الدكتور صبحي الصالح[١]
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المصطفين الأخيار
لمحة خاطفة عن سيرة الإمام عليه السلام
ما من مسلم يجهل موضع على كرم الله وجهه من ابن عمه الرسول الكريم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة: وضعه في حجره وهو ولد يضمه إلى صدره، ويكنفه في فراشه، ويمسه جسده، ويشمه عرفه، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في كل سنة بحراء فيراه علي ولا يراه سواه. ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير الرسول عليه الصلاة والسلام وخديجة أم المؤمنين، وكان علي ثالثهما، يرى نور الوحي والرسالة، ويشم ريح النبوة، وعلي كرم الله وجهه واسى نبيه الكريم بنفسه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتزل فيها الأقدام، نجدة أكرمه الله بها ! وحسبك أنه ليلة الهجرة بات في فراش الرسول غير جازع أن يموت فداه وشهد معه جميع مغازيه إلا ما كان من غزوة تبوك التي خلفه فيها الرسول في أهل بيته قائلا له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبوة بعدي ".
سجل له التاريخ أجل المواقف وأسماها، فهو أحد المبارزين يوم بدر، وقاتل عمرو بن ود في غزوة الخندق، وأحد النفر الذين ثبتوا مع الرسول الكريم في غزوتي أحد وحنين، وصاحب راية المسلمين يوم خيبر، وفيها أبلى أحسن البلاء.
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكرمه، فزوجه ابنته الزهراء في السنة الثانية من الهجرة، فأولدها الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وعهد إليه أن يتلو على الناس في موسم الحج أول سورة التوبة إيذانا ببراءة الله و رسولة من المشركين.
ولما غربت النبوة، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، طمع في خلافته كثيرون من المهاجرين والأنصار، وبدا للناس يومذاك أن بني هاشم كانوا يريدون الخلافة فيهم، ويرون عليا أحق الصحابة بها، لمكانته العظمى من الرسول الكريم، وسعة علمه، ومواقفه الخالدة في نصرة الإسلام، فلا غرو إذا أقبل العباس عم النبي على ابن أخيه علي يقول له: " ابسط يدك ولنبايعك "، لكن عليا كرم الله وجهه تباطأ في قبول هذه البيعة، وظل متشاغلا بدفن الرسول العظيم. وانطفأت الفتنة، وبويع أبو بكر رضي الله عنه بما يشبه الإجماع، وإذا بعلي كرم الله وجهه يبايعه أيضا بعد فترة يسيرة كان عاتبا فيها عليه، إذ كان يرى لنفسه من الحق بالخلافة أكثر مما كان لأبي بكر.
ولم يكن شيء أبغض إلى قلب علي من الخلاف يدب بين المسلمين، فها هو ذا - رغم ما كان يرى من حقه بالخلافة - يبايع أيضا عمر رضي الله عنه، ويزوجه ابنته أم كلثوم، ويبادله عمر من معاني التكريم والإجلال أسماها، فيستخلفه على المدينة إذا غاب عنها، ويستشيره في الخطوب، ويستفتيه في قضايا التشريع قائلا فيه: " لولا على لهلك عمر " !
ولقد رفض عمر أن يعهد بالخلافة إلى ابنه عبد الله من بعده، وظل في مشكلة الخلافة غير مستقر على رأي، حتى إذا طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في أواخر سنة ٢٣ ه آثر أن يحصر الأمر في ستة من كبار أصحاب النبي ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم فيبايعه المسلمون. وأولئك الستة هم: علي بن أبي طالب سيد بني هاشم، وعثمان بن عفان شيخ بني أمية، وطلحة بن عبيد الله كبيرا بني تميم، والزبير بن العوام زعيم بين أسد، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن ابن عوف رأسا بنى زهرة.
وربما مال أكثرهم - منذ بدء الشورى - إلى تولية عثمان، لأن عبد الرحمن بن عوف كان صهره، وسعدا من أقربائه، فضلا على سابقته في الإسلام، وإصهار للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين في ابنتيه رقية وأم كلثوم. وبدا على رجال الشورى أن كلا منهم ود لو يتخفف من تلك المسؤولية الضخمة، إذ خلع كل نفسه وعهد إلى الآخر باختيار الخليفة، حتى إذا انتهى الأمر إلى عبد الرحمن أعلن في الحرم سنة ٢٤ ه تولية عثمان. وامتعض بنو هاشم لتحامل القوم عليهم ورغبتهم في إقصائهم، ولكن عليا الذي يكره الخلاف بين المسلمين آثر هذه المرة أيضا أن يطفئ الفتنة، ويحقن الدماء، فبايع عثمان كما بايع من قبل أبا بكر وعمر، وإن في العين قذى، وفي الحلق شجا.
وقام علي كرم الله وجهه من بين الصحابة يلوم عثمان على تولية أقاربه، ولما ثار عليه المعارضون من عرب الأمصار أرسل علي لحراسته والدفاع عنه ولديه الحسن والحسين، ولكن المتمردين حاصروا دار عثمان، وألزموه أن يخلع نفسه من الخلافة، فحم القضاء، ولقي مصرعه وهو جالس في المحراب يقرأ القرآن.
وانثال على علي عرب الأمصار وأهل بدر والمهاجرون والأنصار، وهرعوا إلي يقولون:
أمير المؤمنين، فلم يجد بدا من قبول الخلافة في ٢٥ من ذي الحجة سنة ٣٥ هـ. ولقد كانت مهمته خطيرة، اضطلع بها قرابة خمس سنين، ولم يصف له الحال فيها يوما واحدا.
وحرض الثوار عليا على عزل العمال الذين عينهم عثمان، فأذعنوا جميعا إلا معاوية فيالشام، فإنه علق قميص عثمان على المنبر،، وغدا يحض الناس على الثأر للخليفة الشهيد.
وفوجىء علي بالسيدة عائشة أم المؤمنين وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - وهما من رجال الشورى الستة - يخرجون إلى البصرة مطالبين بدم عثمان، وازدادت الفتنة اشتعالا حين أخذت أم المؤمنين تخمس الجند وهي في هودجها على الجمل، ثم عقر جملها وقتل دونه سبعون رجلا، وعرف هذا اليوم بموقعة الجمل، وأعاد الإمام السيدة عائشة إلى مكة محاطة بالتكريم. وتابت هي إلى الله أسفا على ما أريق من دماء المسلمين.
ثم كان يوم صفين، وتحكيم الحكمين، ثم بداية الوهن، وتصدع الصفوف بين أتباع علي، وعرف معاوية كيف ينتهز الفرصة بإثارة الاضطرابات في أرجاء البلاد، فازدادت نقمة الخوارج، وقرروا قتل معاوية وعلي، فلم ينجحوا في قتل أولهما، أما علي فقتله ابن ملجم لعنه الله في المسجد في شهر رمضان ستة ٤٠ ه و هو يردد: " الحكم لله لا لك يا علي ".
