




بقلم : الدكتور علي كاظم المصلاوي
المبحث الثاني: البنية الموضوعيّة للطفّيّات
الموضوع بالنسبة للشاعر غير منفصل عن هيكله الخارجي ولاعن بنائه الداخلي وهذا أمرٌ مفروغٌ منه، وحين متابعة الموضوع في الطفيات نجده قد دار على ثلاثة محاور رئيسة، فالأول مثّل الحسين عليه السلام ومصرعه في أرض الطف وما مثّل من قيم دينية وخلقية مقدسة، وما أضفى عليه الشاعر من وصف لشجاعته وكرمه وظمئه، وهذا المحور في الغالب ما يبدأ به الشاعر بعد بيت التخلص أو به. لذا رصد الباحث خلال هذا المحور مداخل الشاعر لموضوعه وكيفية سلوكه به.
وتفرعت من هذا المحور محاور فرعية متعلقة به ومستكملة وهي محور السبايا ورحلة الأسر، ومحور الدعاء بالسقيا لأرض الحسين عليه السلام.
أما المحور الرئيس الثاني، فقد تمثّل بقَتَلَةِ الحسين عليه السلام، إذ عرض الشاعر لظلمهم لأهل البيت عليهم السلام، ومجانبتهم وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم وسبيهم لأولاده وبناته.
وقد تفرع من هذا المحور محورٌ مهم دار حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه نبي هذه الأمة ورسولها المنتجب الذي اصفحوا عن وصاياه ونقضوا عهده، وقتلوا ابن بنته وسبوا بناته وعياله بصورة غير انسانية.
أما المحور الرئيس الثالث فقد مثل الشاعر بكل أفراحه وآلامه وصبره وفخره وغضبه وتهديده بالثأر من قتلة الحسين عليه السلام، وكان هذا المحور متواشجاً كليّاً مع المحورين السابقين، فلم يفرده الباحث بل عمد على مجاراة الشاعر في انفعاله بحسب المواقف التي طرحها المحوران السابقان.
فعلى صعيد المحور الأول قد اتخذ الشريف الرضي طرقاً للدخول إلى موضوع طفياته أهمها التذكير بيوم استشهاد الحسين عليه السلام وهو يوم عاشوراء، ثم يأخذ بالتحدث عما جرى فيه، فكأنَّ ذكر اليوم هو الشرارة التي توقض أو تشغل انفعالات الشاعر ومشاعره لتكون مدخلاً أو نافذة للتنفيس عن ألمه وحزنه، فتراه يقول [١] :
فقُلْتُ: هَيْهاتَ فاتَ السَّمْعُ لائِمَهُ ***** لا يُفْهَمُ الحُزْنُ إلّا يومَ عاشورِ
يَوْمٌ حَدا الظَّعْنَ فيه لابنِ فاطِمَةٍ ***** سِنانُ مُطَّرِدٍ الكَعْبَيْنِ مَطْرورِ
وَخَرَّ للمَوْتِ لا كَفُّ تُقَلِّبُهُ ***** إلا بِوَطْءٍ مِنَ الجُرْدِ المَحاضِيرِ
ظَمْآنَ سًلّى نجيعُ الطّعنِ غُلّتَهُ ***** عَنْ باردٍ من عُبابِ الماءِ مَقْرورِ
كأنَّ بيضَ المَواضِي، وَهيَ تنْهَبُهُ! ***** نارٌ تَحَكّمُ في جِسْمٍ مِنَ النّورِ
للهِ مُلْقًى على الرَّمْضاءِ عضَّ بِهِ ***** فمُ الرَّدى بَيْنَ إقْدامٍ وتَشْمِيرِ
تَحْنو عليْهِ الرُّبى ظلاّ، وتَسْتُرُه ***** عَنِ النّواظِرِ أذيالُ الأعاصِيرِ
تَهابُهُ الوَحْشُ أنْ تَدْنُوا لمَصْرَعِهِ ***** وَقَدْ أقامَ ثلاثاً غيرَ مَقْبُورِ
لقد صور الشريف الرضي مصرع الحسين عليه السلام بصورة مباشرة، تاركاً تفاصيل نزوله وظعنه وأصحابه أرض كربلاء، والقصة الطويلة للمعركة غير المتكافئة بينه وبين أعدائه، مهتماً بلحظة وقوعه ووطء الخيول له وظمئه الذي سلى غليله طعن المدى المتكاثف، وهو والحالة هذه يشبِّهُهُ الشاعر بجسم من النور تحكمت فيه النار، وترى الشاعر يتأوه على ذلك الملقى على الرمضاء وقد عضَّ فم الردى عليه، وما كانت الا الربى تحنو عليه ظلاً، وتستره عن النواظر الرمالُ المتطايرة التي ألمح إليها الشاعر بقوله (أذيال الأعاصير)، ولم تكن الوحوش العاتية من الجرأة حتى تدنو من مصرع هذا النور المهاب الذي بقي ثلاثة أيام لم يدفن أو لم يوار فيكون له قبر.
