بقلم : الدكتور علي كاظم المصلاوي
مقدمة الإجراء
الطفّيّات مصطلح آثر الباحث نسبته للقصائد المتضمِّنة وصفاً لواقعة الطف وما جرى فيها من فاجعة حلَّتْ بالإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.
ولا ريب في أن هذا المصطلح يشمل جميع القصائد التي بكت الحسين عليه السلام وتفجَّعت بمقتله في تلك الواقعة الأليمة منذ حلولها سنة إحدى وستين للهجرة وإلى الآن.
وقد اقتصر الباحث على طفيات الشريف الرضي لتكون بادرة أولى لدراسة شعر الشعراء الذين نالهم حبُّ الحسين فرثوه بأحسن ما استطاعوا قولاً وما دبَّجوه من بيان.
وقد كان الشريف الرضي هو الموحي للباحث بهذا المصطلح، إذ جاء على شاكلة حجازياته الشهيرة والتي سارت (على نسق مع هاشميات الكميت، وخمريات أبي نؤاس، وزهديات أبي العتاهية) [١] والحجازيات كما هو معروف عنها (المقطعات الشعرية التي لها وجه اتصال بالحجاز مباشرة أو بالتأدية إليه) [٢] .
ويمكن أن أضيف سبباً آخر لدراسة الطفّيّات عند الشريف الرضي وهو نسبه الشريف المتَّصل بالحسين عليه السلام مما يضفي وقعاً خاصاً لبنية القصيدة مما لو لم ينتسب حقيقة له.وفوق هذا وذاك فان الشريف الرضي شاعرٌ ممسك بإحكام أدواته الشعرية، فهو كما قال الثعالبي فيه: (إنه أشعر الطالبيين…. ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق…) [٣]، وقال في مراثيه (ولستُ أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه) [٤] .
وقال فيه الدكتور زكي مبارك:(الشريف الرضي أفحل شاعر عرفته اللغة العربية،وأعظم شاعر تنسَّم هواء العراق) [٥] .
وقال فيه الدكتور البصير: (انه في طليعة شعراء اللغة العربية… وفارس حلبتي الرثاء والفخر وإمام الغزل العذري) [٦] وقيل فيه: (… إذا قصد المراثي جاء سابقاً والشعراء منقطعة الأنفاس …) [٧] دلالة على عظم باعه ومقدرته وطول نفسه في هذا المضمار.
وقد نعَتَهُ الأدباء لرقة شعوره وكثرة مراثيه بـ (النائحة الثكلى) [٨] فقد امتاز الشريف (برثائه البليغ المفعم صفاءً ومودةً ووفاءً وإخلاصاً) [٩] .
وحين تصفح الباحث ديوان الشريف الرضي بطبعة دار صادر المتكونة من جزأين - وهي المعتمدة في البحث - وجد خمس قصائد في رثاء الحسين عليه السلام كانت موضوع الصفحات القادمة من البحث.
فدرس الباحث البُنى الهيكلية والموضوعية والداخلية (اللغة الشعرية) معطياً لكل بنية منها مبحثا وقد تقدمها مدخل للدراسة. واتبع ذلك خاتمة ضمَّت أهمَّ النتائج التي توصل لها البحث تبعها ثبت المصادر والمراجع.
وابتعد الباحث ما أمكنه عن التاريخيات ومتعلقاتها السياسية والمذهبية ليقترب من استكشاف طريقة صياغة الشاعر لموضوعه وكيفية تشكيله شعرياً.
مدخل الإجراء
أ ـ البنية الهيكلية
إذا كان قوام الشعر العربي هو القصيدة [١٠]، فإن الحديث عن بناء القصيدة ومراحل تكوينها لا ينصرف إلا إلى القصائد الطوال التي تتعدد فيها الموضوعات وتسير على نظام معين ونسقٍ موروث سنَّه القدماء منذ عهد متقدم في الجاهلية، وتبعه المتأخرون في صدر الإسلام وسار على نهجهم كثير من شعراء العصر الأموي والعباسي على تفاوت في مقدار التبعية والالتزام [١١] .
وحسبنا أن نقول ان هذا النظام لم يكن عشوائياً وإنما كان منظماً ومرتباً ومراعياً في ذلك المستمع أو المتلقي.
وهذه الأجزاء التي يتألف منها بناء القصيدة الهيكلي، والتي سنعرض لها بشكل موجز هي:
١ ـ المطلع
لقد اهتم النقاد القدامى بالمطلع، فهو إلى جانب تمثله الناحية الموسيقية المتأتية من (تصيير مقطع (آخر) المصراع الأول في البيت الأول من القصيدة مثل قافيتها) [١٢] فانهم يعدونه ضرورة لازمة في بناء القصيدة لأنه مذهب الشعراء المطبوعين المجددين، وكانوا يعدون الشعر قفلاً (أوله مفتاحه) [١٣] و(عولوا على أهميته في مطلع القصيدة لأنه يميِّز بين الابتداء وغيره، ويفهم منه قبل تمام البيت روي القصيدة وقافيتها) [١٤] .
كما اشترطوا أن يكونَ حلواً سهلاً وفخماً جزلاً؛ [١٥] فالمطلع يقع في السمع من القصيدة، والدال على ما بعده، المتنزل من القصيدة منزلة الوجه والغرة. فإنما كان بارعاً وحسناً بديعاً ومليحاً رشيقاً، وصدر بما يكون فيه من تنبيه وإيقاظ لنفس السامع، أو أشرب بما يؤثر فيها انفعالاً ويثير لها حالاً من تعجيب أو تهويل أو تشويق، كان داعياً إلى الإصغاء والاستماع إلى ما بعده [١٦] .
وكذلك لاحظوا مناسبة المطلع لموضوع القصيدة، فإذا كان المقام مقام حزن كان الأولى بالمطلع أن ينبئ بذلك من أول بيت وإذا كان المقام مقام تهنئة أو مديح كرهوا الابتداء بما يتشاءم به [١٧] ، أي تطبيق القاعدة البلاغية مراعاة الكلام لمقتضى الحال.
أما المطلع غير المصرع فقد سماه حازم القرطاجني بـ(التجميع) إذ يخلف ظنّ النفس في القافية [١٨]، وعُدّ أكثر عيباً من الإكفاء والسناد في القوافي [١٩] .
وقد يلجأ الشاعر إلى التصريع الداخلي وهو أن يصرع أكثر من موطن في القصيدة الواحدة، واصطلح عليه الدكتور يوسف حسين بكار بـ(تجديد المطلع) [٢٠] وهو (دليلٌ عل قوة الطبع، وكثرة المادة، إلا أنه إذا كثر في القصيدة دلَّ على تكلف…) [٢١] .
