




ودخل الفرزدق على سليمان وكان يشنأه لكثرة بأوه وأغلظ في خطابه حتى قال: من أنت لا ام لك ؟ قال: أوما تعرفني ؟ أنا من حي هم أوفى العرب وأحلم العرب وأسود العرب وأجود العرب وأشجع العرب. فقال سليمان: واللَّه لتحجن لما ذكرت أولاوجعن ظهرك ولأبعدن دارك. فقال: أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة رهن قوسه عن العرب كلّها وأوفى، وأمّا أحلم العرب فالأحنف يضرب به المثل حلما، وأما أسود العرب فالحريش بن هلال السعدي، وأما أجود العرب فخالد بن عتاب الرياحي، وأما أشعر العرب فها أنا ذا عندك. قال سليمان: فما جاء بك ؟ لا شيء لك عندنا. وغمّه ما سمع من عزّه ولم يستطع له ردا[١].
قال ابن أبي الحديد: ولوذكر الفرزدق عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وقال انّه أشجع العرب لثقافته بالرمح، وكان يقال له صيّاد الفوارس، وسمّ الفوارس وهوالذي أسر بسطام بن قيس فارس ربيعة وشجاعها، مكث عنده في القيد حتى استوفى فداه وجز ناصيته وخلّى سبيله على أن لا يغزوبني يربوع. ولكن لم يذكره الفرزدق لأنّه كان تميميا، لأن جريرا يفتخر به لأنّه من بني يربوع، فحمله عداوة جرير على أن عدل عن ذكره[٢].
قلت: لم يعلم كون وجهه ما ذكر، لأن الانسان لا يفتخر بعمّه إذا كان في مقابل ابن عمه، وأمّا إذا كان في مقابل أجنبي فيفتخر به ولوكان من أعدائه، فهذا معاوية يفتخر ببني هاشم وهوأعدى عدوّهم في قبال ابن الزبير لكون امية وهاشم من عبد مناف.
ثم لم يذكر الفرزدق بدل الأحنف قيس بن عاصم المنقري، فقيل للأحنف ممّن تعلمت الحلم ؟ قال: من قيس.
ثم ذكر قصّة عجيبة في حلمه. وكيف كان، فنقل (أجواد التنوخي) قصّة المنذر مع أحيمر وبدّل الأول بنعمان بن المنذر والثاني بعامر بن أحيمر وزاد:
ان النعمان قال له: كيف أنت في نفسك ؟ فقال: وأما في نفسي فوضع قدمه في الأرض وقال: من أزالها عن مكانها. فلم يقم إليه أحد.
ثم ما ذكره أبوعبيدة في فضائل تميم فضائل دنيوية التي كانت العرب تفتخر بها ولم يكن لهم فضائل دينية، وكلامه عليه السّلام لا يقتضي أكثر من فضائل دنيوية، وكيف نقول بفضائل دينية لهم وقد نزل بذمّهم القرآن، ففسّر قوله تعالى إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون[٣] بهم.
ففي (الطبري): قدم في سنة (٩) وفد تميم على النبي صلّى اللَّه عليه وآله عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف منهم، منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمر بن الأهتم والحتات بن فلان ونعيم بن زيد وقيس بن عاصم ومعهم عيينة بن حصين الفزاري، فلما دخل وفد تميم المسجد نادوا النبي صلّى اللَّه عليه وآله من وراء الحجرات أن أخرج إلينا يا محمد. فآذى صياحهم النبي فخرج إليهم، فقالوا: جئناك لتفاخرنا فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؟ قال: نعم قد أذنت. فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد للَّه الذي له علينا الفضل وهوأهله الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدّة، فمن مثلنا في الناس، ألسنا برؤوس الناس وأولى فضلهم، فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وانّا لونشاء لأكثرنا الكلام ولكنّا نحيى من الاكثار فما أعطانا، أقول هذا الان لتأتونا بمثل قولنا وبأمر أفضل من أمرنا.