ونجد الشاعر في طفية أخرى يدخل إلى موضوعه من المدخل نفسه وذلك في قوله [٢] :
أيُّ يوْمٍ أدْمى المدامِعَ فيهِ ***** حادِثٌ رائعٌ وخطبٌ جليلُ
يومُ عاشوراءَ الذي لا أعانَ الصْـ ***** ـصَحْبَ فيهِ ولا أجارَ القبيلُ
ولكنه يذهب لغير ما ذهب إليه في الطفية المتقدمة، فهو بعد هذين البيتين يذكر وفاء الحسين عليه السلام لعهد الله الذي عاهده، ويذكر عدم إطاعة قتلته النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه بعدما أوصى بأهل بيته وهو منهم ولكنهم طلبوا الثارات القديمة منه، وحاربوه بأعذار غير مقبولة وراحوا يجلبون الحرب عليه [٣] :
يا بْنَ بِنْتِ الرسُولِ ضيَّعَتِ العَهـ ***** ْـدَ رجالٌ، والحافِظَونَ قليلُ
ما أَطاعُوا النبيَّ فيكَ، وقَـدْ مـا ***** لَتْ بأَرْماحِــهِمْ إليــكَ الذُّحُولُ
وأحالُوا على المقادِيرِ في حَــر ***** ْبِكَ لَوْ أنَّ عُذْرَهُــــمْ مَقْبـُولُ
واسْتَقالوا منْ بعدِ ما أَجْلبوافيــ ***** ـهـا أالآنَ أيُّهـــا المستَقِيْـلُ
إنَّ أمْراً قّنَّعْتَ مِنْ دُونِـهِ السيــ ***** ـفَ لمنْ حازَهُ لمرعىً وَبِيْلُ
ثمَّ يصف الشاعر شجاعة الحسين عليه السلام وبطولته الفائقة وخصاله الكريمة بوصف بديع:
يا حُساماً فلَّــتْ مضارِبُه الــ ***** ـهامَ وقد فلَّهُ الحســـامُ الصقيلُ
يا جَواداً أدْمى الجَوادَ مِنْ الطَّـعْـ ***** ـنِ وولّى ونَحْـــرُهُ مبْلــُولُ
حَجَلَ الخيْلُ مِنْ دِماءِ الأعادي ***** يَوْمَ يبْدو طَعْنٌ وتَخْفى حُجُولُ
وبعد ذلك يستنكر الشاعر على نفسه فيقول [٤] :
أتراني أُعِيْرُ وَجْهيَ صَوْناً ***** وعلى وَجْهِهِ تَجُولُ الخُيُولُ
أتراني ألذُّ ماءً، ولمّا ***** يروَ مِنْ مُهْجةِ الإِمامِ الغَلِيْلُ
قبلتْهُ الرِّماحُ وانتَضَـــلَتْ فيـ ***** ــهِ المنايا وعانَقــَتْهُ النُصُولُ
وأنت تقرأ هذه الأبيات أو تسمعها لتسمع بكاء الشاعر المفجع ونحيبه لمصرع الحسين عليه السلام وقد راح يواسيه بهذا الاستفهام المؤلم الذي يذكِّر بأفضع اللحظات على قلب الحسين عليه السلام وآلمها عليه. فجاء تعبيره مفعماً بالشعور الصادق المعبر، والإحساس النابض الحي عن تلك اللحظات الأليمة.
ونجد الشريف الرضيُّ - أيضاً - قد استعمل الدخول نفسه في طفيته الأخرى فتراه يقول [٥] :
تذكرتُ يَوْ مَ السِبْطِ مِنْ آلِ هاشمٍ ***** وما يوْمُنا مِنْ آلِ حرْبٍ بواحدِ
وظامٍ يُريْغُ الماءَ قدْ حِيلَ دُوْنَهُ ***** سقَوْهُ ذباباتِ الرِّقاقِ البواردِ
أتاحُو لَهُ مُرَّ المَوارِدِ بالقنا ***** على ما أباحُوا مِنْ عِذابِ الموارِدِ
فهو يذكر ظمأ الحسين عليه السلام وقد حيل بينه وبين الماء، وقام القوم بسقياه ولكن بذبابات السيوف القواطع، وأتاحوا له مرَّ الموارد بالرماح بعدما أباحوا لأنفسهم دونه عذب الموارد.
أما الطفيتان الأخريتان ففي إحداهما سلك الشريف الرضي طريق الدخول إلى موضوعه بتشاغل عينه عن الديار وأهلها لبكاء فاطمة على أولادها، إذ أنهم لم يخلفوها في الشهيد إشارة إلى الحسين عليه السلام الذي رأى حقَّه وقد مثله الشاعر بـ(دُفَع الفرات) يمنع أو يذاد عن وروده ليندفع الشاعر للتعريض ببني أمية وجذور العداوة لأهل البيت - كما سنتناوله لاحقاً - قال الشريف الرضي [٦] :
شَغَلَ الدموعَ عنِ الِّديارِ بُكاؤنا ***** لبُكَاءِ فاطِمةٍ على أوْلادِها
لمْ يَخْلِفُوها في الشَّهيْدِ وقَدْ رَأى ***** دُفْعَ الفُراتِ يُذادُ عن أورادِها
أتَرى دَرَتْ أنَّ الحُسيْنَ طَرِيدَةٌ ***** لقنا بَني الطّرْداءِ عندَ وِلادِها
إنَّ هذا الاستثمار لاسم فاطمة عليها السلام الذي عمله الشاعر كان يومي من خلاله أنّ ظلامة فاطمة عليها السلام وغصب حقها في ميراث أبيها وما جرى عليها من مأساة [٧] كان ممتدّاً ومتواصلاً مع ما ألحق بالحسين عليه السلام من ظلم وقتل فيزيد الشاعر من ألم الفجيعة ونارها كيما يحرق القلوب قبل العيون.