ولوحظ اهتمام الشريف الرضي بالتصريع والتصريع الداخلي في شعره عامة، وهذا ينبئ عن تمسك الرضي واعتزازه بأصالة القصيدة العربية واحترام خصوصياتها ونزوعه نحو عفوية الأداء الشعري الذي تخلقه لحظة الإلهام الشعري الحرة [٢٢] .
وإذا ما انتقلنا إلى ما بعد المطلع المصرع أو غير المصرع نجد الشاعر يتسلسل إلى موضوعه في مقدمة تمهيدية لموضوعه الرئيس، وغالباً ما تبدأ بالديار والوقوف على الأطلال وبكائها والتأمل فيها، وهذا هو الأسلوب العام في ابتداء المطولات في الشعر الجاهلي [٢٣] وقد أخذ النقاد في العصر العباسي ينظرون من خلال تركيب بناء القصيدة الجاهلية ولا يتعدونه، وكان على رأس هؤلاء ابن قتيبة الذي رأى (أن لا مندوحة من المقدمة التي تتألف من الوقوف على الأطلال والغزل ووصف الرحلة.
هذا الشرط القسري يؤكده ابن رشيق حين يعيب الشعراء الذين يهجمون على الغرض مكافحة، ويتناولونه مصافحة ولا يجعلون لكلامهم بسطاً من النسيب، ويسمي قصائدهم في هذه الحال بتراء كالخطبة البتراء) [٢٤].
ويعلل ابن قتيبة سبب الابتداء بالمقدمة الطللية والغزلية، فالأطلال لذكر أهلها الظاعنين، والغزل لاستمالة القلوب واستدعاء الأسماع [٢٥]، وتابعه ابن رشيق في هذا المنحى [٢٦] .
إنَّ الالتزام الشكلي يعد قيداً على الشاعر المحدث، وقد لا يتناسب مع كل الموضوعات والظروف التي تتهيأ القصيدة من خلالها ليؤطرها الشاعر بالإطار الذي يتناسب وتلك الظروف، وهذا ما ذهب إليه ابن الأثير الذي تململ من أسر القصيدة القديمة وترك الحرية للشعراء في أبتداءاتهم [٢٧].
٢ ـ التخلص
ويسمى براعة التخلص وحسن التخلص [٢٨] الذي يؤلِّف معالم الارتباط الموضوعي والزمني بين أغراض القصيدة الواحدة [٢٩] والشاعر المجيد هو الذي يحسن الانتقال، فيغادر موضوعه الأول إلى الذي يليه دون خلل أو انقطاع، ويجعل معانيه تنساب إلى الموضوع الآخر انسياباً بحيث لا يشعر قارئه بالنقلة، بل يجد نفسه في موضوع جديد هو استمرار للأول وامتدادٌ له، وبين الموضوعين تمازجٌ والتئام وانسجام [٣٠] .
والتخلص بعد ذلك يدلُّ على حذق الشاعر، وقوة تصرفه وقدرته وطول باعه [٣١] ، ولم يكن القدماء يعنون به عناية الشعراء المحدثين بل يذهب ابن طباطبا إلى أن حسن التخلص من مبتدعات المحدثين لأن مذهب الأوائل في ذلك واحد، وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق، وحكاية ما عانوا في أسفارهم: انا تجشمنا ذلك إلى فلان يعنون الممدوح، كقول الأعشى:
إلى هوذةِ الوهَّابِ أُزْجِي مَطِيَّتي***** أُرَجِّي عَطاءً صالِحاً مِنْ نَوالِكَا [٣٢]
وكانوا يقولون عند الانتقال: (دع ذا) و(عد عن ذا) [٣٣] .
أما ذا لم يوفق الشاعر في تخلصه وجاء على غير ما وصفه النقاد فهو اقتضاب أو الطفر أو الانقطاع إذ يقطع الشاعر كلامه ويستأنف كلاماً غيره من مدح أو هجاء ولا يكون للثاني علقة بالأول. وقد ذهبوا إلى أن هذا هو مذهب الشعراء المتقدمين من مثل امرئ القيس والنابغة الذبياني وطرفة ومن تلاهم من طبقات الشعراء، أما المحدثون من مثل أبي تمام والمتنبي فقد تصرفوا في المخالص وأبدعوا فيها [٣٤]، ولا شك أن الشريف الرضي هو واحدٌ من أولئك المحدثين الذين تميزوا بحسن تخلصهم والإجادة فيه وهذا ما ستخبرنا عنه طفياته.
٣ ـ الخاتمة
مثلما اهتم القدماء بالمطالع اهتموا أيضاً بالمقاطع أو خواتم القصائد ونظروا إليه من الزاوية نفسها التي نظروا إليها للمطالع من حيث الاهتمام بالسامع أو المخاطب لأن ختام القصيدة في عرفهم يمثل (قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكماً: لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه) [٣٥].
وذهب حازم القرطاجني إلى وجوب (أن يكون ما وقع فيها من الكلام كأحسن ما اندرج في حشو القصيدة، وان يتحرَّز فيها من قطع الكلام على لفظ كريه أو معنى منفِّر للنفس عمَّا قصدت إمالتها إليه… وإنما وجب الاعتناء بهذا الموضع لأنه منقطع الكلام وخاتمته. فالإساءة فيه معفية على كثير من تأثير الإحسان المتقدم عليه في النفس. ولا شيء أقبح من كدر بعد صفو…) [٣٦] ولذلك اشترط فيه أن يكون الاختتام في كل غرض بما يناسبه فيكون بمعانٍ سارة فيما قصد بة التهاني والمديح،وبمعانٍ مؤسية فيما قصد به التعازي والرثاء، كذلك أوجب أن يكون اللفظ فيه مستعذباً والتأليف جزلاً متناسباً [٣٧] .
واشترط أبو هلال العسكري في الخواتيم، أن يكون أجود بيت في القصيدة وأدخل في المعنى الذي قصد له الشاعر في نظمها… أو أن يتضمن حكمة أو مثلاً سائراً، أو تشبيهاً حسناً [٣٨] .
وتجدر الإشارة إلى أن هناك نهايات تشعر أن المعنى مازال مستمراً إذ ينهي الشاعر قصيدته فجأة وعلى غير ختام، ويبقى المعنى بحاجة إلى تكملة واستمرار [٣٩].
ولعل ذلك عائدٌ إلى توقف الانثيال الشعري عند الشاعر لأي سبب كان أو نفاذه. مما يؤدي إلى استشعار القارئ أن للكلام بقية لم تتم إذ لم ينسجم مع الذي قبله. وهذا الأمر حاصل إذا علمنا يقيناً أن القصيدة قد جاءت كاملة ولم يحذف أو يفتقد منها شيء.
