى عليه.

وليس أنه اعتراف بعدم العصمة كما تُوُهِّم، بل ليست العصمة إلا ذلك، فإنها هي أن يعصم الله تعالى العبد عن ارتكاب المعاصي[١٤]. وقد أشار (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: إلا أن يكفي الله.

ويؤكد صحة هذا التوجيه: أنه (عليه السلام) قد قال هذه الكلمات في حرب صفين. ولم يكن العراقيون آنئذ يعتقدون بإمامته وعصمته (عليه السلام)، فيما عدا بعض الأفراد القليلين منهم.

واستشهد الخواجوئي لذلك بما روي عن علي (عليه السلام): «ألم تعلموا: أن لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بكم، وإنهم لفصحاء العقلاء الألباء العالمون بالله وأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت ألسنتهم، وانقطعت أفئدتهم، وطاشت عقولهم، وتاهت حلومهم، إعزازاً لله وإعظاماً وإجلالاً. فإذا أفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم براء من المقصرين والمفرطين، إلا أنهم لا يرضون بالقليل»[١٥] الخ.

٢ـ لولا العصمة الإلهية لكان الخطأ:

وقد يجاب عن ذلك بطريقة أخرى لا تختلف عن سابقتها من حيث النتيجة، وإن كانت تفترق عنها من حيث استبعاد عنصر التواضع وهضم النفس. فيقال: إن الإمام قد تحدث عن نفسه بغض النظر عن العصمة التي هي لطف الهي، وتسديد وتوفيق، وهبة ورعاية ربانية لمن تطلب ذلك وسعى إليه. أي أنه (عليه السلام) يريد أن يقول: لولا العصمة الإلهية لوقعت في الخطأ.

فإنه (عليه السلام) قد نظر إلى نفسه الإنسانية بما لها من خصائص ومزايا ومواصفات اقتضتها الطبيعة البشرية، والتكوين الإنساني. فهو بهذه التركيبة، وبغض النظر عن اللطف والرعاية والعصمة الإلهية ليس بفوق أن يخطئ. ولذا قال: «فإنني لست في نفسي بفوق» فكلمة «في نفسي» تشير إلى أنه يتحدث عن نفسه بغض النظر عن اللطف الإلهي والعصمة الربانية.

فهو (عليه السلام) بشر كالنبي (صلى الله عليه وآله) وكيوسف، وإبراهيم ونوح وغيرهم، فلو أوكلهم الله إلى أنفسهم، وحجب عنهم رحمته وتسديده، وابتعدوا عن لطفه تعالى ورعايته وعصمته فإنهم ليسوا بفوق أن يخطئوا.

وهذا هو نفس ما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله) في كلمته التي نقلها عنه المعتزلي الشافعي فيما سبق.

وهي قوله (صلى الله عليه وآله): لا، إلا أن يتداركني الله برحمة منه.

ثم ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلماته التي هي مورد البحث بقوله: «إلا أن يكفي الله».

وقد يكون مراد الخواجوئي ما يقرب من هذا حين قال: «إن المعصوم لما كان في قالب بشري، وجلباب ناسوتي وكانت له قوى حيوانية متجاذبة، متداعية إلى الشر والضر شارفت أن تسول له المعصية والجرأة»[١٦]. لا أن ذلك قد وقع منه بالفعل بل اللطف الإلهي بالعصمة يكون مانعاً من ذلك.

٣ـ التعليم:

وثمة إجابة ثالثة يمكن أن تراود أذهان البعض، وهي أنه (عليه السلام) يريد أن يعلَّم الناس كيف يتعاملون مع الحكام الذين سوف يلون رقابهم، ويتسلطون على الأمة بغير حق، ـ يريد أن يعلمهم ـ بطريقة لا تثير حفيظة أحد، ولا شكوك هذا أو ذاك بأنه (عليه السلام) يريد بكلامه هذا التعريض بهذا الحاكم أو ذاك ممن سبقوه، وعرف الناس حالهم وطريقتهم.

إنه (عليه السلام) يريد أن يقول للناس: إن سلطان الحاكم لا يجوز أن يمنعهم من مواجهته بالحق، ومطالبته بالعدل والعمل به، والالتزام بخط الشريعة والدين. وإلا فإن عليهم أن يصنفوه في عداد الجبابرة ومن أهل البادرة.

