وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                

Search form

إرسال الی صدیق
قالوا في أمير المؤمنين عليه السلام (المحدثين والمؤرخين والمفكرين) – الثاني

الفخر الرازي

... ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.

معمّر

 وقال ابن عساكر أيضاً: وأنبأنا ابن أبي خيثمة، أنبأنا أحمد بن منصور بن يساد، أنبأنا عبد الرزاق، قال: قال معمّر مرّة وأنا مستقبله وتبسم وليس معنا أحد، قلت: ما شأنك؟ قال: (عجبت من أهل الكوفة كأنّ الكوفة إنّما بنيت على حبّ عليّ عليه السلام  ما كلّمت أحداً منهم إلاّ وجدت المقتصد منهم يفضّل عليّاً على أبي بكر وعمر، منهم سفيان الثوري)  [١] .

 معاوية بن يزيد

خطب معاوية بن يزيد بن معاوية على المنبر فقال: ألا إنّ جدي معاوية قد نازع في هذا الامر من كان أولى به منه ومن غيره، لقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعظم فضله وسابقته، اعظم المهاجرين قدرا، واشجعهم قلبا، وأكثرهم علماً، وأولهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأخوه، زوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة، وجعله لها بعلاً بإختياره لها، وجعلها له زوجة بإختيارها له، أبو سبطيه سيدي شباب أهل الجنة، وأفضل هذه الامة، تربية الرسول، وابني فاطمة البتول، من الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه مالا تجهلون.

ابن إسحاق

قال إبن إسحاق: أوّل ذكر آمن بالله ورسوله علي بن أبي طالب وهو يومئذ ابن عشر سنين.

ابن شبرمة

قال ابن شبرمة: ليس لاحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني غير علي بن أبي طالب.

ابو المعتمد

الحافظ الحسكاني في مقدّمة شواهد التنزيل: حدثني حمزة بن عبد العزيز المهلبي... إلى قوله: حدّثنا المعتمد عن أبيه، قال: (كان لعليّ بن أبي طالب عشرون ومائة منقبة لم يشترك معه فيها أحد من أصحاب محمّد صلى الله عليه واله  وقد اشترك في مناقب الناس) [٢].

 أبو قيس الاودي

قال أبو قيس الاودي: أدركت الناس وهم ثلاث طبقات: أهل دين يحبون علياً، وأهل دنيا يحبون معاوية، وخوارج.

 أبو نَعيم الأصفهانى

ـ حلية الأولياء : سيّد القوم ، محبّ المشهود ، ومحبوب المعبود ، باب مدينة العلم والعلوم ، ورأس المخاطبات ومستنبط الإشارات ، راية المهتدين ، ونور المطيعين ، وولىّ المتّقين ، وإمام العادلين ، أقدمهم إجابة وإيماناً ، وأقومهم قضيّة وإيقاناً ، وأعظمهم حلماً ، وأوفرهم علماً ، علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه .قدوة المتّقين وزينة العارفين ، المنبئ عن حقائق التوحيد ، المشير إلي لوامع علم التفريد ، صاحب القلب العقول ، واللسان السؤول ، والاُذن الواعى ، والعهد الوافى ، فقّاء عيون الفتن ، ووقىٌّ من فنون المحن ،فدفع الناكثين ، ووضع القاسطين ،ودمغ المارقين ،الاُخيشن فى دين الله ، الممسوس فى ذات الله (حلية الأولياء : ١ / ٦١ .)

اعرابي

الحسكاني في شواهد التنزيل : عندما تصدق أمير المؤمنين عليه السلام  بخاتمه وهو راكع في الصلاة، انشد الأعرابي:

يا وليّ المؤمنين كلهم ***** وسيّد الأوصياء من آدم

قد فزت بالنفل يا أبا حسن ***** إذ جادت الكف منك بالخاتم

فالجود فرع وأنت مغرسه ***** وأنتم سادة لذا العالم [٣]

التيمي

قال ابن عساكر: قال عبد الرزاق: وأخبرنا ابن التيمي، قال: سمعت أبي يقول: (فضّل عليّ بن أبي طالب عليه السلام  أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله  بمائة منقبة وشاركهم في مناقبهم)  [٤].

 الجاحظ

القندوزي في الينابيع [٥] : (وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري المعتزلي

: فأما عليّ بن أبي طالب ، فلو أفردنا لفضائله الشريفة، ومقاماته الكريمة، ودرجاته الرفيعة، ومناقبه السنية، لأفنينا في ذلك الطوامير [٦] الطوال والدفاتر العراض.. العرق صحيح من آدم عليه السلام  ، والنسب صريح ، والمولد مكان معظَّم، والمنشأ مبارك مكرَّم، والشأن عظيم، والعمل جسيم، والعلم كثير وليس له نظير، والهمة عالية، والقوة كاملة، والبيان عجيب، واللسان خطيب، والصدر رحيب، فأخلاقه وفق أعراقه، وحديثه يشهد على تقديمه. ولا يسعني استقصاء جميع فضله، ويتعذر لنا تبيان كل حقه، وإذا كان كتبنا، لا تحمل تفسير جميع أمره، ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة فضله).

  الحسن البصري

قال الحسن البصري: كان والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الامة وذا فضلها وذا سابقتها وذا قرابتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يكن بالنومة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، ولا بالسرقة لمال الله، اعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وذلك علي بن أبي طالب.