ومهما يكن من أمر فإن الباحث عمد إلى جعل هذه المرتكزات (المطلع، التخلص، الخاتمة) ضمن البنية الهيكلية أو الخارجية للقصيدة، وراح يتلمس هيكلة الشريف الرضي لطفياته من المطلع وحتى الخاتمة وكيف انتقل من موضوعه الأول إلى موضوعه الثاني، وهل هناك وحدة ربط بين الموضوعين، أم أن الشريف لم يكن في ذهنه إلا أن يجاري النمط القديم من البناء، أم أنه تلمَّس البناء القديم ليدخل في بنيته شيئاً جديداً مضافاً ابتدعه هو. وهذا ما سيعرضه الباحث في موضعه من البحث.
ب ـ البنية الموضوعية
لا شك في أن القصيدة مهما كان نوع ابتداءاتها فإن لها موضوعاً رئيساً تتمحور عليه، بل إن الابتداء يتطوع لهذا الغرض كيما يناسبه ويتسلسل به حتى النهاية التي تأتي مكملة للموضوع، لذا كانت بنية الموضوع ملخصة لفحوى الابتداء والانتهاء.
ولكل موضوع محاوره التي يدور حولها الشاعر، نافثاً أحاسيسه ومشاعره وأفكاره وهمومه، ومنفِّساً عن انفعالاته، طارحاً تأملاته في الكون والحياة الأشياء. ولا ريب في (أن القوة التي تصهر الأجزاء بعضها ببعض وتخلق التوازن بين الصفات المتضادة هي الخيال: القوة التي بواسطتها تستطيع صورة معينة أو إحساس واحد أن يهيمن على عدة صور أو أحاسيس في القصيدة فيحقق الوحدة فيما بينها بطريقة أشبه بالصهر [٤٠].
ولعل معالجة أفكار الموضوع أو مضامينه إذا اقتربت من التجريد كانت عقيمة أو غير ذات جدوى مما لو تعرضت للتصوير المجازي وكان ذلك بطريق الموضوعية الأدبية [٤١] .
ج ـ البنية الداخلية (اللغة الشعرية)
تعدّ اللغة الشعرية أهم المرتكزات في البناء الفني للقصيدة وإذا ما اشترك الشاعر مع غيره في البناء الخارجي فإنه يفترق في طبيعة صياغة البناء الداخلي، إذ إن اللغة الشعرية تمثل قدرة ومهارة متفردة في صياغة التجارب الشعورية، كما أنها تعكس ثقافة الشاعر ومشاعره وأفكاره تجاه الكون والأشياء وبتحليل تلك اللغة يتم الكشف عن مواطن الجمال والإبداع في العمل الأدبي وقيمه الفنية.
(واللغة ظاهرة فنية تأثرت بدورها بحركات التطور والتجديد التي طرأت على الشكل الفني العام للقصيدة العربية القديمة وهي تنتقل من مرحلة حضارية فنية إلى أخرى، من العصر الجاهلي فالعصر الإسلامي فالأموي فالعباسي) [٤٢] ورأى نقادنا القدامى أن سلامة اللغة من شروط جمالية القصيدة، كما كانوا يؤمنون بأن لغة أي قصيدة يجب أن تتناسب مع موضوعها. ويجب أن تكون متجانسة، ومن نوع واحد [٤٣] .
وتكمن أهمية اللغة من أن من خلالها تنبعث الأفكار والصور والموسيقى ولا تعرف هذه العناصر إلا من خلال تركيبات اللغة التي ندرسها في القصيدة [٤٤] .
واللغة الشعرية بعد ذلك (تنظيم متناسق مقصود للكلمات، يعبر عن انفعال نفسي حاول الشاعر استجلاءه بهذا التنظيم مما حملها بطاقات إيحائية انبجست من تزاوج علاقة الحقيقة بالمجاز من جهة والبناء بالإيقاع من جهة أخرى وأدت التأثير المطلوب في المتلقي) [٤٥] .
ومن خلال هذا التعريف نتبين ثلاثة مستويات في تشكيل لغة شعر أي شاعر وهذه هي الألفاظ والصياغة والإيقاع. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه المستويات متواشجة منصهرة فيما بينها، تتذبذب قوة تأثير كل منها في الآخر. وما الفصل الذي اصطنعناه بينها إلا لأغراض الدرس الذي تستدعيه العملية النقدية التحليلية للنص الشعري.
و تجدر الإشارة ايضا إلى ان مكونات القصيدة (البنية الخارجية والموضوعية والداخلية) هي متلاحمة ومتآصرة فيما بينها متبادلة التأثير بنسبة متفاوتة.
ولم يكن الفصل الذي اصطنعناه إلا فصلاً منهجياً لأغراض الدرس فحسب.
المبحث الأوّل: البنية الهيكلية للطفّيّات
لقد امتازت الطفيات المستقرأة من ديوان الشريف الرضي بالطول فانتظمت مكونات بنائها بصور كلية، فقد بلغت أقصر قصيدة منها ستةً وعشرين بيتاً، وأطولها اثنينِ وستينَ بيتاً، مما يشير إلى طول نفس الشريف الرضي في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره تجاه موضوع التجربة الشعرية. كما تشير إلى مسك الشاعر أدواته الشعرية بحيث لا يضيع على المتلقي نشوته بالتحام القصيدة ووحدة مشاعرها من بدئها حتى نهايتها وكأنها بلا نهاية، وهذا الأمر لم يكن متعلقاً بالطفيات فحسب وإنما بأغلب شعره [٤٦].
وإذا كان الخط العام في مقدمات المرثية عموماً عند الشريف الرضي وهو أما أن (تبدو ذات مقدمة حماسية أو فخر ذاتي وخيبة أمل وشكوى من الزمان مع احتفاظها بوحدتها المضمونية الرائعة أوقد تكون مرثاة بلا أية مقدمة أو تكون مرثاة مدينة متميزة بمضمونها وأبعادها السياسية والأخلاقية) [٤٧] فإن الطفيات لم تبتعد عن هذا التقسيم كثيراً، فقد وردت أولى طفيات الشاعر والتي نظمها سنة (٣٧٧هـ) أي عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، بلغ طولها الأربعين بيتاً، استهلها بمقدمة يفتخر بها بنفسه ويشكو من ظرف ألمَّ به [٤٨] :
صاحت بذَوْديَ بغدادٌ، فآنسَني ***** تقلُّبي في ظُهورِ الخيلِ والعيرِ
وكلّما هَجْهَجَتْ بيْ عَنْ منازِلِها ***** عارَضْتُها بجَنَانٍ غيرِ مذْعُورِ
أطْغى على قاطنِيها غيرَ مُكْتَرِثٍ ***** وأفعلُ الفِعْلَ فيها غيرَ مأْمُورِ
خَطْبٌ يُهًدِّدُني بالبُعدِ عنْ وَطَني ***** ومَا خُلِقْتُ لغَيْرِ السّرْجِ والكُورِ
إنّيْ، وإنْ سامَني ما لا أُقاوِمُهُ ***** فقدْ نجَوْتُ، وَقِدْحي غَيْرُ مَقْمورِ
عجْلانَ أُلبِسُ وجهي كلَّ داجِيَةٍ ***** والبرُّ عُريْانُ مِنْ ظبيٍ ويعفورِ
وقارئ هذه الأبيات يحس بعمق غضب الشاعر على الأوضاع التي يواجهها كما يحس بعمق معاناته وحزنه الشديد من خلال افتخاره بنفسه ومبالغته فيه كرد فعل عكسي لما يصيبه ويواجهه.