وبمصرعه انتهت خلافة الراشدين، وخلا الجو لمعاوية ليعلن خلافته بالشام، ويدخل على نظام الحكم مبدأ الوراثة الذي ينافي روح الإسلام.
موضوعات نهج البلاغة
لا بد لدارس " نهج البلاغة " أن يلم بهذه الوقائع التاريخية - ولو من خلال لمحة خاطفة عجلى - ليعرف السر في غروب شمس الخلافة الراشدة بين المسلمين الأولين الذين استَروَحوا شذا النبوة، ونعموا بظلالها الوارفة، واستناروا بما يلوح من أضوائها الباقية وقد بدأت تنحسر بعيد الغروب !
ولا بد لدارس " النهج " أن يلم بهذه الحقائق ليرى رأي العين كيف تحولت هذه الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، وكيف أشعلت من أجلها الحروب الطاحنة، وأثخنت الأمة في سبيلها بالجراح الدامية، وأصيب مقتلها بمصرع إمام الهدى علي كرم الله وجهه، ثم ارتكبت باسمها فيما بعد أسوأ الجرائم في عهود بعض السفهاء والخلعاء والجائرين الذين أمسوا نقمة على أتباع هذا الدين.
ثم لا بد لدارس " النهج " أن يكون لنفسه صورة حقيقة عن تلك الحقبة من تاريخ المسلمين، ليستنبط البواعث النفسية التي حملت عليا على الإكثار في خطبه من النقد والتعريض، والعتاب والتفريع، والتذمر والشكوى، فقد عائدته الأيام، وعجت خلافته عجيجا بالأحداث المريرة، وخابت آماله في تحقيق الإصلاح. فهل من عجب إذا استغرقت معاني النقد اللاذع والتأنيب الجارح معظم خطبه ومناظراته، وحتى رسائله إلى منافسيه والمتمردين عليه ؟ !
وإن خير مثال يصور لنا نفس على الشاكية، خطبته " الشقشقية " التي فاضت على لسانه هادرة، فكانت - كما قال - " شقشقة هدرت ثم قرت "، وامتلأت بألفاظ التأوه والتوجع والأنين.
ولكم تذمر الإمام من تفرق أصحابه عنه على حقهم واجتماع أصحاب معاوية معه على باطلهم ! وكم سماهم " الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم " واصفا كلامهم بأنه " يوهي الصم الصلاب " وفعلهم بأنه " يطمع فيهم الأعداء ".
وكان طبيعيا أن تكبر خطب الإمام في الحث على القتال، فإن ما تخلل حياته السياسة من الأحداث المريرة ألهب مشاعره وأثار عواطفه، وحمله على الإهابة بقومه إلى القتال الدائب. والجهاد المتواصل. ولعل أفضل نمط لخطبه في الجهاد تلك التي أنب فيها أصحابه على قعودهم عن نصرة الحق، يوم أغار جنود معاوية على الأنبار، فقتلوا ونهبوا، ثم آبوا سالمين ظافرين.
لقد كان - كما قال - لا يهدد بالحرب، ولا يرهب بالضرب، وكان على يقين من ربه وغيره شبهة في دينه، فليفرطنّ لحزب الشيطان حوضا هو ماتحُهُ لا يصدرون عنه ولا يعودون إليه. وليوصينّ ابنه محمد بن الحنيفية يوم الجمل بما يجعله بطلا مرهوبا في ساحات القتال: " تزول الجبال ولا تزول، عض على ناجذك، أعر الله جمجمتك، تِد في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه ".
وبأمر الحرب تتصل السياسة، فإن بينهما لعلاقة وثقى، ومن الظلم لشخصية علي أن نتصوره غير متتبع تيارات السياسة في عصره. فقد كان ثاقب الفكر، راجح العقل، بصيرا بمرامي الأمور، وقد أثرت عنه مواقف وأقوال وتصرفات تقوم دليلا على سياسته الحكيمة، وقيادته الرشيدة، لكن مثله العليا تحكمت في حياته، فحالت دون تقبله للواقع ورضاه بأنصاف الحلول، بينما تجسدت تلك الواقعية في خلفه معاوية، وكانت قبل متجسدة على سمو ونبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.
ومن يرجع إلى " نهج البلاغة " يجد فيه عشرات الخطب - مثلما تصح " نماذج " للشكوى والتقريع والنقد - تعطي صورة واضحة عن نظراته الثاقبة وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة، وأساليب حكم الرعية، وإدارة شؤونها، والحرص على دفع الفن عنها، حتى تعيش في بحبوحة العز والرخاء.
ولكي تتدبر هذا الأمر، ما عليك إلا أن تقرأ خطبه لدى بيعته وإعلانه منهاجه في الحكم، أو تستعبد مواقفه من السيدة عائشة أم المؤمنين. ووساطاته بين عثمان والثائرين عليه، وصبره الجميل في معالجة أمر معاوية وأهل الشام، وطول أناته في تفهم آراء شيعته، ومناظرته الخوارج قبل أن يخوض معهم ساحة القتال.
استمع إليه عليه السلام يضبط نفسه عن الانفعال، ويدحض الباطل بحجاج منطقي، وأسلوب يفحم المكابر، حين يقول للخوارج: " فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء "، أو يقول لرجل وفد عليه من قبل أهل البصرة: " أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلإ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا ؟
قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء. فقال له الإمام: " فامدد إذا يدك "، وإذا، الرجل يقول: " فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته ".
وإن " نهج البلاغة " ليضم - إلى جانب الموضوعات السابقة - طائفة من خطب الوصف تبوىء عليا ذروة لا تسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث. ذلك بأن عليا - كما تنطق نصوص " النهج " - قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة. ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور: صور الحياة فأبدع، وشخص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طبائع الرجال وأخلاق النساء، وقد للمنافقين " نماذج " شاخصة وللأبرار أنماطا حية ولم يفلت من ريشته المصورة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا ملك رحيم يوحي الخبرويلهم الرشاد.
على أن المهم في أدب الإمام عليه السلام تصويره الحسيات، وتدقيقه في تناول الجزئيات:
وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين، كما في تصويره البارع للنملة والجرادة ولا سيما للطاووس. ولا بد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلي، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل اكتملت بين أيدينا معالمه، وسنصدره قريبا بعون الله.