 القعقاع

قام القعقاع بن زرارة على قبره فقال: رضوان الله عليك يا أمير المؤمنين، فو الله لقد كانت حياتك مفتاح الخير، ولو أنّ الناس قبلوك لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة، وآثروا الدنيا.

 المبرد

 قال في كتابه الفاضل :

- كان ابو بكر فيما يروى شاعراً وعمر شاعراً وعلي أشعر الثلاثة وينشد لعلي عليه السلام  :

فلو كنا اذا متنا تركـــــنا ***** لكان الموت راحة كل حــــي

ولكن اذا متنا بعــــــثنــا ***** فنسأل بعد ذا عن كل شيء [٧]

 زبيا النصراني  :

عدي وتيم لا أحاول ذكركــــم ***** بسوء ولكني محب هاشـــــــــــــــــــــم

وما تعتريني في علي ورهطــــــه ***** إذا  ذكروا من الله لومة لائــــــــــــــــم

يقولون ما بال النصارى تحبهــم ***** وأهل النهى من عرب وأعاجــــــــــم

فقلت لهم :إني لأحسب حبهم ***** سرى في قلوب الخلق حتى البهــائم

وله أيضا :

على أمير المؤمنين خليفــــــــــــة ***** وما لسواه فـي الخلافة مطمعُ

فلو كنت أبغي ملة غير ملـــــتي ***** لما كنت إلا مسلما يتشـــــــيع  [٨]

زيد بن أرقم

قال زيد بن أرقم: أوّل من صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب.

عامر بن عبد الله بن الزبير

قال عامر بن عبد الله بن الزبير لابن له ينتقص علياً: يا بني إياك والعودة إلى ذلك، فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلاّ رفعة، وإنّ الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا، وإنّ الدنيا لم تبن شيئاً إلاّ عاودت على ما بنت فهدمته.

عبد الله بن عياش

قال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة لسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص - لما سأله: يا عم لم كان صفو الناس إلى علي؟ - قال: يا ابن أخي إنّ علياً كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة والقدم في الاسلام، والصهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والفقه في السنة، والنجدة في الحرب والجود بالماعون.

عطاء

سُئل عطاء: أكان في أصحاب محمّد أحد أعلم من علي؟ قال: لا والله لا أعلمه.

الابشيهي

قال في المستطرف

- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام  آية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه واله والمؤيدة بالتأييد الإلهي كاشف الكروب ومجليها ومثبت قواعد الإسلام ومرسيها وهو المتقدم على ذوي الشجاعة كلهم بلا مرية ولا خلاف  .

عبد الفتاح عبد المقصود

ليست القرابة، في ذاتها، فضيلة. ولا رابطة الدم، فضيلة. ولا في الاسلام نسب يرفع وآخر يخفض إلا إذا اقترن بعمل مقبول أو بعمل مرذول، فيتقدم من يحق حقوق الله، ويتوقى نواهيه، وان كان عبدا أسود أفطس، ويتخلف الثاني إلى آخر الصفوف وان كان ذا حسب وسؤدد وجاه..

وإمرة المؤمنين أسمى وأرفع من أن يرتقي إليها امرؤ في سلم الصلات الاسرية التي تجيئه عفوا بغير تقوى تطهر، وجهل يشكر، وعمل يثاب، ويبتغي بها صاحبها وجه ربه ونفع الناس، وصالح أخراه قبل دنياه..

ومنزلة علي في الاسلام، وفي نفس رسوله الكريم، أمكن وأعظم من أن تقاس بمقياس القربى لانها محصلة مزاياه، وخلاصة جهاده لاعلاء كلمة الله..

ونكاد نلم بعض إلمام بجانب من جوانب هذه الشخصية حين نستحضر في بالنا قوله:

لا شرف أعلى من الاسلام، ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحصن من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا كنز أغنى من القناعة، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت...

فهو أعجل الناس قربة إلى الله بتقواه، وحرصهم على مرضاته، أعبدهم عبادة، وأكثرهم صلاة، وأشدهم على نفسه رياضة بالقيام والصيام، ولا نحسب أن عبادته إلا عبادة حر يشكر لربه آلاءه، ويحمد نعماءه، لا عبادة خائف من عقوبة ، أو تاجر طامع في مثوبة على نحو ما صنف لنا العباد والعبادات.

يقول في هذا التصنيف:

إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار...

ولا نحسب أيضاً أن صورة كلامية أجمل من هذه التي رسم بها حلاوة التقوى رسماً يفتن بها النفوس فرحا، ويستطير القلوب شوقاً إلى تذوق طعمها الشهي الذي لا تدانيه كل أطايب المحسوسات والمعنويات.

سئل علي بن الحسين، وهو غاية الغايات في العبادة، وزين من عبدوا الله وعاشوا على تقواه:

أين عبادتك من عبادة جدك؟.

فقال: كعبادة جدي من عبادة رسول الله.

ولا غرو.. فالكمال الانساني لمحمد عليه الصلاة والسلام في كل سجية وخصلة لا يضاهيه إلى أبد الابدين كمال..

وكم كان الامام يتهجد ويتنفل فيكثر، ويلازم الاوراد، ويستغرق في التسبيح حمدا وقربة لله.. لان النوافل - تسبيحا كانت أو دعاء أو صلاة - هي خير ما يملا به المسلم وقت فراغ وراحة، وأكرم على الله من أن يدع صاحبها ملهاة في يد إبليس يرمي به في نزعة شر تلوث طهره، أو يجنح به إلى باطل يوبقه وينتقص حسناه لحساب سوءاه.