وقبل ختام القصيدة يلجأ الشاعر إلى مناداة يوم عاشوراء بغصة ولوعة تترقص الأحشاء من إيقادها [٨] :
يا يَوْمَ عاشوراءَ كمْ لكَ لوْعَةً ***** تترقَّصُ الأحشاءُ مِنْ إيقادِهَا
ما عُدْتَ إلا عادَ قَلْبي غلّةٌ ***** حرّى، ولَوْ بالغْتُ في إبْرادِها
مِثْلُ السَّليمِ مَضيضَةٌ آناؤُهُ ***** خُزْرُ العُيُونِ تَعُودُهُ بَعِدادِها
إنَّ هذا اليوم - يوم عاشوراء - مثل للشاعر منعطفاً مهماً في تأريخ الإسلام والشيعة بوجه خاص - فهو ليس يوماً قتل فيه الحسين عليه السلام ونفرٌ من أهل بيته وأصحابه فحسب وإنما كان دليلاً دامغاً على فساد بني أمية وظلمهم لأهل بيت النبوة، ومجافاتهم لوصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، وتوّجوا ظلمهم بقتل الحسين عليه السلام ومن معه ولم يراعوا حرمة نسائه وعياله بل سبوهن وساقوهن سوق الإماء.
فكان هذا اليوم يوم ظلامة الشيعة الذين راحوا يستمدون قوتهم وصبرهم وتصديهم من ذلك اليوم الرهيب مستلهمين فيه قوة الحسين عليه السلام وصبره وتصديه لاعدائه.
وإنَّ الأحداث السياسية التي كان يعيشها الشريف الرضي في زمن العباسيين لم تكن بأحسن حال من أيام الأمويين بل كانت أشدَّ سوءاً، فالظلامة ازدادت بازدياد القتل والتنكيل والتشريد بأئمة الشيعة وأعوانهم المخلصين وهذا ما نلحظه في طفياته.
أما الطفية الأخيرة والتي لم تحوِ مقدمة ما إذ باشر الشاعر فيها غرضه وصافحه مصافحة، بدأ موضوعه بنداء محذوف موجه إلى كربلاء [٩]:
كربلا لا زِلْتِ كرْباً وبلا ***** كَمْ لقي عندَكِ آلُ المصْطَفى
إنّ هذه الكلمات القليلة البسيطة تتجدد في كل حين بتجدد الذكرى الأليمة في كل عام.
وبعد هذا النداء المحذوف والسؤال الاستنكاري الصارخ يسترسل الشاعر في عرض ما حدث في أرض كربلاء ليثبت للسامع أنها أرض كرب وبلاء [١٠] :
كَمْ على تُرْبِكِ لمّا صُرِّعوا ***** مِنْ دَمٍ سالَ ومِنْ دمْعٍ جَرى
كَمْ حَصانِ الذَّيلِ يَرْوِي دَمعُها ***** خَدَّهاعنْدَ قَتيلٍ بالظّما
تَمْسَحُ التُّرْبَ على إعْجالِها ***** عَنْ طُلى نَحْرٍ رَميلٍ بالدّما
وَضُيوفٍ لفَلاةٍ قَفْرَةٍ ***** نَزَلُوا فِيْها على غَيْرِ قِرَى
لمْ يَذوقوا الماءَ حتَّى اجْتَمَعوا ***** بِحدى السيفِ على وِرْدِ الرَّدى
تَكْسِفُ الشمسُ شُموساً منْهُمُ ***** لا تُدانيها ضِياءً وَعُلى
وَتَنُوشُ الوَحْشُ مِنْ أجسادِهِمْ ***** أرْجُلَ السَّبْقِ وَأَيمانَ النّدى
وَوُجُوهاً كالمصابيحِ، فَمِنْ ***** قَمَرٍ غابَ، ونَجْمٍ قَدْ هَوى
غَيَّرَتْهُنَّ الليالي، وَغَدا ***** جايِرَ الحُكْمِ عليْهِنَّ البِلى
والسامعُ لهذه الأبيات ليشهد إيماناً بأنَّ مثل هذه الأرض قليلٌ لها أن تُوصفَ بالكرْبِ والبلاء إذ حلَّ ما حلَّ بها مِنْ قتل وتنكيل بالحسين عليه السلام وأصحابه الميامين.
وبعد أن يسترسل الشاعر في عرض حال الحسين عليه السلام وأهل بيته لجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب الحسين ويناديه بهذا النداء [١١] :
يا قَتِيْلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ ***** عُمُدَ الدِّينِ وأعْلامَ الهُدى
قَتَلُوهُ بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُمُ ***** أنَّه خامِسُ أصْحابِ الكِسا
وَصَرِيعاً عَالَجَ المَوْتَ بِلا ***** شَدَّ لَحْيَيْنِ وَلا مَدَّ رِدا
غَسَلُوهُ بِدَمِ الطَّعْنِ، وَما ***** كَفَّنُوهُ غيْرَ بَوْغاءِ الثَّرى
مُرْهَقاً يَدْعُو، وَلا غَوْثَ لَهُ ***** بأبٍ بَرٍّ وَجَدٍّ مُصْطَفى
وبِأُمٍّ رَفَعَ اللهُ لها ***** عَلَماً ما بينَ نُسْوَانِ الوَرَى
أيُّ جَدٍّ وأبٍ يَدْعُوهُما ***** جَدّ، يا جَدّ، أغِثني يا أبا
فهنا يؤكد الشاعر على منزلة الحسين عليه السلام وما يمثله للدين، فهو عُمُد الدين وركن من أركانه، وهو علم بارزٌ مِن أعلام الهدى، وهو خامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً [١٢] ، ثمَّ يناديه بالصريع الذي لم يقم أحدٌ بشدِّ لحييه ويمد عليه الرداء كما يفعل مع كل من حضره الموت، ولكن القوم غسلوه بدم الطعن وتركوه في أرض كفنته بحبات ثراها المتطاير.