إلى أن قال بعد ذكر أمر النبي صلّى اللَّه عليه وآله ثابت بن قيس الخزرجي أن يجيب خطيبهم، ثم قالوا: يا محمّد ائذن لشاعرنا. فقال: نعم. فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ***** منّا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلّها ***** عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ***** من الشواء إذا لم يؤنس القزع
ثم ترى الناس تأتينا سراتهم ***** من كلّ أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم غبطا في أرومتنا ***** للنازلين إذا ما انزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حيّ نفاخرهم ***** إلاّ استقادوا وكاد الرأس يقتطع
إنّا أبينا ولا يأبى لنا أحد ***** إنّا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا ***** فيرجع القول والأخبار تستمع
إلى أن قال بعد ذكر أمر النبي صلّى اللَّه عليه وآله حسانا أن يجيب شاعرهم وامتثاله، فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس وابي: ان هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا.
فلما فرغ القوم أسلموا وجوّزهم النبي صلّى اللَّه عليه وآله فأحسن جوائزهم[٤].
وكيف لا وكانوا من أتباع جمل عائشة كما كان ابن عباس يقول لهم.
وفي (الأغاني): قال ابن الزبير: ان بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الاسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه، فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة[٥].
هذا، وفي (شعراء القتيبي): دسّ جرير رجلا إلى الأقيشر وقال له: اذهب إليه وقل له اني جئت لأهجوقومك وتهجوقومي. فصار إليه بذلك فقال له الأقيشر: ممّن أنت ؟ قال: من بني تميم. فقال الأقيشر:
فلا أسدا نسبّ ولا تميما ***** وكيف يحلّ سبّ الأكرمينا
ولكن التقارض حلّ بيني ***** وبينك يابن مضرطة العجينا
فسمّى الرجل ابن مضرطة العجين[٦].
هذا، وفي (المروج): كان سابور لما يقتل العرب أتى على بلاد البحرين وفيها يومئذ بنوتميم فأمعن في قتلهم، ففروا وشيخهم يومئذ عمروبن تميم وله يومئذ ثلاثمائة سنة وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت له فأرادوا حمله فأبى وقال: أنا هالك اليوم أوغدا وماذا بقي لي من فسحة العمر ولعل اللَّه ينجيكم من صولة هذا الملك المسلّط على العرب. فتركوه. فصبحت خيل سابور الديار فنظروا ارتحل أهلها ونظروا إلى قفة في شجرة، فأقبل عمرولما سمع الصهيل يصيح بصوت ضعيف، فأخذوه وجاؤوا به إلى سابور، فنظر إلى دلائل الهرم عليه قيل له: من أنت أيّها الشيخ الفاني ؟ قال: أنا عمروبن تميم بلغت من العمر ما ترى وقد هرب الناس لإسرافك في القتل وأنا سائلك عن أمر. قال: قل. قال: ما الذي يحملك على قتل رعيتك ورجال العرب ؟
فقال: أقتلهم لأنّا ملوك الفرس نجد في مخزون علمنا ان العرب ستدال علينا ويكون لهم الغلبة علينا. فقال: ان كنت تعلم ذلك فلأن تحسن إليهم ليكافئوك عند ادالة الدولة لهم على قومك بإحسانك فهوأحزم في الرأي، وان كان باطلا فلم تستعجل الإثم وتسفك دماء رعيتك. فقال: صدقت ونصحت. فنادى مناديه بالأمان ورفع السيف[٧].
« وإنّ لنا بهم رحما ماسة وقرابة خاصّة » الظاهر أنّه عليه السّلام أشار إلى كون هند بن أبي هالة التميمي أخا فاطمة صلوات اللَّه عليها لامها وخال ابنيه الحسن والحسين عليهما السّلام لامّهما.
وقال ابن ميثم قيل تلك القرابة لاتصال هاشم وتميم عند الياس بن مضر. وهوكما ترى، فولد الياس مدركة وطابخة وقمعة، ومن كلّ منهم قبائل كثيرة، وتميم من طابخة كالرباب وضبة ومزينة[٨].