وإذا رجعنا إلى هذه الحقبة من حياته نجدها (مرحلة عناءٍ وشقاء، إذ صرف أبوه من النقابة، ثمّ اعتقل بعد سنتين اعتقله عضد الدولة، وسجنه في قلعة بفارس من سنة ٢٧٠هـ إلى سنة ٣٧٨هـ قضى الرضي مع أخيه وأمه ثمانية أعوام عجاف بالبؤس وعيش الكفاف، بما تبيعه أمه من أملاكها وحليها…) [٤٩] ومن الطبيعي أن تأتي قصائده متمثلة مشاعره أكمل تمثل، ولعل تمرده على الوضع الذي هو فيه كان وراء تخليه عن مرتكزين مهمين في بناء القصيدة، وهو عدم تصريعه مطلع القصيدة وتخليه عن المقدمة الطللية، وهذا مصداق على فكرة (أنَّ الشكل الفني للقصيدة مرتبط بالنظام السياسي والفكري لعصر الشاعر، فإن التمرد والخروج عليه يعني تمرداً وخروجاً سياسياً وثقافياً على ذلك العصر…) [٥٠] .
ومهما يكن من أمر فإنّ الشاعر بعد هذه الأبيات الغاضبة يجرِّد من نفسه شخصية القائلة التي راحت تصبِّره على أحزانه [٥١] :
وربَّ قائلةٍ، والهمُّ يُتْحفني ***** بناظرٍ منْ نِطافِ الدمعِ ممطورِ
خفِّضْ عليكَ، فللأحزانِ آوِنةٌ ***** وما المُقيمُ على حُزْنٍ بمَعْذورِ
فيجيبها بحزمٍ وقوةٍ:
فقُلْتُ: هَيْهاتَ فاتَ السَّمْعُ لائِمَهُ ***** لا يُفْهَمُ الحُزْنُ إلاَّ يومَ عاشورِ
ولا شكَّ أنَّ المرأة أقدر على امتصاص حزن الشاعر وألمه، وأقدر على إثارته بشتى الانفعالات والأحاسيس. كما أنَّ هذا الأسلوب (حوار العاذلة أو القائلة) كان متبعاً عند بعض شعراء الجاهلية [٥٢].
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ربط الشاعر بحسن تخلصه موضوع حزنه وما ألمَّ به من مكاره وصعاب بموضوع واقعة الطف وما حدث في يوم عاشوراء، وكأنَّ الأحزان التي مرَّتْ وتمرُّ به ليست حزناً قياساً بما حدث يوم عاشوراء، بل إنَّ الحزن لا يفهم وليس له معنى إلا في ذلك اليوم العصيب فأجابها بقوله:
فقُلْتُ: هَيْهاتَ فاتَ السَّمْعُ لائِمَهُ ***** لا يُفْهَمُ الحُزْنُ إلاّ يومَ عاشورِ
إنَّ انتقالة الشاعر جاءت موفقة كل التوفيق، وطبيعية منسابة بين مقدمة القصيدة وغرضها وكذا خاتمتها التي أنهاها الشاعر بها مخاطباً نفسه محرضاً إياها على المجد والرفعة وعدم التهاون ولكنه حزين يلقى الزمان بجرح غير مندمل وبقلب غير مسرور [٥٣] :
ما ليْ تَعَجَّبْتُ من همِّي ونفْرَتِهِ ***** والحزنُ جرحٌ بقلبيْ غيرُ مسْبورِ
بأيِّ طرْفٍ أرى العلياءَ إنْ نَضَبَتْ ***** عَيْني، ولَجْلَجتُ عَنْها بالمعاذِيرِ
ألْقى الزمان بكَلْمٍ غيرِ مندملٍ ***** عُمْرَ الزمانِ، وقلْبٍ غيرِ مَسْرُورِ
ثم يخاطب جدَّه الحسين عليه السلام بنداء مفجع:
يا جدِّ لا زالَ لي همٌّ يحرِّضُني ***** على الدُّمُوعِ ووجْدٌ غيرُمقْهورِ
والدمعُ تحفزُهُ عيْنٌ مُؤَرّقةٌ ***** حَفْزَ الحنيّةِ عنْ نَزْعِ وتوْتيرِ
إنَّ السلوَّ لمَحظورٌ على كَبِدِي ***** وما السلوُّ على قلبٍ بمَحْظُورِ
وهذه النهاية جاءت استكمالاً للحلقة التي بدأها الشاعر في مطلع قصيدته متخذاً من يوم الطف وواقعته نبراس تأسٍّ بالحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام. ليكون دافعاً قوياً لاستكمال نضاله وتصبره على ظروفه القاسية وصولاً إلى مجده التليد.
أما طفيته الأخرى فقد نظمها سنة ٢٨٧هـ أي لما كان عمره الثامنة والعشرينَ، وقد بلغ طولها اثنين وخمسين بيتاً، وقد استهلها بمقدمة حكمية مصرّعة المطلع، بلغ طولها اثني عشر بيتاً ثمَّ جاء البيت الذي تخلص به إلى غرضه.