ثمَّ يرجع الشاعر إلى اللحظات الحاسمة، لحظات النزع الأخير للحسين عليه السلام فيصوره يدعو جده المصطفى وأباه علي بن أبي طالب وأمه فاطمة عليهم السلام كان يدعوهم ليغيثوه وليسارعوا في جلبه إليهم في علِّيين حيث الراحة كل الراحة والفوز كل الفوز في الجنان مع النبيين والشهداء والصالحين.
ولم ينس الشريف الرضي الدعاء بالسقيا لأرض الطفوف التي حوت جسد الحسين عليه السلام ونفر من أهل بيته وأصحابه، وهذا الدعاء من تقاليد البادية والشعر الجاهلي [١٣] ، ظلَّ ملازماً للشريف الرضي في كثير من أشعاره الرثائية [١٤] فتراه يخاطب الحسين عليه السلام بـ (ياغريب الديار) كناية عن غربة الحسين المكانية، ويصف أحاسيسه الجياشة وتمنياته لو أنه فدى الحسين بروحه، وأضطجع بقبره، ووري بالتراب الذي وري به [١٥] :
يا غريبَ الدِّيارِ صبْري غَرِيْبٌ ***** وقَتِيلَ الأعْداءِ نَوْمي قَتِيلُ
بيْ نِزاعٌ يطغى إليْكَ وَشَوْقٌ ***** وَغَرامٌ وزَفرَةٌ وَعَوِيلُ
ليتَ أني ضجيعُ قـــبرك لوْ أنْ ***** نَ ثراه بمــدمعي مطْلُـــولُ
ثمَّ يدعو بالسقيا بصورة روحية شفافة إذ يقول:
لا أغبَّ الطفوف في كلِّ يَوْمٍ ***** من طراقِ الأنواء غيثٌ هَطُولُ
مطرٌ ناعمٌ، وريحُ شمالٍ ***** ونسيمٌ غضٌّ، وظِلٌّ ظليلُ
وإذا كان هذا الدعاء يمثل (دعاء الخير والبركة والغيث لقبر المرثي) [١٦] كما يمثِّلُ الخير والبركة الشاملة للأرض التي يحل بها الفقيد وتشير إلى كرمهِ أيضاً [١٧] فإن الشريف يشير بشكل غير مباشر إلى أن هذه الأرض ومن حلَّ بها أساس الانطلاقة الصحيحة للحياة الإنسانية النبيلة، والحياة الحقَّة الخالية من الظلم والجور، كما تمثل الثورة ضد الطغاة والمستبدين والظالمين، وهنا تصبح أرض الطف القبس الذي ينير درب الأحرار للعيش بحرية وسلام.
ويستكمل الشريف الرضي موضوع مصرع الحسين عليه السلام بذكر سبي نسائه وعياله وأهل بيته على أيد الظالمين. وإذا كان الحسين عليه السلام ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن أخواته بنات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبين وهذا واضح في قول الشريف : [١٨]
تُسْبى بناتُ رَسُولِ اللهِ بَيْنَهُمْ ***** والدينُ غَضُّ المبادي غَيْرُ مستورِ
ويصور الشريف وضعهنَّ بصورة تستثير الألم وتستجلب الدمع الغزير فقد اركبوهن على النياق المهزولة، وسُلِبْنَ قناعهن وتنقبن بأناملهن وكانت شكوتهن البكاء ونداؤهن العويل، وكنَّ تحتَ رحمة الحادي اللئيم بعد ما كنَّ معززات محشومات مكرمات محجوبات عن العيون [١٩] :
والسبايا على النَّجائِبِ تُسْتا ***** قُ وقد نالَتِ الجيوبَ الذيولُ
مِنْ قُلُوبٍ يَدْمى لها ناظِرُ الوجـ ***** ْـدِ ومــِنْ أدمُـعٍ مَراها الهُمُولُ
قّدْ سَلَبْنَ القِناعَ عَنْ كلِّ وَجْهٍ ***** فيهِ للصونِ مِنْ قِناعٍ بديلُ
وتَنقَّبْنَ بالأنـــامِلِ، والدّمْـ ***** ــعُ علىكـــلِّ ذي نِقابٍ دليلُ
وتَشاكَيْنَ، والشكاةُ بُكاءٌ ***** وتَنادَيْنَ، والنِّداءُ عَويلُ
لا يغبُّ الحادي العنيفُ، ولا يفــ ***** تُرُ عَنْ رنّــهِ العَديلِ العَدِيـــلُ
إنها صورة رائعة رسمها الشريف الرضي وقد مثلت عمق ألمه وحزنه على بنات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهن يسبين على هذه الحالة المروعة. ولم تغب عن خياله هذه الحالة فرسمها مرة أخرى مضيفاً إليها ألماً ولوعة أكبر وأكثر فتراه يقول مخبراً بما فعل آل أمية بذرية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم [٢٠] :
جَزَرُوا جَزْرَ الأضاحي نَسْلَهُ، ***** ثمَّ ساقوا أهْلَهُ سَوْقَ الإما
مُعْجَلاتٍ لا يُوارِينَ ضُحَى، *****سُنَنَ الأوْجُهِ أوْ بِيْضَ الطُّلى
هاتِفاتٍ بِرَسُولِ اللهِ في ***** بهَرِ السَّعْيِ، وعَثْراتِ الخُطَى
يَوْمَ لا كِسْرَ حِجابٍ مانِعٌ ***** بِذْلَةَ العَيْنِ ولا ظِلَّ خِبا
أدْرَكَ الكُفْرُ بِهِمْ ثاراتِهِ ***** وأُزِيْلَ الغَيّ مِنْهُمْ فاشتَفى
إن قتلة الحسين عليه السلام لم يراعوا حرمة له، وقد تصرفوا على غير ما أمر به الله والرسول؛ والشريف الرضي بعرضه لهذه القضية ليؤكد على ظلم آل أمية الذي بلغ مداه ليطول حتى النساء والأطفال الذين ليس لهم أيُّ ذنب أو جرم فلم يكتفوا بقتلهم الحسين بل اسروا نسائه وسبوهنَّ وساقوهنَّ إلى الشام وهنَّ على الحالة التي وصفها الشريف الرضي.