وكان يقول:

ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الاجابة، ولا ليفتح لعبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة...

وهل النافلة سوى شكر واستغفار؟

ولم يعرف امرؤ أزهد منه زهادة، ولا أقنع قناعة.. فهو سيد الزهاد، وأقنع القانعين. يتحرى في معيشته الاشظف والاقشف..

ما ارتدى في حياته لباساً جديداً، ولا اقتنى ضيعة ولا ريعا، إلا شيئاً كان له بينبع مما تصق به وحبسه، بل كان يلبس من الثياب الاغلظ المرقوع وينتعل نعلين من ليف.

وما شبع قط من طعام، فأكله أخشن مأكل، فإذا ائتدم فبملح أو خل، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض. فإن ارتفع فبقليل من لبن الابل.. أما اللحم فنادراً ما كان يذوقه. وكان يقول - وقوله يصدق فعله - وإن لم تخل عبارته من دعابة ساخرة تخز الذين يستكثرون من هذا الصنف من الاطعمة، أو يعلون عليه كمأكل أثير:

لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان.

ولم يكن أيضاً كالالى يدلون بما يفعلون إظهاراً لقدرتهم على التحكم في النفس، وأخذها بما يحبون أن يشيع ذكره عنهم ولعا بالذكر أو رثاء الناس، بل كان يرى - كنص ألفاظه - أن أفضل الزهد إخفاء الزهد.

وكانت رياضته نفسه بهذا التقشف الشديد عن إيمان واقتناع. كانت حليفة كل سني عمره الجافة واليانعة على السواء، وليست قرينة مرحلة بذاتها من مراحل حياته قل فيها النشب ونضب المال، بل إنا لنجده أحرص على التزام هذه الرياضة عندما تملكت يمينه سلطة الدولة، وغدا مقدوره، ومن حقه، أن يتحول إلى معيشة لا توصف بأنها أرفه وانما بأنها ليست أشظف، ولا أدل على هذه من صور السلوك الذي يطالعنا به بعد أن آلت اليه إمرة المؤمنين وأصبح صاحب الرأي الاول في توجيه سياسة المال توجيهه سياسة الحكم والسلطان.

وإنما إقبال الدنيا عليه وإدبارها عنه سيان.. ما أتاه من عروضها كما ولى عنه ، وما ولى كما أتاه، كلاهما لا يساوي مثل خردلة، لا يهفو منها إلى شيء، ولا يهتم منها بشيء، ولا يثق منها في شيء، بل هو كما يقول: أوثق بما في يد الله منه بما في يده، وهو غني عنها لانه على إغرائها عزيز، وبملكها مستهين، وعن نشبها راغب، وهو - اعتزازاً بقدره - تحصن بمعقل القنوع والتأبي والزهد دون سطوة إغرائها، وزخرف عطائها فلم يشغله عن وعيه بزيف دعوتها، وتفه أمرها، وهو ان شأنها على الله شاغل ولو كان مجرد أمنية تراود الخيال.

فكأنما كان شعاره حكمته المعروفة:

من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته...

وهو، إلى زهده، أكرم وأسخى من يحسبون في عداد الكرام الاسخياء ومن عرفهم الكرم والسخاء، ولعله كان أسخى لانه كان أزهد، أو لعله كان أزهد لانه كان أسخى، فهو يخرج مما يملك عن قنوع وزهادة كما يخرج منه عن سخاء وجود.

إنه لا يسخو فقط وماله كثر يفيض عن حاجته، بل يسخو وماله أيضاً قل، وأقل القل، يضيق عن البذل، ولا يحمل الكل، وينوء بأغث ضرورات حياته حتى ليوشك ألا ينهض بأوده وأود عياله.

وهل كانت الدنيا كلها تساوي - في حسابه - سوى قلامة ظفر أو قدر صفر لا يجدي عليه أن يأخذ منها، ولا ينقصها أن ينفق؟ فلماذا اذن يضن وهو الذي ضرب للناس بفعله مثلاً للبذل، ودعا الكرام إلى محاولة سلوك مسلكه، حين اليسر وحين العسر على السواء، وسعهم اللحاق به على النهج أو لهثوا دون أن يقطعوا نفس شوطه؟

أثر أنه كان يعمل عند يهودي في المدينة، فلا يزال يكد ويكدح حتى تتشقق يداه، فإذا فرغ من عمله، فإنه لا يلبث، في أغلب الاحايين، أن يتصدق بكل أجره كأنما كان يتعب لغيره.

بل كأنما يسعى إلى الخصاصة، فما أكثر ما كان ينزل هانئ القلب راضيا، لمسكين، أو يتيم، أو أسير، عن قوته وقوت عياله..

كان يصوم ويطوي، ويطوي معه أهله، ليؤثر بزادهم وزاده. دائما الحرمان طريقه، والجوع رفيقه.

وكما كانت أريحيته تدفعه إلى الجود بالمال وإن هو أعوز وعانى الجوع، فقد كانت أيضاً تدفعه إلى الكرم بالحلم وإن هو ضيع حقه وغص بالاذى والكنود.

إنها الاريحية التي تسخو بالماديات، وتسخو بالمعنويات، إنها عطاء ومنح وإنفاق، تهب الدرهم واللقمة والكساء، كما هي حلم وصفو وعفو تهب الكرامة والامن والحرية.

