




الشيخ نجاح الطائي
قال الشريف الرضي في الإمام علي (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرِّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدّم وتأخّروا لأنّ كلامه الكلام الذي عليه مصلحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي [١].
أقوال في نهج البلاغة
الشيخ محمد عبدة يصف نهج البلاغة :
قال محمد عبدة: ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيّد الشريف الرضي (رحمه الله) من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه جمع متفرّقه وسمّاه بهذا الاسم نهج البلاغة، ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيّته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدّمة الكتاب .
ولولا أنّ غرائز الجبلّة وفواضي الأُمّة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه وشكر المحسن على إحسانه لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة خصوصاً وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلاّ أصابه ولم يدع للفكر ممرّاً إلاّ [٢].
قال محمد عبده ذكر صاحب اليتيمة عن الشريف الرضي هو أشعر الطالبيين ولو قلت انه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق .
قال بعض واصفيه : كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ قادراً على القريض [٣]. ومات الشريف الرضي سنة ٤٠٤ هجرية .
وقال محمد عبده: رأيت كلامه (عليه السلام) يدور على أقطاب ثلاثة أوّلها الخطب والآوامر وثانيها الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ . وتشيّع محمد عبدة يرجع الى تأثّره بنهج البلاغة الذي شرحه .
ظهير الدين علي بن زيد البيهقي :
هذا الكتاب النفيس « نهج البلاغة » مملوٌّ من ألفاظ يتهذّب بها المتحدث، ويتدرّب بها المتكلّم ; فيه من القول أحسنه، ومن المعاني أرصنه، كلامٌ أحلى من نَغَمِ القيان، وأبهى من نَِعَم الجنان، كلامٌ مَطلعه كسنة البدر، ومَشرعُه مَورد أهل الفضل والقدر، وكلماتٌ وشيُها خَبرٌ، ومعانيها فِقرٌ، وخطبٌ مقاطعها غُرر، ومباديها درر، استعاراتها تحكي غمرات الألحاظ المِراض، ومواعظها تعبّر عن زهرات الرياض، جمع قائل هذا الكلام بين ترصيع بديع، وتحنيس أنيس، وتطبيق أنيق .
فللّه درّ خاطر عن مخائل الرّشد ماطرٌ، وعين الله على كلام إمام ورث الفضائل كابراً عن كابر، ولا غرو للروض الناضر إذا انهلّت فيه عزالي الأنواء أن يخضرّ رباه، ويفوح ريّاه، ولا للساري في مسالك نهج البلاغة أن يُحمد عند الصباح سراه .
ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان باب مدينة العلوم، فما نقول في سقط انفضّ من زند خاطره الوادي، وغيض بدا من فيض نهره الجاري، لا بل في شعلة من سراجه الوهّاج، وغرفة من بحره الموّاج، وقطرة من سحاب علمه الغزير، ولا ينبِّئك مثل خبير .
الدكتور زكي مبارك :
لا مفرّ من الاعتراف بأنّ « نهج البلاغة » له أصل، وإلاّ فهو شاهد على أن الشيعة كانوا من أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ . إنّي لأعتقد أنّ النظر في كتاب « نهج البلاغة » يورث الرّجولة والشهامة وعظمة النفس ; لأنّه من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأُسود .
الأديب الشهير الأستاذ أمين نخلة :
إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقبل عليه في « النهج » من الدفّة إلى الدفّة وليتعلّم المشي على ضوء « نهج البلاغة » .
الأُستاذ عباس محمود العقّاد :
في كتاب « نهج البلاغة » فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتّسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأُصول التأليه وحكم التوحيد .
الأُستاذ محمد أمين النواوي :
... حفظ علي (عليه السلام) القرآن كلّه، فوقف على أسراره، واختلط به لحمه ودمه، والقارئ يرى ذلك في « نهج البلاغة » ويلمس فيه مقدار استفادة علي (عليه السلام) من بيانه وحكمته، وناهيك بالقرآن مؤدّباً ومهذّباً، يستنطق البكي الأبكم فيفتق لسانه بالبيان الساحر، والفصاحة العالية، فكيف إذا كان مثل علي في خصوبته، وعبقريته ، واستعداده ممّن صفت نفوسهم، وأعرضوا عن الدنيا، وأخلصوا للدين، فجَرَت ينابيع الحكمة من قلوبهم، متدفّقة على ألسنتهم، كالمحيطات تجري بالسلس العذب من الكلمات ؟
وهل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، وبالغ منطقه إلاّ أثراً من علي (عليه السلام)، وقطرة من محيط أدبه ; ففتن الناس بعبادته، وخلّب ألبابهم بجمله، فكيف يكون الأُستاذ العليم، والإمام الحكيم، علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
لقد كان عليّ (عليه السلام) في خطبه المتدفّقة يمثّل بحراً ضخماً من العلماء الربّانيّين وأُسلوباً جديداً لم يكن إلاّ لسيّد المرسلين، وطرق بحوثاً من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلاّ لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه وسلست في منطقه وأدبه .
