بقلم : عدنان البلداوي – بغداد
شاءت المذاهب الادبية وتشاء في كل عصر من العصور ان تخلق جوا من العلاقات الودية بين عشاق اللغة والادب وعلى مختلف المستويات ، ولا يخفى ما حدث ويحدث في المجالس ما تقتضيه حالة الشخصية ، ونوعية النتاج الادبي .
ولعل الذي يؤكد فعالية المذاهب الادبية ، وقوة اثرها واستمرارية امداداتها للصداقة بالحياة والادامة . هوغرض مشيئتها في خلق هذه العلاقات متحدية بذلك كل الموانع التي قد تعترض ارادة تلك المشيئة.
ولكي نتبين حقيقة تلك الارادة لا بد لنا من الوقوف قليلا عند بعض العلاقات الادبية ولتكن هذه العلاقات على سبيل المثال من عصر القرن الرابع الهجري لعلاقة هذا العصر بشخصية البحث الذي نحن بصدده. ولان ما اخترناه من هذه العلاقات خير مثال يتوضح من خلاله اثر المذاهب الادبية في غرس المحبة والود والتقدير.
والعلاقات التي نقصدها هنا كانت بين اديبين تباعدا في السن اولا واختلفا في الدين ثانيا.
وهما ابواسحق الصابىء الذي (عرض عليه عز الدولة ان يسلم فامتنع ) والشريف الرضي الذي كان في سن الثمانين ، والثاني لم يتجاوز الثلاثين ، وكلاهما كان من فحول البلغاء والمتكلمين ومن ابرز الشخصيات الادبية في ذلك العصر ، وكانا ممن استعظم الخلفاء امرهما ومكانتهما السامية في المجتمع ، ورغم اختلافهما في بعض القضايا ولا سيما في الدين، فقد شاعت المذاهب الادبية التي اتفقا عليها ان تجعلهما يلتقيان باسم الادب والاخلاق ، وشاءت ايضا ان تجعل علاقتهما مبنية على اساس من الثقة والاعجاب والتقدير والاحترام.
حدثت هذه العلاقة والاديب يرى الاديب ويتحدث اليه . ومرت الايام وشاءت المنية ان تختار الصابىء ففجع الرضي بموته وكان حزنه عليه لا يوصف ، ورثاه بداليته المشهورة واولها :
اعلمت من حملوا على الاعواد ***** ارايت كيف خبا ضياء النادي
ومات الرضي فكان حدثنا مروعا في عالم العلم والمعرفة . وبعد مرور الف عام على وفاته شاءت المذاهب الادبية من جديد ان تنشىء علاقات فكرية وروحية اصيلة بينه وبين الدكتور زكي مبارك.
بعد ان تهيأت الفرصة ليعثر الثاني على كنز الاول، ذلك الكنز الذي زين به الصابيء متحفه الادبي حتى ظل بعده بالف عام ينتظر يدا تستحق الغوص فيه فكانت يد مبارك احق في جواهر ذلك الكنز ... وبدأت الصداقة وكان حدوثها صدفة خلقها شعر الرضي ، وقد اعتز زكي مبارك بهذا الحدث وقدسه واطلق عليه مصطلح (الفرصة الذهبية) ... ولعل سؤالا من اسئلة كثيرة يفرض نفسه في هذا الموضوع وهو: لماذا لم يعتقد زكي مبارك صداقة ادبية مع ادباء آخرين عاصروا الرضي، لا سيما وان الكثيرين منهم يمتلكون مواهب وقابليات خاصة ويتمتعون بمنزلة اجتماعية محترمة؟
يبدو ان زكي مبارك قد طرق ابواب الادب فناداه الادباء على مختلف مستوياتهم وتحدثوا معه على صفحات مؤلفاتهم ، ولعله توغل في اعماق حياتهم ليستكشف الحقيقة ، ولكنه بعد ان استعرض ادبهم ، لم يجد ترجمة لحياته وشخصيته الا في شخصية الرضي ، كما انه لم يجد اجوبة شافية لاسئلته الملحة الا في حقيبة الرضي.
ومما زاد في ايمانه بتلك الصداقة هو حب الكثيرين للرضي في زمانه وبعد زمانه، فقد وجد العباقرة يحبونه ، لانه رفع عنهم جهودا شتى بعبقريته ... ووجد المثقفين كذلك لانه موسوعة علمية وادبية اغنت التراث وشغلت الناس ... وكذلك البلغاء لانه هيأ لهم نهجا سليما للبلاغة في ارقى درجاتها ...
والعشاق لانهم وجدوه عاشقا عفيفا هيأ لهم قصائد الوجد والصبابة ... وكذلك الاوفياء لانهم وجدوه رمز الوفاء والاخلاص والمحبة لانهم وجدوا في اعوام بؤسه ما يقوي هممهم ويبعث في نفوسهم الامل ... ووجد الطامحين كذلك لانه خلف لهم قصائد الفتوة والطموح ، ورسم لهم طريق الوصول الى القمم الشمّاء ...