وفي (فتوح البلاذري): إنّ سياه الأسواري الذي كان على مقدّمة يزدجرد ثم دخل الاسلام وشهد مع أبي موسى حصار تستر لما صار هووأصحابه إلى البصرة سألوا: أيّ الأحياء أقرب نسبا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وآله ؟ فقيل: بنوتميم. وكانوا على أن يحالفوا الأزد، فتركوهم وحالفوا بني تميم، ثم خطت لهم خططهم فنزلوا وحفروا نهرهم المعروف بنهر الأساورة[٩].
وفي (المعمرون) لأبي حاتم: قال هشام: أخبرني عن واحد من بني تميم. قالوا كانت الأتاوة أي الخراج من مضر في الكبر والقعدد في النسب، فصارت إلى بني عمروبن تميم فوليها ربيعة بن عزى بن بزى الأسيدي فطال عمره وهوأبوالحفاد وهوالقائل: يا أبا الحفاد أفناك الكبر[١٠].
« نحن مأجورون على صلتها » في (الكافي): عن أبي جعفر عليه السّلام: ان الرحم متعلقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللّهم صل من وصلني واقطع من قطعني[١١].
وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: صلوا أرحامكم ولوبالتسليم، يقول تعالى... اتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام ان اللَّه كان عليكم رقيباً[١٢].
« ومأزورون » وأصله (موزورون) لأنّه من الوزر، وانّما قال عليه السّلام
« مأزورون » لمكان « مأجورون ».
« على قطيعتها » عنه عليه السلام: ان الرحم معلقة بالعرش تقول: اللّهم صل من وصلني واقطع من قطعني.
« فأربع » أي: تحبس.
« أبا العباس » هوكنية ابن عباس.
« رحمك اللَّه » معترضة.
« فيما جرى على لسانك ويدك » هكذا في (المصرية)[١٣] والصواب: « على يدك ولسانك » كما في (ابن أبي الحديد وابن ميثم والخطية).
« من خير وشر » فإن كان خيرا فاعمله، وان كان شرّا فاجتنبه.
« فإنّا شريكان في ذلك » لأنّه لولا السلطان ما قدر الوالي[١٤].
« وكن عند صالح ظنّي بك » من إجراء الامور على مجاريها الصحيحة.
« ولا يفيلن رأيي فيك » أي: لا يخطىء فراستي فيك. يقال فال الرأي يفيل أي ضعف. ومما قيل في ذمّهم:
إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا ***** فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضب
ولما راجز أبوالنجم العجلي العجاج بن رؤبة من زيد بن تميم قال له فيما قال:
عيشي تميم واصغري فيمن صغر ***** وباشري الذل وأعطي من عشر
وأمّري الانثى عليك والذكر.
الحكمة (٤٥٥) وسئل عن أشعر الشعراء فقال عليه السّلام:
إِنَّ اَلْقَوْمَ لَمْ يَجْرُوا فِي حَلْبَةٍ تُعْرَفُ اَلْغَايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ ولاَ بُدَّ فَالْمَلِكُ اَلضِّلِّيلُ (يريد امرأ القيس).
أقول: قال ابن أبي الحديد في (أمالي ابن دريد الحرموزي): عن ابن المهلبي عن ابن الكلبي عن شداد بن ابراهيم عن عبيد اللَّه بن الحسن العنبري عن ابن عرادة قال: كان علي عليه السّلام يعشي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم، فلما فرغوا خطبهم وقال في خطبته « ان ملاك أمركم الدين وعصمتكم التقوى وزينتكم الأدب وحصون أعراضكم الحلم » ثم قال: يا أبا الأسود قل فيما كنتم تفيضون فيه، أيّ الشعراء أشعر فقال: الذي يقول:
ولقد اغتدى يدافع ركني ***** أعوجي ذوميعة أضريج
مخلط مزيل معن مقن ***** مفنخ مطرح سيوح خروج
يعني أبا داود الإيادي فقال عليه السّلام: ليس به. قالوا: فمن ؟ فقال عليه السّلام: لورفعت للقوم غاية فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم، ولكن ان يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة. قيل: من هو؟ قال: هوالملك الضليل ذوالقروح. قيل:
امرؤ القيس ؟ قال عليه السّلام: هو[١٥].