فهو أقبل الناس لانابة منيب تائب، وأسرعهم لغفران زلة خاطئ مذنب. إن ناله من عدوه ضرر، كان أعجل إليه بالعفو منه بالعقوبة، وبالصفح منه إلى رد الصاع. أثبت من أن يخرجه من حلمه غضب على خصم جاحد، وأسمح بالتجاوز عن شنآن غريم حاقد، يصفح وهو الموتور، ويعفو وهو القادر، ويغفر قربة إلى الله.

وكان يقول:

إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه...

ويقول:

العفو زكاة الظفر...

وكم أدى من أمثال هذه الزكاة..

ملك عليه معاوية وعسكره في صفين شريعة الفرات، ومنعوه وجنده الماء، فلما سألهم أن يشرب الجيشان على سواء، أبى طاغية الشام ورجاله ما أراد، وأجابوه عتوا وصلفا، قائلين: لا والله.. ولا شربة ماء حتى تموت ظمأ كما مات عثمان...

فحمل عليهم، فأزالهم عنوة عن مراكزهم، وأجلاهم إلى الفلاة حيث الصدى والجفاف. عندئذ قال له أصحابه: ... امنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة... واقتلهم بسيوف العطش....

لكن أريحيته أبت أن يصغي لغضبهم وغضبه على أولئك القوم المارقين من طاعته الغالين في عداوته. وقال: لا أكافئهم بمثل فعلهم. أفسحوا لهم عن بعض الشريعة.

وخلى بينهم وبين الماء..

وأسر، يوم الجمل، عبد الله بن الزبير، وكان الناهض ظلما في حربه، الموغل غيا في بغضه. ، المسرف إفكا في سبه. فلما جيء به إليه عفا عنه ورد عليه حريته.. وقال له:

اذهب فلا أرينك...

ولم يزد على ذلك..

وبمثل هذا عامل مروان بن الحكم، وطائفة غيره كثيرة من مناوئيه.

وبمثله عامل قبلهم الخارجين عليه من أهل البصرة، بعد أن أظفره الله بهم. فوهبهم الامن والسلامة. لم يقتل منهم، ولم يغنم مالا، ولا سبى ذرية.

وكان، إلى هذه الاريحية الكريمة، لا يقرن صفحه بمن، ولا يتطلع من ورائه لشكر. وكيف لا وصفحه تقدمة إلى الله وحده تترفع عن مثوبة العبيد؟

بل لم يكن ليغيب عن فطنته أن معظم من أظلهم حلمه ووهبهم الحياة والحرية لن يلبثوا أن ينكصوا على الاعقاب فيقابلوه بالكفران دون الشكران، وبالجحود دون العرفان ما إن تتاح لهم فرصة للتنكر وللتنمر. ومع ذلك فقد كان دائما يتوقى مدافعة الاساءة بالاساءة، ومغلبة العيب بالعيب، متنزها عن تناول سير شانئيه بالقدح والتجريح. وتلك لا ريب مكرمة تعز في الخلائق وتستعصي على أنفس البشر إلا من طهر الله قلبه من الغل، وعصم لسانه وفمه عن نهش الجيف ، ولعق الاوحال.

أما مواهبه وقدراته فأعسر على الالمام والاحاطة. ألم تر كيف تدعيه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة، وتتمسح فيه كل مدرسة فكرية تريد أن تفضل غيرها في ميادين الحكمة والعلم، وتبز كل ما عداها من ذوات المذاهب والنظرات؟.. وهل ثمة بين العلماء من قد أوتي من بسطة العلم ما يبلغه من العلوم الربانية والبشرية مثل مبلغ الامام؟ وإنه لهو الذي - بعصارة ذهنه الملهم الخصيب - روى جذورها، ونمى دوحها، وقوى فروعها، وخضر ورقها، ونضر زهرها، وأينع ثمرها، وأدنى قطوفها.

وكان ذا نظرة نفاذة، وروح نقية، وفكر عملاق. يتعمق ما انتهى إليه من معارف الذين سبقوه، فلا يتقبلها على نفس وجهها، ولا يختزنها في واعيته كخرنة المال الا أن يعاير وينقد، فيقر منها ما يقر، ويضيف إليها ما يضيف، أو يغير فيها ما يغير، ويتأمل آيات الله في ملكوته، فينبهر ويعتبر ويفكر، ويشهد ظواهر الخلائق وخصائصها شهود متدبر يسير ويخبر ويفسر، ويغوص في أغوار الانفس، مترحلا في خفاياها وهو يحل ويقدر ويبرر. فكره المتوقد النفّاد أداته، وروحه الشفيفة الصافية هاديه. أحاد بمعارف الاولين، وارتاد للاخرين، ممتثلاً في كل خطوة يخطوها على هذا النهج القويم أمر الله للانسان أن ينهض العقل من سباته، ويدفعه إلى النظر والتفكير تلمسا للعلم حيثما يكون.

وكم عرف الامام، وكم تفرعت به المعرفه وانشعبت سبلا، فمشى منها في كل سبيل إلى مداه، وكم ألم منها بقديم، واهتدى إلى جديد.