وجد زكي مبارك كثيرا من المعجبين بالرضي اينما تلفتت عيفاه ... وبدأ حبه ينمو بسرعة فائقة ، كلما عثر على حقيقة من حقائق الرضي حتى وصل الى حب العظماء للعظماء.
فماذا وراء ذلك الحب؟ ...
لعل دوافع كثيرة تكمن وراءه وقد يكون منها ما يأتي:
١ – حبه الشديد للطموح ونيل المعالي وتلك كانت غاية الرضي وهدفه في الحياة ...
٢ – اعجابه بذوي المواهب المتنوعة والملكات العجيبة ، والرضي كان من ابرز هؤلاء واشهرهم ...
٣ – حبه للادب الرفيع المعبرعن الذات بصدق واخلاص ، والبعيد عن الزيف والمجاملة وهذا ما تميز به ادب الشريف الرضي ...
٤ – تقديره العظيم للشخصية المثالية المتكاملة ، وتلك كانت شخصية الرضي ...
٥ – لعله وجد في بعض جوانب حياة الرضي تعليلا شافيا لما عاناه في حياته التي كانت قريبة الشبه في تلك الجوانب بحياة الرضي ...
٦ – بغضه للتملق ، والخضوع , والمجاملة المزيفة ، وتلك كانت من طباع الرضي .
٧ – ايمانه الشديد بان العلم هو المترجم الحقيقي للشخصية وليس المظاهر بمختلف انواعها وهكذا كان ايمان الشريف الرضي ...
٨ – لم يسخر قلمه الا لخدمة الحقيقة والدفاع عنها وكان قلم الرضي في خدمة ذلك ..
وبعد ان تأصل هذا الحب في قلب زكي مبارك راح يفتش عمن توغل في دراسة شخصية الرضي الفذة ، وعمن غاص في اعماق هذا البحر الزاخر الذي سمع امواجه من بعيد تعزف للعلماء والادباء والشعراء ، فلم يجد من الادباء من خاض تلك التجربة ... وحين وجد نفسه تتوق الى كشف الحقائق ، والتعرف عليها رأى ان الغوص في الاعماق لا بد منه للوصول الى تلك الحقائق وبعد ان امسك بروائع الرضي ، اطلق العنان لقلمه كي يكتب ما يشاء عن الصديق العبقري ...
كتب وكان صريحا وواقعيا فيما كتب، وان كان انفعل انفعالا شديدا في بعض المواضع من كتاباته ... وهو اذا كان قد بالغ في بعض صفات صديقه ، فليس الرضي ممن لا يستحقون المدح والثناء ...
ولعل زكي مبارك قد استخدم اقوى المعاني واشدها تعبيرا عن شعوره تجاه الرضي ... ولم يكن ذلك عبثا منه او لهوا فقد كتب بعد ان خاض مع الرضي تجربة سنين طوال ... عرف من خلالها نفسيته واحواله الخاصة والعامة ... وتلك كانت طريقته في دراسة الشخصية كما هو في قوله : «تلك خطتي في التأليف فأنا اهتم بارتياد المجاهل من حيوات الشعراء ، واجري على التعرف الى ما عندهم من ميول واذواق واهواء وأنا بكل صراحة اعتقد ان لا بد للناقد من ان ينسى شخصية ويفنى في شخصية الشاعر الذي يدرسه بحيث يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفقه بعقله ليسبر اغوار نفسه ويرى مبلغ شعوره بما وصفه من الاشياء ...».
وبعد ان سبر اغوار نفس الرضي وعرف حقيقته ووجد شخصيته تستحق الاجلال والاكبار ، لم يجد انفعالاته او مبالغاته لصفات صديقه الا في مكانها المناسب ...
وبعد ان قوي ايمانه بتلك الصداقة ، وملك الاعجاب قلبه كان لا بد لكلمات الاعجاب والتقدير ان تزدحم في صدره وتتهيأ للخروج ، كي تملأ بنغماتها اسماع المعجبين بالرضي وقلوبهم ولم تكن الكلمات التي ترنم بها زكي مبارك تجاه صديقه وليدة ساعتها ، فقد بقيت في معين الحب الصادق والاعجاب العظيم حتى تهيأ لها ان تخرج بعد ان اذن لها خالقها ، لتعلن عن اصالة الحب والوفاء والاعجاب والتقدير والتقديس لتلك الصداقة الموقرة...
هي كلمات قيلت بعد ان تحرى صاحبها جميع الحقائق عن صديقه العبقري ، فوجد ان قد آن الاوان ليطلق حكمه الاخير بقوله:
« سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق. فان آمن آمنت ، وان جد الشريف جددت ، وان لعب لعبت .
ان عقل الشريف عقلت ، وان جن جننت ، ان قال الشريف ان غاية الرجل العظيم هي الحرب قلت صدقت ، وان قال : ان الحياة هي الحب قلت : والحب حياة ! ... ».
مقتبس من مجلة الأديب العدد / ٧ السنة ١٩٧٨