وخاض في أسرار الكون، وطبائع الناس، وتشريح النفوس، وبيان خصائصها وأصنافها، وعرض لمداخل الشيطان ومخارجه، وفتن الدنيا وآفاتها، في الموت وأحواله، وفي بدء الخلق، ووصف الأرض، وفي شأن السماء وما يعرج فيها من أملاك، وما يحفّ بها من أفلاك، كما عرض لملك الموت، وأطال في وصفه .
وخطب عليّ (عليه السلام) في السياسة، وفي شؤون البيعة والعهد والوفاء، واختيار الأحقّ وما أحاط بذلك من ظروف وصروف، كتحكيم صفّين وما تبعه من آثار سيئة وتفرّق الكلمة .ولم يفته أن ينوّه في خطبه بأنصار الحقّ، وأعوان الخير، والدعوة إلى الجهاد، وفيها محاجّة للخوارج، ونصحه لهم ولأمثالهم باتّباع الحقّ . وغير ذلك ممّا يكفي فيه ضرب المثل، ولفت النظر .
غير أنّ ناحية عجيبة امتاز بها الإمام، هي ما اختصّ الصفوة من الأنبياء ومن على شاكلتهم، كانت تظهر في بعض تجلّياته، وأشار إليها في بعض مقاماته، ولم يسلك فيها سواه إلاّ أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد ذكر كثيراً من مستقبل الأُمّة، وأورد ما يكون لبعض أحزابها كالخوارج وغيرهم، ومن ذلك وصفه لصاحب الزنج وذكر الكثير من أحواله، وذلك من غير شكّ لونٌ من الكرامات .
هذا إلى أنه طرق نواحي من القول كانت من خواصّ الشعر إذ ذاك، وكلّه ضمّنها خطبه ; فوصف الطبّ، وعرض للخفّاش وما فيه من عجائب، والطاووس وما يحويه من أسرار،وما في الإنسان من عجائب الخلق، وآيات المبدع الحق .
وأُحيلك في ذلك كلّه على « نهج البلاغة » .
وهكذا تجد في كلام علي (عليه السلام) ; الدين والسياسة، والأدب، والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر .
هذا كتاب علي (عليه السلام) إلى شريح القاضي يعظه، وقد اشترى داراً، ويحذّره من مال المسلمين، في معان عجيبة، وأُسلوب خلاّب . وهذا كتابه إلى معاوية يجادله في الأحقّ بالخلافة، وقتل عثمان، في معان لا يحسنها سواه .
وتلك كُتُبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع ملابساتهم . وذلك عهده إلى محمّد بن أبي بكر حين قلّده مصر، (وعهده للأشتر) .
وتلك وصيته إلى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه الحياة لمثله إلاّ وجّهه فيها أسمى توجيه، في فلسفة خصيبة، وحكم رائعة مفيدة، وكل تلك النواحي والأغراض في معان سامية مبسّطة، يعلو بها العالم الربّاني الغزير ، والروح السامية الرفيعة، وتدنو بها القوّة الجبّارة على امتلاك أزمّة القول، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكلّ معنى لفظه في أدقّ استعمال .
ولقد يضيق بي القول فأقف حائراً عاجزاً عن شرح ما يجول بنفسي من تقدير تلك المعاني السامية، فيسعدني تصوير الإمام له وهو يقدّم « نهج البلاغة » ; فكان يخيّل إليّ في كل مقام أو حروباً شبّت، وغارات شُنّت، وأنّ للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة .
بلاغته فوق بلاغة المخلوقين
ماذا يمكننا الكتابة عن بلاغة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد بلغت بلاغته منزلة أعلى من قدرة المخلوق ودون منزلة الخالق .