فإذا كان علي (عليه السلام) الذي هو الإمام المنصوص على إمامته، وقد نص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنه مع الحق، والحق معه، ونصّت آية التطهير ودلت الأدلة العقلية والنقلية المتواترة على عصمته عن الخطأ والزلل ـ إذا كان علي (عليه السلام) ـ يريد من رعيته أن ينفتحوا عليه إلى هذا الحد، فما بالك إذا كان راعيهم من أولئك الذين ليس لهم صفة الإمامة المنصوصة، ولا عصمة لهم بل هم لا يؤمنون على شيء ولا يتورعون عن ارتكاب العظائم، من الجرائم والمآثم ؛ فإن رصد حركة هؤلاء، ومراقبة تصرفاتهم أولى وأوجب، ومطالبتهم بالتزام العدل والاستقامة ألزم وأصوب.

وقد ألمح (عليه السلام) إلى طريقة أولئك المنحرفين، الذين هذه حالهم، وتلك صفاتهم، حين قال في نفس كلامه المتقدم: «فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة».

ثم قدم لهم معياراً وضابطة مهمة جداً ليتعرفوا من خلالها على طبيعة ومزايا هذا النوع من البشر، ليتخذوا منهم الموقف الحازم والحاسم إذا اقتضى الأمر ذلك، فقال: «فإن من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه».

كما أنه (عليه السلام) بأسلوبه هذا يكون قد ابتعد عن الأسلوب الصدامي الحاد، وعن الظهور بمظهر من يريد أن يفرض أحكامه وتوجيهاته من موقع الآمر والزاجر، والمتسلط المهيمن القاهر.

ولكن المازندراني الخواجوئي قد أشار إلى أن لهذا التعليم منحى آخر، حيث قال: «أو يكون هذا من باب تعليمهم الأمة والرعية كيفية الطاعة، والعبادة والخضوع والخشوع»[١٧].

أي أنه (عليه السلام) يريد أن يجسد لهم من نفسه الأسوة والقدوة الصالحة، ليتعلموا ذلك منه.

٤ـ التكليف الصواب، والواقع الخطأ:

وثمة إجابة رابعة قد لا يستسيغها البعض، لا سيما إذا

لم يتابعوا حديثنا هذا إلى نهايته، لتتضح لهم بعض اللمحات والخصوصيات، التي تفيد في تركيز الفكرة، وجلاء الصورة، ونلخص هذه الإجابة على النحو التالي:

إن المعصوم ـ النبي أو الإمام ـ قد يطلع على الواقع من طريق عادي، كمعرفته بسرقة السارق، بواسطة الشهود، وبطهارة الجبن مثلاً، وبحلية اللحم، لكونه مأخوذاً من يد المسلم، أو من سوق المسلمين، وكمعرفته بحياة زيد من الناس بواسطة إخبار الناس له بحياته.

وقد يطلع المعصوم على الواقع من طريق غير عادي، كالوحي للنبي (صلى الله عليه وآله)، وكإخبار النبي (صلى الله عليه وآله) للأئمة ببعض الأمور والوقائع الغيبية.

وما يكون التعامل مع الناس على أساسه ومن خلاله هو النوع الأول. فيقطع المعصوم يد السارق استناداً إلى شهادة عدلين، ويجلد شارب الخمر، ويجلد الزاني أو يرجمه، … استناداً إلى الشهود أو إلى الإقرار من الفاعل. ويحكم بملكية زيد لشيء بعينه استناداً إلى قاعدة اليد، ويلتزم ويُلزم غيره بالطهارة، وبذكاة اللحم، استناداً إلى سوق المسلمين، أو إلى حمل فعل المسلم على الصحة. أو أصالة الطهارة وما إلى ذلك.

فإن كان ثمة خطأ، فإنما جاء من الشاهدين، أو من الإقرار غير المطابق للواقع، وليس الخطأ من الحاكم والحكم، وعلى هذا الأساس نجد الرواية المعتبرة تحدثنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان. وبعضكم الحن بحجته من بعض، فأيما رجلٍ قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنما قطعت قطعة من النار». أو ما هو قريب من هذا المضمون[١٨].

وقال عبد الله بن أبي رافع وهو يحكي لنا قصة التحكيم في صفين:

«حضرت أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد وجه أبا موسى الأشعري، وقال له: أحكم بكتاب الله، ولا تجاوزه.