والذي أحاط به خبرا عالم من العلم فسيح فسيح، كشفه وراده، ظاهراً وباطنا، جهد ذهني متقحم دؤوب. وعى جزئياته وكلياته وأشربها عقلاً المعيا لماحاً فلقد كان على عبقرية ذهنية لا تتكرر، وكان عقله لا يمل النظر فيما انتقل إليه من تراث البشرية الفكري عبر الاجيال في الروايات والاسفار، كما لا يكل من الطواف بمشاهد الكون ومرئياته، لا يكتفي منها بحصيلة البصر، وإنما يمضي إلى ما وراء المنظور كشفا عن غوامض المبهم وأسرار المستور. لم يتوان قط عن الترحل في البحث إلى أغواره، ولم يكف قط عن التعلم، ولم يضق قط عن معلوم ثقفه أو استخرجه من مجهول. كل ما علمه وعاه، وكلما وعى استزاد، وكلما تقاطرت عليه المعارف وجد فيضها لديه سعة في عقله المنهوم الصديان الذي كان كأرض رمضاء لا يكاد يطفئ ظمأها وينقع غلتها كل ماء السماء.

وكيف يوصد العقل بابه في وجه العلم وإنه لات يأتيه بزاد جديد؟ في هذا يقول الامام: كل وعاء يضيق بما فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع. فما أحكم قولته، وأدق وصفه.

فالعلم الالهي، وهو أشرف العلوم لاتصاله بأشرف معلوم، إنما اقتبس من كلامه، عنه نقل، وإليه انتهى، وبه ابتدأ. فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام، وعن المعتزلة أخذت الاشعرية. وأما الامامية والزيدية فأنتماؤهم إليه ظاهر.

وليس أحد تحدث عن عقيدة التوحيد فأفاض فيها إفاضته، ولا تناول صفات الله فأحسن البيان عنها إحسانه، ولا عرض لقضائه وقدره فقربهما إلى العقول تقريبه، فالله تعالى واحد أحد، ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال... لا يوصف بما توصف به المخلوقات... من قال فيه سبحانه بالتشبيه كان بمنزلة الكافر به، الجاهل لحقيقته....

فتوحيد الله، ينزه الاسلام الذات الالهية عن مخالطة الاحياز: زمانية ومكانية، وعن المشاركة في الملك بالاجتزاء أو المشورة، وفي القدرة بالقول أو الفعل، وعن المقارنة بالنظائر أو الاشباه ولو مقارنة تمثيل. فتنزيهه الله خالص كامل، وقاطع مانع، يجل عن الوصف، ويعلو فوق تطاول العقول.

وقد صور على هذا التنزيه ببيان رأى، أمام كماله سبحانه، أن ينهى فيه عن وصف ذاته، لقصور الافهام عن الاحاطة بحقيقته، وعجز الكلام عن رسم صفاته.

يقول:

... كمال توحيده الاخلاص له. وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه....

بحسه الجمالي المتميز، وذهنه الالمعي الثاقب، وإدراكه الروحي المشرق، قرأ القرآن فأحسن ترتيله، وجمعه فاستظهر مافيه، وتدبره فبلغ أعماقه ووعى لباب معانيه.

وما تكشف للامام من كنوز الالهيات لم ينبثق له عفوا، بل كان النتيجة اللازمة لتبصره في خلق الله، وتدارسه آيات كتابه، وتفهمه حكمه وأحكامه بروح شفيف ونفس وضاءة وذهن محيط، فلا مشاحة في نقاء الجوهر، ورهافة الحس، وحدة الذكاء، ودقة النظر، وعمق الوعي لديه وكلها الادوات القادرة على الدراسة والبحث والاستقصاء، والضامنة لاستقامة التفكير وسلامة الاستقراء. ولا مشاحة أيضاً في أنه كان مهيأ لهذا الذي قدر له وأداه بحكم ملازمته - منذ طفولته - رسول الله، ومعايشته مقدمات الرسالة، قبل تنزل الوحي، والنبي عندئذ يخلو إلى نفسه، يتحنث ويتعبد بالغار وبداره، متأملا ما يرى من جلائل الايات الكونية، وحركة الزمن، وقوانين العدم والوجود، وما إليها من ظواهر وخوارق، تشهد بقدرة قاهرة أزلية ليست ككل القدرات، قدرة تحكم التقدير والتدبير، وتكون لمن يتفكر فيها ابتغاء الاهتداء أقرب إلى الاستجلاء.

عايش على هذه الفترة من نشدان الحقيقة الواحدة، فإذا هو يعجب لمحمد، ثم يعجب به. ثم يتابعه على نفس نهجه متابعة تلميذ لاستاذه، ومستهد لهاديه، حتى ليدرك، في سنه الغضة، عن الموجد المدبر، مالم يدرك غيره من الناس أجمعين. وحتى لنسمعه يتحدث بما هداه إليه حسه المرهف، وروحه الشفيف فيقول: كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا .

ويقول: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين

وتلك هي المدة التي قضاها منذ كفله محمد حتى نزلت الرسالة، وأذن للنبي في الانذار والتبليغ.

لهذا لاندهش إذ يصفه أبو الحسن البصري، فيقول: كان ربانيّ هذه الامة

ولا ندهش حين نعلم أنه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وحده الحافظ للقرآن العارف به، المحيط بأسراره.

ثم لا ندهش ونحن نراه أول من اشتغل بجمعه.

اشتغل علي بحفظ كتاب الله اشتغال من يحرص الحرص كله على هذا النور الذي أنزله ربه هدىً ورحمة للعالمين، أن تشرد منه عبارة، بل لفظة، بل اشارة. وعنى بجمعه عناية من يخشى أن تتبعثر بعض آياته وسوره في الصدور على غير نسقها المقدور، فتختلط وتتداخل، يتأخر منها ماهو أولى بالتقديم ويتقدم ماهو أولى بالتأخير. وأكب على الترسل في قراءته ترسل ذي حس أدبي مرهف بلا نظير، تفتنه البلاغة، وتشغفه الفصاحة، ويولع ولوع متشه سحر بيانه، يتطرق فيه من تذوق حلاوة المتعة العاطفية الشعورية من جمال عباراته إلى التنعم بكمال المتعة الروحية العقلية من جلال معانيه.