أما المحور الموضوعي الثاني والمسبب للمحور الأول وهو قتلة الحسين عليه السلام فقد جعل الشاعر لهم نصيباً كبيراً من ذاكرته مما انعكس على شعره واضحاً، ولربما طغى على موضوع المرثي نفسه. إذ نجده يهدد ويوعد الأمويين ويخبرهم أن الأسياف ليست نائمة وأن الثأر واقع لا محالة : [٢١]
بني أميَّةَ ! ما الأسيافُ نائِمَةٌ ***** عن شاهرفي أقاص الأرض موتور
والبارقاتُ تَلَوّى في مَغَامِدِها، ***** والسّابِقاتُ تَمَطّى في المَضَاميرِ
إنّي لأرْقُبُ يَوْماً لا خَفاءَ لَهُ، ***** عُرْيانَ يَقْلَقُ مِنهُ كُلُّ مَغْرُورِ
وللصَّوارِمِ ما شاءَتْ مَضارِبُها ***** مِنَ الرِّقابِ شَرابٌ غيرُ مَنْزُورِ
إنّ الشاعر يهدد الأمويين باليوم الموعود عند الشيعة اليوم الذي يظهر فيه صاحب الأمر محمد المهدي الإمام الثاني عشر عند الشيعة، إذ يثأر لجده الحسين عليه السلام ويأخذ بظلامته وظلامة شيعته ممن ظلموهم لحبهم الحسين عليه السلام والسير على منهاجه. وهذه الفكرة يؤكدها الرضي في موطن آخر في طفياته، فهي من عقائد الشيعة الاثني عشرية [٢٢] .
وفي طفيته الأخرى يخبر الشاعر أنّ ما كان بالعراق مآتمَ كان قبالته في الشام أعياداً [٢٣] :
كانَتْ مآتِمُ بالعِراقِ تعدُّها ***** أموية بالشامِ مِنْ أَعْيادِها
ثمَّ يذكر الشاعر أنّ بني أمية لم يراقبوا غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أصبح ما جاء به من هدى ورحمة هباءً منثوراً وقد عبَّرَ عنه الشاعر بالزرع الذي قلع وحصد من مكانه، لقد باعوا هداهم بضلالهم وشروا غيهم برشادهم وجعلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصماً لهم يوم القيامة، كيف لا وقد سبوا بناته وقتلوا ولده الحسين ورفعوا رأسه على رماحهم : [٢٤]
ما راقَبَتْ غَضَبَ النبيِّ، وقد غَدا ***** زرعُ النَّبيِّ مظَنَّةً لحصادها
باعَتْ بصائرَ دِينِها بضلالها ***** وشرتْ معاطِـبَ غيّـِها برَشَادِها
جَعَلَتْ رسُولَ اللهِ مِنْ خُصَمائِها ***** فلبِئْسَ ما ذَخَرَتْ ليومِ معادها
نسلُ النبيِّ على صعابِ مطيَّها ***** ودمُ النبيِّ على رُؤوسِ صعادِها
ويتحسر الشاعر لهذا الحدث الجليل ويتألم لما حلَّ بالعصبة العلوية من ضيم بعدما كانت تملك العزة والفخار وكانت عصبة أمية في ذلٍّ ومهانة ووسم الذل على جيادها [٢٥] :
وا لهْفتاه لعصبةٍ علويةٍ ***** تَبِعَتْ أميَّةَ بَعْدَ عِزِّ قيادِها
جعلَتْ عِرانَ الذُّلِّ في آنافِها ***** وعِلاطَ وسمِ الضيْمِ في أجيادِها
ثم يحاجج الأمويين بقتلهم الحسين عليه السلام بقوله [٢٦] :
زَعِمَتْ بأنَّ الدينَ سوَّغَ قتْلَها ***** أوليسَ هذا الدِّينُ عن أجدادِها
ولكن هذا المسوغ مفضوح، إذ انَّ الأمويين طلبوا تراث الجاهلية وثاراتها من الحسين عليه السلام الذي مثَّل بني هاشم زعماء مكة وقريش قبل الإسلام، ولما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم اشتعلوا غيضاً وحسداً وغيلة عليهم خاصةً بعد حروب بدر وأُحد والخندق إذ قتل منهم ساداتهم، فتحينوا الفرص لأخذ الثأر منهم ولذلك أشار الشاعر في قوله [٢٧] :
طلبتْ تراثَ الجاهِلِيَّة عندَها ***** وشفَتْ قدِيمَ الغلِّ مِنْ أحْقادِها
واستأثرتْ بالأمرِ عَنْ غُيَّابِها ***** وقَضَتْ بما شاءَتْ على شُهّادِها
ثمَّ يخبر الشاعر الأمويين أنَّ الله جلَّ وعلا سابقكم إلى أرواح من قتلتم ولكنكم كسبتم الآثام في أجسادهم، ويخبرهم أيضاً إنْ هدمتم تلك القباب فإنَّ أعمدة الدين قد خرَّتْ قبل عمادها [٢٨] :
اللهُ سابقكُمْ إلى أرواحِها ***** وكَسَبْتُمُ الآثامَ في أجْسادِها
إنْ قُوِّضَتْ تلكَ القُبابُ فإنمَّا ***** خرتْ عمادُ الدِينِ قَبْلَ عمادِها