فلا بلاغته تقاس ببلاغة الباري عزّوجلّ ولا بلاغة الناس تقاس ببلاغته . فكانت خطبه ورسائله (عليه السلام) كسلاسل ذهبية منسجمة وكأُطروحة فضّية رائعة . فحكمه هادفة وغاياتها عالية ونصائحه غالية ومواعظه راقية، عشقها المؤمنون وارتاح لها المخلصون . فكم من ورع يزكّي روحه بحكمه المعروفة وكم من مذنب يطهّر نفسه بمواعظه الشريفة . وقد قصر العلماء عن درك كنه علمه وبلوغ لبّ سرّه للفارق الشاسع بين علمه وعلمهم وسرّه وسرّهم ومنزلته عند الله تعالى ومنزلتهم .
قال العالم الكبير ابن أبي الحديد المعتزلي عنه: إمام الفصحاء وسيّد البلغاء وكلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين .
وقد قال الإمام علي (عليه السلام): « أنا النقطة أنا الخط أنا الخط أنا النقطة أنا النقطة والخط » [٤].
مقدّمة الشريف الرضي :
قال الشريف الرضي: كنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً وفصّلته فصولاً فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه (عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب العلويّة والكتب المبسوطة .
فاستحسن جماعة من الأصدقاء والاخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجّبين من نواصعه [٥] وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب علماً أنّ ذلك يتضمّن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام [٦] ولا مجموع الأطراف في كتاب .
إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرّع الفصاحة وموردها [٧] ومنشأ البلاغة ومولدها .
ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب [٨] وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدّم وتأخّروا لأنّ كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي [٩] وفيه عبقة من الكلام النبوي فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ومذخور الأجر واعتمدت به أن أُبيّن من عظيم قدر أمير المؤمنين (عليه السلام) فى هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمّة .
وإنّه (عليه السلام) إنفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأوّلين الذين إنّما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذّ الشارد [١٠].
وأمّا كلامه فهو من البحر الذي لا يساجل [١١] ، والجمّ الذي لا يحافل [١٢] .
الفصل الثاني : الخطب والرسائل
خطبة الإمام بعد هجوم جيش معاوية على اليمن :
قال الإمام علي (عليه السلام) عن تثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي فقال: ما هي إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها [١٣] . إن لم تكوني إلاّ أنت تهب أعاصيرك [١٤] . فقبّحك الله (وتمثّل بقول الشّاعر):
لعمر أبيك الخير ياعمرو إنّني ***** على وضر من ذا الإناء قليل [١٥]
ثمّ قال (عليه السلام) : أُنبئت بسراً قد اطّلع اليمن [١٦] وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم [١٧] . وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم .
وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم فلو أئتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته [١٨] . اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسأموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً منّي . اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء [١٩]. أما والله لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم [٢٠].
ثمّ نزل (عليه السلام) من المنبر . أقول الارمية جمع رميّ وهو السّحاب والحميم ههنا وقت الصّيف . وإنّما خصّ الشّاعر سحاب الصّيف بالذّكر لأنّه أشدّ جفولاً وأسرع خفوفاً [٢١] لأنّه لا ماء فيه . وإنّما الأكثر إلاّ زمان الشّتاء وإنّما أراد الشّاعر وصفهم بالسّرعة إذا دعوا والإغاثة إذا استغيثوا والدليل على ذلك قوله: هنالك لو دعوت أتاك منهم .
ومن خطبة له (عليه السلام) :
إنّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار متنخّون [٢٢] بين حجارة خشن وحيات صمٍّ [٢٣] تشربون الكدر وتأكلون الجشب [٢٤] . وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبةٌ والآثام بكم معصوبةٌ [٢٥] .
(ومنها) فنظرت فإذا ليس لي معينٌ إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشرب على الشّجى وصبرت على أخذ الكظم [٢٦] وعلى أمرّ من طعم العلقم .
(ومنها) ولم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً [٢٧] فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع . فخذوا للحرب أهبّتها وأعدّوا لها عدّتها فقد شبّ لظاها وعلا سناها واستشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النّصر [٢٨] .
ومن خطبة له (عليه السلام) :
أمّا بعد فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه وهو لباس التّقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة [٢٩] فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشملة البلاء . وديّث والقرّ تفرّون فإذا أنتم والهل من السّيف أفرّ . ياأشباه الرّجال ولا رجال حلوم الأطفال . وعقول ربّات الحجال [٣٠] . لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً [٣١] . قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً وجرّعتموني نغب التّهمام أنفاساً [٣٢] وأفسدتم عَلَيَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتّى لقد قالت قريش إنّ ابن أبي طالب رجلٌ شجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب . لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً منّي [٣٣] لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على السّتّين [٣٤] ولكن لا رأي لمن لا يطاع [٣٥] .