أما النملة فقد وصف منها صغرها وحقارة أمرها، مشيدا بدقتها وحسن تصرفها، مسترسلا مع وصفه بأنفاسه الطوال، وأنغامه العذاب، وأخيلته الحصاب: إن النملة في صغر جستها ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، وإنها تدب على الأرض دبيبا، تنصب على الرزق انصبابا، تنقل الحب إلى جحرها، جامعة في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، ولا يفوت عليا أن يصف لنا من النملة شراسيفها وغضاريفها وأطراف أضلاعها المشرفة على بطنها، وما في رأسها من عينها وأذنها، ثم يسوقنا إلى التفكير بعظمة الحالق الذي خلقها، ولم يعنه على خلقها قادر، وفطرها ولم يشركه في فطرتها فاطر !
وأما الجرادة الإمام دقيق أجزائها، ورهيف حواسها، وجامع نزواتها، ويتمهل وهو يصف حمرة عينيها، وضياء حدقتيها، وخفاء سمعها، واستواء فمها، وقوة حسها.
ويتوقف قليلا عند نابيها اللذين بهما تفرض، ومنجليها اللذين بهما تفيض، ويعجب لسلطتها الرهيبة على الزراع في زرعهم، فلو أجلبوا بجمعهم لما استطاعوا لها ذبا ولا دفعا مع أن حجمها لا يزيد على إصبع مستدقة !
ويخم الإمام كلامه هذا بالتذكير بعظمة الخالق الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، ويعنو له خدا ووجها، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا.
وكل هذا ليس بشيء إذا ما قيس بوصف الإمام للطاووس، فما ترك شيئا من شباته إلا وصفه وصفا دقيقا جميلا: فهو يمشي مختالا كأنه يزهو بما منحته الطبيعة من جمال، وقوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية، وألوانه الزاهية المتنوعة تشبه ألوان الربيع أو موشي الحلل " فإن شبهته بما أنبتت الأرض لت: جنى جني من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو مونق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل " !
وإن الإمام ليعجب لشيء في هذا الحيوان لا بد أن يثير العجب حقا: فكلما سقطت منه ريشة نبتت مكانها ريشة جديدة تحمل الألوان نفسها والتقاسيم ذاتها.
ويتطرق الإمام إلى علاقة الطاووس مع أنثاه، ويوضح كيف يدرج إليها مختالا، وينفي زعم من قال: إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تسفحها مدامعه، ويثبت أن الملاقحة عند هذا الظائر لا تختلف عن الملاقحة لدى الفحول المغتلمة للضراب.
وينتهي وصف الطاووس أيضا بالتذكير بعظمة الخالق وحكمته في خلقه، كأن الوصف - مهما يبد مستقلا قائما بنفسه - إنما يخضع للغرض الديني، وللعبرة التي لا بد أن ينبه علي إليها الأسماع والقلوب.
ومن المتوقع - بعد هذا كله، بل قبل هذا كله - أن يدور معظم خطب الإمام حول العليم والإرشاد، إذ كان ربيب الرسول، فنهل العلم من بيت النبوة العظيم.
وكان لزاما - عليه فوق هذا - بحكم الخلافة، وما يفترض في الخليفة من توجيه ووعظ وإرشاد - أن يخطب الناس كل جمعة، ويعرفهم رأي الإسلام الصحيح في الفتن والملمات والأحداث. ومن " هنا كثرت خطبه في التحذير من الفتن، والدعوة إلى الزهد في الحياة الدنيا، والتذكير بالموت هادم اللذات ومفرق الجماعات، ووصف أهوال القيامة والبعث والنشور، والترغيب في الجنة والترهيب من النار.
إن الإمام ليحذر من الفتن التي تدوس بأخفافها، وتطأ بأظلافها، وتقوم على سنابكها، وإنه ليدعو الناس إلى شق أمواج هذه الفتن بسفن النجاة، والتعريج عن طريق المنافرة، ووضع تيجان المفاخرة.
أما الدنيا فغرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكالة غوالة، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعيا، ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف. إنها غرور حائل، وضوء آفل. وظل زائل، وسناه مائل. فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة ؟ وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، ويبقى عليه تبعته وحسابه ؟
فلينظر الناس إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها، ولا يغرنهم كثرة ما يعجبهم فيها لقلة ما يصحبهم منها، وليذكروا دائما أن الدهر موتر قوسه، لا تخطىء سهامه، ولا تؤسى جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب.
وليمنع الناس من اللعب ذكر الموت، فهذا عائد يعود، وآخر بنفسه يجود. ولتصيرن الأجساد شحبة بعد بضّتها، والعظام نخرة بعد قوتها، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقتة بغيب أنبائها.
ولقد كان للناس في رسول الله أسوة حسنة: عرضت عليه الدنيا فأبي أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره. وللناس في علي أسوة حسنة أيضا:
رفع مدرعته حتى استحيا من واقعها. ولما سأله سائل: ألا تنبذها عنك ؟ أجابه: " اعزب عني، فعند الصباح يحمد القوم السّرى " !
وإن عليا كرم الله وجهه لا يرى كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها، " حتى إذا انصرف المشيع، ورجع المتفجع، أقعد في حقرته نجيا لبهته السؤال وعثرة الامتحان. وأعظم ما هنالك نزول الحميم، وتصلية الجحيم، وفورات السعير، وسورات الزفير " !
ومن أطرف ما جادت به قريحة الإمام خطبه في بدء الخلق، وأوضحها في هذا الباب خطبته الطويلة التي استهل بها الشريف الرضي " نهج البلاغة "، وفيها يصف خلق السماوات والأرض وخلق آدم، وخطبته " ذات الأشباح " التي عرض فيها لتصريف الكون وتدبير الخلق، وتناول فيها بالوصف أبراج السماء، وفجاج الأرض، وما حولها من البحار وما تحتها من الماء، ثم خطبته " القاصعة " التي تضمنت تكوين الخليقة، وسجود الملائكة لآدم، واستكبار إبليس عن السجود له، وتحذير الناس " من مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبري ".
وأغراض علي في كتبه ورسائله وعهوده ووصاياه تشبه أغراضه في خطبه شبها شديدا:
كثرت فيها رسائل التعليم والإرشاد. وكتب النقد والتعريض، والعتاب والتفريع، وانضمت إليها بعض الوثائق السياسة والإدارية والقضائية والحربية. ورسائله جميعا مطبوعة بالطابع الخطابي. حتى ليكاد الباحث يعدها خطبا تلقى لا كتبا تدبج، إذ تؤلف فيها الألفاظ المنتقاة , تنق فيها الجمل المحكمات، فينبعث من أجزائها كلها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع.
وإذا تجاوزنا خطب علي ورسائله إلى المختار من حكمه ألقيناه برسل من المعاني المعجزة، والأجوبة المسكتة. ما ينبئ عن غزارة علمه، وصحة تجربته، وعمق إدراكه لحقائق الأشياء.