فلما أدبر قال: كأني به وقد خدع.

قلت: يا أمير المؤمنين، فلم توجهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟!

فقال: يا بني، لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل»[١٩].

فالعمل إذن.. لا بد أن يكون وفق الشواهد والدلائل الظاهرية كما ذكرنا.

شواهد من الواقع:

ولأجل أن المعصوم إنما يتصرف ويتعامل مع الناس على أساس هذا العلم الواصل إليه بالطرق المألوفة التي هي حجة ودليل، نجد النبي (صلى الله عليه وآله) يرسل خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فيرتكب خالد جريمته النكراء في حقهم، ويقتل بعضهم، ويضطر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن يَدِيَهُم ويعوَّضهم عما أخذ منهم، وكان علي (عليه السلام) هو الذي تولى إيصال ذلك إليهم. في قصة معروفة.

ولكنه (عليه السلام) لا يعاقب خالداً ومن معه، ربما لأنهم كانوا يثيرون ما يوجب الشبهة في كون ارتكابهم للجريمة قد جاء عن سابق علم وإصرار. ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات.

ومن هذا القبيل أيضاً إرسال النبي (صلى الله عليه وآله) الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق. وما كان منه في حقهم، حيث تسبب في تعرضهم للكارثة، فنـزلت في حقه الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[٢٠].

وقد جعل النبي (صلى الله عليه وآله) في حرب أحد أناساً على فتحة في الجبل ليحفظوها من تسلُّل المشركين منها؛ فتركوا مراكزهم، وسنحت الفرصة للأعداء، فتسللوا منها، وأوقعوا بالمسلمين.

وقد استكتب النبي (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد وذهب إلى مكة، وجعل يزعم أنه كان يغير في ألفاظ القرآن حين يلقيها إليه النبي ليكتبها، فبدل أن يكتب: غفور رحيم، كان يكتب عزيز حكيم مثلاً.

ثم إنه (صلى الله عليه وآله)قد أمر عمرو بن العاص على بعض السرايا، واستعمل أبا سفيان على بعض الصدقات، رغم معرفته بهما.

وقد ولى علي (عليه السلام) مصقلة بن هبيرة، ففر إلى معاوية في قضية أموال طالبه بها ليعيدها إلى بيت المال.

وولى الأشعت بن قيس آذربايجان، ولم يكن ليخفى عليه أمر الأشعت ولا حقيقة نواياه.

وولى الإمام الحسن (عليه السلام) عبيد الله بن عباس، وغيره، فانحاز إلى معاوية في مقابل حفنة من المال.

وقد كان علي بن أبي حمزة البطائني من وكلاء الإمام الكاظم (عليه السلام)، فلما توفي (عليه السلام) وكان بيده شيء منه، ادعى الوقف عليه طمعاً بما في يده، وكان هو المنشأ للفرقة التي تسمى بالواقفة. إلى غير ذلك مما هو كثير وكثير جداً لا حاجة إلى تتبعه واستقصائه.

فكل ما تقدم يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) حين ولى هذا أو ذاك، أو جعله وكيلاً له، أو أرسله في مهمة، أو ما إلى ذلك، فإنما كان يعمل بوظيفته، وتكليفه وفق ما انتهى إليه علمه بواسطة ما توافر لديه من أدلة وشهادات أمره الله بالعمل على وفقها. أو استند إلى حسن الظاهر، الذي لا بد من العمل على وفقه، حيث لا يوجد ما ينقضه ويخالفه.

فهو (عليه السلام) لم يخطئ في عمله، لا عمداً ولا سهواً. بل الذي أخطأ هو ذلك الدليل، وتلك الشهادة.

وليس هو (عليه السلام) مسؤولاً عن ذلك.

نعم، لو جاء الناس إليه أو بعضهم، ونقضوا له ما أدت إليه تلك الشهادة، أو الدلالة، وبطل تأثيرها، ولم تعد دليلاً معتبراً، وارتفع التكليف بالعمل بموجبها، فإن هذا النقض يكون في محله، وهو محبوب ومطلوب لله جل وعلا.