ومن خطبة له (عليه السلام) :
أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد أدبرت وآذنت بوداع [٣٦] وإنّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع ألا وإنّ اليوم المضمار [٣٧] وغداً السّباق والسّبقة الجنّة [٣٨] والغاية النّار . أفلا تائبٌ من خطيئته قبل منيّته ؟ ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه [٣٩] ؟ ألا وإنّكم في أيّام أمل [٤٠]من ورائه أجلٌ فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضرّه أجله ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة [٤١] ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها، ولا كالنّار نام هاربها [٤٢] ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل [٤٣] ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن [٤٤] ودللتم على الزّاد . وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل . تزوّدوا من الدنيا ما تحرزون أنفسكم به غداً [٤٥] .
(أقول) لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزّهد في الدّنيا ويضطرّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام . وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال وقادحاً الاتّعاظ والازدجار .
ومن أعجبه قوله (عليه السلام) (ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السّباق والسّبقة الجنّة والغاية النّار) فإنّ فيه مع فخامة اللّفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرّاً عجيباً ومعنىً لطيفاً وهو قوله (عليه السلام) (والسّبقة الجنّة والغاية النار) فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين .
ولم يقل السّبقة النّار كما قال: السّبقة الجنّة لأنّ الاستباق إنّما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجنّة وليس هذا المعنى موجوداً في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول والسّبقة النّار بل قال والغاية النّار، لأنّ الغاية ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء ومن يسرّه ذلك، فصلح أن يعبّر بها عن الأمرين معاً فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل قال الله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال سبقتكم « بسكون الباء » إلى النّار فتأمّل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيدٌ .
وكذلك أكثر كلامه (عليه السلام) (وفي بعض النّسخ) وقد جاء في رواية أُخرى (والسّبقة الجنّة) بضمّ السّين . والسّبقة عندهم اسمٌ لما يجعل للسّابق إذا سبق من مال أو عرض والمعنيان متقاربان لأنّ ذلك لا يكون جزاءً على فعل الأمر المذموم وإنّما يكون جزاءً على فعل الأمر المحمود [٤٦] .
ومن خطبة له (عليه السلام) :
أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم [٤٧] كلامكم يوهى الصمّ الصّلاب [٤٨] وفعلكم يطمع فيكم الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت . فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد [٤٩] ما عزّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم [٥٠] أعاليل بأضاليل . دفاع ذي الدّين المطول [٥١] لا يمنع الضّيم الذّليل . ولا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ . أيّ دار بعد داركم تمنعون ومع أىّ إمام بعدي تقاتلون المغرور والله من غررتموه ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسّهم الأخيب [٥٢] .
ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل [٥٣] أصبحت والله لا أُصدّق قولكم ولا أطمع في نصركم ولا أوعد العدوّ بكم ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟ القوم رجالٌ أمثالكم أقولاً بغير عمل وغفلةً من غير ورع وطمعاً في غير حقٍّ [٥٤] .
ومن كلام له (عليه السلام) في معنى قتل عثمان :
لو أمرت به لكنت قاتلاً . أو نهيت عنه لكنت ناصراً [٥٥] غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خيرٌ منه . ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خيرٌ منّي [٥٦] وأنا جامعٌ لكم أمره: قلوبكم مألوسةٌ [٥٧] فأنتم لا تعقلون ما أنتم لي بثقة سجيس اللّيالي [٥٨] وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر عزٍّ يفتقر إليكم [٥٩] ما أنتم إلاّ كإبل ضلَّ رعاتها . فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر . لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم [٦٠] تكادون ولا تكيدون . وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون [٦١] لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون . غلب والله المتخاذلون [٦٢] وأيم الله إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرّأس [٦٣] والله إنّ امرأً يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه [٦٤] ويهشم عظمه . ويفري جلده لعظيمٌ عجزه ضعيفٌ ما ضمّت عليه جوانح صدره [٦٥] أنت فكن ذاك إن شئت [٦٦] فأمّا أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام . وتطيح السّواعد والأقدام [٦٧] ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكن عَلَيَّ حقٌّ . فأمّا حقّكم عَلَيَّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم [٦٨] وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا . وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب . والإجابة حين أدعوكم . والطّاعة حين
يتبع .....