




السيد صدر الدين القبانچی
الأركان الثلاثة للوحدة :
ان مراجعة دقيقة في سياسة الامام علي عليه السلام ، وكذلك مطالعة في نصوصه الخالدة تكشف لنا عن رؤيته في مكوّنات الوحدة وأركانها.
هذه المكوّنات هي عبارة عن :
١ـ الرسالة الحقّة.
٢ـ الامامة الحقّة.
٣ـ الارادة الحقّة.
ونلاحظ هنا ان "الحق" ـ وكما أشرنا اليه فيما سبق ـ هو المحور الاساس الذي يؤكد عليه الامام في المسير نحو الوحدة.
ان المكوّنات الثلاثة اعلاه ستشكل الاضلاع لمثلّث الوحدة الاسلامية، ولدى فقدان أي واحد من هذه الاضلاع فان الامة ستبقى مكشوفة أمام مختلف الامراض والاختراقات التي تطيح بوحدتها وكيانها.
الامام علي عليه السلام لم يتحرك نحو الوحدة دون فهم كامل ودقيق لمقوّماتها واركانها وهي ما تحدثت عنه مواقفه وتصريحاته العديدة.
ان التاريخ ربما حدّثنا عن قادة عملوا على توحيد شعوبهم، وربما حدث مثل ذلك في التاريخ الاسلامي أيضاً، لكن الجدير ملاحظته في سيرة الامام علي عليه السلام ومنهجه هو فهمه لأركان الوحدة ومقوماتها وسعيه من أجل تحقيقها ثم تحقيق الوحدة المبنّية على تلك الاركان والمحاطة بتلك الاضلاع.
وهكذا يتقدم الامام علي عليه السلام بفهم جديد لكل عملية توحيد غير قائمة على تلك الاركان والاسس، انها ستكون عملية مؤقتة في أحسن حالاتها، وستنتهي الى تمزّق قريب، وربما الى خوض في دماء، ثم ضياع بين الارض والسماء.
ولأجل ذلك كان معنياً جداً بترسيخ تلك الاركان وتفعيلها في الامة.
الرسالة الحقة المتمثلة بالاسلام، والامامة الحقة المتمثلة بأهل البيت عليه السلام ، والارادة الحقة المتمثلة بروح الامر بالمعروف والتناهي عن المنكر.
"الرسالة الحقة" وهي الاسلام موجودة لدى الامة المسلمة، لكن الامة اصبحت تبتعد عن هذه الرسالة وتتعامل معها شكلياً وليس جوهرياً.
وكما قال عليه السلام : "واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الاسلام الا بأسمه، ولا تعرفون من الايمان الا رسمه، تقولون النار ولا العار. وانكم ان لجأتم الى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرئيل ولا ميكائيل، ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم..." [١].
ومن هنا فقد انثلم أهمُّ من أركان الوحدة، وانكسر أوّلُ ضلع من اضلاعها وكان الامام علي عليه السلام بحاجة الى رأب هذا الصدع، ورتق هذا الفتق وهو ما عمل عليه جاهداً طول حياته السياسية وخاصة بعد رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلم .
ونصل الى قضية "الامامة الحقة" فنجد ان الامام عليه السلام رغم اعتقاده بضرورة وجود الامام للامة براً كان أو فاجراً [٢].
بدلا من حالات الفوضى والاضطراب السياسى الذي ينشأ من فقد الامام، الاّ انه عليه السلام يرى أن "الامامة الحقة" أعني "الامامة الشرعية" هي وحدها القدرة على صنع الوحدة الحقيقة للامة، فربما أمكن لسلاطين الجور وحكومات الانحراف أن توحّد الامة في دائرة حكمها وسلطانها الاّ ان مثل هذه الوحدة ليست بذات قيمة حيث لا تعبّر عن حضارة تلك الامة ولياقتها التاريخية ووضعها في موضع الشهادة على العالم كما اراده اللّه تعالى لامة الاسلام [٣].
لنستمع اليه عليه السلام وهو يؤكد دور الامة في وحدة الامامة ونظم أمرها وسلامة حركتها حيث يقول في ذلك : "فرض اللّه الايمان تطهيراً من الشرك.. والامامة نظاماً للامة، والطاعة تعظيماً للامامة" [٤] .
وطبيعي انه يتحدث هنا عن الامامة الحقة المتمثلة به وبأهل بيت النبوة كما قال عليه السلام في نص آخر.
"فأنّى تُياه بكم، وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم ازمّة الحقّ، وأعلام الدين، وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش" [٥].
ولطالما تحدث عليه السلام وشكى من أمته عدم طاعته متنبئاً بخسارة المعركة لافتراق الامة عنه فكان يقول:
"إني واللّه لأظن ان هؤلاء القوم سيُدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم امامكم في الحق وطاعتهم امامهم في الباطل، وبأدائهم الامانة الى صاحبهم وخيانتكم..." [٦] .
ويقول عليه السلام وهو يخاطب قومه الذين تفرقوا عنه وعصوا أمره : "أيّ دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمامٍ بعدي تقاتلون؟ المغرور من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز ـ واللّه ـ بالسّهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوقِ ناصل. اصبحت واللّه لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم. ما بالكم؟ ما دواءكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال امثالكم..." [٧].
وبهذا الاستعراض نكون قد وصلنا مع الامام عليه السلام الى دور "ارادة الامة" في السير نحو الحقّ والوحدة فيه. والصبر على ألم الجراح، وصعوبات الطريق، والتي طالما كان الامام يشير اليها بالقول : "لا يُدرك الحقُّ الاّ بالجدِّ" [٨].
