وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
مقام الشريف الرضي بين شعراء القرن الرابع - الثاني

أيها السادة: قد أشرت كما ترون إلى نحو عشرين موضعا زهي فيها الشريف بشعره واختال، وقد حدثتكم أن تلك المواضع نيّفت على الستين، والآن أحب أن نفهم معا كيف صح ذلك الزهو وذلك الاختيال: كان يكفي أن نسجل هذه الظاهرة النفسية، وأن نقول إنه سلك طريقا سار فيه كثير من الشعراء، ولكني رأيت بعد التأمل والدرس أن هذه الظاهرة النفسية تجرّ وراءها أشياء، وأكاد أجزم بأنها تدل دلالة على أن الرجل كان يحس أنه يحيا في عصره حياة المغبون، وأنه كان على أهل زمانه من الحاقدين.

ولكن كيف يصح هذا الافتراض ها كم البينات: كان الشريف يعيش في عصر احتله الأموات واحتله الأحياء.

أما الأموات الذين احتلوا عصره فهم البحتري وأبو تمام والمتنبي، وقد شاء النقاد أن يمكَّنوا أولئك الأموات من ذلك الاحتلال، وأظهر شاهد على ذلك ما صنع أبو العلاء المعرّي الذي عاش دهره كله وهو يحقد على

الشريف الرضي أبشح الحقد، فقد ألف ثلاثة كتب في شاعرية أبي تمام والبحتري والمتنبي، وأراد أن يسجل أن دنيا الشعر وقف على هؤلاء الثلاثة فقال: البحتري هو الشاعر، وأبو تمام والمتنبي حكيمان. وكان الغرض من هذا الحكم أن يكون هؤلاء الثلاثة محور الجدل والخلاف.

ويضاف إلى هذا أن الشريف الرضي أعلن خصومته لشاعرية المتنبي وإعلان هذه الخصومة عاد على ذكرى المتنبي بأجزل النفع، فقد كان للشريف كثير من الأعداء، وأولئك الأعداء أصابوا فرصة لم تكن تخطر ببال، فقد مضوا يبدئون ويعيدون في الكلام عن عبقرية المتنبي، وأذاعوا في الناس أنه شاعر لن يجود بمثله الزمان، وكانت هذه الاحكام ظاهرها حب الأدب وباطنها إغاظة الشريف.

وقد أراد خصوم المتنبي أن يقوموا بحركة عكسية، ولكنهم لم يفلحوا، فقد أرسل الصاحب بن عباد يستنسخ ديوان الشريف ليفهم الناس أن الشريف هو شاعر الجيل، وأن العصبية للمتنبي لا تمنع من التسليم بأن عالم الشعر لا يزال فيه مجال للاعلام والأقطاب[١].

قد تقولون: وكيف جاز للشريف أن يحقد على رجل مات قبل أن يجيء هو إلى الدنيا بأعوام وأجيب بأن موت المتنبي في القرن الرابع لم يكن مثل موت شوقي في القرن الرابع عشر: فقد سكت النقاد عن شوقي بعد إذ مات، لان شوقي

كان ملك الجماهير في زمانه ملكا قويا، وكان تفرّد بأفانين من الشعر عجز عنها معاصروه، فلما مات سلموا له بالأمارة الشعرية، وعادوا إلى شؤونهم ساكتين.

ولم يكن الحال كذلك بعد موت المتنبي، فقد كان على جهارة صوته وجلجلة شعره يحدّث الناس بما يألفون، وكانت له بدوات لفظية ومعنوية تؤلب الناس عليه، وتهيج النحويين واللغويين، فلما مات بقيت الفرصة للجدل والشغب والضجيج، وانقسم الناس حول شعره إلى فريقين: عدوّ وصديق، وكذلك ظل يثير الهيجاء وهو هامد بين الصفائح والتراب، ولو تسمّع الناس صوت رفاته البالي لرأوه يقول:

أنام ملء جفوني عن شواردها            ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

ومن المؤكد أن الشريف شهد الخصومة حول شعر المتنبي وهو طفل ومن المؤكد أيضا أن عظمة المتنبي احتلت أقطار نهاه، ولعلها كانت السبب في أن ينظم الشريف أجود الشعر وهو ابن عشر سنين، فليس من المستبعد أن يكون في أساتذة الشريف من لقّنه الحقد على المتنبي، ثم ظل هذا الحقد عقيدة أدبية يساورها وتساوره طول الحياة.

