سماحة اية الله الشيخ باقر شريف القرشي (رحمه الله)
موضوع هذا الكتاب تحليل وعرض لبعض محتويات عهد الإمام لمالك الأشتر واليه على مصر وقد تناول هذا العهد أهم وأدق قضايا الحكم والإدارة , وليس البحث فيه عن دراسة القائد الملهم الزعيم مالك الأشتر الذي هومن أفذاذ أصحاب الإمام أمير المؤمنين , ومن أكثرهم إخلاصاً وولاءً له .
ومن الفائدة أن نشير بإيجاز إلى أهم الجوانب في حياة مالك , وهوولاؤه العارم للإمام أمير المؤمنين عليه السلام وتفانيه في حبه, والإخلاص له, وقد حكى الإمام مدى تعاطفه وإخلاصه له بقوله: (( كان مالك لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله)) .
ومن المؤكد أنه ليس أحد من أرحام النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه أشد ولاءً ولا أكثر حباً ولا تمادياً في الإخلاص له من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان القوة الضاربة التي حمته من ذئاب طغاة القريشيين الذين جهدوا على تصفية جسده وإقصاء قيمه ومبادئه وحينما أحاطوا بداره لتصفيته وقاه الإمام بنفسه وبات في فراشه فكان الفدائي الأول للنبي ( صلى الله عليه وآله) ,وبهذه المنزلة الرفيعة من الوفاء والإخلاص كان الزعيم مالك للإمام فقال له : (أنت لي كما كنت لرسول الله) .
وعلق أستاذنا المعظم آية الله الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي على كلمة الإمام لمالك بقوله :
لقد ترجم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قائده الأشتر بكلمة من قصار كلماته , وذكر نصها , فهذه الكلمة القصيرة فتحت لنا ألف باب نصل منها إلى معرفة تلك النفس الزكية القدسية .
كان أمير المؤمنين عليه السلام خالصاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا لأنه ابن عمه ومن أقرب الناس إليه نسباً ولحمة بل لأنه النبي الصادق الأمين الذي جاء بالحق من عند الله تعالى فصدع به , وبلغه , وهكذا يقضي التشبيه لمالك , ويدل عليه مأثور فعله وقوله في حالتي الغضب والاطمئنان والشدة والرخاء , وهووإن لم يبت على فراش علي , ولكنه عرض نفسه مشهدٍ للفداء في كل موقف وقفه , وشهد شهده , ومغالاته في التضحية عنه ..
وقد تحدث الإمام عليه السلام عن سموشخصية مالك وعظيم شأنه في رسالته التي بعثها لأهل مصر حينما ولاه عليهم جاء فيها :
(( أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله تعالى لا ينام أيام الخوف, ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع , أشد على الكفار من حريق النار وهومالك بن الحارث أخومذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله تعالى لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا , وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم , ولا يحجم , ولا يؤخر , ولا يقدم إلا عن أمري , وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم)) .
المقطع من حديث الإمام عليه السلام بعض الجوانب من شخصية الزعيم مالك كان منها :
أوله : عظيم شجاعته وشدة بأسه في أيام الرعب والخوف , فإنه لا يهاب الأعداء ولا يلين لهم
ثانيه : شدته على الكفار, وقد وصفه الإمام بأنه أشد عليهم من حريق النار, وهووصف من أروع الصفات.
ثالثه : انه سيف من سيوف الله تعالى كما كان الإمام عليه السلام .
وقد لازم مالك الإمام عليه السلام , فكان عضده ومستشاره في تخطيط سياسته وإدارة شؤون دولته ,وكان معه في أحلك الظروف وأشدها محنة ,وأقساها بلاءاً ,وعسى أن يساعدنا التوفيق ,ويمنحنا الله تعالى الصحة لدراسة حياته والتعرف على مواقفه وجهاده في نصرة الإمام عليه السلام.
شهادته
قلد الإمام عليه السلام مالك ولاية مصر فخرج إليها, وسارت قافلته لا تلوي على شيء فلما انتهت إلى إبلة التقى به نافع مولى عثمان بن عفان , وقد أرسله معاوية لاغتياله , وكان لبقاً فقال له مالك :
ممن أنت ؟ من أهل المدينة من أيهم؟ فأخفى نسبه وموضعه وقال :
مولى لعمر بن الخطاب أين تريد ؟ مصر ما حاجتك ؟ أشبع من الخبز , فرق له مالك وقال له :سأصيبك من الخبز
وسار مالك ومعه عميل معاوية حتى انتهى إلى القلزم فنزل ضيفاً عند امرأة , جهينة فرحبت به , وسألته أي الطعام أحب إليك فقال الحيتان , فقدمت له ما اشتهى فلما تناول الطعام أصابه عطش شديد فأخذ يكثر من شرب الماء, فقال له نافع مولى عثمان لا يقتل سمه إلاّ العسل , فدعا الأشتر بإحضاره من ثقلهِ فلم يكن فيه فبادر نافع قائلاً هوعندي علي به .
فأحضره وكان قد دس فيه سماً قاتلا فتناوله , ولم يكن حسرات,من أن تقطعت أمعاؤه وأخذ الموت يدنوإليه وطلب إحضار نافع فوجده منهزماً , وعرف مالك ما دبره له هذا العميل , ولم يلبث إلا قليلاً حتى طويت حياته التي كانت صفحة من الشرف والكرامة والجهاد في سبيل الله , وكانت شهادته على يد أقذر مجرم لم يعرف التأريخ الإنساني نظيراً له في موبقاته وجرائمه , وقد جعل الخبيث يردد (إنّ لله تعالى جنوداً من عسل ) .