ويقول : "لا يَدفع الضيمَ الذليلُ" [٩].
وكان ينعي على أمته فقدّ هذا العنصر، كما كان يعرض فهمه للتاريخ وما هو سبب نجاح الامم السابقة أو اخفاقها حيث يقول : "ان اللّه لم يلعن القَرن الماضي بين أيديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن اللّه السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي" [١٠].
والان ـ وبعد هذا العرض لنظرية الامام علي عليه السلام في أركان الوحدة ومقوماتها ـ نستطيع ان نكّون تفسيراً واضحاً وشمولياً لكل مواقفه عليه السلام حيال مختلف المسائل السياسية التي عاصرها والتي ربما كانت مواقفه فيها غير واحدة الاتجاه في مظهرها.
بل ومن خلال هذه النظرية أيضاً نستطيع ان نُفسر مواقف اهل البيت عليه السلام كلهم تجاه مختلف المسائل السياسية أو الفكرية التي عاصروها، حيث نلاحظ بعضهم قد خاض غمار الحرب والثورة ـ كما هو في حركة الامام الحسين عليه السلام ـ وبعضهم آثر الاتجاه الفكري ـ كما هو في حركة الامام الباقر والصادق عليهماالسلام ـ .
ان جميع تلك المواقف لم تكن لاختلاف في المذاق، أو تعدد في وجهات نظر بمقدار ما كانت نتيجة طبيعية تفرضها الحالة المعاشة ووفقاً للاركان المطلوب توفّرها من أجل تحصين الامة وتوحيدها أمام تيارات الضياع والانحراف ـ وهذا بحث واسع لسنا بصدد الخوض فيه طبعاً ـ ولنعد الى سياسة الامام علي عليه السلام ومواقفه لكي نفسّر مدى تطابقها مع نظريته في أركان الوحدة.
فقد رأيناه عليه السلام يستجيب لمقتضيات الوحدة في الانسجام مع الخلافة الحاكمة لكن ذلك لم يكن يمنعه من الاعلان عن رأيه في مدى شرعيتها [١١] ، أو الوقوف ضدها من أجل تصحيح مواقفها، أو احتضان بعض الاصوات المضادة رغم اتخاذه هو شخصياً سياسة الانسجام والوفاق [١٢] أو الضغط عليها من أجل الاستجابة لمطالب الثوار رغم محاولته في تخفيف حدة التوتّر بينهما [١٣].
إنَّ كُلَّ ذلك يشرح لنا مساعي الامام في ربط الامة باسلامها الحقيقي وعدم السماح لمزيد من صور الابتعاد عنه، كما يشرح لنا مساعيه من أجل إعادة زعامة التجربة الاسلامية الى أهلها، ويشرح لنا مساعيه في تطعيم الامة بعناصر الارادة على ان تقول كلمة الحقّ امام الطغيان والانحراف.
ولا شك ان الحديث في كل هذا المسار السياسي حديث واسع ومفصّل، وقد تزداد الصورة وضوحاً لو أمكن استعراض مختلف مواقف الامام عليه السلام في الخطوط التي أشرنا اليها الاّ أنَّ طبيعة المقال لا تسمح لنا بالمزيد من التوسع والشرح.
خلاصة البحث :
والى هنا نرجو ان نكون قدّمنا صورة صادقة وشمولية لمنهج الامام علي عليه السلام في التعامل مع قضية الوحدة الاسلامية.
لقد شغلت قضية الوحدة واحداً من أكبر مواقع اهتمامات الامام عليه السلام .
كما انه عليه السلام تعامل مع الوحدة باعتبارها أحد المفردات في مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية المحدقة بالامة الاسلامية.
والى جانب ذلك فقد كانت الاهداف الاسلامية الكبرى وقيم الحقّ والعدالة ربما دفعته لتغير المسار والابتعاد عن الوحدة الشكلية للأمة.
وهكذا حرص الامام على تحقيق جذور الوحدة، وخلق أركانها في الامة ولم يكتف بالسعي لتحقيق الوحدة الظاهرية غير المعتمدة على اركان أو الممتدة في الأعماق.
لقد رأى الامام عليه السلام ان الوحدة يجب ان لا تكون على حساب الحقّ والعدل، كما لا يجوز ان تستخدم لقمع الآخرين وتوحيدهم بالقسر دونما قناعة واقامة الحجة عليهم، كما لا يجوز تحقيق الوحدة عبر تقسيم الثروة، وتوزيع المُلك لإرضاء ذوي المطامع وشراء ذممهم، بل لابد من الوقوف بخشونة أمام اولئك.
ولقد رأى الامام أن الوحدة يجب أن تنبع من ضمير الامة وإرادتها ومدى ارتباطها بالامامة الحقة والرسالة الحقة، ومن هنا كان لابد من العمل على توعية الامة وادخالها في الساحة السياسية والفكرية بكل جدارة.
هذه ـ في الختام ـ هي الوحدة في منهج الامام علي عليه السلام بمقدار ما تسنى لنا تناوله واكتشافه.
ولا شك ان مجالاً واسعاً للبحث بقي أمامي الا ان عذري في الاقتصار على هذا الذي قدّمت هو الحدود المفرضة عليّ في هذا المقال والحمد للّه رب العالمين.
إنتهى .
منقول من مجلة آفاق الحضارة الاسلامية , العدد/ ١٣