وأقف عند الغرض الأصيل فأقول: إن الشريف كان يعجب لانصراف الناس عن شعره وإقبالهم على شعر المتنبي، وقد انقلب هذا العجب إلى حقد: لأنه كان يرى نفسه أشعر من المتنبي، وكان يفهم جيدا أن الناس لو خلصت ضمائرهم من أوضار العصبيات الدينية والسياسية والأدبية لفضلوه على المتنبي، ولكنهم لن يخلصوا ولن يسعفوا الشريف بما يريد.

ولم يكن المتنبي هو الشاعر الوحيد الذي يحتل أذهان أهل بغداد من فقد كانت هناك أطياف ترد إلى أهل بغداد من شاعر ولد في بلد بعيد وعاش في القرن الرابع: وهو أبو القاسم بن هاني الذي ولد في إشبيلية، وسمت به همته إلى أن يكون أمير الشعراء في مصر، ثم احتضره الموت وهو في الطريق، فلم يشهد بساتين الجزيرة ولا مساجد الفسطاط.

وكانت أطياف ابن هاني تغيظ الشريف الرضي أشد الغيظ: لأن الناس لم يكونوا يجدون عبارة تفيه حقه من الثناء إلا أن يقولوا هو متنبي المغرب.

ولا نعرف بالضبط كيف عرف العراقيون شعر بن هاني لعهد الشريف، ولكن من المؤكد أن ابن هاني كانت له سمات تلفت العراقيين إليه: فقد كان شاعر الفاطميين أعداء العباسيين، الفاطميين الذين أنشأوا القاهرة لينافسوا بغداد، وليخلقوا الخصومة بين دجلة والنيل.

أيها السادة: حدثناكم حديثا موجزا عن شاعرين كانا يحتلان أذهان الناس في بغداد من بين الأموات، وهما المتنبي وابن هاني، وبينّا كيف كان الشريف يغتاظ لصيرورة ما أبدعا من الآيات، فما بالنا لا نخبط شجرة الشعر في القرن الرابع لنرى كيف كان الشريف يتعب ويضجر ويلتاع ليرفع رايته في ذلك البحر المحيط لقد كان العراق في القرن الرابع مسرحا لعرائس الشعر الجميل، وكان المرء لا يلتفت إلا رأى نفائس وغرائب تبهر الأذواق والقلوب والقول.

ففي القرن الرابع ولد السّلامي، ولد بالكرخ لستّ خلون من رجب سنة ٣٣٥، وقد بهر الناس بشعره في مطلع صباه، فقد كان أول ما سار من شعره قوله وقد ركب سفينة في دجلة، وكان ركبها أول مرة[٢].

وميدان تجول به خيول            تقود الدارعين ولا تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفا[٣]   له جسم وليس له فؤاد
جرى فظننت أن الأرض وجه   ودجلة ناظر وهو السّواد
وقد مضى السّلامي يبدع ويجيد   حتى فتن أهل بغداد

وحتى استطاع أن يقول:

وفيهن سكرى اللحظ سكرى من الصّبا              تعاتب حلو اللفظ حلو الشمائل
أدارت علينا من سلاف حديثها   كؤوسا وغنّتنا بصوت الخلاخل

واستطاع أن يجيد وصف الزنابير التي تضجر أهل بغداد فيقول:

ولابس لون واحد وهو طائر            ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ محشيّ الطيلسان مدبّج   وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حكّ أعلا رأسه فكأنما   بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولى ويؤمن مقبلا   ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسيّ الزي يعقد خصره   عليه قباء زيّنته الوشائع[٤]
فمعجره الورديّ أحمر ناصع   ومئزره التبريّ أصفر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبد   ويسقي كؤوسا ملؤها السم ناقع

والسّلامي هذا كان شغل أهل العراق في القرن الرابع فمنحوه لقب أمير الشعراء، فانظروا كيف كان يصح للشريف الرضي أن يسكت عن ضياع شعره، وهو أشعر من أمثال السلامي بلا جدال.