فلو أن الناس جاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يرسل الوليد بن عقبة، أو خالد بن الوليد مثلاً، وأطلعوه على واقع هذين الرجلين، وحقيقة نواياهما، لم يجز له (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ والحالة هذه ـ أن يرسلهما في المهمة التي حصل فيها ما حصل، وذلك لأن حسن الظاهر لهما قد بطل أثره، وتبدل التكليف، وصار من الواجب ترتيب آثار الفسق الذي ثبت بإخبار الناس لرسول الله به من باب النصيحة للأمة وللأئمة، والنصيحة واجبة على الناس كلهم كما هو معلوم.

وهكذا الحال بالنسبة لسائر الموارد، كل مورد بحسبه.

فالنصيحة من الناس للإمام، وللنبي إنما هي بإعلامه بالأمر الذي لم يكن مكلفاً بالتحري عنه، ولا كان ملزماً بالعمل على وفقه، رغم أن المعصوم قد يكون عارفاً بالحقيقة، ولكن من طريق غير عادي، كالوحي أو غيره.

ولكن العلم عن هذا الطريق غير العادي لا يلزم النبي (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام (عليه السلام) بالعمل على وفق المعلوم، فلو حلف المدعي كاذباً، أو شهدت البينة بخلاف الواقع، وعلم (صلى الله عليه وآله) بهذا الخلاف من طريق الوحي، فلا يحكم بعلمه، بل يحكم وفق البينة، أو اليمين.

ولعل ذلك يرجع إلى أن في ذلك صوناً لمستقبل الأمة، وحفظاً لها من أن يتخذ الظالمون والطواغيت، وأصحاب الأهواء ذلك ذريعة إلى توجيه ضرباتهم القاتلة إلى قوى الإيمان والخير، والتنكيل بهم، وذلك بحجة أنهم قد عرفوا بطرقهم الخاصة غير العادية بما لم يعرف به الآخرون.

وبذلك نعرف السبب في أن الرؤيا في المنام غير قابلة للاعتماد، وكذلك دعوى ملاقاة الإمام الحجة المنتظر (عليه السلام)، والأخذ منه مباشرة. فضلاً عن العلوم المزعومة التي قد تنسب إلى الجن، أو السحر، أو ما إلى ذلك.

هذا، وقد أشارت الروايات إلى أن عمر بن الخطاب، قد حاول أن ينتزع اعترافاً من الصحابة أو من بعضهم بأن له أن يعمل بعلمه، فواجهه علي (عليه السلام) وابن عوف أو أحدهما برفض ذلك منه.

ويفصل البعض هذه القضية فيقول: روي أن عمر كان يعسُّ ذات ليلة بالمدينة فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين؟!. قالوا: إنما أنت إمام. فقال علي بن أبي طالب: ليس ذلك لك، إذن يقام عليك الحد؛ إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود[٢١].

ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم. ثم سألهم، فقال القوم مثل مقالتهم الأولى، وقال علي مثل مقالته الأولى[٢٢].

نتيجة ما تقدم:

إذن، فليس ثمة ما يمنع من أن يطلب أمير المؤمنين (عليه السلام) من أصحابه أن يخبروه بالواقع الذي يعرفونه، وأن يبطلوا الشهادات أو الأدلة التي لو لم يظهر خلافها لكان عليه أن يبادر إلى العمل بمضمونها.

فتكون تلك المبادرات منهم سبباً في إسقاطها عن الاعتبار وعن الحجية، لأنه (عليه السلام) مكلف بالعمل وفق تلك الأدلة، إلى أن يظهر خلافها.

فهو (عليه السلام) يدعو أصحابه ويريد منهم أن يرصدوا الواقع من أجل أن يحفظوه. وحفظ الواقع بهذه الطريقة، لا يوجب خللاً في عصمته عليه الصلاة والسلام، كما أنه لا يوجب خللاً في عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

٥ـ ضعف سند الرواية:

وبعد ما تقدم نقول:

إن الإجابات المتقدمة كانت مبنية على أساس أن يكون سند هذه الرواية صحيحاً، أو معتبراً، مع أن الأمر ليس كذلك. فقد قال المجلسي عن هذا الحديث:

«ضعيف بعبد الله بن الحارث. وأحمد بن محمد معطوف على علي بن الحسن، وهو العاصمي. والتيمي هو ابن فضال. وقل من تفطن لذلك»[٢٣].

