الشيخ عبـد الرسول الغفاري
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة :
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله المؤيّد ، ونبيّه المسدّد ، أبي القاسم محمّـد ، وعلى أهل بيته الهُداة الأكرمين ، وأصحابه الأمناء المنتجبين .
وبعد ، لقد خلّف لنا أمير البيان وسيّد البلغاء بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) تراثاً جمّاً خالداً يزخر بالأفكار والنظرات والدروس والعبر ، وإنّ الوارث لهذا التراث هم الناس جميعاً ، لأنّ كلامه (عليه السلام) ـ بما فيه من خطب ورسائل وكتب وحكم ـ لم يكن موجّها لفريق دون آخر ، أو لأمّة دون أمّة ، بل كان موجّها لكلّ الأفراد والطوائف ، وإنْ كان المعني الأوّل هو الإنسان المؤمن بخالقه ، الموحّد لـه في ذاته وصفاته وأفعاله ، إنّه الإنسان الرسالي أنّى وجد وأنّى حلّ .
فخطابه (عليه السلام) بلسم ، وبيانه ضماد ـ لكلّ جرح ـ ولسانه نبع للعدل والصدق ، وإنّ كلامه (عليه السلام) بكل فصوله وشعبه يمسّ القلوب فيبعث فيها الأمل والحياة والطمأنينة .
فليس عجيباً أن تتطاول الأعناق إلى صاحب هذا النبع الزلال ، وتشرئبُّ إليه النفوس طالما خطابه يعمّ الجميع ، إذ هو خالد عند الجميع .
إنّ المتأمّل في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يجد فيه التأكيد على صفات الخير والمعروف والنظام ، بل التأكيد على كلّ صفات الكمال وما أكثرها ، لذا جاءت خطبه ورسائله لصنع الرجال الأحرار ، إنّها جاءت ليسمو الإنسان في عالم الفضيلة والمُثل ويتحرّر من أسر المادّة والشهوة المبتذلة . إنّ مضامين كلامه (عليه السلام) تمثّل جوهر الحياة لذا ينبغي على النفوس ومن يهوى الكمال والسير إلى الله سبحانه أن يقتبس من ذلك الجوهر ، فالنّاس بفطرتهم وعلى اختلاف مشاربهم وتنوّع طبقاتهم وتعدّد أجناسهم تعلّقت بكلماته (عليه السلام) أيّما تعلّق .
فما جمعه الشريف الرضي من مختارات كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)على كون ذلك المختار قليلاً إلا أنّه لم يزل يُثير في النفوس الدوافع النبيلة والصفات الخيّرة والأُمنيات الطيّبة .
إنّ نهج البلاغة هو نهج الإنسانية ; بشكله ومضمونه وفصوله . فيه تظافرت الأفكار والرؤى ، وفيه تجلّت روح العدالة والمحبّة والإخلاص ، فلا مناص من الأخذ به ، وتطبيق فقراته ، بل لابدّ من الإذعان الكامل بأنّه المنهاج الصالح للحياة والإنسانية .إنّه نهج الفكر والعقل ، نهج العدالة والسعادة ، نهج الرحمة والكمال ; نهج لم نر مثله في تراثنا الإنساني . ولا عجب لو قيل عنه وعن صاحبه إنّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، وهذا هو سرّ إعجازه ، وسرّ خلوده .
إنّ المتدبّر في كلام الإمام (عليه السلام) سيرى فيه جانبين :
الأوّل منه : الجانب العبادي وما فيه من الروابط بين العبد وخالقه ، وفي مقدّمة تلك الروابط عبودية الإنسان الخالصة لله سبحانه ، وهذه العبودية لن تتحقَّق ما لم يفهم المرء معنى التوحيد ، وقد أبان أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الجانب بشكل دقيق ، وخطبه في ذلك تُعدّ من الأسس أو القواعد الثابتة لعلم الكلام ، ومن الأصول المهمّة في درك المباني العقائدية الصحيحة .