وفي ذلك العصر نبغ في العراق ابن نباتة السعدي الذي وصف الثعالبي قصائده بأنها أحسن من مطالع الأنوار وعهد الشباب. وأرقّ من نسيم الأسحار وشكوى الأحباب، ابن نباتة الذي يقول:

وكم لليل عندي من نجوم              جمعت النثر منها في نظام
عتابا أو نسيبا أو مديحا   لخلّ أو حبيب أو همام
تفيد بها العقول نهى وصحوا   وقد فعلت بها فعل المدام
لها في حلبة الآداب ركض   إلى حبّ القلوب بلا احتشام

ابن نباتة الذي يقول:

عجبت له يخفي سراه ووجهه              به تشرق الدنيا وبالشمس بعده
ولا بدّ لي من جهلة في وصاله   فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده

وفي ذلك العهد نبغ بالموصل شاعر فحل هو السّري الرّفاء[٥] السرّي الذي يقول وقد شرب في زورق:

ومعتدل يسعى إليّ بكأسه             وقد كاد ضوء الصبح بالليل يفتك
وقد حجب الغيم السماء كأنما   يزرّ عليها منه ثوب ممسّك
ظللنا نبث الوجد والكأس دائر   ونهتك أسرار الهوى فنهتّك[٦]
ومجلسنا في الماء يهوي ويرتقي   وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك

وأكاد أجزم بأن السري الرفاء نال من نفس الشريف كل منال، فقد شغل النقاد بشعر الرفاء شغلهم بشعر المتنبي، فأفنوا الليالي في إخراج سرقاته الشعرية ومزقوه كل ممزّق، وكان الشريف يتمنى أن يظفر شعره من النقاد ببعض ما ظفر به شعر الرفاء.

وفي عصر الشريف نبغ في العراق شاعران ما جنان هما ابن سكَّرة وابن حجاج، وكان لهذين الشاعرين في زمانهما مكان مرموق، فكان يقال في بغداد (إن زمانا جاد بابن سكرة وابن حجاج لسخيّ جدا[٧] وكانت أشعار هذين الماجنين تباع في الأسواق بأثمان غالية، وكان الناس يتشوفون إلى أشعارهما تشوف الصائمين إلى طلعة شوال، وما ظنكم بديوان شعر يباع بخمسين دينارا في أزمان قضت عليها الفتن والثورات بضيق العيش واختلال الأحوال وقد طغى هذان الشاعران في زمانهما أبشع الطغيان، بفضل ما خلبا به الناس من أشعار الهزل والمجون، وبفضل ما رزقا من قوة الافتنان مع خفة الروح.

أما ابن سكرة فكان يبدع في وصف مجالس اللهو والأنس كأن يقول:

ويوم لا يقاس إليه يوم              يلوح ضياؤه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقا[٨]   نبيع العقل فيها بالعقار

وقد اتفق له أن يعشق قينة سوداء اسمها « خمرة » فقال فيها أكثر من عشرة آلاف بيت، وكانت هذه الحكاية مدار السّمر في أندية بغداد، وأثّرت في الشريف الرضي نفسه فأنشأ القصائد الطوال في التشبيب بالسود الملاح[٩].

وأما ابن حجاج فقد تفرد بفن من السخف لم يسبقه إليه سابق[١٠]، وكان السخف في ذلك الزمن شيئا يطلبه أحرار الرجال ليتلهوا عما يحيط بهم من المعاطب والظلمات.

وقد بلغ الشعر بابن حجاج كل مبلغ فحصّل الأموال، وعقد الأملاك، وصار مقضيّ الحاجة، مقبول الشفاعة، محذور الجانب، متقى اللسان[١١].

ولم يكن السخف كل بضاعة ابن حجاج: فقد كان يجيد في سائر ضروب الشعر إجادة الفحول، واضطر الشريف إلى العكوف على دراسة شعره فأخرج منه مختارات سماها (الحسن من شعر الحسين).