إنّ الشاعر يشير إلى ما فعله المتوكل العباسي من تهديم قبر الحسين عليه السلام ومنع الزائرين وصوله [٢٩] وفي هذه الإشارة يرمز الشاعر إلى امتداد الظلم والجور الى الحسين وشيعته حتى بعد أن قتل، وما بنوالعباس بأفضل أو أحسن من بني أمية، لذلك أوضح فكرته بصورة لا لبس فيها بقوله بعد هذين البيتين [٣٠] :
إنَّ الخِلافَةَ أصْبَحَتْ مزْوِيَّةً ***** عَنْ شَعْبِها بِبَياضِها وسَوادِها
والسامع يفقه أن الشاعر يعرض بالأمويين بذكر شعارهم الأبيض، وبالعباسيين بذكر شعارهم الأسود وكلاهما قد اغتصب الخلافة مع علمهما بأنَّ الخلافة أحق بها من نصبه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، والشيعة الاثناعشرية تذهب من بعده إلى ولديه الحسن والحسين ثم التسعة المعصومين من ذرية الحسين عليه السلام وقد ذكرهم الشاعر بأسمائهم في طفيته (كربلا لا زلت كرباً وبلا) [٣١] ويعتقد الشاعر بهم والشيعة بأنهم صفوة الله المختارة لإنقاذ البشرية [٣٢] :
هيَ صَفْوَةُ اللهِ التي أوحى لها ***** وقضى أوامِرَهُ إلى أمجادِها
أخّذَتْ بأطْرافِ الفخارِ، فعاذرٌ ***** أن يصبِحَ الثقَــلانِ مِنْ حُسّادِها
الزُّهْدُ والأحلامُ في فتّاكِها، ***** والفَتْكُ، لولا اللهُ، في زُهَّادِها
ثمَّ يذكِّر بشجاعة البيت العلوي بصورة جميلة حين يقول : [٣٣]
عُصَبٌ يُقمطُ بالنجادِ وليدُها ***** ومهودُ صبيتِها ظهورُ جيادِها
تروي مَناقِبَ فَضْلِها أعْداؤُها ***** أبَداً، وتُسْنِدُهُ إلى أضْدادِها
ثم يثور الشاعر على هذا الظلم فيصرخ قائلاً [٣٤]:
يا غيْرَةَ اللهِ اغضَبي لنبيِّهِ ***** وتزَحْزَحي بالبيْضِ عنْ أغْمادِها
من عُصْبَةٍ ضاعَتْ دماءُ محمَّدٍ ***** وبَنِيهِ بَيْنَ يزيدِها وَزِيادِها
إنَّ الشاعر ليشير إلى رموز ظالمة يزيد وزياد وكأنه يطلقها على كل ظالم عتيد نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام، وبعدما يرجع إلى ذكر ظلاماتهم المفجعة بصورة مؤلمة محزنة [٣٥] :
صَفَداتُ مالِ اللهِ ملءُ أكُفِّهِا ***** وأكفُّ آلِ اللهِ في أصفادِها
ضربوا بسيفِ محمَّدٍ أبناءهُ ***** ضَرْبَ الغرائِبِ عُدْنَ بعدَ ذيادِها
هكذا يصور الشاعر حزنه على البيت العلوي الذي ينحدر منه ويصير إليه، إذ إنَّ هذا الظلم واقع عليه مثلما وقع على أئمته، خاصة وأنَّ مسألة الخلافة كانت تشغل ذهنَهُ فلمْ "تكن مجرد رغبة، أو نزوة أو حلم عابر لشاعر ذي صبوات ورغبات وآمال، بل كانت دعوة علنية وسرية، شغلت اهتمام الشاعر طوال حياته، وشغلت العديد من الأتباع والمؤيدين" [٣٦] لذلك كان إحساسه صادقاً قوياً منفعلاً ملؤه الإهاب والثورة، ونجده يشير إلى هذه المعاني في طفية أخرى إذ يقول [٣٧] :
رَمَوْنا كما تُرْمى الظِماءُ عن الروا ***** يذودُونَنا عَنْ إرْثِ جدٍّ ووَالدِ
ثم يخبر أنّ الله على ما أصابنا مطلع وليس براقد وإن كان نصَّارنا راقدين:
لئِنْ رقَدَ النُّصّارُ عما أصابَنا ***** فما اللهُ عمَّا نِيلَ منَّا براقِدِ
لقدْ عَلَقوها بالنبيِّ خصومةً ***** إلى اللهِ تُغْني عنْ يَمِيْنٍ وشاهِدِ
ثم يقرر أن الظلم وسلب الحق ممتدٌّ من الأولين ويعني بهم الأمويين إلى الآخرين ويعني بهم العباسيين:
ألا ليْسَ فعلُ الأوَّلينَ وإنْ علا ***** على قبح فِعْلِ الآخرِينَ بزائِدِ
يُريدُونَ أنْ نَرْضى وَقَدْ مَنعُوا الرضى ***** لسير بَني أعْمامِنا غيرُ قاصِدِ
كذبتك، إن نازعتني الحقَّ ظالِماً ***** إذا قلْتُ يوماً إنَّني غيرُ واجِدِ
إنَّ إحساس الشاعر بذلك الأسى والظلم الواقع على أئمته جعله حانقاً غضبانَا، متسائلاً شاكيا، متعجباً من همه وحزنه فتراه يقول [٣٨] :
أكُلَّ يَوْمٍ لآلٍ المًصطَفى قمَرٌ ***** يَهْوي بِوَقْعِ العَوالي والمَباتيرِ
وَكلَّ يَوْمٍ لَهُمْ بَيْضاءُ ضافيَةٌ ***** يَشُوبُها الدَّهْرُ مِنْ رَنْقٍ وتَكْدِيرِ
