




مع قيام المنهج القرآني بأنّ الأحقّية غالباً في الأقلّية، كيف يوجّه كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة: ومن كلام له (عليه السلام)، وفيه يبيّن بعض أحكام الدين، ويكشف للخوارج الشبهة، وينقض حكم الحكمين:
" فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ، فلم تضلّلون عامّة أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) بضلالتي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي... والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب "[١].
هذا النصّ، وقد استغله الإخوة الأشاعرة عندنا للإشارة إلى أنّ أحقّية أهل السنّة تنبع من كونهم السواد الأعظم وبنصّ أمير المؤمنين، فما قولكم يا مولانا ؟
نلفت انتباهكم إلى النكات التالية:
١ـ إنّ هذه الخطبة ليس لها سند معتبر، ولم يقل أحد بصحّة كُلّ ما جاء في نهج البلاغة، فلابدّ من استخراج أسانيد كُلّ خطبة فيه.
٢ـ إنّ الخطبة قد وردت في ردّ الخوارج المارقين، فلابدّ من ملاحظة المخاطبين في فهم كلامه (عليه السلام)، وذلك ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.
ويمكن أن يكون المراد من السواد الأعظم المذكور في الخطبة هو: أتباعه ومن بايعه، وبعبارة واضحة: أنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن ينبّه الخوارج بالرجوع إلى الخطّ العام الذي كانوا عليه قبل انحرافهم، ويدلّ على هذا المعنى أن نعرف أنّ المسلمين في تلك الفترة قد انقسموا إلى ثلاث طوائف:
الأُولى: هم أصحاب الإمام (عليه السلام) ومن بايعه من عامّة الناس.
الثانية: أصحاب معاوية.
الثالثة: هم الذين انشقّوا من معسكر الإمام (عليه السلام)، واتبعوا أهواءهم، فضلّوا وأضلّوا.
فحينئذٍ هل يعقل أنّ الإمام (عليه السلام) ينصح هذه الفئة الثالثة بالرجوع إلى أصحاب معاوية ؟ فلا يبقى إلاّ القول بأنّه (عليه السلام) كان يوبّخهم لخذلانهم الحقّ، وهم الطائفة الأُولى، الذين سمّاهم بالسواد الأعظم، ويريد منهم أن لا يفترقوا عنها.
٣ـ إنّ هذا المعنى يتبيّن بوضوح من السياق الموحد في الخطبة، إذ يذكر الإمام في الفقرة السابقة: " وخير الناس فـيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه ".
ثمّ يقول مباشرةً بعدها: " والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان... "، فمن مجموع هذه الفقرات المتتالية يمكننا معرفة مقصود الإمام من عبارة: " السواد الأعظم، والجماعة، والفرقة، والشذوذ "، فنعرف أنّ المشار إليه في تلك المقاطع مجموعات معيّنة، أي: أن " أل " المذكور في كُلّها للعهد لا للجنس.
ويدلّ على هذا الاستعمال بعض الروايات التي وردت في توضيح تلك الكلمات، فمنها: أنّ رجلاً سأل علياً (عليه السلام) عن السنّة والبدعة والفرقة والجماعة ؟
فقال: " أمّا السنّة فسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمّا البدعة فما خالفها، وأمّا الفرقة فأهل الباطل وإن كثروا، وأمّا الجماعة فأهل الحقّ وإن قلّوا "[٢].
ومنه يظهر أنّ تعريفه (عليه السلام) لتلك الفقرات هو تعريف خاصّ، يجب ملاحظته في فهم كلامه (عليه السلام) في المقام.
٤ـ وأخيراً: توجد في نفس نهج البلاغة كلمات وخطب أُخرى تصرّح باحتمال تواجد الحقّ مع القلّة، مثل: " لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله "[٣]، أو " إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة "[٤].
وعليه، فيجب أن نفهم كلام الإمام (عليه السلام) في المقام بشكل يتّفق مع كلماته وخطبه في سائر الموارد.