وحكم علي هذه منها ما جمعه الشريف الرضي تحت عنوان مستقل، نجد فيه مثل قوله " الناس أعداه ما جهلوا "، " ولم يذهب من مالك ما وعظك "، " قيمة كل امرئ ما يحسنه "، " احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع "، ومنها ما أثبت وتناثر ضمن فقرات خطبه.
ووصايا علي الاجتماعية تتجسد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ وحكمه الحسان.
فهو يجلو أبصار صحبه وبصائرهم، ويود لو يغبقهم كأس الحكمة بعد الصبوح.
يحذر هم من العلم الذي لا ينفع " قرب عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه "،" والجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل "، " والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل ".
ويخوفهم عاقبة الظلم والجور " فليس في الجور عوض من العدل ".
ويكره إليهم الشر " فالغالب بالشر مغلوب ".
ويبغض إليهم النقاق، فإنما يخاف عليهم كل منافق الجنان، عالم اللسان، يقول ما يعرفون، ويفعل ما ينكرون.
ويستعظم أمر الخيانة، فإن أعظم الخيانة خيانة الأمة. وأفظع الغش غش الأئمة.
وينتهى عن الإسراف والتبذير، فإنما المال مال الله ! إلا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله.
ويستعيذ بالله من الفقر، فإنه منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت ! والفكرة في خطب علي ورسائله وحكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلونها ترادف الجمل، ويزينها تقابل الألفاظ، وينسقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحس، وألصق بالنفس.
وكان ينبغي لعلي أن تقذف بديهته بتلك الحكم الخالدة. والآراء الثاقبة، بعد أن نهل المعرفة من بيت النبوة، وتوافرت له ثقافة واسعة، وتجربة كاملة، وعبقرية نفاذة إلى بواطن الأمور.
وتتسم أفكار على غالبا بالواقعية، إذ كان يستمد عناصرها من بيئته الاجماعية والجغرافية، فأدبه - من هذه الناحية - مرآة للعصر الذي عاش فيه، صور منه ما قد كان أو ما هو كائن.
ولقد يطيب له أحيانا أن يصور ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره مثالية عصية على التحقيق.
وما من ريب في أن الكتاب والسنة قد رفداه بينبوع ثر لا يغيض، فتأثر بأسلوب القرآن التصويري لدى صاغة خطبه ورسائله، واقتطف من القرآن والحديث كثيرا من الألفاظ والتراكيب والمعاني، وقد حرصنا على إبرازها في فهارس " النهج " من طبعتنا هذه.
وأما عاطفة علي فثائرة جياشة تستمد دوافعها من نفسه الغنية بالانفعالات، وعقيدته الثابتة على الحق، فما تكلم إلا وبه حاجة إلى الكلام، وما خطب إلا ولديه باعث على الخطابة، وإنما تتجلى رهافة حسه في استعماله الألفاظ الحادة، وإكثاره من العبارات الإنشائية كالقسم والتمني الترجي والأمور والنهي والتعجب والاستفهام والإنكار والتوبيخ والتفريع، مصحوبة كلها بترادف بين الفقرات، وتجانس بين الأسجاع، وحرص واضح على النغم والإيقاع.
وخيال علي - فيما يخلعه على موصوفاته من صور زاهيات - ينتزع أكثر ما ينتزع من صميم البيئة العربية إقليمية وفكرية واجتماعية. وتمتاز صور علي بالتشخيص والحركة، ولا سيما حين يتسع خياله ويمتد مجسما الأفكار، ملونا التعابير، باثّاً الحياة في المفردات والتراكيب.
مزايا هذه الطبعة
منذ تصدى الشريف الرضي[٢] لجمع ما تفرق من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام.
ووسمه " بنهج البلاغة ". أقبل العلماء والأدباء على ذلك الكتاب النفيس بين ناسخ له يحفظ نصه في لوح صدره، وشارح له ينسخ الناس عنه تفسيراته وتعليقاته، ولا يحصي إلا الله عدد حفاظ " النهج " ونساخه، أما شراحه في القديم والحديث فقد أربوا على الخمسين[٣] وكان طبيعيا - بعد أن استفاضت شهرة الكتاب، وطبقت الآفاق، وتواتر متنه على ألسنة الأدباء والفضلاء - أن يقل الاختلاف في نصه، وأن ينتقل من جبل إلى جيل برواية تكاد تكون واحدة. وإذا أضفنا إلى شهرته الأدبية ما أحيط به من معاني التعظيم - بل التقديس - ما وقع فيه من التحريف والتصحيف، سواء أكان ذلك في نصه المتداول على حدة، أم في متنه المصحوب ببعض الشروح مسهبة وموجزة.
ولعل شهرة " النهج " - على الصورة التي وصفنا - هي التي حملت المتأخرين من الشراح، كالإمام محمد عبده ومحمد نائل المرصفي، على الاكتفاء بنسخة واحدة خطية عولوا عليها فيما حاولوه من التحقيق أولا والشرح ثانيا. وإنا لندرك أنه لم يكن يسع أحدا من هؤلاء أن يصنع " للنهج " خيرا مما صنع، لأن جمهرة المحققين في أيامهم كانوا إذا وجدوا مخطوطة نشروها على حالها، وأضافوا إليها ما وقع إليهم من الحواشي والشروح، لا يجشّمون أنفسهم عناء البث عن النسخ المختلفة، ومقابلة بعضها ببعض، ضبطا للنص، وتصحيحا للأصل، واختيارا للأدق الأكل , وانسجاما مع أمانة العلم ومنهجية التحقيق.
وإن علينا - مع ذلك - أن نكبر ما قدمه الإمام محمد عبده من خدمة جلى للفكر العربي الاسلامي يوم نشر " نهج البلاغة " وشرحه بإيجاز، مهما تكن الهنات التي أخذها عليه غيرنا أو نأخذها نحن اليوم عليه، فله يرتد الفضل في انتشار هذا الكتاب العظيم الذي بات لا يجهله أحد من الأدباء والمتأدبين. وحسب الشيخ محمد عبده فخرا أن عشرات الطبعات التي نشرت شرفا وغربا ظلت إلى عهد قريب تستند إلى النص الذي أثبته، وتكتفي بالشرح الذي اقتبسه وانتقاه[٤].
لقد طلع علينا منذ سنوات قلائل الأستاذ البحاثة المفضال محمد أبو الفضل إبراهيم بطبعة علمية ممتازة لشرح ابن أبي الحديد في عشرين جزءا، رجع فيها إلى نسخ مخطوطة مصورة عن أصولها المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني، ومكتبة الفاتيكان، والمكتبة الظاهرية،وبعض المكتبات الأخرى العامة والخاصة[٥]، ولم تكن تلك المخطوطات المختلفة كلها كاملة، ولكنها بمجموعها كانت كافية لتقديم أفضل صورة ممكنة " للنهج " متنا وشرحا.