تأبين الإمام لمالك
ولما انتهى النبأ المفجع بشهادة مالك ذابت نفسه أسى وحسرات , وأخذ يذرف الدموع قائلاً :
إنا لله وإنا إليه راجعون, الحمد لله رب العالمين اللهم إني احتسبته عندك فإن موته من مصائب الدهر, وأضاف قائلاً:
رحم الله تعالى مالكاً فقد وفى بعهده , وقضى نحبه , ولقي ربه , وإنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) , فغنها من أعظم المصائب .
واخذ الإمام يتلهف على فقده ويقول بحرارة :
لله در مالك لوكان من جبل لكان فنداً ولوكان من حجر لكان صلداً أما والله ليهدني موتك , وأضاف : على مثل مالك فلتبك البواكي , وهل موجود كمالك لقد عرض شهادة مالك حياة الإمام, فقد خسر أعظم شخصية تساعده على محن الدنيا وكوارث الأيام.
سرور معاوية
وسر معاوية بسمه لمالك , وخطب الناس قائلاً : أما بعد : فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفين وهوعمار بن ياسر , وقطعت الأخرى اليوم وهومالك الأشتر ، لقد انطوت حياة مالك ورزقه الله تعالى الشهادة على يد أخبث مجرم اقترف كل محرم . رحم الله تعالى مالكاً وأجزل له المزيد من الأجر لنصرته أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله )وباب مدينة علمه, ونستقبل عهد الإمام له آملاً أن أكون قد ساهمت في خدمت أهل بيت النبوة ومراكز الوحي .
عهد الإمام لمالك الاشتر
بسم الله الرحمن الرحيم
للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مواهب وعبقريات , ولم تختص ملكاته العلمية بأحكام الشريعة ومعارف الإسلام , وإنما كانت شاملة لجميع أنواع العلوم على اختلافها وتعدد أنواعها , وقد ذكر العقاد في عبقرية الإمام أنه فتق أكثر من ثلاثين علماً , لم يعرفها المسلمون من قبل .
ومن المؤكد أن سعة علوم الإمام وشموليتها لكل علم تتطور به الحياة كانت مستمدة من النبي صلى الله عليه وآله فقد أفاض عليه علومه , وغذاه بمكوناته الفكرية , فقال : (( أنا مدينة العلم وعلي بابها )) فهو باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله التي شملت جميع أنواع العلوم التي عرف الناس بعضها وجهلوا الكثير منها .
ومن بين العلوم التي انفرد بها الإمام وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الاشتر واليه على مصر , فقد وضع فيه أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية , وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم والإدارة في مجتمع لم يفقه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة , وقد شرع الإمام أروع صور الحضارة , وأبهى ألوان التطور والتقدم الفكري ،إن الإنسانية على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي وإبداع فيما أسسه لها رجال السياسة والقانون من أنظمة الحكم والإدارة فإنهم لم يأتوا بمثل هذا العهد , ولوكان بعضهم لبعض ظهيراً فقد بلغ من عظيم ما سنه الإمام في عهده أنه أمر الحكام أن يساووا بين جميع طبقات الشعب حتى في اللحظة والنظرة , وقد أقام بذلك أسمى صور العدالة التي ينشدها الإسلام وعلى أي حال فإنا نعرض صوراً من الأنظمة المشرقة التي تملأ النفوس إكباراً وتعظيماً ومن بينها :
تطلع الرعية إلى عدل الولاة
وشيء بالغ الأهمية عند الإمام وهوتطلع الرعية إلى عدل الولاة, فقد مرت عليهم ولاة في الحكومات الظالمة قبل حكومته فأمعنوا في ظلم الناس وإرهاقهم, فعهد الإمام إلى مالك أن يريهم صنوف العدل ويسوسهم سياسة قوامها الحق المحض وهذا كلامه :
(( ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور وأن الناس ينظرون من أمرك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم : وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله تعالى على ألسن عباده , فاملك هواك , وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أوكرهت ..)) .
هذه المثل العليا في سياسة الإمام فقد أكد فيها على بسط العدل وإشاعته بين الناس , وأن يعتبر مالك نفسه مواطناً لا زعيماً فيرجومن الوالي تحقيق ما يصبوإليه من العدل وبما تسعد به الرعية , وأكد الإمام على ضرورة العمل الصالح , والسيطرة على نزعات النفس , ونشر الإنصاف بين الناس .
الرحمة بالرعية
وعرض الإمام في عهده لمالك إلى ضرورة الرحمة بالرعية والإحسان اليها والرفق بها , والعفوعنها في موارد الزلل , وأن بها مهما استطاع لذلك سبيلا استمعوا لقوله:
قال عليه السلام : ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية , والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم , فإنهم صنفان : أما أخ لك في الدين أونظير لك في الخلق , يفرط بينهم الزلل , وتعرض لهم العلل , ويؤثر على أيديهم في العمد والخطأ , فأعطهم من عفوك وصفحك , مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه وصفحه , فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك , والله تعالى فوق من ولاك , وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم , ولا تنصبن نفسك لحرب الله تعالى , فإنه لابد لك بنقمته , ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ..)) .
وليس في قواميس الأديان ومذاهب السياسة مثل ما سنه قائلاً : من الرفق بالرعية على اختلاف ميولها وأديانها , فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها , وأن لا يشمخ عليهم بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم , وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أوزلل , ويمنحهم العفووالرضا لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها ويستمر الإمام عليه السلام في عهده بالرفق بالرعية قائلاً:
(( ولا تندمن على عفو, ولا تبجحن بعقوبة, ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة, ولا تقولن: اني مؤمرٍأُ امرُ فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين , وتقرب من الغير , وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أومخيلة , فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكن عنك من غربك , ويفي إليك بما عزب عنك من عقلك..)) .