فماذا عسى يتهيأ أجتناؤه للناس من ثمار هذا الاستيعاب؟

ما الذي يمكن أن يطالعهم به من له كالامام وضاءة النفس، ودقة الحس، وشمول النظرة، وتفتح القريحة، وألمعية الفكر، ونقاوة الجنان؟

إنه ليخلو إلى القرآن خلوَّ خاشع متعبد، سجي الليل، أو هدأ السحر، أو أسفر الفجر، أو علت ضحوة النهار فلا يكاد يشغله في خلوته هذه، التي يرجو بها وجه ربه شيء من شواغل دنياه أن يرتل ويعيد، ويردد ويزيد، وجوارحه جميعها في ملاك بيانه العذب الاسر، وأسلوبه السماوي الساحر.

وإنه ليقبل عليه إقبال متأمل متدبر، يأخذ بمجامع المدلولات في سياق العبارات وفي مباني الكلمات وفيهن الجلي والخفي. والصريح والغيبي، فلا يفوته أن يحيط بظاهرها وباطنها إحاطة شمول.. ويتبصر مختلف عظائم السور وجلائل الايات ومنهن آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فلا يغيب عنه استجلاء ما بها من الحكم والاحكام.

وإنه ليجهر بتلاوته، تلاوة محب مشوق، فيتحرى صحة الضبط، وسلامة النطق، ودقة الاداء، مستمتعا بعذوبة كلماته وفقراته مرنمة منغمة.

فإذا هو يجمع إلى إحكام الوصل والوقف، والمد والامالة، والاظهار والادغام، والتحريك والتسكين، والتخفيف والتنوين ألواناً من الصور الصوتية التي توافق كل حرف وكلمة وآية، وتطابق مغزاها، حتى لتوشك المعاني أن تتجسد أمام العيون والنواظر قبل أن تطرق الاسماع إلى القلوب..

بحسه الجمالي المتميز، وذهنه الالمعي الثاقب، وإدراكه الروحي المشرق. قرأ القرآن فأحسن ترتيله، وجمعه فاستظهر مافيه، وتدبره فبلغ أعماقه ووعى لباب معانيه.

وعنت له اللغة العربية كما لم تعنُ لغيره، لان صعبها، وذل غريبها، وتفتحت أبوابها، فإذا هو مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها به ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.

فالمعلوم الثابت أنه هو الذي استولدها قواعدها، واستنبطها أسسها، وحدد لها جوامع الاصول التي لابد أن تنهض عليها لتظل كحالها عند أهلها الاوائل، سليمة التركيب، مبرأة من عيوب اللحن والخطأ، ومناقص التحريف والالتواء.

إنه صاحب علم النحو الذي حفظ بناء العربية قائما، ولولاه لمال، ولشابها من لكنة الشعوب الغريبة التي دخلت الاسلام ما يغلب على نقاء جوهرها الاصيل، ولتبدلت لغة أخرى غير لغة القرآن. ولاندثرت اندثار اللغات القديمة، وماتت كاللاتينية التي غدت طللا دارسا بعد أن تبلبلت بها لهجات الاوروبيين.

ابتدع الامام هذا العلم. وأملى على أبي الاسود الدؤلي أصوله الجامعة، فقسم له الكلام كله إلى اسم وفعل وحرف، وقسم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وقسم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، فكان هذا الذي ابتدعه أس السياج الواقي الذي درأ عن العربية عوادي العجمة واللحن، وأبقى لها اللب والسمت، وضمن صحة الضبط واستقامة اللسان.

ولم يكن بين أبنائها من هو مثله أدرى بها، وأعرف بأساليبها. فاق فيها كل ناطق وكاتب. فإذا هو أخطب من خطب، وبه اقتدى أدباؤها في الكتابة. لا يباريه في فنونها التعبيريه مبار حاكى وقلد أو جدد وابتكر. إذا خطب شدت الاسماع إلى طرف لسانه، وسكتت الانفاس تصغي إليه، وإذا كتب فأقدر من بيّن أو أمر أو زجر ، وإذا جادل فأبرع من حاج وقارع ودلل، وإذا حدث فأخبر من هدى ووعظ وذكر.

والحق أن ما عرف من إحاطته الشاملة بخصائص اللغة، وثورته الابداعية الطاغية في أساليبها هو بديهية البديهيات. وبحسبنا - للتدليل على تفرده بالدقة في سبك العبارات وبالاحكام في رسم صورها الجمالية، وبالقدرة الفائقة على تضمينها نظراته المعجزات، وآرائه الخوارق في أعضل المسائل وأعصاها - أن نشير إلى ما انتقل إلينا من آثاره الادبية والفكرية فيما حفظه الناس، وتداولوه، وترنموا به، من خطب مئين كان يوردها ارتجالا عفو الخاطر، دون إعداد، وأن نومئ إلى ما حوته كتب الدارسين والعلماء والمؤرخين من رسائله ومأثوراته وحكمه ووصاياه. وبعض هذه وتلك من كنوز قد جمعه لنا الشريف الرضي في نهج البلاغة معالم وآيات على حضور بديهة، وتوقد ذهن، ونفح إلهام.