مِغْوارُ قَوْمٍ، يرُوعُ الموتُ مِنْ يَدِهِ ***** أمْسى وأصْبَحَ نَهْباً للمَغاوِيرِ
وأبيضُ الوَجْهِ مَشْهورٌ تَغَطْرُفُهُ ***** مَضى بِيَوْمٍ مِنَ الأيامِ مَشْهورِ
مالي تَعَجَّبْتُ مِنْ همِّي وَنَفْرَتِهِ، ***** والحُزْنُ جُرْحٌ بِقَلْبي غَيرُ مَسْبُورِ
بأيِّ طَرْفٍ أرى العَلْياءَ إنْ نَضَبَتْ ***** عَيْني، وَلَجْلَجْتُ عَنْها بالمَعاذِيرِ
ألقى الزَّمان بِكَلْمٍ غَيْرِ مُنْدَمِلٍ ***** عُمرَ الزَّمانِ، وَقَلْبٍ غيرِ مَسْرورِ
ولكن على الرغم من الأسى والحزن من النهايات المفجعة لأئمته لم تجعله يشعر بالاستسلام واليأس والقنوط بل جعلته أكثر تماسكاً وقوة وهو يسير على خطاهم يتأهب كل التأهب ويعد العدة لأخذ الثأر من أعدائهم، فهو ناقم أشدّ النقمة على الطغاة، فتراه يقول مخاطباً بني أحمد كناية عن أحفاد نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام [٣٩] :
يا بَني أحمَدَ إلى كمْ سِناني ***** غائبٌ عنْ طعانِهِ مَمْطُولُ
وجِيادي مرْبُوطَةُ والمطايا ***** ومَقامي يروعُ عَنْهُ الدَّخيلُ
كمْ إلى كمْ تَعْلُو الطغاة وكمْ يَحْـ ***** ـكُمُ في كــلِّ فاضِلٍ مفْضُـــولُ
قد أذاع الغليلُ قلبي وَلكِنْ ***** غيرُ بدعٍ إن استطبَّ العليلُ
إنها أسئلة غاضبة حانقة على الأوضاع السياسية وما يلقاه الشاعر من مضايقات، ويستمر الشاعر في نفث أحاسيسه الجياشة لهباً يوقد الثورة ليستحصل الثأر من قتلة الحسينِ عليه السلام متمنياً أن يكون زمامها بيده [٤٠] :
ليْتَ أنّي أبْـقــى، فأمترقَ النا ***** س وفي الكفِّ صارمٌ مسْلـــُولُ
وأجرُّ القنا لثاراتِ يــَوْمِ الطْـ ***** ـطفِّ يستلحقُ الرعيـلَ الرعيــلُ
وما فتئ الشاعر يلهج بحب أهل البيت مذكِّراً بإخلاصه التام لهم، وقد صبغ حبهم قلبه صبغة الشيب دلالة على عظمه، وأنه لا يفارقه حتى بالموت، وهو عبدٌ لهم مطيع وإن كان ينحدر منهم، فوالده حيدرٌ كنية الإمام علي بن أبي طالب وأمه البتول كناية عن فاطمة عليها السلام [٤١] :
صبغَ القلبَ حبُّكُمْ صِبْغَةَ الشــيـ ***** ـبِ وشيبي لولا الردى لا يحُولُ
أنا مولاكمْ وإنْ كنتُ منكُمْ ***** والدي حيدرٌ وأمِّي البَتُولُ
ثمَّ يقول إنَّ الناس إذا أدركوا غاية الفخر كان أسبقهم وأرفعهم منزلة من كان جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
وإذا النـاس أدركوا غايـة الفـ ***** ـخر شآهم مَنْ قالَ جدِّي الرَّسُـولُ
وهو إلى جانب ذلك عظيم الفخر بأئمته كثير الثناء عليهم فتراه يخاطبهم بعد أن عدد أسماءهم أو كنياتهم بقوله [٤٢] :
يا جِبالَ المجْدِ عزّاً وعُلى ***** وبدُورَ الأرْضِ نوراً وسَنا
جعل اللهُ الذي نابَكُمُ ***** سببَ الوَجْدِ طويلاً والبُكا
لا أرى حُزْنَكُمُ يُنْسى ولا ***** رِزْءكم يُسْلى، وإنْ طال المَدى
قدْ مَضى الدَّهْرُ وعفَّى بعدِكُمْ ***** لا الجَّوى باخَ، ولا الدَّمْعُ رَقا
وهو يرى أنَّ لهم قدراً ومنزلة عند الله لم يصلها غيرهم:
أنتُمُ الشَّافُونَ مِنْ داءِ العمى ***** وغداً ساقونَ مِنْ حوضِ الروا
نَزَلَ الدينُ عليكُمْ بيتكُمْ ***** وتَخَطَّى الناسَ طُرّاً وطوى
ويستنكر الشاعر على من تركهم إلى غيرهم، وهم الأقربون من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن يتمسك بهم فهو ناج لا محالة:
أيْنَ عنْكُمْ للذي يبْغي بِكُمْ ***** ظلَّ عدْن دُونَها حرُّ لظى
أيْنَ عنكُمْ لمُضلٍ طالبٍ ***** وضحَ السُّبلِ وأقْمارَ الدُّجى
أيْنَ عنْكمْ للذي يَرْجُو بِكُمْ ***** معْ رسولِ اللهِ فوزاً ونَجا
إنَّ هذه الأسئلة الإنكارية المتتالية في بدء الأبيات الثلاثة قد أعطت معنى الاستعبار والتأمل للذي غفل عن ذكرهم وأشاح وجهه وفكره عنهم.