ولما مات رثاه الشريف بقصيدة جيدة ابتدأها بهذين البيتين:

نعوه على ضنّ قلبي به              فلله ماذا نعى الناعيان
رضيع ولاء له شعبة   من القلب فوق رضيع اللَّبان

وختمها بهذين البيتين:

فزل كزيال الشباب الرطيب              خانك يوم لقاء الغواني
ليبك الزمان طويلا عليك   فقد كنت خفة روح الزمان

وأستطيع أن أقول إن الشريف كان يعطف على ابن حجاج لبعض الوفاق في المذاهب الدينية أو السياسية: فقد كان يعرض ببعض خصوم أهل البيت، كأن يقول في خطاب أبي إسحاق الصابي:

فداك اللَّه بي وبكل حيّ              من الدنيا دنيّ أو شريف
يحلّ لك التغافل عن أناس    تولوا ظلم خادمك الضعيف
ولست بكافر فيحلّ مالي   ولا الحجاج جدي من ثقيف
فمر بدراهمي ضربا وإلا   جعلت سبال قوفا في الكثيف[١٢]

ولم تمنعه مراعاة الخلافة العباسية في بغداد من مدح الخلفاء الفاطميين بالقاهرة والظفر بما في مصر من طيبات الهدايا والدنانير[١٣].

ولكن من الظلم أن نقضي بأن ذلك التوافق المذهبي كان كل الأسباب في عطف الشريف على ابن حجاج، فقد كانت لهذا الرجل وثبات شعرية قليلة الأمثال، فهو الذي يقول:

ومدلَّل أما القضيب فقدّه              شكلا وأما ردفه فكثيب
يمشي وقد فعل الصّبا بقوامه   فعل الصّبا بالغصن وهو رطيب
متلوّن يبدي ويخفي شخصه    كالبدر يطلع مرة ويغيب
أرمي مقاتله فتخطئ أسهمي   غرضي ويرمي مقتلي فيصيب
نفسي فداؤك إن نفسي لم تزل   يحلو فداؤك عندها ويطيب
مالي وما لك لا أراك تزورني   إلا ودونك حاسد ورقيب

تلكم حال ابن سكرة وابن حجاج، فهل يمكن القول بأن الشريف كان ينظر إلى نجاح هذين الشاعرين بعين الارتياح وكيف وهو يراهما ينتهبان الجوّ الأدبي أفظع انتهاب، ويبلغان بالهزل ما لا يبلغ معشاره أصحاب الجد الصّراح ولا تنسوا أني أسوق هذا الكلام لا بين السر في حرص الشريف على الزهو بشعره، والاختيال بعبقريته، فقد كان مضطرا إلى تذكير أهل العراق بما له في الشعر من مقام جليل.

وفي القرن الرابع نبغ أبو الحسن الجرجاني الذي ذكَّر الناس بعهد البحتري، وقد فصلت الكلام عن شعره ونثره في الجزء الثاني من كتاب « النثر الفني » فلا أعود إليه الآن، وإنما يهمني أن أنص على أنه كان من أشهر من أنصفوا المتنبي، وكان الشريف يبغض المتنبي، كما تعلمون[١٤].

ومن نوابغ القرن الرابع أبو الفتح كشاجم، وكان شعره في ذلك العهد ريحانة أهل الأدب في العراق، وكان مورد رزق للنساخ والورّاقين، وطوّفت أشعاره بالمشرق والمغرب حتى وصلت إلى القيروان، وتخير أطايبها مؤلف « زهر الآداب » فانظروا كيف يضيق صدر الشريف الرضي وهو يرى هذه الشهرة لشعر كشاجم على حين يظل شعره الفخم بلا رواة ولا شرّاح ولا نقّاد، وهو في نفسه أشعر الناس.

ومن أعلام ذلك العصر أبو حامد الأنطاكي، وهو شاعر نشأ بالشام ثم رحل إلى مصر فعاش فيها عيش الترف إلى أن مات سنة ٣٩٩ وقد كانت لهذا الشاعر في زمانه شهرة عظيمة لأنه أراد أن يكون في مصر والشام كابن سكرة وابن حجاج في العراق.