وهو صاحب السيف الذي كان الظفر دائما معلقا بطرف ذؤابته أينما جال وصال.

شجاع كما لم تكن قط شجاعة الشجعان، فارس كما لم تكن قط فروسية الفرسان. ما تحرف إلا لقتال، ولا فر في موطن نزال، ولا ارتاع من كتيبة فضلا عن إنسان، ولا بارز إلا صرع وجندل، ولا هاجم إلا أصمى وقتل. كرته لا ترتد ولا ترد. وضربته لا تحتاج إلى ضربة ثانية. ومن كتبت لهم النجاة من أعدائه ومناجزيه في معاركه، وامتد بهم الاجل ظلوا طوال عمرهم يفاخرون بشرف وقوفهم في الحرب في مقابلته.

بل كانت العرب - وإن أثخن فيها فأيتم منها من أيتم، وأيّم منها من أيّم - تتباهى بسقوط صناديدها صرعى بحد سيفه.

قالت أخت عمرو بن عبد ود - فارس العرب الاول، وصريعه يوم الخندق - مباهيه وهي ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله ***** بكيته أبدا ما دمت في الابد

لكن قاتله من لا يعاب به ***** من كان يدعن قديماً بيضه البلد

وكان دائما سبّاقاً إلى الجهاد في سبيل الله، مشغوفاً في ميادينه بلقاء الاعداء، يقبل ويقتحم حين يؤثر غيره من الابطال أن يتردد ويحجم، ويصبر على استعار القتال حيثما يستعصي الصبر على كل جلد صبور، ويغالب الموت بالارتماء بين أنيابه فيهرع الموت إلى الفرار. سيفه من سرعة دورانه في المعامع يبدو كغابة من سلاح، ويمينه تباري الكتائب في حش رقاب الاعداء، حتى لكأنه جيش موفور العدد والعتاد. سقط على أرض بدر الكبرى سبعون مشركا صرعى، قتل وحده منهم النصف، وقتل جند الاسلام كلهم يومئذ النصف الاخر.

وطار ذكر بلائه في الحرب فملا الافاق قرونا عدة، حتى اتخذه الفرنج والروم رمزا للتفوق الحربي الذي لا يضارع، فرسموا صوره في بيعهم ومعابدهم، حاملا سيفه، مشمرا للقتال، مجسدا لبطولة الابطال وفروسية الفرسان.. وصوّره الترك والديلم على سيوفهم تفاؤلا به، واستجلابا للنصر الذي كان حليفه في كل ميدان.

واقترنت شجاعته بهيبة وثقت له في الظفر، كانت تتزلزل لها القلوب في الصدور، وتدور العيون في المحاجر، وتلتوي الاقدام.

والذين يزعمون أنه لم يكن صاحب سياسة ولا دهاء، إنما يرون السياسة على غير وجهها الحقيقي، ويجردونها من مضمونها الاصيل. فليست أخذا بالغدر، ومقارفه للفجر، أو تكون إذن نوعا من الخسة النفسية والخبث الرخيص الذي يتردى بإنسانية الانسان وكرامته إلى الحضيض، ولا يستعصي انتهاجها على أي وغد خسيس.. قيل في دهاء معاوية ما قيل، فكان رد علي على هذا الزعم المأفوك: والله ما معاوية بأدهى مني. ولكنه يغدر ويفجر، وأنا امرؤ لا أحب الغدر.

وإذا كانت الشجاعة قد اقترنت فيه بالهيبة فقد اجتمعت له إليهما قوة بدنية قرهقلية كما يقال في الاساطير. فهو الذي خلع باب حصن ناعم وتترس به وبثقله تنوء العصبة أولو الايد من الرجال. وهو الذي اقتلع الصخرة التي آدت اقتلاعها العشرات وتفجر من تحتها الماء. وهو الذي أسعفته يقظته كما أسعفته قوته فمد إحدى يديه إلى فارس هم أن يقتله، فخطفه بها من فوق جواده، وجلد به الارض جلدا شديداً حتى حطمه، وأحاله كتلة هامدة من اللحم والدم وهشيم العظام.

ولا شك في أن شجاعته في حلبات الصراع الحربي - وسيفه بيمينه - إنما نبعت من جنان ثابت، لا يهتز أمام الخطوب والقوارع وإن تراءى له خطر الموت كاشراً عن أنيابه يطل عليه من وراء لقاء سافر أو تآمر متستر دارعاً كان في عدة الحرب أو صفر اليدين أعزل من السلاح. وليس أبين على جسارته، وقوة قلبه وثبات جأشه من مبيته ليلة الهجرة في فراش محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه ليعلم تمام العلم أنه عندئذ أدنى إلى ألاّ يسلم من أسياف أولئك الفتية الاجلاد الالى أعدتهم قريش للانقضاض على الراقد وفي حسبانهم أنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقلما اجتمعت براعة القتال إلى براعة السياسة في إنسان، ولكنه كان المحارب وكان السياسي في آن، بل هو - بتعبيرنا المعاصر - رجل الدولة الذي يرسم خطة العمل في الداخل وفي الخارج على صعيد أوليائه وصعيد أعدائه، فيحذق سياسة الناس كما يحذق سياسة الامور، ويطوع كليهما لمقابلة كافة الاحتمالات في تطورات الاحداث وتغيرات الظروف بالحكمة وسعة التفكير وحسن التقدير، ومرونة المداولة بين مختلف أساليب المجابهة ليكبح شرة الازمات ثم يلقاها بأنجع الحلول.