ومن المحاور المترابطة بما سبق والتي عرض لها الشريف الرضي هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما يمثله من قيم خلقية ودينية وموقفه من هذه الواقعة الأليمة، فقد عمد الشاعر إلى إشراكه في معاينة ما وقع في أرض الطف، فناداه بقوله [٤٣] :
يا رسُولَ اللهِ لوْ عايَنْتَهُمْ ***** وهمُ ما بيْنَ قَتْلى وسِبا
مِنْ رَميضٍ يُمْنَعُ الظلَّ ومِنْ ***** عاطشٍ يُسْقى أنابيب القَنا
ومسـوقٍ عــاثرٍ يسعى بــهِ ***** خلفَ محمـولٍ على غيـرِ وطـا
مُتْعَبٍ يَشْكُو أذى السير على ***** نَقبِ المَنْسمِ، مجْزُولِ المَطا
لرَأتْ عَيْناكَ مِنْهُمْ مَنْظَراً ***** للحَشى شجْواً، ولِلْعَيْنِ قّذى
ولا شكَّ أنَّ هذه المحاولة تزيد من الأسى وتبعث على النحيب والبكاء لما حلَّ بالحسين عليه السلام وأهل بيته، وتعطي بعداً جديداً للفاجعة، متمثلاً باطلاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرى في أرض الطف، على الرغم من غيابه المادي [٤٤] .
وما فتئ الشاعر يذكر أنّ ما أصاب الحسين عليه السلام وما حلَّ من بعده بأهل بيته من أسر وسبي ما هو إلا خيانة لوصية الرسول في حقِّ أهل بيته عليهم السلام [٤٥] .
(لقد جرى قتل أهل بيت الرسول بأيدي أناس كانوا يدَّعون الإسلام، وهذا ما أعطى للمأساة بعداً فجائعياً لم يتكرر في التاريخ، فلم يروِ أحدٌ في جميع مراحل التاريخ أن بشراً يقتلون أهل بيت نبيهم وباسم خلافة الدين! إلا في مناسبة واحدة هي ملحمة عاشوراء) .[٤٦]
ويذكر الشاعر خصومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الفئة، وقد حلَّ يوم القيامة، فيشيح وجهه عنهم ويشكوهم إلى الله جلّو علا فيما فعلوه [٤٧] :
أيْنَ عنْكُمْ للذي يرجُو بِكُمْ ***** مع رسُولِ اللهِ فوزاً ونَجا
يومَ يَغْدوا وَجَهُهُ عنْ معْشَرٍ ***** مُعْرِضاً ممتِنِعاً عندَ اللِّقا
شاكيِاً مِنْهُمْ إلى اللهِ، وهلْ ***** يُفْلِحُ الجيلُ الذي منْهُ شـــكا
ثمَّ يعرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لله جلّ وعلا ما فعلوه بأهل بيته ودينه:
ربَّ ما حاموا، ولا آووا، ولا ***** نصُروا أهْلي، ولا أغْنوا غنا
بدَّلُوا دِيْني، ونالوا أسْرَتي ***** بالعظيمات، ولمْ يرعوا ألى
لو وَلي ما قدْ وَلوُا مِنْ عتْرَتي ***** قائمُ الشِّركِ، لأبقى ورعى
نقضوا عهْدي وَقَدْ أبْرَمْتُهُ ***** وَعُرى الدِّيْنِ، فَما أبْقَوْا عُرى
حُرمي مُسْتَرْدَفاتٌ، وبَنُو ***** بِنْتِيَ الأدْنَوْنَ ذِبْحٌ للعِدى
ثم يستنكر عليهم عدم حفظهم للجميل الذي صنعه معهم بأن أخرجهم من الشرك والضلالة إلى النور والهدى والإسلام:
أُتُرى لستُ لدَيْهِمْ كامرِئٍ ***** خلَفُوهُ بِجَمِيْلٍ إذْ مَضى
ثم يطلب من الله الحاكم العادل أن يقاضي المذنبين من أمته وأنه مظلوم منهم وخصم لهم:
ربِّ إنِّي اليَوْمَ خَصْمٌ لَهُمُ ***** جِئْتُ مظْلُوماً وذا يومُ القَضا
إنَّ هذا الإلحاح على ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من موضع في الطفيات يؤكد على أن الحسين عليه السلام إمتدادٌ فعلي حقيقي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مختلف الأصعدة الدينية والأخلاقية كما يؤكد الشاعر به على انحداره من نسله وارتباطه به أشدَّ الارتباط.
وكأن مكانته التي هو عليها ما كانت وما كان ليصل إليها لولا هذا الحبل المتين المقدس الذي يتواصل معه ليمده بالإيمان والقوة، ويدعم مكانته الدينية والاجتماعية والسياسية كذلك الشعرية فتراه يقول مؤكداً هذا المعنى [٤٨] :
وإذا الناسُ أدْرَكوا غايةَ الفخْـ ***** ـرِ شآهم مَنْ قـالَ جدّي الرَّسـولُ
يفرح الناس بيْ لأنِّي فضْلٌ ***** والأنامُ الذي أراهُ فُضُولُ
فهُمُ بَيْنَ مُنْشِــدٍ مـــا أُقَفِّيـ ***** ـهِ سرُوراً وسامِعٌ ما أقُولُ
وهكذا يتضح بجلاء أثر واقعة الطف في تجربة الشاعر الشعورية وتجلي ذلك في الصياغة الموضوعية لها.