أمّا الجانب الثاني في كلامه (عليه السلام) هو الكشف عن الأبعاد العلمية للحياة الصالحة التي ينشدها كلّ فرد [١] ، والأُسس التي تقود المجتمع إلى السعادة والخير . ممّا دعى الإمام (عليه السلام) أن يتطّرق إلى البعد التربوي والأخلاقي بشكل مكثّف ومتواصل وهكذا تطرّق للبعد التعليمي والسياسي والاقتصادي ، وغيرها من الأبعاد التي تخلق مجتمعاً متماسكاً يعي قدراته ويحترم مسؤولياته ، فالفرد أساس المجتمع ، والشريعة الغرّاء جاءت لتهذيب هذا الفرد ، وإرشاده إلى الطريق السوي كي ينتج من ورائه مجتمعاً سويّاً . وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينأى عن هذا التهذيب والإرشاد .
ولمّا كان هدف الإمام (عليه السلام) هو سلوك الإنسان فقد انصبّ كلامه على هذا المخلوق في سيره التكاملي ابتداءً من مرحلة طفولته وحتى أواخر مراحله الدنيويّة ، بل الاستمرار في توجيهه بشكل يحرز فيه الإنسان حياته الأخروية وفق مرضاة الله سبحانه ، لأنّ الحياة الأبدية هي الآخرة وهي الغاية المنشودة .
إذن هدف أمير المؤمنين (عليه السلام) وطموحاته النبيلة أغنته عن ذكر الملوك والسّلاطين ما خلا بعض كلامه في صدد حقّه المغتصب ، فهو لم يمدح ولم يستعطف أحداً منهم ، ولم يكن قريناً ولا عضداً لذوي النفوذ وأهل الكبرياء والمردة ، بل حذّر الناس منهم ; لكونهم طغاة مفسدين ، ولكونهم دعاة الكفر والتمرّد على نواميس الحياة ثمّ دعا الناس إلى الله ، فكانت دعوته هي دعوة الشريعة الغرّاء إلى التوحيد وتقوية روح العبودية لله سبحانه .
وعليه لم يكن ما نطق به أمير المؤمنين (عليه السلام) تعبيراً عن عاطفة ذاتية مجرّدة عن المثل والقيم الإنسانية ، ولم يمجّد أحداً من الملوك والأكاسرة والفراعنة ، بل كرّس قوله (عليه السلام) في صنع الإنسان وتقوية عزيمته وصبره ليفز بحياة رغيدة ، لذا مدح الفقراء وأثنى على صبرهم وعفّتهم في السرّاء والضرّاء ، وأكّد على حقوقهم التي هي في رقاب الأغنياء ، ثمّ أشاد (عليه السلام)بجهاد الضعفاء والمساكين والوقوف إلى جانبهم لنصرتهم ، ومواساته لهم قولاً وعملاً .
ومن الضروري أن أشير في هذه المقدّمة إلى عدّة أمور :
منها ما يخصّ فصاحة الإمام (عليه السلام) .
ومنها ما يرتبط بعمل الشريف الرضي .
وثالثها ما يخصّ الموضوعات التي تطرّق إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والأمر الرابع دواعي الكتابة في هذا الموضوع .
أمّا الأمر الأوّل : فصَاحته (عليه السلام) :
لا يخفى أنّ شهرة الإمام في الفصاحة والبلاغة هي من المسلّمات بحيث لا يختلف فيه اثنان ، بل حتّى أعداؤه يقرّون له هذه الفضيلة ; فهذا « محقن الضبّي قدم على معاوية فقال : جئتك من عند أعيى النّاس . فقال له معاوية : يا ابن اللّخناء لعليٍّ تقول هذا ؟ ! وهل سنّ الفصاحة لقريش غيره ؟ » [٢] .