وقد تعرض في مقدمته لحتمية الفناء للإنسان وكل الأشياء، وإن الدنيا غدارةٌ بأهلها مع طول الأمل والفناء فيها، والأزهار ذابلة لا محالة، واليأس قاتل والأمل مقتول، وقد جرد من نفسه شخصية وراح يخاطبها بقوله [٥٤] :
راحلٌ أنتَ، واللياليْ نُزولُ ***** ومضرٌّ بِكَ البَقاءُ الطويْلُ
لا شُجاعٌ يَبـقى فيعتنق البيـــ ***** ـضَ ولا آمِلٌ ولا مأمُولُ
غايةُ الناسِ في الزَّمانِ فَناءٌ ***** وكذا غايَةُ الغُصُونِ الذُبُولُ
إنَّما المرْءُ للمنيــَّـةِ مخْبــو ***** ءٌ، وللطــعْنِ تُسْتَجَمُّ الخُيــولُ
منْ مقيلٍ بينَ الضلــوعِ إلى طوج ***** لِ عَناءٍ، وفي التُّرابِ مقيلُ
فهو كالغيْمِ ألْقَتْهُ جَنوبٌ ***** يومَ دجْنٍ، ومزَّقَتهُ قبولُ
عادةٌ للزمانِ في كلِّ يَوْمٍ ***** يتناءَى خِلٌّ، وتبكي طُلُولُ
فاليالي عونٌ عليـكَ مع البيـــ ***** ـنِ، كمـا ساعَـدَ الزوابلَ طــولُ
ربما وافقَ الفتى مِنْ زمانٍ ***** فرحٌ، غيرُهُ به متْبولُ
هيَ دُنيا إنْ واصلَتْ ذا جَفَتْ هـ ***** ـذا مَلالاً، كأنها عُطْبولُ
كلُّ باكٍ يُبْكى عليهِ، وإنْ طـــا ***** لَ بَـقـاءٌ، والـثــاكلُ المَثكـولُ
والأَمانيُّ حسْرَةٌ وعَناءٌ ***** للذيْ ظنَّ أنَّها تَعْلِيلُ
في هذه المقدمة نلحظ أنّ الشاعر فيها كان أكثر اتزاناً كابحاً انفعالات الشباب الجامحة، وقوراً ينظر إلى الدنيا غير ما ينظر إليها المغترُّ بها كما جاء تصريعه المطلع مناسباً لطبيعة الشعور الذي طغى عليه… شعور المترفِّع العارف بدايات الأمور ونهاياتها. ولا ريب بعد ذلك أن تجيء مقدمة الشريف نابضة بالصدق وحسن التصوير لانفعالاته تجاه موضوعه إذ عرفنا الظروف القاهرة والحوادث المتقلبة التي مرَّ بها الشريف وأسرته وخرج منها قوياً متماسكاً ينظر لها بعين الحكيم العارف كنهها وأسرارها. ومن خاطر الحكيم أن يستعبر بغيره، وما أحسن الاستعبار والتأسي بما أصاب ابن فاطم كناية عن الحسين عليه السلام من حوادث أليمة قاسية [٥٥]:
ما يُبالي الحِمَامُ أينَ ترقّى ***** بعدما غالتِ ابنَ فاطمَ غولُ
فجاء تخلصه هذا مستحكماً استحكام الموت وقضائه الذي لا مهربَ منه ولامردَّ لهُ، فخلـَّفَ أوقعَ الأثر في نفس المتلقي وأرهبه من هذه العاقبة الأليمة.
وبعد أن يعرض لما حلَّ بالحسين عليه السلام مظهراً تفجعه وحزنه عليه، طالباً بالثأر ممن قتله، عارضاً قوته وشجاعته، شاهراً سيفه، ورافعاً سنانه في سبيل النيل من الطغاة الذين يتحكمون بالفضلاء من الناس وهم أوضع الخلق وأحقرهم ليتسلسل إلى خاتمة القصيدة بشكل طبيعي وهي فخره بانتسابه إلى أهل البيت وحبِّه لهم [٥٦] :
صَبَغَ القلبَ حُبُّكمْ صبغةَ الشـيــ ***** ـبِ وشيبي، لولا الرَّدى، لا يَحُولُ
أنا مولاكُمُ، وإنْ كنتُ منكمْ ***** والِدي حيْدَرٌ، وأُمّي البَتُولُ
وإذا الناس أدرَكـوا غايةَ الفخــ ***** ـرِ شآهم مَــنْ قال جدّي الرسولُ
ثم يوصل هذا بافتخاره بنفسه وبشعره وحبه لمعالي الأمور [٥٧] :
يفرحُ الناسُ بي لأنيَ فَضْلٌ ***** والأنامُ الذي أراهُ فضولُ
فهم بيْــنَ مُنْشِدٍ مــا أقفيـ ***** ـه سروراً، وسامــعٍ مـا أقُولُ
ليتَ شعري، من لا ئمي في مَقالٍ ***** ترتضيهِ خواطرٌ وعقولُ
أتركُ الشيءَ عاذري فيه كـلَّ الـ ***** ـناسِ من أَجْـلِ أنْ لحاني عَـذولُ
هو سؤْلي إنْ أسْعدَ اللهُ جدِّي ***** ومعالي الأمورِ للذِّمرِ سُولُ
والشريف الرضي بفخره هذا يحسُّ بعلوه ومكانته المرموقة في مجتمعه فكيف وجده الرسول ووالده حيدر كناية عن علي بن أبي طالب وأمه البتول كناية عن فاطمة بنت الرسول عليهم السلام، إنها رموز مقدسة ينحدر منها الشاعر، وتمثل قيماً أخلاقيةً ومعاني إنسانية نبيلة.
أما الطفية الثالثة والتي نضمها سنة ٢٩١هـ والتي بلغ عدد أبياتها الثمانيَة والخمسينَ بيتاً، استهلها بمقدمة طللية مصرَّعة المطلع بلغت خمسة عشر بيتاً تضمنت مناداة المنازل وسكب الدموع فيها، وتبع ذلك تذكر منازل الأحبة، وأماكن تواجدهم، ومرابط خيلهم، وآثار الرماد…. [٥٨]:
هذي المَنازِلُ بالغَميمِ، فنادِها ***** واسكُبْ سَخيَّ العَيْنِ بَعْدَ جَمادِها
إنْ كانَ دَيْنٌ للمُعالِمِ، فاقضِهِ ***** أوْ مُهْجَةٌ عِنْدَ الطُّلُولِ ففادِها
يا هَلْ تَبُلُّ مِنَ الغَلِيْلِ إلَيْهِمُ، ***** إشْرافَةٌ للرّكْبِ فَوْقَ نِجادِها
نُؤْيٌ كمُنْعَطِفِ الحَّنيَّةِ دُونَهُ ***** سُحْمُ الخُدودِ لهنَّ إرْثُ رمادِها
ومَناطُ أطْنابٍ وَمَقْعَدُ فِتْيَةٍ ***** تَخْبُو زِنادُ الحَيِّ غَيْرَ زِنادِها
ومَجَرُّ أرْسانِ الجِيادِ لغلْمَةٍ ***** سَجَفوا البُيُوتَ بشُقرِها ووِرَادِها
ثمَّ يذكر حبسه لعصابةٍ كانت متلهفةً لتلكَ الديارِ وهي على هذه الحالة فلم يستطيعوا أنْ يغادروها حتى كأن قوائم مطيِّهم متركزة في الأرض كالأوتاد، ولكنهم برغم ذلك انثنوا عنها وكان سلوهم البكاءَ والشجنَ. ثمَّ يخبرنا الشاعر أنَّ هذه العصابة متقلدة لحمائل سيوفها وإن دمعها عزيزٌ عليها لا ينزلُ إلا لأسباب عظيمة [٥٩] :