حكى هذا المقطع الأساليب التي يجب أن تتوفر في الولاة من عدم الندم على عفواصدر على مواطن , وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد , وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم, فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين, وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله, الى عليهم فإنه المالك لهم, هذه بعض محتويات هذه الكلمات.
إنصاف الناس
وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له , فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته , وهذه كلماته
قال عليه السلام: ((أنصف الله تعالى, وأنصف الناس من نفسك, ومن خاصة أهلك, ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم, ومن ظلم عباد الله تعالى, كان الله عز اسمه خصمه دون عباده, ومن خاصمه الله تعالى أدحض , وكان لله تعالى حرباً حتى ينزع أويتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله تعالى وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله تعالى سميع دعوة المضطهدين وهوللظالمين بالمرصاد..)) .
حكى هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام التي تسعد بها الأمم والشعوب وتكون آمنة من الظلم والاعتداء.
إرضاء العامة
وشيء بالغ الأهمية في سياسة الإمام والحق, في رضاء العامة من المشروعة, الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف وغيرهم فإن الحكومة مدعوة لإرضائهم وتنفيذ رغباتهم المشروعة , يقول الإمام عليه السلام :
((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق , وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة , وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة
وليس احدٌ من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء , واقل معونة في البلاء وأكره للإنصاف , وأقل شكراً عند العطاء , وأبطأ عذراً عند المنع, واضعف صبراً عند ملحات الدهر من أهل الخاصة, وإنما عماد الدين وجماع المسلمين, والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن عفوك لهم وميلك معهم...)) .
حكى هذا المقطع مدى أهمية العامة عند الإمام وأن رضاهم موجب لنجاح الحكومة وسخطهم موجب لدمارها , وأن العامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم أكره للإنصاف وأقل شكراً عند العطاء, وإن عماد الدين وقوام السلطة إنما هوبالعامة دون الخاصة .
إبعاد الساعين لمعائب الناس
وكان من رحمة الإمام بالناس إبعاد الساعين لذكر معائبهم , وطردهم , ولزوم ستر معائب المواطنين , وهذا جزء من سياسته العامة , وهذا نص كلامه :
قال عليه السلام: ((وليكن أبعد رعيتك , وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ,فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها , فلا تكشفن عما غاب عنك منها , فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ,والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله تعالى منك ما تحب ستره من رعيتك , أطلق عن الناس عقدة كل حقد, واقطع عنك سبب كل وتر , وتغاب عن كل مالا يصلح لك, ولا تعجلن إلى تصديق ساع, فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين..)) .
إن من مناهج سياسة الإمام إبعاد السعادة في ذكر مثالب الناس الأمر الذي يؤدي إلى إسقاط كرامتهم , وتحطيم منزلتهم , وهذا مما يرفضه الإمام الذي جهد على تهذيب المجتمع وحسن سلوكه .
الابتعاد عن بعض الأشخاص
وعهد الامام الى مالك بالابتعاد عن بعض الأشخاص المصابين بأخلاقهم وهم:
قال عليه السلام : ((ولا تدخلن في مشورتك بخيل يعدل بك عن الفضل – أي الإحسان – وبعدك الفقر, ولا جباناً يضعفك عن الأمور, ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى, يجمعها سوء الظن بالله تعالى...))
لقد حذّر الأمام من مزاملة هؤلاء الأشخاص لأنهم يجلبون الويل والعطب لولاة الأمور .
إقصاء الوزراء في الحكومات السابقة
وأمر الإمام في عهده بإقصاء الوزراء في الحكومات السابقة لأنهم كانوا أشراراً وخونة خصوصا في حكومة عثمان, ولنستمع إلى حديثه .
قال عليه السلام : ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً, ومن شركهم في الآثام , فلا يكونن لك بطانة – أي خاصة – فإنهم أعوان الأثمة , وأخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف , ممن له مثل آرائهم ونفادهم , وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه , ولا آثماً على إثمه , أولئك اخف عليك مؤونة , وأحسن لك معونة , وأحنى عليك عطفاً وأقل لخيرك إلفاً – أي محبة – فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك , ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك, وأقلهم مساعدة فيما يكون منك بما كره الله تعالى لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع. وألصق بأهل الورع والصدق , ثم رضهم – أي عودهم – على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله , فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو, وتدني من العزة )) .
حكى هذا المقطع أسمى ما تصل إليه الحكومة من التطور في خدمة الشعب , فقد عهد الإمام عليه السلام إلى مالك أن لا يتخذ وزيراً قد شارك في وزارة الحكومة السابقة التي جهدت في ظلم الشعب ونهب ثرواته كما كان في أيام حكومة عثمان بن عفان عميد الأمويين فقد وهب ثروات الأمة وما تملكه من قدرات اقتصادية لبني أمية وآل بني معيط , كما صحح المناصب المهمة في الدولة , وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بحكومته .
الاتصال بالعلماء
وأكد الإمام في عهده على ضرورة الاتصال بالعلماء والحكماء للتذاكر في شؤون البلاد وما يصلحها اقتصادياً وأمناً وغير ذلك, قال عليه السلام:
(( وأكثر مدارسة العلماء, ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك..)) .