وفي بلاغة أمير المؤمنين (عليه السلام) وفصاحته نقل ابن أبي الحديد كلام أبي عثمان عن جعفر بن يحيى وكان من أبلغ الناس وأفصحهم للقول والكتابة ، أنّه كان يتعجّب بقول عليّ (عليه السلام) : « أين من جدّ واجتهد ، وجمع واحتشد ، وبنى فشيّد ، فمهّد وزخرف فنجّد .
قال : أَلاَ ترى أنّ كلّ لفظة منها آخذة بعنق قرينتها ، جاذبة إلى نفسها ، دالّة عليها بذاتها ، قال أبو عثمان : فكان جعفر يسمّيه فصيح قريش » [٣] .
وقال ابن أبي الحديد : « واعلم أنّنا لا يخالجنا الشكّ في أنّه (عليه السلام)أفصح من كلّ ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين إلاّ ما كان من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله (عليه السلام) وذلك لأنّ فصيلة الخطيب أو الكاتب في خطابته وكتابته يعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ ، ومركّباتها ، أمّا المفردات فأنّ تكون سهلة سلسلة غير وحشيّة ولا معقّدة ، وألفاظه (عليه السلام)كلّها كذلك ، وأمّا المركّبات فحسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضّل بعض الكلام على بعض ، وتلك الصفات هي الصناعة التي سمّاها المتأخرون البديع ; من المقابلة والمطابقة وحسن التقديم وردّ آخر الكلام على صدره والترصيع والتكافؤ والتسميط والمشاكلة ، ولا شُبهة أنّ هذه الصفات كلّها موجودة في خطبه وكتبه ، مبثوثة متفرّقة في فرش .
كلامه (عليه السلام) ، وليس يوجد هذان الأمران في كلام لأحد غيره ، فإن كان قد تعمّلها وأفكر فيها وأعمل رويّته في وضعها وسرّها فلقد أتى بالعجب العجاب ووجب أن يكون إمام النّاس كلّهم في ذلك لأنّه ابتكره ولم يعرف من قبله ، وإن كان اقتضبها ابتداءً وفاضت عليها لسانه مُرتجلة وجاش بها طبعه بديهة من غير روية ولا اعتمال فأعجب وأعجب على كلا الأمرين فلقد جاء مجليا والفصحاء ينقطع أنفاسهم على أثره » [٤] .
وأمّا الأمر الثاني :ما يخصّ عمل السيّد الشريف الرضي (رحمه الله)
فقد صرّح في مقدّمة كتاب نهج البلاغة إنّ ما أودعه في هذا الكتاب هو المختار من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذا يعني أنّه لم يورد كلّ ما صدر عنه (عليه السلام) من خطب وكتب ورسائل وحكم . . . وإنّ تأليفه هذا كان لاحقاً لما ألّفه من كتاب في خصائص الأئمّة (عليهم السلام) الذي يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، إلاّ أنّه لم يتمّ ، ولمّا استحسن جماعة من الأصدقاء عمله ذاك طلبوا منه أن يختار لهم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يشمل جميع الفنون من خطب وكتب ومواعظ وأدب . . ، قال رضوان الله تعالى عليه :
« وسألوني ـ عند ذلك ـ أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع الفنون ، ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب . علماً أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية مالا يوجد مجتمعاً في كلام ، ولا مجموع الأطراف في كتاب . . . إلى أن يقول : . . . فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالماً بما فيه من عظيم النفع ومأثور الذكر ، ومذخور الأجر . . . ورأيت كلامَهُ (عليه السلام) يدور على أقطاب ثلاثة : أوّلها : الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، ثالثها : الحكم والمواعظ . فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثمّ محاسن الكتب ، ثمّ محاسن الحكم والأدب » [٥] .
ثمّ قال : « ولا أدّعي ـ مع ذلك ـ أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السلام)حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ ، ولا يندّ نادّ ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ، وما عليّ إلاّ بذلّ الجهد ، وبلاغ الوسع ، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل ، وإرشاد الدليل إن شاء الله » [٦] .