والواقع أن الامام لم يدع سيرة عماله في الناس تمضي عفواً بغير معالم واضحة على الطريق، أو حدود مرسومة تبين الجادة السواء للسلوك في كلا أمور الدنيا والدين. وبحسب من شاء الرجوع إلى دلالة، أن يستعيد عهده للاشتر النخعي حين ولاه مصر، ليعرف أي دستور وضع لسياسة الامور والناس، يدرك كل من يدرسه أنه وليد فكر سياسي عملاق عرف كيف يضع خطة متكاملة تتناول كل أوجه النشاط الانساني في مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، عمادها المواطن الكريم الحر الذي لا يفضله غيره إلا بالعمل الجاد المثمر الذي يتناسق الافراد في أدائه يدا واحدة، وفكراً واحداً، على طريق واحد في هداية الدين.

ولقد نعجب حين نرى الامام، في عهده هذا، قد حدد المبادئ العامة للحكم التحديد الواضح الذي ظلت المذاهب السياسية تصطرع وتتبارى للاهتداء إليها على مدى قرون طويلة، وأخذ كل مذهب يدعى لنفسه بلوغه منها مالم يبلغه سواه.. وكفى أن أكد ضرورة التئام أبناء الامة وحدة اجتماعية وسياسية، وثيقة العرى بغير تفرقة، وإنما في مساواة كاملة بين كافة المواطنين وإن تباينت أوضاعهم الاجتماعية، واختلفوا رأيا وعقيدة. فالناس - كما يسجل العهد -: إما أخ في الدين أو نظير في الخلق، والرعية: طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض.

ومع ذلك فإن العهد يقرر أن القاعدة الجماهيرية العريضة التي تؤلف غالبية الشعب، أحق بالرعاية ; لان العامة من الامة: هم عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للاعداء. ومن ثم فإنه يرتب لهم على الدولة واجبا قبلهم: أن تكفل لهم مستوى كريما من المعيشة يحفظ عليهم شرف آدميتهم. فلكل على الوالي حق يقدر ما يصلحه. ويوجب عليها أيضاً رعاية من لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين والمتعطلين وذوي العاهات والمرضى وأمثالهم، ففرض لهم قسما من بيت المال، وقسما من غلات صوافي الاسلام.

ويطول المدى بمن يحاول تعقب ما حواه عهد علي للاشتر. فكفى أنه دستور لسياسة الحكم جاء من المبادئ بكل ما يناسب مجتمع عصره، وبكل ما يبدو وكأنه وضع ليوافق مجتمعنا الحديث. وكفى أنه يعرض لكافة المشكلات ويصف لها الحلول. وكفى أنه يطوف بكل ما يشغل الناس في رحلات حياتهم اليومية ويتصل بجوانبها الروحية والعقلية من عقيدة وعلم وتربية نفسية وسلوك اجتماعي ونظرات ، ويتصل بجوانبها المادية والاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة وإدارة وجهاد وتنمية مالية في مختلف مجالات الاستثمار.

ولا غرو وللامام هذه المقدرة - بل الحاسة السياسية المرهفة التي تستبطن أدواء المشكلات، وتجهز دواء لكل داء - أن نجده ملاذاً للالى عرفوه، يستلهمونه الرشاد. لا فرق فيهم بين كبير وصغير، ولا بين حاكم ومحكوم. وكم استلهمه الخلفاء فألهم، وكم استشاروه فأشار.

عزم عمر بن الخطاب على الشخوص بنفسه لقتال الفرس، ثم رأى أن يسأله رأيه في هذا العزم، فقال له الامام: ... كن قطبا، واستدر الرحى بالعرب. فإنك إن شخصت من هذه الارض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك... إن الاعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك..

وقال له مرة أخرى في مقام كهذا المقام: إنك متى تسر إلى هذا العدو بشخصك فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. فابعث إليهم رجلا محربا، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الاخرى كنت ردء الناس.

حاسة سياسية فوق القدرة، ترفعه من الساسة إلى مكان الصدارة، وتشرف به السياسة، لانه ينزهها عن الغدر والفجر، ويطوع أساليبها لتوافق نهج الدين وتطابق مكارم الاخلاق.

فهل مثله في الفضائل والقدرات امرؤ من الناس؟

أن يكون ثمة طائفة يرون أن يفضلوا عليه هذا الصاحب من أصحاب رسول الله أو ذاك، فرأيهم جديد بالمراجعة والتعديل ; ذلك لاننا نجد من وراء هؤلاء المتشيعين لابي بكر متشيعين يقرون بأفضلية علي، ويظاهرهم على هذه الافضلية الكثرة الغالبة من العلماء وإن تفرقت بهم المذاهب، وتباينت الاراء .

-------------------------------------------------------
[١] . تاريخ ابن عساكر: ج٣ ص٣١١ـ٣١٣ تحت الرقم: ١٣٥٠ـ١٣٥٣.
[٢] . شواهد التنزيل: ج١ ص١٧ ط بيروت ط١.
[٣] . شواهد التنزيل: ج١ ص١٧٧.
[٤] . تاريخ ابن عساكر: ج٣ ص٣١١ـ٣١٣ تحت الرقم: ١٣٥٠ـ١٣٥٣.
[٥] . ينابيع المودة: ص١٨٢ ب٥٢.
[٦] . الطوامير : جمع طامور. والطامور، والطومار: الصحيفة.
[٧] . ص ١٣
[٨] . بهجة المجالس ج١ ص  ٧٥٠
يتبع.....
****************************