ولقَدْ حَبَسْتٌ على الدِّيارِ عِصابَةً ***** مَضْمومَةَ الأيدي إلى أكْبادِها
حَسْرَى تَجاوَبُ بالبُكاءِ عُيُونُها ***** وتَعَطّ بالزَّفَرَاتِ في أبْرادِها
وقفُوا بها حتّى كأنَّ مطِيَّهُمْ ***** كانتْ قوائِمُهُنَّ مِنْ أوْتادِها
ثمَّ انثنَتْ، والدَّمعُ ماءُ مَزَادِها ***** ولواعِجُ الأشْجانِ مِنْ أزْوادها
مِنْ كُلِّ مُشْتَمِلٍ حَمايِلَ رَنَّةٍ ***** قَطْرُ المَدامِعِ مِنْ حُليّ نِجادِها
ثمَّ يدعو الشاعر بتحية للطلل وصاحبه من ديمةٍ تشفي السقيم إذا هطلتْ [٦٠] :
حيّتكَ بلْ حَيَّتْ طُلُولكَ ديمةٌ ***** يشفي سَقِيمَ الربعِ نفثُ عهادها
وغدتْ عليك من الخمائل يِمنةً ***** تستامُ نافِقَةً على رُوَّادِها
ثمَّ يتساءلُ الشاعرُ مستنكراً عن ماذا تطلبون من النواظر غير العبرات والسهاد على ما حلَّ بتلك الديار، ثمَّ ينفي وجود الدمع ونزوله، إنْ العينَ جامدة وجافلة على ما حلَّ بكم [٦١] :
هل تطلبُونَ مِنَ النوَاظِرِ بعدَكُمْ ***** شيئاً، سِوى عبراتِها وسُهادِها
لمْ يَبْقَ ذُخْرٌ للمدامِعِ عنكُمُ ***** كلا، ولا عَيْنٌ جَرى لرُقادِها
ثمَّ يجيئ بيتُ التخلصِ متناسقاً مع ما ابتدأ به الشاعر ووصل إليه فيخبر فيه أن الدموع متشاغلة بأمر أكبر من بكاء الديار إنها مشغولة لبكاء فاطمة على أولادها [٦٢] :
شَغَلَ الدُّمُوعَ عنِ الدِيارِ بكاؤُنا ***** لِبُكاءِ فاطمةٍ على أولادِها
وهنا يربط الشاعر بين موضوع متصور على وجه الحقيقة، وهو بكاء فاطمة على أولادها الذين سقطوا في معركة الطف، وحلَّ ما حلَّ ببناتها من بعد ذلك، وبين بكاء الديار وأطلالها.
إن الشاعر عندما يقف على الأطلال وهو في قمة الحضارة العربية في العصر العباسي نقول إنه يستوحي النمط القديم من القصيدة ويتمثله ويوظفه في قصيدته وكأنما هو فعلاً قد وقف على الطلل، وحينما يتخيل الشاعر أنَّ فاطمة عليها السلام تبكي على أولادها إنما هو أيضاً يستوحي الحالة التي عليها فيما لو كانت موجودة على قيد الحياة.
إنَّ هذا الاستحضار يوقع في قلب المتلقي ويثير عواطفه ويحرك دموعه ولعل الشاعر بفعله هذا يواسي فاطمة عليها السلام بكاءها ونحيبها على أولادها، أملاً بشفاعتها يوم القيامة.
وإذا كان الشريف الرضي متميزاً على رأي أحد الباحثين (بنظرته الجديدة المتميزة إلى الطلل، فهو بيت مهجور، أو زمن متصرم أو امرأة معرضة أو شباب مولٍّ أو أمل ضائع) [٦٣] فإننا نضيف إلى ذلك أرضاً مقدسة وقف بها الرضي وأناخ بها وتذكر ما جرى عليها وبكى على من سقطوا بها، وتحسَّر على مجده المضاع فيها.
ومهما يكن من أمر فالباحث يرى أن وقفة الشريف الطللية لتوحي ببعدٍ ما خاصة وأنه قد ربطها بواقعة الطف، فالشاعر كان منطلقاً من بدء القصيدة من أن أرض الطف هي الطلل الذي ناداه، وما المنازل التي استحضرها إلا منازل الحسين وأهل بيته في أرض الطف وما العصابة التي راح يتكلم عنها إلا أنصار الحسين وشيعة أبيه الطالبين بثأره، إنَّ هذا الأمر يعضده ما جاء قبيل نهاية القصيدة نفسها التي عاد الشاعر فيها إلى الوقوف بالطلل من جديد وحدده بالطف [٦٤] :
قِفْ بي، ولوْ لَوْثَ الإزارِ، فإنَّما ***** هيَ مهجَةٌ عَلِقَ الجوى بفؤادِها
بالطَّفِ حيثُ غدا مُراقُ دمائِها ***** ومُناخُ أينقها ليومِ جلادِها
القفرُ مِنْ أوْراقِها، والطيْرُ منْ ***** طُرَّاقُها، والوحشُ مِنْ عُوَّادِها
تجري لها حَبَبُ الدُّمُوعِ، وإنَّما ***** حَبُّ القُلُوبِ يكنّ من أمْدادِها
يا يَوْمَ عاشُوراءَ كَمْ لكَ لَوْعَةً ***** تتَرَقّصُ الأحْشاءُ مِنْ إيقادِها
ما عُدْتَ إلا عادَ قَلْبي غلّةٌ ***** حرّى، ولَوْ بالَغْتُ في إبْرادِها
مثْلُ السَّليمِ مَضيضَةٌ آناؤُهُ ***** خُزْرُ العيونِ تَعُودُهُ بِعِدادِها
لقد طوّع الشاعر الموروث الشعري القديم ليصوغ بنية جديدة وطللاً جديداً هو أسمى وأعمق من طلل الجاهلي الذي وقف وبكى واستبكى وسأل الطلل ولم يجبه. فطلل الشرف الرضي طلل الروح السامية إلى خالقها والمترفعة عن مباهج الدنيا الفانية، وهو بعد ذلك ينطلق من تجربة شعورية صادقة نابضة بالحياة، مفعمة بالحبِّ المثالي كما هو متجلٍ في طفياته.
ثمَّ يتسلسل الشاعر إلى ختام قصيدته وذلك بنداء جدِّه الحسين عليه السلام كما فعل في طفيته (صاحت بذودي بغداد) إلا أنه يسترسل في وصفه لأهل البيت عليهم السلام، موضحاً أنَّ نظمه هو ثناءٌ لا يبلغ درجتهم السامية، ولكنه برغم ذلك يختمها بقوله:
أغنى طلُوعُ الشمْسِ عنْ أوْصافِها ***** بجلالها وضِيائها وبَعَادِها
فقد وجد في الشمس ضالته في مبلغ وصفه لأهل البيت دون أشياء أخرى عرَّجَ في وصفها قبل نهايته هذه.