وأمّا الأمر الثالث : موضوعات نهج البلاغة :
أبرز الموضوعات فيه ، تلك التي تصدّرت كلامه (عليه السلام) ، إذْ خصّ جملة من خطبه في التوحيد وهو يشمل توحيد الله سبحانه في صفات ذاته من السمع والقدرة والحياة والعظمة والجبروت وغيرها من الصفات ، ثمّ توحيده في صفات الأفعال ; كالإحياء والإماتة والرازقيّة ، وفي هذا الباب نجد في كلامه الكثير من المفاهيم العقائدية تندرج هنا .
ثمّ من الموضوعات المهمة في كلامه (عليه السلام) ما يخصّ النبوة والأنبياء والشرائع السابقة ثمّ نبوّة خاتم الرسول محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بيان ما في القرآن الكريم من الأوامر والإرشادات والنظم التي رسمها الله سبحانه للبشر فهو الثقل الأكبر وإلى جنب هذا جاءت خطب تؤكّد على موضوع الإمامة والخلافة ، حيث إنّ أهل البيت هم الثقل الأصغر وهم عدل القرآن الكريم وإنّ الخلافة والإمامة فيهم .
ثمّ لا يخلو كلامه (عليه السلام) من التعرّض لمواقف بعض الصحابة وما في ذلك من الإشارة أو التصريح بالأحداث السياسية التي عصفت بالأمّة الإسلامية حيث تكلّم فيها الإمام (عليه السلام) بشكل صريح يفهمه الجميع .
ثمّ موضوعات أخرى شملت مساحة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية والتربوية والاجتماعية كلّها تؤكّد على السير والسلوك .
وأمّا الأمر الرابع : هو الكلام عن الدواعي التي دفعتنا إلى الكتابة في هذا الموضوع .
فمنذ سنين وأنا أدرّس مادّة ( تاريخ الأدب العربي ) لعصور مختلفة منها العصر الإسلامي والعبّاسي في جامعات عديدة ولسنوات مكرّرة وكانت مادّة ( نهج البلاغة ) هي إحدى المواد المقرّرة في الدراسات الأكاديمية لمرحلتي البكالوريوس والماجستير ، والكلّ يعلم أنّ نصوص هذا الكتاب هي من إنشاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وما كان عمل الشريف الرضي إلا الجمع والتبويب ( فجزاه الله جزاء المحسنين ) وبالتالي فإنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)يمثّل أوج البلاغة والفصاحة ، بل هو يمثّل العصر الذهبي للنثر في جميع عصوره ومراحله .
غير أنّ البعض لم يتحمّل هذه الفضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) شأنه كشأن بعض السلف الذي استصغر سنّ الإمام أو غمط حقّه في الخلافة لأنّ المسلمين ـ على زعم أحد الصحابة ـ أبوا أن تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، لذا أثار هذا البعض شبهات حول جمع الشريف الرضي وما أودعه من خطب ورسائل للإمام (عليه السلام) ممّا كان هذا الداعي الأوّل للكتابة ، فوضعت بين يدي القارئ الأدلّة الكافية في توثيق هذه النصوص الشريفة من خلال المصادر التي سبقت عمل الشريف الرضي ، ثمّ الوقوف عند مصادر الخطبة ( الشقشقيّة ) ابتداءً من عصر التدوين وحتّى عصر الرضي . وما عملي هذا إلا كخطوة لنصرة الحقّ والدفاع عن التراث الإسلامي الأصيل وردع أهل الباطل والمغرضين ومن أراد السوء والتوهين بشخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) .