٦ـ الثوابت هي المرجع:

ولنفترض جدلاً: أن جميع ما تقدم لم يستطع أن يقنعنا، ولم يحل مشكلة الشرح اللفظي لكلامه (عليه السلام)، فإننا نقول:

إن ما ذكرناه فيما تقدم، وفيه ما هو القوي في ظهوره ودلالته، يمنع من الركون إلى مقولة: أن علياً يخطئ بالفعل، استناداً إلى تلك العبارة المنقولة عنه: ما أنا ـ في نفسي ـ بفوق أن أخطئ؛ وذلك لأنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فكيف إذا كان هذا الاحتمال هو الظاهر والمعقول، والمرضي والمقبول؟!

ومع صرف النظر عن ذلك كله. فإن عصمة النبي والإمام عن السهو والخطأ والنسيان، والذنب لهي من الثوابت الإيمانية، والعقيدية التي قامت عليها الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة من العقل والشرع[٢٤] وخصوصاً آية التطهير، وقوله (صلى الله عليه وآله): علي مع الحق والحق مع علي[٢٥]، فلا بد ـ مع وجود الشبهة ـ من الرجوع إلى هذه الثوابت، والاحتكام إليها، ثم الرد والقبول على أساسها.

فإذا كانت كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) ضعيفة السند، متشابهة الدلالة فما علينا، إذا توقفنا عن قبولها، ثم نرد علمها إلى أهلها، ملامة أو جناح، فإن الحق أحق أن يتبع.

مع أننا قد ذكرنا ما يرفع كل شبهة، ويزيل كل ريب في دلالتها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قم المقدسة