أما الطفية الرابعة والتي نظمها سنة ٣٩٥هـ، وقد بلغت ستةً وعشرينَ بيتاً بدأها بمقدمة ذاتية حزينة، وقد جرَّد من نفسه شخصية مهمومة شاكية تقلبها بالرمل أيدي أحبتها وقد راح يرعى نجوم الليل وطرفه موزع بين النجم والدمع، وما تغمض إلا ليعاودها خيال أحبتها البعداء وكانت أيضاً مصرعة المطلع [٦٥] :
وراءَكَ عَنْ شاكٍ قليلٍ العَوائدِ ***** تُقَلِّبُهُ بالرَّمْلِ أيدي الأباعِدِ
يُراعي نُجُومَ الليْلِ والهَمَّ، كُلَّما ***** مضَى صادِرٌ عنّي بآخَرَ وَارِدِ
توَزَّعَ بَيْنَ النَّجْمِ والدَّمْعِ طَرْفُهُ ***** بِمَطْروفَةٍ إنْسانُها غيرٌ راقِدِ
ومَا يَطّبيها الغُمْضُ إلا لأنهُ ***** طَريقٌ إلى طَيْفِ الخَيالِ المُعاوِدِ
ثمَّ يذكر الشاعر أحبته وإن ذكره لهم ذكر الصبا بعد عهده، وإنه متعلق بالمنى والمواعيد، ثمَّ يصف نظرته إلى دارهم وقد حلَّتْ بها كثبان الرمل المتطاولة ويخبرنا أنّ شوقه القديم لم ينقص لها وإن دمعه عليها ليس يجمد، وهو إلى جانب ذلك له كبد مقروحة مسقومة [٦٦] :
ذكرْتُكُمُ ذِكْرَ الصِّبا بعد عهْدِهِ ***** قَضى وَطَراً منّي وَلَيسَ بِعائِدِ
إذا جانَبُوني جانباً مِنْ وِصالِهِمْ ***** عَلِقْتُ بِأطْرافِ المُنى والمَوَاعِدِ
فيا نَظْرَةً لا تنْظُرُ الَعَيْنُ أُخْتَها ***** إلى الدّارِ مِنْ رَمْلِ اللِّوى المُتَقاوِدِ
هيَ الدّارُ لا شَوْقي القَديْمُ بِناقِصٍ ***** إلَيْها، ولا دَمْعي عليها بجامِدِ
وَلي كَبِدٌ مَقْروحَةٌ لَوْ أضاعَها ***** مِنَ السُّقْمِ غيري ما بَغاها بناشِدِ
ثمَّ يتساءل مستنكراً بقوله : [٦٧]
أما فارقَ الأحْبابَ قَبْلِي مُفارِقٌ ***** ولا شَيَّعَ الأضْعانَ مثْلي بواجِدِ
ولكن داءَ الهمِّ قد عاوده ولم يزل بقلبه حتى عاد منه عائذُ فمهد بذلك للتخلص لموضوعه الرئيس [٦٨] :
تأوبُني داءٌ مِنْ الهمِّ لمْ يَزَلْ ***** بِقَلْبيَ حتى عادَنيْ منْهُ عائدِي
تذكَّرْتُ يومَ السِبْطِ مِنْ آل هاشِمٍ ***** وما يَوْمُنا مِنْ آلِ حَرْبٍ بِواحِدِ
والملاحظ على هذه المقدمة أنَّ الشاعر قد سيطر عليه شعورٌ بعدمِ الارتياح، ولعله كان مرهقاً بسبب مسؤولياته الكثيرة في نقابة الطالبيين [٦٩] ، فانعكس ذلك على بنية القصيدة بانتقال الضمير من المخاطب الغائب إلى المتكلم الحاضر، ثم العودة إلى الغائب ثمَّ العودة إلى المتكلم الحاضر، ثمَّ هذا التنقل في الموضوعات وكأنها متفرقة غير متلاحمة، على عكس ما وجدناه في مقدمات الطفيات المتقدمة. ثم إنّ ختام هذه الطفية جاء غير مريح للمتلقي وكأنَّ الشاعر أراد أنْ يتخلص منها وقد نفد انثياله الشعري على غير عادته فكان قصيراً مقارنةً بقصائده الطفية الأخرى.
ثمَّ أنَّ معالجة الموضوع لم تكن كما في طفياته الأخرى، فقد اقتصر الشاعر على ثلاثة أبيات من ضمنها بيت التخلص، ثم أخذ يندد بظلم الأمويين والعباسيين لأهل البيت إلى أن يختمها بقوله [٧٠] :
كذبتُكَ، إنْ نازَعْتَني الحقَّ ظالماً ***** إذا قلتُ يَوْماً إنني غيرُ واجِدِ
ولعل هذا التنقل متأتٍ من تأثره بالأسلوب القرآني الذي تشيع فيه هذه الظاهرة لذا احتفظ الشريف الرضي بمقومات البناء الفني لهذه الطفية من مقدمة وحسن تخلص وخاتمة.
أما الطفية الخامسة فقد نظمها في أخريات حياته، وهي أشهر وأطول طفياته، إذ بلغت اثنين وستين بيتاً، جاء مطلعها مصرّعاً [٧١] :
كَرْبلا لا زِلْتِ كَرْباً وبلا ***** كَمْ لَقِي عنْدَكِ آلُ المُصْطَفى
وكثيراً ما كان الشاعر يلجأ إلى التصريع الداخلي أو ما يعرف بـ(تجديد المطلع) [٧٢] فيها وذلك ليشد المستمع لما يطرحه، ويزيد من انتباهه مع تمدد القصيدة بشكل واضح.
وهو والحالة هذه أشبه بمحطات استراحة ينطلق عقب كل محطة إلى مسافة شعورية انفعالية جديدة. وهو إلى جانب ذلك استعمل مختلف الأساليب التركيبة والبيانية والإيقاعية مما يجعلها نشيداً متردداً على طول الدهر، فلا زالت تقرأ هذه القصيدة، فتثير مشاعر الحزن، وتستفز مكامن الدمع.