وهذا أنموذج من سياسة الإمام الهادفة لإصلاح المجتمع بجميع ما يحتاج إليه طبقات الشعب ، ونظر الإمام بعمق إلى طبقات الشعب التي يرتبط بعضها ببعض وهي:
الكتاب : ذي به قوام الدولة والشعب.
الكتاب : وهم كتاب العامة والخاصة .
قضاة العدل, وهمالرفق,يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم من خلاف .
عمال الإنصاف والرفق , وهم صنف من العمال يلاحظون أمور الناس .
الذين يأخذون الجزية التي هي من مداد الاقتصاد في الإسلام .
التجار وهم الذين يمثلون العصب الاقتصادي في البلاد.
أهل الصناعات: وهم الذين يقومون بما يحتاج إليه المجتمع في شؤونه الاقتصادية.
الفقراء والمحتاجون
ووضع خاصاً, لكل صنف منهجاً خاصاً, وأوصى بمراعاة هذه الأصناف لأنهم هم المجتمع في البلاد.
الاتصال بالأشراف والصالحين
من بنود عهد الإمام أنه أمر مالك بالاتصال بالأشراف والصالحين الذين يمثلون القيم الكريمة ليستعين بهم في إصلاح البلاد, وهذا قوله:
((ثم ألصق بذوي المروءات , وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف , ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما , ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به , ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل , فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك , وحسن الظن بك ,ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها , فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به , وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه )) .
حكى هذا المقطع أصالة ما ذهب إليه الإمام من إشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الاجتماعي بين الناس, وهذه النقاط المهمة التي أدلى بها الإمام عليه السلام توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم معهم فيما يصلح أمر البلاد.
تكريم المخلصين من الجند
وعهد الأمام لمالك بتكريم المخلصين من الجند فإن ذلك مدعاة إلى إخلاصهم للحكومة والذب عنها ولنستمع إلى قوله .
قال عليه السلام : (( وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم – أي ساعد الجند – في معونته , وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ,ويسع من وراءهم من خلوف أهلهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو, فإن عطفك يعطف قلوبهم عليك , وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية , وأنه لاتظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور , وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم فأفسح في آمالهم , وواصل في حسن الثناء عليهم وتحديد ما أبلى ذووالبلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرّض الناكل إن شاء الله..))
أرأيتم هذا العمق في سياسة الإمام ودراسته لنفوس الجيش ,والوقوف على إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم, ولم يحفل أي دستور عسكري وضعه قادة الجيوش بمثل هذه الدراسة الوثيقة لطبائع نفوس العسكر ,وكيفية إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم وقد أوصى الإمام عليه السلام بإشاعة ذكر المخلصين من الجند فإن ذلك يهز عواطف الشجعان منهم, ويحرض الناكل على الطاعة والإخلاص لدولته ويضيف الإمام مؤكداً برعاية المخلصين من الجند قائلاً:
((ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى , ولا تضيفن بلاء إمرىء إلى غيره , ولا به دون غاية بلائه, ولا يدعوك شرف امرئٍ الى ان تعظم من بلائه ما كان صغيراً, ولا منعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً)) .
حكى هذا المقطع بعض الوصايا الذهبية في تكريم المخلصين من الجيش , وأنه ليس له أن يعظم الأشراف على ما صدر منهم من خدمات ما كان قليلاً ويستهين بالفقراء ما صدر منهم من خدمات جليلة وأن الواجب عليه الإشادة بهم وذكرهم بأطيب الذكر وأنداه .
اختيار الحكام
وشيء بالغ الأهمية في عهد الإمام وهوأن يكون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية, وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة, وهذا حديث الإمام .
(( ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم , ولا يتمادى في الذلة ,ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه , ولا تشرف نفسه على طمع ,ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه , وأوقفهم في الشبهات ,وآخذهم بالحجج ,وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ,وأصبرهم على تكشف الأمور ,وأصرمهم عند اتضاح الحكم ,ممن لا يزدهيه إطراء , ولا يستميله إغراء , وأولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه , وأفسح له في البذل ما يزيل علته , وتقل معه حاجته إلى الناس , وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك , فانظر في ذلك نظراً بليغاً ,فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا. ((......
حكى هذا المقطع شأن القضاة أموراً بالغة الأهوورعه, منها:
أولاً: أن يكون الحاكم أفضل الرعية في تقواه وورعه , وأن تتوفر فيه هذه الصفات :
أ- أن يكون واسع الصدر لا تضيق به محكمات الناس, ويمل منها .
ب- أن يمعن وينظر بجد في القضايا التي ترفع إليه, ويتبع سبيل الحق فيما يحكم به.
ج- أن لا يتمادى في الزلل والخطأ فإنه يكون ضالاً عن الطريق إذا لم يعن بذلك .
د - أن يتبع الحق فيما يحكم به .
هـ - أن يكون شديداً في حكمه إذا اتضح له الحق .
ثانياً- أن يتعاهد الوالي قضاء الحاكم خشية الزلل فيما حكم به .
ثالثاً- أن يوفر له العطاء ولا يجعله محتاجاً لأحد حتى يخلص فيما يحكم به .
رابعاً- أن تكون للحاكم منزلة كريمة عند الوالي لا يطمع بها غيره.. هذه بعض النقاط في هذا المقطع .
العمال
نظر الإمام بعمق إلى العمال في جهاز الدولة فوضع منهجاً لاختيارهم في هذا الجهاز وأن يكون انتخابهم غير خاضع للمؤثرات الخارجية, بل لابد من البحث عنهم والفحص عن سيرتهم, وهذا نص عهده .