وإفاضتنا في الثناء على هذه الطبعة الأخيرة لا ينبغي أن تحول دون تقريرنا للحقيقة التالية:
وهي أن الغرض الذي رمي إليه الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم هو تحقيق شرح " النهج " وليس تحقيق " النهج " ذاته. أما الغاية التي نتصدى لها، والتي يؤنس جميع الأدباء حاجة إليها، فهي ضبط مجموعة النصوص التي اختارها الشريف الرضي من كلام الإمام ضبطا كاملا مستقلا على حدة، ليتلوها القارئ - باحثا فيها أم متبركا بها - وهو آمن مطمئن إلى صحتها في ذاتها، وليجد فيما ألحق بها من الفهارس العلمية ما يلبي طلبه، ويشفي غلته، ويغنيه عن الشروح الطوال.
والأمانة العلمية تفرض علينا أن نعترف بأن ضبطنا لنص " النهج " لا يرتد إلى امتلاكنا النسخ المخطوطة أو المصورة، ومقابلتنا بعضها ببعض، ومعارضتها بأصل أو أصول اعتمدناها، بقدر ما يرتد إلى إثبات ما نطقت الشروح بحسنه وصوابه. ويظلل من حق الأستاذ محمد إبراهيم - وإن حقق الشرح لا النهج - أن يفخر على الجميع بأنه استجمع من المخطوطات في هذا الصدد ما لم يستجمعه باحث سواه.
ألا وإني بهذا لا أغمط نفسي بنفسي، فمن يقرأ طبعتي هذه بإمعان وتدبر يدرك لا محالة أني رجعت إلى أصول مخطوطة كثيرة تمكنت - بالاستناد إليها - أن أثبت أفضل القراءات وأفص الوجوه، وإن كنت قد جردت نص " النهج " منكل حاشية أو تعقيب أو تفسير أو رمز أو اصطلاح، اكتفاء بالفهارس العشرين التي أبرزت للناس قيمة الكتاب.
وأنما حملني على إيثار هذا الأسلوب في تحقيق " نهج البلاغة " ما لمسته لدى كثير من القراء من ضيق صدورهم برموز التحقيق أو هوام التفسير تستغرق في أسفل كل صفحة أكثر مما يستغرقه أعلاها من الأصول أو المتون. ومن هنا رأيت أن أقسم عملي قسمين، ألبي بهما رغبتين: أما القسم الأول فتحقيق نص " النهج " أدق تحقيق وأوفاه، ألبي به رغبة الذي يريد أن يقرأ كلام الإمام غير شاغل نفسه بتعليقات الشراح. وعلى هذا، جردت النص من كل زيادة طرأت عليه، وأرحت القارئ حتى من رموز النسخ التي استصوبت ما ذهبت إليه. وأما القسم الثاني ففهرسة مفصلة كل التفصيل، ألبي بها رغبات الباحثين فيما اشتمل عليه " ونهج البلاغة " من كنوز فكرية وأدبية ثمينة.
ولسوف يلاحظ الأديب الباحث أن من النادر إلحاق فهارس على هذه الصورة المفصلة بأي كتاب مهما يعظم قدره وتجل مكانته، حتى لكأني أردت أن أوفر على كل باحث كل عناء: أتعبت نفسي ليستريح، راجيا من الله وحده حسن المثوبة وكرم الجزاء. وسوف يجد القارئ طلبته من هذه الفهارس بأقصى سرعة ممكنة، إذ آثرنا طبعها على ورق يختلف لونه عن لون الأصل تسهيلا وتيسيرا.
ولقد رأيت من المناسب أن أبدأ تلك الفهارس العشرين بفهرس الألفاظ الغريبة المشروحة متبعا تعاقب أرقامها في هذه المطبوعة، ولقد نافت هذه الألفاظ على خمسة آلاف، وها هوذا آخر لفظ فيها يحمل الرقم ٥٠٣١، وها هي ذي بمجموعتها تشبه معجما صغيرا يفي بشرح طائفة غير يسيرة من الكلمات الحية الجارية على ألسنة الفصحاء.
واقتصرت في هذا الفهرس الأول على الحد الضروري من الإيضاح والتبيان، وبتأخيري إياه حتى انتهى تحقيق النص أعنت كلا من الطالب والدارس على أن يحاول من تلقاء نفسه أن يفهم معنى كل عبارة من السياق الذي وردت فيه. وإنما يرجع إلى هذا الفهرس حين يضل الطريق أو يخطئ الاستنتاج، وإذا بشر حنا الموجز ينفذه من حيرته، ويصحح له ما عسى أن يقع فيه من الأغاليط.
ومن يقارن بين شرحنا لمعاني الألفاظ الغريبة وشرح الشيخ محمد عبده يخيل إليه أن قدرا كبيرا منها متماثل أو متشابه إلى حد بعيد. والسر في هذا أن كلا منا عول على شرح ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة، وكان لزاما علينا أن نعول عليه لأنه أفضل الشروح. فحيثما تجد تشابها في عبارتينا فإنما مرده إلى اقتباسنا كلينا ما لم يكن بد من استحسانه من أقوال ابن أبي الحديد، وحيثما تقع على تباين في الشرح، أو إسهاب هنا وإيجاز هناك، فمرده ما استقل كل منا بفهمه وتحديده، أو إطلاقه وتقييده. مما عاد إليه أحدنا بنفسه ينقب عنه في بطون المعجمات، ويلتمس الشواهد عليه من لسان العرب.
ولا يسعني هنا أن أكتم حقيقة بنت منها على يقين، سبقني إلى التنبيه عليها منذ أكثر من خمسين عاما محيي الدين الخياط يوم طبع في بيروت " نهج البلاغة " ومعه شرح الأستاذ الإمام، وزيادات اقتبسها الخياط من شرح ابن أبي الحديد، لقد لا حظ هذا الناس الفاضل أن بعض تفسير الشيخ عبده " يكاد يكون منقولا بحرفيته عن شرح ابن أبي الحديد مع أن الشارح قال في مقدمته - وهو صادق فيما يقول - إن لم يتيسر له رؤية شرح من شروح نهج البلاغة، على أن من يتصفح بقية الشرح ويتصفح شرح ابن أبي الحديد يتراءى له أن أحدهما منقول عن الآخر.