قلت: ورواه أبوالفرج في (أغانيه) في (أبي داود الإيادي) بإسناده عن شداد لكن فيه « شداد بن عبيد اللَّه » لا « شداد بن إبراهيم » عن عبيد اللَّه بن الحر لا
« ابن الحسن » عن أبي عرادة لا « ابن عرادة » ولا بد أن أحدهما تحريف كلاّ أوبعضا.
ومتنه أيضا هكذا: كان علي صلوات اللَّه عليه يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلّم فأقلّ وأوجز فأبلغ، فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس، فقال عليه السّلام لأبي الأسود: قل. فقال وكان يتعصّب لأبي داود الإيادي أشعرهم الذي يقول:
ولقد اغتدى يدافع ركني ***** أحوذي ذوميعة اضريج
مخلط مزيل مكر مفر ***** منفخ مطرح سبوح خروج
سلهب سرحب كأنّ رماحا ***** حملته وفي السراة دموج
فأقبل عليه السّلام على الناس وقال: كلّ شعرائكم محسن ولوجمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في القول لعلمنا أيّهم أسبق إلى ذلك، وكلّهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه، وإن يكن أحد أفضلهم فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر فانّه كان أصحّهم بادرة وأجودهم نادرة[١٦].
قول المصنّف: « وسئل من أشعر الشعراء » هكذا في (المصرية)[١٧]، والصواب: « وسئل عليه السّلام عن أشعر الشعراء » كما في (ابن أبي الحديد وابن ميثم والخطية)[١٨].
وكيف كان فقال ابن أبي الحديد قال أبوالفرج في (أغانيه): لا خلاف أنّ امرأ القيس وزهيرا والنابغة مقدّمون على الشعراء كلّهم، وإنما اختلف في تقديم بعضهم على بعض. ثم نقل عن (الأغاني) روايات عن جرير والأحنف
والحطيئة في تقديم زهير، وقال: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وآله أيضا: أفضل شعرائكم القائل « ومن ومن » يعني زهيرا في قصيدته « أمن أم أوفى » ففيها:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ***** على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ***** يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ***** ولونال أسباب السماء بسلّم
ومن لم يجعل المعروف من دون عرضه ***** يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم
ثم نقل عنه روايات عن عمر وعبد الملك وأبي الأسود وأبي عمرووالشعبي في تقديم النابغة، ونقل عن النقيب أيضا تفضيل النابغة في اعتذاره إلى النعمان[١٩].
قلت: وبعدهم باقي السبعة صاحب السبع المعلّقات، وهذا معنى بحث عنه في كلّ زمان عموما وخصوصا وكلّ قال بهواه، ففي (الأغاني): أنّ المأمون قال لعبد اللَّه بن طاهر: من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم ؟
قال: الذي يقول:
أيا قبر معن كنت أوّل حفرة ***** من الأرض خطّت للسماحة موضعا
فقال أحمد بن يوسف: بل أشعرهم الذي يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ***** متأخر عنه ولا متقدّم
فقال له المأمون: أبيت إلا غزلا أين أنتم عن الذي يقول:
يا شقيق النفس من حكم ***** نمت عن عيني ولم أنم[٢٠]
وفي (تاريخ بغداد): قيل لأبي حاتم: من أشعر الناس ؟ قال: الذي يقول:
ولها مبتسم كثغر الأقاحي ***** وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القلب ***** وزادت زيادة المستزيد
عندها الصبر عن لقائي وعندي ***** زفرات يأكلن صبر الجليد[٢١]
يعني بشارا وكان يقدمه على جميع الناس.