أمّا الدّاعي الثاني : هو ردّ تلك الشبهات التي جاءت مكرّرة على ألسنة عدّة من الكتّاب ، وللأسف الشديد أخذ بعض المتأخّرين يجترّون كلام من سبقهم ، وقد خيّل لهم إنّما جاءوا بفتح عظيم ليس لـه مثيل . . إنّها تخرّصات سطّرتها أقلام حاقدة من رجال عرفوا ببغضهم وعدائهم لوصي الرسول وأخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .
أمّا الدّاعي الثالث : هو كشف اللثام عن الحقائق التي انطوت عليها الخطبة ( الشقشقيّة ) والأدوار السياسية التي مرّ بها المسلمون بعد رحيل النبيّ الأكرم (عليه السلام) ، وسيرة بعض رجال السلطة في تلك الحقبة السابقة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
تاريخ نهج البلاغة
من الآثار التي يفتخر بها كلّ أديب غيور هو كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)الذي يشمل كلّ من : خطبه ورسائله وكتبه والأمثال والحكم الصادرة منه .
وقد أجهد الأوائل أنفسهم في أن يجمعوا بعض كلامه (عليه السلام) في صحائفهم ، بينما حفظ البعض الآخر من كلامه (عليه السلام) الشيء الكثير عن ظهر قلب ثم تناقلته الأجيال عبر مئات السنين حتّى انتهى الأمر إلى الشريف الرضي الموسوي الذي حرص كلّ الحرص على أن يجمع هذا التراث النفيس من مصادر الكتب وأفواه الرجال التي اهتمّت غاية الاهتمام بكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فطلع علينا الشريف الرضي في عام ٤٠٠ ، للهجرة بكتاب نهج البلاغة وهو يضمّ ١٢١ خطبة للإمام (عليه السلام) وجملة من رسائله وكتبه للأمراء والولاة والقضاة الذين أوكل إليهم الإمام (عليه السلام) تلك المناصب السياسيـة . .
هذا الجهد الذي قدّمه لنا الشريف الرضي لايمكن أن يتغافله أيّ مسلم عربي أو غير عربي ، بل يستوجب على الجميع الشكر والثناء لما صنعه جامعه ، غير أنّ الذي لا يطيق رؤية ضوء الشمس ينكر هذا النور الشاخص بنفسه .
ففي سنة ٦٨١ هـ ، نرى شمس الدين أحمد بن خلّكان الأربلي البرمكي أوّل من شكّ في نهج البلاغة ، ثمّ تبعه الصفدي في الوافي بالوفيات [٧] واليافعي في مرآة الجنان [٨] ثمّ تبعهم ابن تيمية في منهاج السنة [٩] المتوفّى سنة ٧٢٨ هـ ،
والذهبي صاحب ميزان الاعتدال المتوفّى سنة ٧٤٨ هـ [١٠] ثمّ جاء المعاصرون ليقتفوا آثار مَن سبقهم حيث شكّكوا في نسبة نهج البلاغة إلى الإمام (عليه السلام) وكان في طليعتهم جرجي زيدان الذي أثار الشكّ في كتابه آداب اللّغة العربية [١١] ، ومحمّـد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة العربية [١٢] وطه حسين الذي عرف بمنهجه المتميّز وهو الشكّ في كلّ شيء ابتداءً من التراث الأدبي العربي إلى القرآن ، ولولا مواقف الأزهر لأدّى بنا طه حسين إلى كارثة كبيرة لا يحمد عقباها . غير أنّ طه حسين أسّس مدرسةً اتّبعها تلامذته ومريدوه فذابت شخصيّتهم الأدبية والعلمية بشخصية أستاذهم وفي مقدّمتهم أحمد أمين في فجر الإسلام [١٣] ، فهو أوّل من رفع صرخاته بالشكّ في نهج البلاغة . ثمّ تبعه الدكتور شوقي ضيف فراح يدوّي بكتاباته الأدبية متّبعاً خطى أستاذه هو الشكّ في نهج البلاغة ، خاصّة في كتابه : الفنّ ومذاهبه في النثر العربي [١٤] .