قال عليه السلام : ((ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وإثرة فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة, وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة , والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً ,وأصلح إعراضاً ,وأقل في المطامع إشراقاً , وأبلغ في عواقب الأمور نظراً ثم أسبغ عليهم الأرزاق ,فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم , وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم , وحجة عليهم إن خالفوا أمرك ,أوثلموا أمانتك , ثم تفقد أعمالهم ,وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم , فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوث لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية , وتحفظ من الأعوان فان أحداً منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله , ثم نصبته بمقام الذلة , ووسمته بالخيانة , وقلدته عار التهمة)) ، ألقى الإمام الأضواء في هذا المقطع على العمال في أجهزة الحكم, وأولاهم المزيد من الاهتمام لأنهم العصب في الدولة, وكان مما أولاهم به .
أولاً : إن الوظيفة لا تمنح لأي شخص إلا بعد اختباره ومعرفة سلوكه وإدارته .
ثانياً : أن منح الوظيفة يجب أن لا يكون محاباة أواثرة , وإنما يكون عن استحقاق ودراية .
ثالثاً : إن العمال في الحكومات السابقة كانوا شعباً من الجور وفي عهده يجب أن يكونوا أمثلة للنزاهة والشرف .
خامساً : أن يكون العمال من ذوي البيوتات الشريفة فإنهم يكونون بعيدين من اقتراف الإثم وما يخل بالكرامة .
سادسا : أن يوفر لهم المال فإنه ضمان لهم من أخذ الرشوة .
سابعاً : أن يجعل عليهم العيون والرقباء خشية انحرافهم عن الحق .
ثامنا : إذا بدت منهم خيانة فعلى الوالي أن يأخذهم بالعقاب الصارم .الخراج: الإجراءات مع العمال تضمن للأمة العدل , وتشيع فيها الإخلاص للحكم .
الخراج
أما الخراج فهوشرايين اقتصاد الأمة حكومة وشعباً في عصورها الأولى, وقد أمر الإمام في عهده بمراقبته وتفقده والاهتمام به , وهذا كلامه .
قال عليه السلام : ((وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ,فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم , ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله الحياة الاقتصادية للأمة في تلك العصور منوط بالخراج الذي تأخذه الدولة من المزارعين , وقد أمر بتفقده وتفقدهم رعاية للمصلحة العامة)) .
عمران الأرض
وأولى الإمام المزيد من اهتمامه بعمران الأرض, وما تحتاجه من الماء وغيره, وقد ادلى بذلك بقوله :
((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا بالعمارة , ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد , ولم يستقم أمره إلا قليلاً )) .
حكى هذا المقطع مدى اهتمام الإمام بعمارة الأرض وتوفير جميع الوسائل لإصلاحها لأنها مصدر الحياة الاقتصادية في الأمة.
وصيته بالمزارعين
اهتم الإمام بالمزارعين فأوصى برعايتهم والعناية بهم , وتصديقهم فيما يقولون في شأن الخراج , وإقصاء كل لون من ألوان الضغط عنهم ,وهذا قوله :قال عليه السلام :
(( فإن شكوا – أي المزارعون – ثقلة , أوعلة , أوانقطاع شرب أوبالة أوإحالة أرض اغتمرها غرف , أوأجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجوأن يصلح به أمرهم, ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم , فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم ,وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمد أفضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجحامك لهم , والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم , فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد ما احتملوه طيبة أنفسهم فإن العمران محتمل ما حملته , وإنما يؤتى خراب الأرض من أعواز أهلها ,وإنما يعوز أهلها لاشراف أنفس الولاة على الجمع – أي جمع الأموال وسوء ظنهم بالبقاء , وقلة انتفاعهم بالعبر ..)) .
حكى هذا المقطع مدى اهتمام الإمام بتنمية الاقتصاد القومي الذي يمثله قطاع الفلاحين فقد أوصى بعمارة الأرض , وتوفير ما تحتاجه من المياه , وإصلاحها فيما إذا غمرتها المياه وغير ذلك من وسائل الإصلاح , وقد فقد المسلمون هذه الرعاية أيام الحكم الأموي والعباسي ,فقد شكا والي مصر إلى عاهل الشام سوء حالة المزارعين وتخفيف الخراج عنهم فكتب إليه بعد التأنيب (( احلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم )) وقد اضطر المزارعون إلى هجر مزارعهم فراراً من ظلم الولاة وجورهم كما حكى هذا المقطع البر بالمزارعين والإحسان إليهم, ومراعاة حياتهم الاقتصادية بما لم يألفوا مثله في الحكومات السابقة .
الكتّاب
وهم من أهم الموظفين في جهاز الدولة, فهم يتولون كتابة ما يصدر من الوالي من قرارات وشؤون اقتصادية وعسكرية, وغير ذلك مما يتعلق بأمور الدولة والمواطنين وقد أولاهم الإمام المزيد من الاهتمام وهذا نص حديثه .
قال عليه السلام : ((ثم انظر في حال كتابك , فول على أمورك خيرهم ,وأخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لاتبطره الكرامة فيجزئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ , ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ,ويعطي منك , ولا يضعف عقداً اعتقده لك , ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك , ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور , فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل , ثم لا يكون اختيارك إياهم على فراستك واستنافتك – أي ثقتك – وحسن الظن منك , فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم , وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء , ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك , فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً , وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله تعالى , ولمن وليت أمره , واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها , يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته )) , حكى هذا المقطع مدى أهمية الكتاب لأن قرارات الدولة , ومهام الأمور بأيديهم , ولابد أن تتوفر فيهم الصفات الفاضلة من الأمانة والضبط , وعدم التهاون في أعمالهم وأن يكون اختبارهم وثيقاً , فلا يصح الاعتماد على الفراسة , وحسن الظن ولا على ما يبدونه من الخدمات لجلب مودة الوالي لأن ذلك ليس له أي وزن في ترشيحهم لهذه الوظيفة المهمة , فلا بد أن يكون الاختبار وثيقاً غير خاضع للرغبات الشخصية .