وفيه قال خالد الكاتب: بينا أنا مارّ بباب الطاق إذا براكب خلفي على بغلة، فلما لحقني نخسني بسوطه فقال: أنت القائل « وليل المحب بلا آخر » ؟
قلت: نعم. قال: وصف امرؤ القيس الليل الطويل في ثلاث أبيات ووصفه النابغة في ثلاثة أبيات ووصفه بشّار في ثلاثة أبيات، وبرزت عليهم بشطر قلته ؟ قلت: وبم وصفه امرؤ القيس ؟ قال: بقوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ***** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ***** وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي ***** بصبح وما الإصباح منك بأمثل[٢٢]
قلت: وبم وصف النابغة ؟ فقال: بقوله:
كليني لهمّ يا اميمة ناصب ***** وليل اقاسيه بطيء الكواكب
وصدر أزاح الليل عازب همّه ***** فضاعف فيه الهمّ من كلّ جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ***** وليس الذي يهدي النجوم بآئب
قلت: وبم وصفه بشّار ؟ فقال: بقوله:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ***** وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ***** ولكن أطال الليل سقم مبرح
أضلّ النهار المستنير طريقه ***** أم الدهر ليل كلّه ليس يبرح
إلى أن قال: فلما مضى سألت عنه فقيل: هوأبوتمام الطائي.
وهذا مع كونه عن هوى لا يبعد حيث انّه هوراوي مدح بيته وضعه له لترويجه، وإلا فأين المعاني العالية التي تضمّنها ثلاثة الثلاثة من شطره العامي[٢٣].
وفيه: قال مسلمة بن مهدي: قلت لأبي العتاهية: من أشعر الناس ؟ فقال:
جاهليا أم إسلاميا أم مولدا ؟ قلت: كل. قال: الذي يقول في المديح:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ***** فأنت كما تثنى وفوق الذي تثنى
وان جرت الألفاظ منّا بمدحة ***** لغيرك إنسانا فأنت الذي تعنى
والذي يقول في الزهد:
وما الناس إلاّ هالك وابن هالك ***** وذونسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشفت ***** له عدوفي ثياب صديق
ولقيت العتابي فسألته عن ذلك، فردّ علي مثل ذلك[٢٤].
وفيه قال مسعود بن بشر: لقيت ابن مناذر بمكّة وكان عالما بالشعر زاهدا في الدنيا فقلت له: من أشعر الناس ؟ فقال: من إذا شبب لعب وإذا أخذ في ماجد قصد. قلت: مثل من ؟ قال: مثل جرير إذ يقول:
ان الذين غدوا بلبك غادروا ***** وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ***** ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ثم قال حين جدّ:
ان الذي حرم الخلافة تغلبا ***** جعل الخلافة والنبوّة فينا
مضر أبي وأبوالملوك فهل لكم ***** يا جروتغلب من أب كأبينا ؟
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ***** لوشئت ساقكم إليّ قطينا[٢٥]
وفيه: قال صدقة بن محمد: اجتمع عند المأمون ذات يوم عدّة من الشعراء، فقال أيّكم القائل:
فلما تحساها وقفنا كأننا ***** نرى قمرا في الأرض يبلغ كوكبا[٢٦]
قالوا: أبونؤاس. قال فالقائل:
إذا نزلت دون اللهاة من الفتى ***** دعا همه عن صدره برحيل[٢٧]
قالوا: أبونؤاس. قال فالقائل:
فتمشت في مفاصلهم ***** كتمشي البرء في السقم[٢٨]
قالوا: أبونؤاس. قال هوإذن أشعركم[٢٩].
وفيه: قال أبوالعتاهية: قلت عشرين ألف بيت في الزهد وودت أنّ لي مكانها أبياتا ثلاثة قالها أبونؤاس هي:
يا نواسي توقّر***** وتعزّ وتصبّر
ان يكن ساءك دهر ***** ان ما ساءك أكثر
يا كبير الذنب عفواللَّه ***** من ذنبك أكبر[٣٠]
وكانت هذه الأبيات مكتوبة على قبر أبي نؤاس.