وممّن شكّ في النهج : الأستاذ أحمد حسن الزيّات في كتابه تأريخ الأدب العربي [١٥] ، ومحمّـد سيّد كيلاني في كتابه أثر التشيّع في الأدب العربي [١٦] ، ولا ندري إلى أين سينتهي إليه منهج الشكّاكين في تراثنا العربي والإسلامي ، فقد تمادى هذا الفريق حتّى تطاول إلى القرآن والسنّة النبويّة بل أراد البعض هدم صرح الإسلام وتراث المسلمين الذي شيّده رجال الدعوة إلى الله وعلى رأسهم النبيّ محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلا عجب أنْ يثور فريق من المسلمين لينتصر إلى تراثه ومبادئه ، ويصدّ الفريق الأوّل ومنهجه السقيم القائم على الشكّ ، وهذا الفريق المنتصر قد أشار إلى بلاغة الإمام (عليه السلام)إشارة سريعة تتناول كلّ ما عرف عنه (عليه السلام) من نثر بليغ ، نذكر من هذا الفريق المدافع : سبط ابن الجوزي ، ومحمّـد بن طلحة الشافعي ، وعبـد الحميد الكاتب وهذا الأخير هو القائل : « ما تعلّمت البلاغة إلاّ بحفظ كلام الأصلع » [١٧] .
والبعض الآخر : اختار قطعاً ونصوصاً كثيرة وبليغة من كلام الإمام (عليه السلام) فحفظها أو دوّنها كالجاحظ ، والخطيب الخوارزمي ، وأبو الفتح الآمدي ، وابن نبات المصري وهذا الأخير هو القائل :«حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام) » [١٨] .
وفريق ثالث : اعتنى بكلام أمير المؤمنين ؟ عناية فائقة واهتمّ بشرح خطبه ورسائله ،منهم ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي ،إذ فاق جميع مَن سبقه حين شرح النهج ، واعتبر كلام الإمام علي (عليه السلام) في المرتبة الثانية لكلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهناك فريق رابع : وهم طائفة من جهابذة الأدب والشعر من المعاصرين قد أُعجبوا أيّما إعجاب بنهج البلاغة ، منهم : العلاّمة الأديب الشيخ محمود شكري الآلوسي ، والشيخ ناصيف اليازجي ، ومحمّـد حسن نائل المرصفي ، والدكتور زكي مبارك ، وأمين نخلة ، وعبّاس محمود العقّاد ، ومحي الدين عبـد الحميد وآخرون يطول الكلام على ذكرهم .
--------------------------------------------------------------
[١] . لم نقل الحياة المثالية لأنّها هي أنشودة النخبة من الناس أو علّية المجتمع ..
[٢] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤ ، شجرة طوبى ١ / ٦١ .
[٣] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ٦ / ٢٧٨ .
[٤] . بحار الأنوار ٤١ / ٣٥٩ .
[٥] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ٤٨ .
[٦] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ١٣ .
[٧] . الوافي بالوفيات ٢ / ٣٧٥ .
[٨] . مرآة الجنان ٣ / ٥٥ .
[٩] . منهاج السنة
[١٠] . مرآة الجنان ١ / ١٠١ .
[١١] . تاريخ آداب اللّغة العربية ١ / ٢١٨ .
[١٢] . الاسلام والحضارة العربية ٢ / ٦١ .
[١٣] . فجر الإسلام : ١٤٨ .
[١٤] . انظر : الفن ومذاهبه في النثر العربي .
[١٥] . تاريخ الأدب العربي : ١٨٧ .
[١٦] . أثر التشيّع في الأدب العربي : ٥٧ .
[١٧] . نظرات في الكتب الخالدة : ١٧٧ .
[١٨] . انظر : شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤ ، والفوائد الرجالية ٢ / ١١٩ ، والكنى والألقاب ١ / ٢١٧ .
يتبع ......