وقد بدأها الشاعر بنداء محذوف موجه إلى كربلاء المكان الذي حدثت فيه واقعة الطف، ثمَّ يسترسل عبر هذه النافذة ليسرد ما وقع فيها من حوادث قتل وسبي وانتهاك حرمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يرعوا له رعياً ولم يوفوا له عهداً، ويصوره الشاعر غاضباً أشد الغضب لفعلتهم النكراء شاكياً إلى الله تعالى ما صنعوه بأهل بيته الكرام. ثم يختمها بقوله على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخاطب الله سبحانه وتعالى [٧٣] :
ربِّ إنّي اليَوْمَ خَصْمٌ لهُمُ ***** جِئْتُ مظْلُوماً وذا يَوْمُ القَضا
إنها خاتمة حزينة يسلم بها المحزون ألمه وحزنه وشكواه إلى رب العالمين ليخفف عنه ما حلَّ به ويأخذ بيده، وينتقم من أعدائه ويحاسبهم على ما فعلوه.
-------------------------------------------------------------------------------
[١] . حجازيات الشريف الرضي: ٢٥، د. مصطفى كامل الشيبيّ. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٢] . م.ن.
[٣] . يتيمة الدهر: ٣/ ١٣٦.
[٤] . م.ن.
[٥] . عبقرية الشريف الرضي: ١/١٥.
[٦] . في الأدب العباسي: ٤٣٣.
[٧] . نهج البلاغة (شرح محمد عبده): ٧ (مقدمة الشارح).
[٨] . الوافي بالوفيات: ٢/٢٧٤.
[٩] . في الأدب العباسي: ٤٢١.
[١٠] . التوجيه الأدبي: ١٤٨.
[١١] . ينظر: الشعر الجاهلي: ١٢٥ – ١٢٦.
[١٢] . نقد الشعر: ٥١.
[١٣] . العمدة: ١/٢١٨.
[١٤] . سر الفصاحة: ٢٢٢.
[١٥] . ينظر: العمدة: ١/٢١٨.
[١٦] . ينظر: كتاب الصناعتين: ٤٥٥ ومنهاج البلغاء ٣٠٩ – ٣١٠.
[١٧] . ينظر: م.ن: ٤٥١ – ٤٥٢، والعمدة: ١/٢٢٢.
[١٨] . ينظر: منهاج البلغاء: ٢٨٣.
[١٩] . ينظر: بناء القصيدة ١٧٤.
[٢٠] . ينظر: م.ن.
[٢١] . العمدة: ١/١٧٤.
[٢٢] . ينظر: بناء القصيدة عند الشريف الرضي: ٢٠٩، د. عناد غزوان. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٢٣] . إلى جانب المقدمات الغزلية والطللية ثمة مقدمات في الشيب والطيف وغيرها، ينظر: صور أخرى من المقدمات الجاهلية – اتجاهات ومثل، د. يوسف خليف، مجلة المجلة: ٤ – ١٥، ومقدمة القصيدة العربية في العصر الجاهلي: د. حسين عطوان.
[٢٤] . بناء القصيدة: ٢١٣.
[٢٥] . ينظر: الشعر والشعراء: ١/٧٥ – ٧٦.
[٢٦] . ينظر العمدة: ١/٢٢٥.
[٢٧] . ينظر: بناء القصيدة: ٢١٤.
[٢٨] . ينظر: معجم النقد العربي القديم: ١/٢٧٤.
[٢٩] . ينظر: بناء القصيدة عند الشريف الرضي: ٢١٨، د. عناد غزوان. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٣٠] . ينظر: الشعر الجاهلي: ١٣٧.
[٣١] . ينظر الجامع الكبير: ١٨١.
[٣٢] . عيار الشعر: ١١٥، والبيت في ديوان الأعشى: ١٣٦. ورواية البيت فيه: إلى هوذةَ الوهاب أهديت مدحتي ***** أرجِّي نوالا فاضلا من عطائكا
[٣٣] . ينظر: العمدة: ١/٢٣٠، ومعجم النقد العربي القديم: ١/٢٧٤.
[٣٤] . ينظر: بناء القصيدة: ٢٢٨.
[٣٥] . العمدة: ١/٢٣٩.
[٣٦] . منهاج البلغاء: ٢٨٥.
[٣٧] . م. ن: ٣٠٦.
[٣٨] . ينظر: كتاب الصناعتين: ٤٦٣ – ٤٦٥.
[٣٩] . الشعر الجاهلي: ١٤٢.
[٤٠] . ينظر: بناء القصيدة الفني: ١٦ – ١٧.
[٤١] . ينظر: م. ن: ٥٩.
[٤٢] . بناء القصيدة عند الشريف الرضي: ٢٠٣، د. عناد غزوان. ضمن كتاب دراسات في ذكراه الألفية.
[٤٣] . ينظر: بناء القصيدة: ١٤٥ – ١٤٧ .
[٤٤] . ينظر: بناء القصيدة الفني: ٢٦ .
[٤٥] . لغة شعر ديوان الهذليين: ٥، وينظر لغة الشعر الحديث في العراق: ٣٠.
[٤٦] . ينظر بناء القصيدة عند الشريف الرضي: د. عناد غزوان: ٢٢٢. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٤٧] . م. ن: ٢٣٤.
[٤٨] . ديوان الشريف الرضي: ١/٤٨٧.
[٤٩] . تاريخ آداب العرب: ١٧٢، وينظر: شرح نهج البلاغة: ١/ ١٤.
[٥٠] . بناء القصيدة عند الشريف الرضي: ٢٠٢، د. عناد غزوان. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٥١] . ديوان الشريف الرضي: ١/٤٨٧ – ٤٨٨.
[٥٢] . ينظر: تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام: ١٨٠ – ٢٠١.
[٥٣] . ديوان الشريف الرضي: ١/٤٨٩.
[٥٤] . ديوان الشريف الرضي: ٢/١٨٧.
[٥٥] . ديوان الشريف الرضي: ٢/١٨٨.
[٥٦] . م. ن: ١٩٠.
[٥٧] . م. ن. شآهم: سبقهم. الذمر: الشجاع. سول: كثير السؤال.
[٥٨] . ديوان الشريف الرضي: ١/٣٦٠ -٣٦١.
[٥٩] . م. ن: ١/٣٦١.
[٦٠] . م. ن.
[٦١] . م. ن.
[٦٢] . م. ن.
[٦٣] . بناء القصيدة عند الشريف الرضي: ٣٠٤، د. عناد غزوان. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[٦٤] . ديوان الشريف الرضي: ١/٣٦٣.
[٦٥] . ديوان الشريف الرضي: ١/٣٦٤ – ٣٦٥. مطروفة: العين التي تدمع.
[٦٦] . م. ن: ١/٣٦٥.
[٦٧] . م. ن.
[٦٨] . م. ن.
[٦٩] . ينظر: في الأدب العباسي: ٤١٢، ٤١٣.
[٧٠] . ديوان الشريف الرضي: ١/ ٣٦٦.
[٧١] . م. ن: ١/٤٤.
[٧٢] . بناء القصيدة: ٣٧٥.
[٧٣] . ديوان الشريف الرضي: ١/٤٨.
يتبع ......