التجار وذوو الصناعات
يشكل القطاع من التجار وذوي الصناعات دوراً مهماً في إدارة الشؤون الاقتصادية في البلاد وقد أوصى الإمام برعايتهم والاهتمام بشؤونهم, وهذا قوله:
(( ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات , وأوصي بهم خيراً , المقيم منهم , والمضطرب بماله والمترفق ببدنه , فغنهم مواد المنافع , وأسباب المرافق , وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك , وسهلك وجبلك , وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها , ولا يجترئون عليها , فإنهم شكم لا تخاف بائقته , وصلح لا تخشى غائلته , وتفقد أمورهم بحضرتك , وفي حواشي بلادك ...)) .
عرض الإمام عليه السلام إلى دور التجار في جلب ما تحتاج إليه الناس من المناطق البعيدة والأماكن النائية ليوفروا لهم ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة, والواجب على الوالي رعايتهم وتسهيل أمورهم .
مراقبة التجار
نظر الإمام بعمق إلى شؤون بعض التجار الذين يبلغ بهم الطمع إلى احتكار بعض السلع ومنعهم عنه, وهذا قوله:
قال عليه السلام : ((وأعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً , وشحاً كبيراً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات , وذلك باب مفرة للعامة , وعيب على الولاة ,فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منع عنه , وليكن البيع بيعاً سمحاً لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع – المشتري – فمن فارق حكرة بعد نهيك إياه فنكل به , وعاقبه في غير إسراف ..)) .
عرض الإمام إلى مراقبة السوق خشية من الاحتكار الذي يفر بالعامة, وعلى الوالي أن يمنع المحتكر فإن أصر على احتكاره فيعاقبه من غير إسراف, الاحتكار يودي إلى شل الحركة الاقتصادية في البلاد ويلقي الناس في ضائقة اقتصادية.
الطبقة السفلى
وليس في تأريخ الإسلام وغيره مثل الإمام أمير المؤمنين في اهتمامه بالفقراء, فقد شاركهم في جشوبة العيش وخشونة اللباس , فهوأبوالفقراء , وصديق المحرومين وملاذ البائسين , وهذا نص حديثه في عهده:
(( ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً , وأحفظ الله تعالى ما استحفظك من حقه فيهم , واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ,فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى , وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر , فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامك الكثير المهم فلا تشخص طعمك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن لا تقتحمه العيون, وتحقره الرجال, ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم, ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم, وكل فاعذر إلى الله تعالى في تأدية حقه إليه...)) .
أرأيتم هذا العطف والحنان على الفقراء والضعفاء , فقد احتضنهم الإمام وجعلهم من أهم مسؤولياته وواجباته إن رعاية الفقراء والبر بهم والإحسان إليهم عند الإمام جزء من رسالة الإسلام التي أكدت على محوالفقر وإزالة شبحه, ونشر السعة والرخاء بين المسلمين.
رعاية الأيتام والمتقدمين في السن
أكد الإمام في عهده على ضرورة تفقد الأيتام والطاعنين في السن من الذين لا حيلة لهم.
قال عليه السلام : ((وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له , ولا ينصب للمسألة نفسه , وذلك على الولاة ثقيل , والحق كله ثقيل , وقد يخففه الله تعالى على أقوام طلبوا العاقبة , فصبروا أنفسهم , ووثقوا بصدق موعود الله تعالى لهم ...)) .
كان الإمام أباً عطوفاً للأيتام , وكان يجمعهم فيطعبذلك.عسل , وكان شديد العناية بهم والرعاية لهم والعطف عليهم , وكان من ذاتياته وعظيم أخلاقه , وأثرت عنه وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام كوكبة من الأحاديث تحث على رعاية اليتيم والبر به , وتذكر ما أعد الالحاجات من الأجر الجزيل للقائم بذلك.
تفريغ وقت لذوي الحاجات
ومن بنود عهد الإمام عليه السلام أنه حث على أن يجعل لذوي الحاجات وقتاً لينظر فيها وهذا قوله:
قال عليه السلام : ((وأجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك , وتجلس مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله تعالى الذي خلقك , وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: (( لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع )) ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والإنصاف يبسط الله تعالى عليك بذلك أكناف رحمته , ويوجب لك ثواب طاعته , وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وأعذار..)) .
وكان خائف,أأعدل عدل الإمام عليه السلام في أيام حكومته أنه يحين وقتاً للنظر في قضايا ذوي الحاجات , فكان يأخذ بحق الضعيف من القوي وبحق المظلوم من الظالم , وكذلك عهد إلى ولاته مثل ذلك , وقد أمر عليه السلام في عهده بتنحية الشرطة والجنود حتى يتكلم ذوالحاجة غير متعتع ولا خائف, وهذا منتهى العدل الذي أسسه رائد الحضارة والعدالة في الإسلام.
مباشرة الولي كلامه
وكان من بنود عهد الإمام أن يتولى الولاة بعض القضايا بأنفسهم تحقيقاً للعدل وهذا نص كلامه :
قال عليه السلام: ((ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها, منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك , ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعدائك , وأمض لكل يوم عمله , فإن لكل يوم ما فيه واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت , وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله تعالى إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية )) .