وما عزاه الخياط إلى محمد عبده من حرفية في نقل عبارات ابن أبي الحديد أمر صحيح لا ترقى إليه الريبة، وذلك في الوقت نفسه لا ينفي أن الأستاذ الإمام لم ير أي شرح من شروح " النهج " يوم طبع الكتاب أول مرة في المطبعة الأديبة في بيروت. ولو أن محيي الدين الخياط رأي تلك الطبعة البيروتية الأولى لما لاحظ من التشابه بين الشرحين إلا ما وقع مصادقة واتفاقا،فمن المؤكد إذا أن الخياط إنما اطلع على الطبعة المصرية التي اشتملت على زيادات مقتطفة من شرح ابن أبي الحديد، وكان قد تيسر حينذاك للإمام محمد عبده أن يرى هذا الشرح بعد عودته إلى مصر. وليت الإمام في مقدمته للطبعة المصرية أشار إلى هذا، ولو فعل لأزال من صدور الباحثين كل ريبة، ولكنه رحمه الله بصمته التام في هذا الصدد تركنا نتساءل ونحاول التوضيح والتعليل.
على أني واثق بأن الشيخ عبده لم يقرأ شرح ابن أبي الحديد من أوله إلى آخره قراءة دقيقة واعية، وإنما رجع منه إلى ما لم يكن مطمئنا إلى تفسيره في الطبعة البيروتية اطمئنانا كاملا، وبهذا نعلل مغايرة شرح لشرح ابن أبي الحديد في طائفة من الكلمات. ولقد يستطرد ابن أبي الحديد لدى تفسير كلمة أو عبارة، فيستغرق باستطراده صفحات يؤيد بها وجهة نظره بالشواهد والنصوص، وإذا هي عند محمد عبده تناقض ما يقول من غير إنما إلى مواطن الاختلاف، مع أن الأستاذ الإمام يعني نفسه في مواضع أخر يذكر عدد من الوجوه، ويحاول - ولو بإيجاز شديد - أن يقارن بين صور الاختلاف في قراءة اللفظ أو تبيان المدلول.
وذلك يعني في نظرنا أن محمد عبده اطلع على الشرح اطلاعا غير كاف، وربما قرأ بعضه بإمعان حيثما آنس الحاجة، فأما سائر الشرح فقد تصفحه تصفحا، بل لا أستبعد أن يكون مر ببعضه مرورا عابرا غير مجشّمٍ نفسه حتى عناء تصفحه.
ومن الغريب أن علامة كالشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد لما طبع " نهج البلاغة " في مطبعة الاستقامة، ومعه شرح الأستاذ الإمام، لم يجرؤ على تصحيح شيء من تصحيفاته وبعض ما وقع فيه من الأوهام، رغم ما ذكره في مقدمته من زيادته أشياء ذات بال، فبدا لنا هذا اللغوي المعروف معولا كل التعويل على شرح الإمام، غير مكلف نفسه أن يستوثق من أفصح القراءات، وأفضل التأويلات.
وعلى ذلك مضى الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل في طبعة دار الأندلس بيروت، حتى لكأنه صور شرح الأستاذ الإمام تصويرا.
واقتصارنا في فهرس الألفاظ المشروحة على الحد الضروري من الإيضاح لم يأذن لنا بالتعقيب على تلك الهنات والأغاليط فيما أسس على شرح الإمام من طبعات، وإنما اكتفينا بذكر ما بدا لنا أصح الوجوه بعد مراجعتنا أوثق المصادر، ولا مناص لنا هنا من سرد بعض هاتيك الأوهام على سبيل المثال.
يقول على عليه السلام: " وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء " مشبها نفسه - كما يوضح ابن أبي الحديد - بالضوء الثاني، ومشبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضوء الأول ومنبع الأصواء عز وجل بالشمس التي توجب الضوء الأول، فتصبح العبارة بعد التصحيف " كالصنو من الصنو " ويمسي معناها: الصنوان النخلتان يجمعهما أصل واحد، فإنما علي من جرثومة الرسول "[٦]. ولو أن محمد عبده قرأ شرح ابن أبي الحديد لهذه العبارة لأخذ به إن اقتنع، أو لأشار إليه إن لم يقتنع، لكنه لم يشر إليه قط، ولعل لم يقع عليه.
ويقول على كرم الله وجهه في صفة قوم: " فتألّوا على الله " والمراد أنهم حلفوا، من الألية وهي اليمين، وإذا العبارة عند الأستاذ الإمام " فتأولوا على الله " غير واضحة المعنى ولا بينة المدلول[٧]. والمرأة عقرب حلوة اللسبة ( أي اللسعة ) باتت حلوة اللبسة ( أي حالة من حالات اللبس )[٨] ، والرجل لم تظهر منه حوية ( وهي الإثم ) صار " لم تظهر منه خزية " تصحيفا[٩]، والرجل لا يؤمن على جباية (أي تحصيل أموال الخراج وغيرها ) بات بعد التصحيف " لا يؤمن على خيانة "[١٠] مع أنه في الحاشية يقرر أن رواية " الجباية " أظهر معنى !
بهذه الملاحظة الأخيرة نشير إلى إثبات الشيخ عبده في المتن ما يستحسن في الحاشية سواه نصا و شرحا: ومن ذلك أن يثبت في المتن: " وبنا انفجرتم عن السرار " ويشرحها في الحاشية ثم يقول: " ويروى أفجرتم، بدل انفجرتم " وهو أفصح وأوضح، لأن " انفعل " لا يأتي لغير المطاوعة إلا نادرا، أما أفعل فيأتي لصيرورة الشيء إلى حال لم يكن عليها... الخ "وما أدري لماذا أهمل الأفصح والأوضح،وأثبت في المتن ما كان في نظره غير فصيح ![١١]
ومن ذلك أيضا أنه ذكر في المتن " يذري الروايات إذراء الريح الهشيم "، ويشرحها في الحاشية ثم يقول: " ويروى: يذرو الروايات كما تذرو الريح الهيثم، وهي أفصح، " قال الله تعالى: " فأصبح هشيما تذروه الرياح "[١٢] ونحن نتساءل مرة أخرى: ما الحكمة في إغفاله ما يعرفه فصيحا بل أفصح الفصيح ؟
وأدهى من ذلك وأمر أن الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل - في طبعة المبنية على شرح الأستاذ الإمام - يبلغ به التساهل مبلغا لا يحسد عليه، فهو يختار في المتن عبارة ويشرح غيرها في الحاشية، فما يدري أحد بأي مقياس ثم له الاختيار: ها هو ذا يثبت في المتين " وضرب على قلبه بالإسهاب " ويعلق في الحاشية بقوله[١٣]: " الأسداد جمع سد، يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد، قال الله تعالى " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ثم يقول: ويروى " الإسهاب " وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام ! ! !
ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نتقصى ما وهم فيه سيد الأهل في طبعته، سواء أكان سببه محاكاته غالبا وجده في شرح الإمام محمد عبده، أم تصحيفا لم ينتبه إليه، أم غلطا وقع فيه.