ويظهر أنه صادف في مصر جماعة من أهل الهزل والمجون فأوغل في السخف كل الإيغال، وسمى نفسه أبا الرقعمق، واعلن أنه حليف الرقاعة والحماقة، حتى صح له أن يقول:

استغفر اللَّه من عقل نطقت به              مالي وللعقل ليس العقل من شأني

ولكن هذا الشاعر لم يخل من عبقرية نبيلة، فقد سجل في شعره ليل تنيّس وهي مدينة مصرية كان لها حظَّ مرموق، وكان بها في بعض العهود خمسمائة صاحب محبرة يكتبون الحديث، وكانت كذلك من أماكن الصيد صيد الطير لا صيد الظباء، فكان بها من أنواع الطيور مائة ونيف وثلاثون صنفا ذكرها بأسمائها صاحب معجم البلدان. وسجل الانطاكيّ كذلك ملاعب الجزيرة، جزيرة الفسطاط، لا الجزيرة التي يصلنا بملاعبها في هذه الأيام جسر إسماعيل، وانظروا كيف يقول وقد طال شوقه إلى ملاعب الفسطاط:

ليلي بتنيّس ليل الخائف العاني              تفنى الليالي وليلي ليس بالفاني
أقول إذ لجّ ليلي في تطاوله:   يا ليل أنت وطول الدهر سيان
لم يكف أني في تنيس مطَّرح   مخيّم بين اشجان واحزان
حتى بليت بفقدان المنام فما    للنوم إذ بعدوا عهد باجفاني
ما صاعد البرق من تلقاء ارضهم   إلا تذكرت أيامي بنعمان
ولا حننت إلى نجران من طرب   إلا تكنفني شوق لنجران
لا تكذبنّ فما مصر وإن بعدت   إلا مواطن اطرابي وأشاني[١٥]
ليالي النيل لا أنساك ما هتفت   ورق الحمام على دوح وأغصان
اصبو إلى هفوات فيك لي سلفت   قطعتهنّ وعين الدهر ترعاني
مع سادة نجب غرّ غطارفة   في ذروة المجد من ذهل بن شيبان
وذي دلال إذا ما شئت أنشدني   وإن أردت غناء منه غناني
سقيته وسقاني فضل ريقته    وجادلي طرفه عفوا ومنّاني
ما زال يأخذها صفراء صافية   حتى توسد يسراه وخلَّاني
اللَّه يعلم ما بي من صبابته   وما عليّ جناه طرفه الجاني
كم بالجزيرة من يوم نعمت به   على تضاحك نايات وعيدان
سقيا لليلتنا بالدير بين ربا   باتت تجود عليها سحب نيسان
والطلّ منحدر والروض مبتسم   عن أصفر فاقع أو أحمر قاني
والنرجس الغض منهلّ مدامعه   كأن أجفانه أجفان وسنان

ولا يمكن الشك في أن الشريف الرضي سمع باخبار هذا الشاعر وما كان لشعره من الذيوع في الأقطار الشامية والديار المصرية.

وفي القرن الرابع نبغ ابن درّاج الأندلسي، وقد فصلت أخباره ووازنت بينه وبين أبي نواس في كتاب « الموازنة بين الشعراء » وإنما يهمني أن أنص على أن في أشعاره ما يدل على أنه رحل إلى المشرق فعرف العراق وخراسان إذ يقول:

فإن غرّبت أرض المغارب موئلي              وأنكرني فيها خليط وخلَّان
فكم رحّبت أرض العراق بمقدمي   وأجزلت البشرى عليّ خراسان
وإن بلادا أخرجتني لعاطل   وإن زمانا خان عهدي لخوّان
سلام على الإخوان تسليم آيس   وسقيا لدهر كان لي فيه إخوان
فلا مؤنس إلا شهيق وزفرة   ولا مسعد إلا دموع وأجفان
وما كان ذاك البين بين أحبة   ولكن قلوب فارقتهن أبدان
فيا عجبا للصبر منا كأننا   لهم غير من كنا وهم غير من كانوا
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم   كأني قد خنت الوفاء وقد خانوا

ولا تندهشوا أيها السادة حين أحدثكم عن غيرة الشريف الرضي من سلطان الشعراء في المشرق والمغرب، فقد كانت الدواوين الشعرية تصل إلى بغداد في حيوات أصحابها، وكانت بغداد تشعر بخطر المنافسة، منافسة القاهرة وقرطبة، فكانت تستورد كل ما تجود به القرائح، وإن تباعدت البلاد.