حكى هذا المقطع أموراً يتعين على الوالي القيام بنفسه في مباشرتها منها .
إجابة العمال فيما إذا عجز الكتاب عن القيام بها, وهي إما أنها ترجع إلى الشؤون االعامة. إلى مصلحة العمال تنفيذ كل عمل من أعمال الدولة بنفس اليوم من دون تأخير لأن التأخير يضر بالمصلحة العامة .
أن يخصص الوالي لنفسه وقتاً للاتصال بالله تعبإخلاص,ذه بعض النقاط في هذا المقطع .
إقامة الفرائض
وعهد الإمام لمالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص , وإذا أقيمت صلاة الجماعة فعليه أن يلاحظ المصلين فلا يطيل في صلاته وإنما يصلي كما يصلي أضعف الناس , وهذا حديث الإمام :
(( وليكن في خاصة مأضعفهم,ه لله تعالى دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة,فأعط الله تعالى من بدنك في ليلك ونهارك , ووف ما تقربت به إلى الله عز وجل من ذلك كاملاً غير مثلوم , ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ , وإذا قمت في صلاتك إلى الناس فلا تك منفراً ولا مضيعاً فإن في الناس من به العلة وله الحاجة , وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم ؟ فقال صل بهم كصلاة أضعفهم, وكن بالمؤمنين رحيماً..)) .
شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة الحث على الصلاة وكيفية أدائها جماعة ,ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده .
عدم الاحتجاب عن الرعية
وكان من وصايا الإمام لمالك أن لا يحتجب عن الرعية وأن يكون على اتصال دائم بهم فإن الاحتجاب له مضاعفاته السيئة التي تحدث عنها الإمام بقوله:
(( وأما بعد: فلا تطولن احتجابك عن رعيتك , فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق, وقلة بعلم الأمور , والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير , ويعظم الصغير , ويقبح الحسن , ويحسن القبيح , ويشاب الحق بالباطل , وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور , وليست على الحق سمات , تعرف بها ضروب الصدق من الكذب , وإنما أنت أحد رجلين , إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك عن واجب حتى تعطيه أوفعل كريم تسديه , أومبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أوطلب إنصاف في معاملة ...)) .
حكى هذا الخطاب ضرورة الانفتاح مع الشعب وعدم الاحتجاب عنه, فإن الوالي الذي يدافع عن شعبه ويكون بمعزل عنهم يعود بالأضرار البالغة عليه, والتي منها فتح أبواب المعارضة عليه, ونقمة المجتمع منه, وكراهيتهم لحكمه, وسلطانه.
بطانة الوالي وخاصته
حذر الإمام في عهده من إتباع بعض الذين يتخذهم الوالي خاصة له فإن فيهم تطاولاً وقلة انصاف , وعليه أن يحسم شرورهم وأطماعهم, ولا يقطعهم قطيعة أرض فيكون المهنأ لهم والوزر عليه, وهذا كلامه:
قال عليه السلام : ((ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهمبطانتهم,وتطاول وقلة إنصاف في معاملة , فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال , ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة , ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أوعمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك , وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.
لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم , فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة وأضاف الإمام يأمر الولاة بإتباع الحق قائلاً: وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد , وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع , وابتغ عاقبتك بما يثقل عليك , فإن معية ذلك محمودة ..)) .
إن الحق هوالمنهج الواضح في سياسة الإمام وسيرته وليس للباطل أي التقاء به.
الرفق بالرعية
أكد الإمام في عهده على الرفق بالرعية ومراعاة عواطفها, وإذا ظنت به حيفاً فعليه أن ينطلق إلى ساحتها, ويقدم لها الاعتذار, وهذا قوله:
(( وإن ظنت الرعية بك حيفاً فاصحر لهم بعذرك , واعدل عنك ظنونهم باصحارك فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك , وأعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق ..)) .
حكى هذا المقطع مدى العمق في سياسة الإمام عليه السلام في وسائل ارتباط الحكومة مع الشعب, وجعلهما جسداً واحداً .
الصلح مع العدو
إن الإسلام يدعوالى السلم وتحريم سفك الدماء وإزالة جميع وسائل الخوف والإرهاب, وقد أكد الإمام عليه السلام على ضرورة الاستجابة إلى الصلح إذا دعا إليه العدو, وكان هذا أعماله وقوله
قال عليه السلام : ((ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله تعالى فيه رضا , فإن في الصلح دعة لجنودك , وراحة من همومك , وأمناً لبلادك, ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحك ,فإن العدوربما قارب ليتغفل , فخذ بالحزم , واتهم في ذلك حسن الظن , وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أوألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء , وأرع ذمتك بالأمانة وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله تعالى شيء , الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود , وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر , فلا تغدرن بذمتك , ولاتخيسنَّ بعهدك ولا تختلن عدوك , فإنه لايجترىء على الله تعالى إلا جاهل شقي , وقد جعل الله تعالى عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته , وحريما يسكنون إلى منعته , ويستفيضون إلى جداره , فلا إدغال – هوالإفساد – ولا مدالة – الخيانة- ولا خداع فيه , ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل , ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثق ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى إلى طلب انفساحه بغير الحق , فإن صبرك على ضيق أمر ترجوانفراجه , وفضل عاقبته ,خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله تعالى فيه طلبة ,فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك ..)) .