إنه ليثبت ويشرح " النباتات البدوية "[١٤]، وإنما هي ( النابتات العذية ) أي التي تنبت عذيا، والعذي - بسكون الذال - الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر. ويجعل " منافثة " الحكماء - بالثاء - " مناقشة " بينهم، بالشين[١٥]، ويصير " الخنوع " بالنون " الخشوع "[١٦] بالشين، وينسى التعبير القرآني " يلبسون الحق بالباطل " أي يخلطون أحدهما بالآخر، ليضع مكانه " يلتسمون "[١٧]، وبيني للمجهول " نسلت القرون "[١٨] والفصيح ف ؟ ؟ " نسلت " بالبناء للمعلوم، ويشدد اللام في " يثل " من قول الإمام " ولا يثل من عاداه "[١٩]وصوابها من غير تشديد من " وأل يئل ": أي نجا ينجو.
وأغرب من هذا كله تشديده الياء مرتين، بصورة تلفت النظر، إذ أثبت قول الإمام هكذا: " أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة " وحاشا للإمام أن يجمع السنة في حال الجر بياء مشددة، وليس هذا من التطبيع في شيء، لأنه - كما قلت - تكرر مرتين ! وما أردت بتعليقاتي هذه نقدا ولا تجريحا، ولكني وددت - من خلالها - أن يميط القراء اللثام عن سر اهتمامي الشديد بالفهرس الأول الذي شرحت فيه ألفاظ " النهج " الغريبة، مستوثقا من أدق المتون والشروح.
أما الفهرس الثاني فعقدته للموضوعات العامة مرتبة على حروف المعجم، وهو من أهم الفهارس التي وضعتها لخدمة أغراض " النهج، وقد كان وحده كافيا لإبراز الفكر العميقة التي بثها الإمام كرم الله وجهه في خطبه ورسائله ووصاياه، لكني أردت مزيد التفصيل والتجزئة والتحليل حين أتبعته بالفهارس التي سأتحدث عنها بعد قليل.
ومما يجدر ذكره أن مثل هذا الفهرس العام لم يطبع - فيما نعلم - مع " النهج " ولا مع شرحه، لا في مصر ولا الشام ولا إيران ولا سواها من البلدان، مع أن أحدا من الباحثين لا يجهل أهميته للأدباء والمتأدبين. ونود منذ الآن أن نفرق بينه وبين الكتاب الذي وضعه السيد جواد المصطفوي الخراساني وطبعه في إيان، وسماه " الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه ".
ذلك بأن هذا " الكاشف " - كما تنبىء تسميته، وكما أراده مؤلفه - إنما يرشد القارئ إلى أي لفظ أراد من " النهج " في أي متن أو شرح، وذاك عمل لفظي شكلي كما ترى، وإنما كان الذي توخيناه في فهرسنا الثاني هذا عملا علميا يتعلق بجوهر " النهج " في طائفة لا يستهان بها من الألفاظ الدوال على معان مهمة مشفوعة بأبرز استعمالاتها في تعبير الإمام عليه السلام، كأقواله في المرأة، أو نظراته في الحرب والسلم، أو آرائه في العقيدة، أو وصاياه في الزهد، أو تعاليمه في الأخلاق، فما يطوف ببالك شيء من هذا كله إلا وجدته مرتبا على حروف المعجم من خلال الكلمات التي تبحث عنها وتريد ان تستجمع فيها أغراض علي الأدبية.
ولئن أشبه " الكاشف " الذي وضعه الخراساني " المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي " الذي أشرف عليه المستشرق فنسك - إذا كل منهما عمل لفظي بحث - فإن فهرسنا هذا للموضوعات يشبه - والقياس مع الفارق طبعا - " تفصيل آيات القرآن " الذي وضعه المستشرق جول لابوم ونقله من الفرنسية محمد فواد عبد الباقي. وعملنا هذا - وإن تعلق بنهج البلاغة لا بكتاب الله - سوف يبدو للباحثين أكثر موضوعية، وأيسر استعمالا، وسوف يتيح للباحثين أن يجدوا في " النهج " ما يصبون إليه براحة واطمئنان، ولا سيما إذا ضمت إليه الفهارس الباقية التي تفصل ما أطلق، وتخصص ما عم، وتجعل الانتفاع بالكتاب أمرا شائعا على جميع المستويات.
وفي الفهرس التاليين بعد ذلك سوف يزداد القارئ أو الناقد أو الباحث شعورا بالراحة والاطمئنان، فأحدهما - وهو الفهرس الثالث - يتعلق بخطب الإمام، والآخر - الرابع - يتعلق برسائله وكتبه، وبدلا من أن نكتفي بذكر الصفحات التي استهلت بها كل خطبة أو رسالة، رتبناها جميعا بحسب الموضوعات والأغراض. فمن خطب في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد والتعريض، أو في العتاب والتقريع، أو ي الشكوى، أو في الحث على القتال، أو الوصف، أو بدء الخلق، أو التزهيد في الدنيا. وقد اصطلحنا حينئذ على أن نذكر رقم الخطبة ورقم الصفحة التي استهلت وختمت بها مع بيان أول عبارة وآخر عبارة فيها. وكذلك فعلنا في الرسائل، فمن رسائل في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد، أو في الحرب، أو السياسة، أو القضاء، وسواها من الموضوعات. وإذا ذكرنا أن معظم " النهج " خطب ورسائل، ومعها الأجوبة المسكتة بعد ذاك، وهي قليلة، أدركنا أهمية الفهرس المعقود للخطب وأنواعها، ثم للرسائل وأنواعها، وأحلنا دارس الخطابة أو نثر الرسائل في صدر الإسلام على نهج واضح مستقيم.
وفي خطب علي خاصة فريدة لا تكاد تفارقها، وهي كثرة اقتباسه من القرآن المجيد والحديث الشريف. لذلك خصصنا الفهرس الخامس للآيات القرآنية، والسادس للأحاديث النبوية، لإبراز الثقافة الإسلامية التي كان الإمام عليه السلام يمثلها خير التمثيل، فقد رأى نور الوحي، وربي في بيت النبوة، ووعت ذاكرته القوية كثيرا من ألفاظ القرآن والسنة، حتى انطبع أسلوبه بطابع عجيب يعلو على أساليب البلغاء من البشر في القديم والحديث.
ومن المعروف أن الاقتباس من كتاب الله وحديث نبيه جائز، حتى ولو اقتطع المقتبس موضع الشاهد المناسب من أواخر الآية أو أواسطها، أو اختار عبارات من الحديث أو ألفاظا.