جعفر مرتضى العاملي

-----------------------------------------------------
[١] . عمدة الطالب: ٢١٠، وروضات الجنات: ٥٤٨.
[٢] . مجلة تراثنا، السنة الأولى العدد الخامس، ص٢٦٥، مقال للشيخ هادي الأميني.
[٣] . النجوم الزاهرة، ج٤ ص٢٤٠.
[٤] . نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج١ ص٢ وص٥٤ من نفس النهج وديوان الشريف الرضي، مقدمة الدكتور عبد الفتاح الحلو، ص٤٣ و ص٩٩، وراجع أيضاً روضات الجنات، ص٥٤٨. وإيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، ج٣ ص٤٣٠، ورجال النجاشي، ص٣٩٨ وعمدة الطالب، ص٢٠٧ والدرجات الرفيعة، ص٤٦٧ والغدير، ج٤ ص١٩٨ وثمة مصادر أخرى فراجع مقدمة الحلو لديوان الشريف، ص٩٩ ـ ١٠١.
[٥] . تراثنا [مجلة] السنة الأولى، العدد الخامس، ص٢٦٦، مقال للشيخ محمد هادي الأميني.
[٦] . ديوان الشريف الرضي، مقدمة الدكتور الحاو، ص٤٣.
[٧] . سورة آل عمران الآية ٧.
[٨] . راجع: الكافي ج١ ص٦٣ـ٦٥ والأربعون حديثاً للبهائي ص١٤٧ـ١٥٠.
[٩] . البادرة: الحدة والمصانعة: الرشوة.
[١٠] . محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج٨ ص٢٩٣ وبحار الأنوار، للعلامة المجلسي ج٢٧ ص٢٥٣ وج٤١ص١٥٤وج٧٤ ص٣٥٨/٣٥٩، ونهج البلاغة ص٢٤٥ ط دار التعارف، بيروت.
[١١] . شرح نهج البلاغة ج١١ ص١٠٧ و١٠٨ والحديث عنه (صلى الله عليه وآله) يوجد في المصادر التالية، بحار الأنوار ج٧ ص١١ ومسند أحمد بن حنبل ط دار إحياء التراث العربي سنة ١٤١٤ هـ ق. ج٣ ص٣٠٥ و٢٣٠ و٢٣٦ و١٧ و٢٦٠ و٢٧٠ و٣٠٨ و٤٥٢ وج ٤ ص٣٣٦ وج٢ ص٤٦٧ و٥٠٥ و٥١٩ و٦١٣ ومجمع البيان ط سنة ١٤١٢ هـ. دار إحياء التراث العربي ج٣ ص٣٥٢ وقال: رواه الحسن في تفسيره وجامع الأصول ج١ ص٢١٢ـ٢١٥ عن البخاري ومسلم وصحيح البخاري ج٨ ص١٧٦ و١٧٧ ط المكتبة الثقافية ـ بيروت وصحيح مسلم ط دار إحياء التراث العربي ج٤ ص٢١٦٩ ـ ٢١٧١ وسنن ألد ارمي ج٢ ص٣٩٦ ط دار الكتاب العربي سنة ١٤٠٧ هـ ق. وسنن ابن ماجة [بشرح السندي] ج٢ ص٥٥٠ ط دار الجيل ـ بيروت. ـ
[١٢] . راجع على سبيل المثال: أنوار الولاية ص ٥٦٧ ط سنة ١٤٠٩ هـ ق. تأليف: زين العابدين الكلبايكاني، المتوفى سنة ١٢٨٩ هـ ق. وراجع: الفخر الرازي، التفسير الكبير. ج١٠ ص١٤٤ والأصول العامة للفقه المقارن ص١٥٩ عنه وعبقات الأنوار ج٢ ص٢٩١ /٢٩٢ عن الرازي أيضاً. وراجع: دلائل الصدق ج٢ مبحث العصمة والتنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان ص١٠ و١٢ و١٣ و١٤ و٤٥ـ٥٤ عن الفاضل المقداد والبهائي وعن الشهيد في الذكرى والبيان.
[١٣] . راجع: التنبيه بالمعلوم من البرهان ص ٢٦ـ٤٤.
[١٤] . راجع فيما تقدم: مرآة العقول ج٢٦ ص٥٢٧ و٥٢٨ وشرح نهج البلاغة لابن ميثم ج٤ ص٤٨ وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي ج١١ ص١٠٧ و١٠٨ وقد تقدمت عبارته. وراجع أيضاً، مفتاح الفلاح للخواجوئي ص١٢٩ وراجع ص٢٢٦.
[١٥] . مفتاح الفلاح ص٢٢٦.
[١٦] . مفتاح الفلاح ص١٢٩.
[١٧] . مفتاح الفلاح ص١٢٩ وراجع ص٢٢٦.
[١٨] . وسائل الشيعة ج٢٧ ص٢٣٢ وفي هامشه عن الكافي ج٧ ص٤١٤، وتهذيب الأحكام ص٢٢٩ و٢٥٢ ومعاني الأخبار ص٢٧٩. وراجع: التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) ص ٢٨٤والسنن الكبرى للبيهقي ج١٠ ص١٤٣ و١٤٩ وصحيح البخاري وصحيح مسلم.
[١٩] . مناقب أل أبي طالب ج٢ ص٢٦١.
[٢٠] . الحجرات، الآية ٦.
[٢١] . راجع: السنن الكبرى للبيهقي ج١٠ ص١٤٤ والمصنف لعبد الرزاق ج٨ ص٣٤٠.
[٢٢] . الفتوحات الإسلامية [للسيد زيني دحلان] ج٢ ص٤٦٦ وراجع: الاستغاثة ص٩٢ و٩٣ فأنه قد ذكر ذلك في قضية أخرى وراجع: كنز العمال ج٥ ص٤٥٧.
[٢٣] . مرآة العقول ج٢٦ ص٥١٧.
[٢٤] . راجع كتاب: التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان. وراجع عبقات الأنوار ج٢ ص٣١٩.
[٢٥] . راجع: دلائل الصدق ج٣ ص٣٠٣ وشرح النهج للمعتزلي ج١٨ ص٧٢ وعبقات الأنوار ج٢ ص٣٢٤ وعن السندي في: دراسات اللبيب ص٢٣٣ وكشف الغمة ج٢ ص٣٥ وج١ ص١٤١ ـ ١٤٦ والجمل ص٣٦ وتاريخ بغداد ج١٤ ص٣٢١ ومستدرك الحاكم ج٣ ص١١٩ و١٢٤ وتلخيص المستدرك للذهبي [مطبوع بهامشه] وربيع الأبرار ج١ ص٨٢٨ و٨٢٩ ومجمع الزوائد ج٧ ص٢٣٤ ونزل الأبرار ص٥٦ وفي هامشه عنه وعن كنوز الحقائق ص٦٥ وعن كنز العمال ج٦ ص١٥٧ وملحقات إحقاق الحق ج٥ ص٧٧ و٢٨ و٤٣ و٦٢٣ ـ ٦٣٨ وج١٦ ص٣٨٤ ـ ٣٩٧ وج٤ ص ٢٧ عن مصادر كثيرة.
****************************