حكى هذا الخطاب المناهج العسكرية ,وهذه شذرات منها:
أولاً: أن الإمام أكد على ضرورة قبول الصلح إذا دعا إليه العدو, وذكر فوائده: إن فيه راحة للجيش لأنه يستريح من الجهد العسكري .
ثانياً:احة للوالي من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية . في الصلح أمناً للبلاد وعدم تعرضها للأزمات .
ثانياً : على الوالي أن يراقب بيقظة العدووبعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه للكيد من المسلمين .
ثالثاً: إذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بالإسلام,بالوفاء والأمانة ولايخيس بأي شيء منه فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام, والغدر ونكث العهد يتجافى مع الإسلام فقد جعل الله تعالى الوفاء بالعهد حصناً وثيقاً من حصونه ليس لأحد أن يقتحمه.. هذه بعض البنود في هذا المقطع .
حرمة سفك الدماء
أكد الإمام في عهده على وجوب احترام الدماء وحرمة سفكها بغير حق, وهذا ما أعلنه الإمام وقال عليه السلام ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها , فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة ,ولا أحرى بزوال نعمة , وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله تعالى سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام, فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله,ولا عذر لك عند الله تعالى ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قود البدن وإن ابتليت بخطأ , وأفرط عليك سوطك أوسيفك أويدك بالعقوبة فإن في الوكزة مما فوقها مقتلة , فلا تمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم )) .
إن سفك االقاتل,ير حق من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام , فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وإطلاق النفس شامل لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية وغيرهم , كما أعلن القرآن أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه نار جهنم خالداً فيها , وقد شدد الإمام في عهده على ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها , وحذر أن يقوى سلطان ولاته بإراقة الدماء , كما دية قتل العمد أن فيه ؟؟؟؟؟ وهوقتل القاتل, كما ذكر دية المقتول خطأ وهوالدية ولايته, ما يكون التحذير من سفك الدماء.
الإعجاب بالنفس
وأوصى الإمام في عهده بأن لا يعجب الوالي بنفسه وولايته , وأن لا يحب الإطراء وهذا حديثه :
قال عليه السلام : ((وإياك والإعجاب بنفسك , والثقة بما يعجب منها وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين , وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أوالتزيد فيما كان من فعلك , فإن المن يبطل الإحسان , والتزيد يذهب بنور الحق , والخلف يوجب المقت عند الله تعالى والناس , قال الله تعالى :(( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )) حكى هذا المقطع تحذير الإمام لواليه من أمرين , وهما – أولاً : أن يمن على رعيته بما يسديه من إحسان عليهم فإن ذلك واجب عليه ولا مجال للتبجح بأداء الواجب , وثانياً: أن يعدهم بالإحسان ثم يخالف ما وعده فإن ذلك مما يوجب مقت الله تعالى ومقت الناس)) .
العجلة في الأمور
حذر الإمام من العجلة بالأمور قبل أوانها فإن ذلك مما لا يليق بالوالي , وهذا حديثه :
قال عليه السلام : (( وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أوالتسقط – أي التهويل – فيها عند إمكانها , أواللجاجة فيها إذا تنكرت , أوالوهن عنها إذا استوضحت فضع كل أمر موضعه)) .
لقد أوصى الإمام بعهده أن يضع الوالي كل شيء من أموره الاجتماعية أوالسياسية في موضعه من دون عجلة فإنها تهبط بمستوى الوالي شعبياً فإنه يتم عن عدم توازنه في سلوكه.
الاستئثار
حذر الإمام عليه السلام الوالي من الاستئثار بما فيه الناس سواء ولنستمع إلى قوله:
قال عليه السلام: ((وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة, والتغابي عما تعن به بما قد وضح للعيون, فإنه مأخوذ منك لغيرك, وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور, وينتصف منك المظلوم, أملك حمية أنفك, وسورة خدك, وغرب لسانك, واحترس من كل ذلك بكف البادرة, وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك, فتملك الاختيار, ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك)) .
لقد عهد الإمام عليه السلام إلى واليه التحلي بمكارم الأخلاق, وليس له ادبياً أن يستأثر بما الناس فيه سواء, وإنما عليه أن يتركه لهم لينظروا إلى نزاهة الحكم, وشرف الوالي, لقد أوصاه الإمام بكل فضيلة تخلد له الذكر الحسن, وتكون له وسام شرف.
الإقتداء بالحكومات العادلة
وختم الإمام حديثه في عهده لمالك بهذه الوصية القيمة التي يسموبها إلى أرقى درجات الكمال قائلاً:
((والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أوسنة فاضلة أوأثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم , أوفريضة من كتاب الله تعالى فاقتدي بما شاهدت مما عملنا به , وتجتهد لنفسك في إتباع ما عهدته إليك من عهدي هذا , واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها , وأنا أسأل الله تعالى بسعة رحمته , وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه , والى خلقه مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد , وتمام النعمة , وتضعيف الكرامة , وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة , إنا إليه راجعون والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً والسلام ..)) .
وانتهى هذا العهد الذي يمثل العدل في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته وهومن هجرية,ا خلفته الإنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والإدارة بمنتهى الحكمة والدقة , في وقت لم يكن فيه المسلمون وغيرهم يعرفوا هذه الأنظمة الخلاقة وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وعبقرياته التي لا تحد وحسبه علواً أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وباب مدينة علمه , ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى .
وقد فرغت من تأليف هذا الكتاب في الساعة الواحدة ليلاً من شهر صفر ٢٢ منه سنة ١٤٣٢ هجرية , وأنا في صحة لا تحمد سائلاً منه تعالى القبول إنه ولي ذلك والقادر عليه .