وكان العراقيون ومن والاهم من أهل المشرق يضنّون بالكتب ضنّ الأشراف بالأعراض: فقد غلب أديب على نسخة الجمهرة لابن دريد، غلبه الفقر، وهو أبو الحسن علي بن أحمد الفالي، فباعها للشريف المرتضى بستين دينارا، فلما تصفحها الشريف وجد فيها بخط البائع هذه الأبيات.

أنست بها عشرين حولا وبعتها            فقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها   ولو خلَّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية   صغار عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة   مقالة مكويّ الفؤاد حزين
(وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك   كرائم من ربّ بهنّ ضنين)

 ويقال إن المرتضى ردّ النسخة إلى صاحبها بعد قراءة هذه الأبيات وترك الدنانير.

أيها السادة: رأيتم كيف كان الشعر يرفع أهله في القرن الرابع، وكيف كان الشريف يضجر من خموله بين الشعراء. مع أنه كان في نفسه وفي الواقع سيد الشعراء.

فلننظر الآن نظرة ثانية نرى بها كيف عظمت منزلة الشعر في القرن الرابع، حتى استطاع الرضيّ على شرف منبته أن يرى الشعر من أظهر مزاياه كان الشعر في ذلك العصر مما يتحلى به الأمراء والرؤساء، فكان من أقطابه أمير مصر تميم بن المعز، وكان من أعلامه السادة الحمدانيون من أمثال سيف الدولة وأبي فراس.

وكيف لا يعزّ الشعر في زمن يكون من شعرائه وزراء عظام كأبي الفضل ابن العميد والصاحب ابن عباد كيف لا يعز الشعر في زمن يكون من شعرائه قاض كأبي الحسن الجرجاني وكاتب مثل عبد العزيز بن يوسف ومن عجائب ذلك العصر أن رجاله كانوا في الأغلب يجمعون بين الصناعتين: الشعر والانشاء، فكانت البلاد تموج موجا بمواكب الخيال والبيان.

وكان الشريف الرضي ينظر إلى تلك المواكب بعين القلق والحيرة: لأن الظروف السياسية كانت ضيقت عليه الخناق، وأقصت عنه أسباب السلطة الأدبية، وهي سلطة هائلة كان لها الأمر يومئذ في مصاير الرجال.

وسترون في المحاضرة المقبلة تفصيل هذا الجانب من حياة الشريف، ولكن المهم في هذه اللحظة أن تثقوا بأن الظروف هي التي أحرجته وقضت عليه وهو رجل مهذب بأن يخرج على قواعد الذوق فيزهى بشعره ويختال، المهم عندي أن تعذروا الشريف حين ترونه يقول:

سيسكتني يأسي وفي الصدر حاجة              كما أنطقتني والرجال المطامع
بضائع قول عند غيري ربحها   وعندي خسراناتها والوضائع
غرائب لو هدّت على الطود ذي الصّفا   أصاخ إليها يذبل والقعاقع
تضاع كما ضاعت خلاة بقفرة   زفتها النّعامى والرياح الزعازع[١٦]
كأن لساني نسعة حضرمية   طواها ولم يبلغ لها السوم بائع[١٧]
لقد كان لي عن باحة الذل مذهب   ومضطرب عن جانب الضيم واسع
وما مدّ ما بيني وبين مذاهبي   حجاز ولا سدّت عليّ المطالع[١٨]
سيدرى من المغبون منا ومنكم   إذا افترقت عما نقول المجامع
وهل تدّعي حفظ المكارم عصبة   لئام ومثلي بينها اليوم ضائع
نعم لستم الأيدي الطوال فعاونوا   على قدركم قد تستعان الأصابع
إذا لم يكن وصلي إليكم ذريعة   فيا ليت شعري ما تكون الذرائع
أرى بارقا لم يروني وهو حاضر   فكيف أرجّي ريّه وهو شاسع
سأذهب عنكم غير باك عليكم   وما لي عذر أن تفيض المدامع
وأعتدّ فجا أنتم من حلاله   ثنيّة خوف ما له اليوم طالع[١٩]
وما موقفي والركب يرجى على الصدى   موارد قد نشّت بهن الوقائع[٢٠]
أفارقكم لا النفس ولهى عليكم   ولا اللبّ مخلوس ولا القلب جازع
ولا عاطفا جيدي إليكم بلفتة   من الشوق ما سار النجوم الطوالع
ولا ذاكرا ما كان بيني وبينكم   مراجعة، إن المحب المراجع
نبذتكم نبذة المخفّف ثقله   وإني لحبل منّه الغدر قاطع[٢١]

أيها السادة: ذلكم مقام الشريف الرضي بين شعراء القرن الرابع، وتلكم شكواه من جماهير الناس في بغداد، فليته يعود اليوم ليرى كيف تعطفون عليه بعد مئات السنين، وكيف تتوجعون لما كان يتوجع، وكيف تشفقون عليه إشفاق الأكرمين من الأوفياء.

منقول من كتاب عبقرية الشريف الرضي

انتهى.

-------------------------------------------------
[١] . وهناك سبب سياسي لعطف الصاحب على شعر الشريف: فقد كان الشريف يكره عضد الدولة لأنه سجن أباه، وكان الصاحب يكره عضد الدولة لأنه كان يسعى لقتله في الخفاء. فالاشتراك في بغض عضد الدولة كان من أهم أسباب المودة بين الشريف الرضي والصاحب بن عباد.
[٢] . عبارة اليتيمة (وكان رآها أول مرة) وهذا يكاد يكون غير معقول.
[٣] . الطرف بالكسر: الحصان.
[٤] . الوشائع جمع وشيعة وهي الطريقة في البرد، من الوشع وهو زهر البقول.
[٥] . عاش هذا الشاعر إلى سنة ٣٦٦ فكان عمر الرضي وقت وفاته نحو ثمان سنين.
[٦] . الكأس قد يذكر. ومن شواهد تذكيره هذا البيت.
[٧] . انظر اليتيمة.
[٨] . في اليتيمة (شوقا) بالشين وهو تحريف.
[٩] . سنرى شواهد ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
[١٠] . تجارب الأمم ج ٣ ص ٤٠٣.
[١١] . ص ٤٠٤.
[١٢] . قوفا هو أبو الحسن محمد بن الهماني.
[١٣] . تجارب الأمم ج ٣ ص ٤٠٤.
[١٤] . سنرى فيما بعد رأيا للأستاذ طه الراوي ينفي الخصومة التي قيل إنها ثارت بين المعري والشريف الرضي بسبب المتنبي.
[١٥] . مصر في هذا البيت هي الفسطاط، وجمهور المصريين يسمون عاصمتهم مصر، حتى القاهرة تسمى عندهم اليوم مصر.
[١٦] . الخلاة واحدة الخلا وهو الرطب من النبات، والنعامى بالضم ريح الجنوب، وزفته طردته
[١٧] . النسعة قطعة من النسع وهو سير من الجلد تشد به الرحال
[١٨] . الحجاز: هو الحاجز
[١٩] . الحلال بالكسر هم النازلون بالمكان. والثنية: العقبة في الجبل.
[٢٠] . النش: نضوب الماء، والوقائع: مساقط الماء.
[٢١] . في طبعة بيروت (منة الغدر) وقد أتعب المصحح نفسه فشكل كلمة (منة) بفتح الميم وتشديد النون وضم التاء، والصواب (منه) وهو فعل ماض من المن وهو القطع. وفي القرآن (لهم أجر غير ممنون) أي غير مقطوع.
****************************