وقد كان من دلائل جواز الاقتباس عند بعض البلاغيين أن الإمام عليه السلام أكثر منه في كلامه، وهو حجة، فلا مسوغ للتساؤل عن اقتطافه كرم الله وجهه ألفاظا وتركه ألفاظا أخر، ما دام غير قاصد إلى النقل الحرفي، وإنما كان قاصدا إلى طبع أسلوبه بطابع إسلامي صريح. ولذلك جعلنا هذه المقتطفات القرآنية والنبوية بين مزدوجين هكذا "... )، ورددنا الآيات إلى وجهها في التلاوة في فهرسها الخاص. ولا حظنا - بصورة مؤكدة - أن بعض أحاديث الرسول عزيت إلى على، ولا بد من التحقيق قبل الحكم في هذه القضية بسلب أو إيجاب.
ولما صنعنا الفهرس السابع للعقائد الدينية، والفهرس الثامن للأحكام الشرعية، لم نعجب لقلة الأحكام إذا ما قيست بالعقائد، لأن كتابا كالنهج يجمعه الشريف الرضي من أقوال الإمام عليه السلام يفترض فيه أن يكثر مضمونه في مسائل العقيدة، وألا يتطرق من مسائل الفقه والتشريع إلا لما جاء عرضا أو كانت صلته بالعقيدة أوثق منها بالأحكام.
ولعلنا - في ضوء هذه الفكرة - نقف على السر فيما انبث أثناء خطب الإمام في " الإلهيات " من عبارات شبيهة بالفلسفية والكلامية، كالأين والكيف، والحد المحدود، وصفات الله النفسية بوجه خاص، وهي التي عقدنا لها الفهرس التاسع نجمع فيه بين يدي الدارس ما يحلل به العوامل والأسباب التي أتاحت لمثل علي في صدر الإسلام أن يطلق بعض هذه الألفاظ الاصطلاحية، سابقا بها نظرات المتكلمين.
ولسنا نريد بهذا أن نومىء إلى " وضع " الخطب المشتملة على هذه الألفاظ برمتها، ولا إلى الحكم العاجل " بصحتها " من غير تحقيق، فمثل هذه الدراسة تحوج إلى كتاب خاص يتناول جميع ما أورده النقاد من شبهات تشكك في نسبة هذه الخطب - كلا أو بعضا - إلى الإمام عليه السلام. وهو عمل كنت تجشمت القيام بكثير منه منذ اخترت لطلابي في كلية الآداب تدريس " نهج البلاغة " على أنه نموذج للنثر الفني في صدر الإسلام. ولا أستطيع الآن أن أصرح - لأني منذ سنوات لا أزال منكبا على هذا الموضوع - إلا بأن معظم خطب النهج ورسائله في عدد من أمهات الكتب التاريخية، نذكر الآن في طليعتها تاريخ ابن جرير الطبري. ولنا رجعة إلى درس هذه القضية في كتاب خاص نستخرج به إن شاء الله مصادر الشريف الرضي فيما جمعه من كلام الإمام.
وقد رأينا من المفيد أن نعقد الفهرس العاشر للتعاليم والوصايا الاجتماعية، والحادي عشر للأدعية والابتهالات، والثاني عشر للأبيات الشعرية، نسجلها كما وردت متعاقبا في مطبوعتنا هذه، إبرازا لأهميتها، وتيسيرا على الباحث الذي يعنيه أن يتقصاها.
أما الفهارس المتتابعة بعد ذلك ابتداء من الفهرس الثالث عشر حتى التاسع عشر فقد آثرنا - تعميما للفائدة - ترتيبها على حروف المعجم، ووجدنا أن ذكرها لا يخلو من جدوى ولو كان معظمها نزرا يسيرا. وقد خصصنا الفهرس الثالث عشر للأعلام من الرجال والنساء والقبائل والطوائف والشعوب، والرابع عشر للحيوان، والخامس عشر للنبات، والسادس عشر للكواكب والأفلاك، والثامن عشر للأماكن والبلدان، والتاسع عشر للوقائع التاريخية.
وهكذا بدا للقارئ أو الباحث أنه - من غير أن يتكلف التعمق في تقصي الشروح - يوشك أن يجد مبتغاه كله في هذه الفهارس التي لم تغادر شيئا إلا بينه أحسن التبيان.
وكان طبيعيا أن تكون خاتمة هذه الفهارس جميعا الفهرس العشرين الذي فصلت فيه مواد الكتاب تفصيلا على ترتيب صفحاتها في هذه الطبعة، ليكون كل شيء بين يدي القراء واضحا كل الوضوح.
كلمة شكر
والآن - وقد أذن الله لهذه الطبعة الجديدة أن تبصر النور بهذه الحلة القشيبة، وهذا الإخراج الفني الجميل - لا يسعني إلا أن أشكر القائمين على مطبعة دار الكتاب اللبناني من موظفين ومستخدمين وعمال، كفاء ما بذلوه من عناية بطبع " النهج " حتى كاد يخلو من التطبيع، ولله المنة والفضل.
ولقد أعانني في التصحيح صديق أعتز به وأفاخر بأخوته، هو الأستاذ يوسف أبو حلقة الذي قرأ الكتاب كله كلمة كلمة. فله أجزل شكري وأوفر امتناني.
نداء لأمة الإسلام إن حبي للإمام علي عليه السلام، ولآل البيت الطيبين الطاهرين، ولكل مجاهد مخلص يرفع راية الإسلام، ليد عوني اليوم - وقد من الله علي بخدمة " النهج " ابتغاء وجهه الكريم - لمناشدة المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها إلى الانضواء تحت لواء التوحيد، فلقد تعاقب على مصرع إمام الهدى ومصرع ابنه شهيد كربلاء أكثر من ثلاثة عشر قرنا انفصمت خلالها بين المسلمين عرى الوحدة، وكثرت الفرق، وتشعبت الآراء، وإن على المؤرخ المنصف اليوم - بأي مذهب أخذ، وإلى أي فرقة انتمى - أن يكشف الحقائق لا انتصارا لفريق على فريق، بل دعوة خيرة إلى تناسي تلك المآسي الداميات.
ألا وإن الوحدة بين جميع المسلمين - في ظل دين التوحيد - كانت في أشد الفتن اضطراما وفي أشد الظروف سوادا وقتاماً، أصلا جامعا كبيرا بين أفراد الأمة كلها، فها هو ذا القرآن يسرد طائفة من قصص الرسل في سورة الأنبياء ثم يخاطب أمة الإسلام قائلا: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون "، ثم يوضح في سورة المؤمنين أنه قد خاطب جميع الأنبياء بهذه الوحدة الجامعة للأمة: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون ".
إن الانقسام المذهبي بين المسلمين قد ارتدى - في نظرنا - لبوس نزاع سياسي قديم يعده اليوم عقلاء السنة والشيعة عندنا " متحفيّاً " إلى أبعد الحدود.
ولقد انقشعت السحب الحفاف العوابر - في السنين الأخيرة - بين أبناء هذه العقيدة السمحة الواحدة، بما اتخذه المسؤولون الكبار في مختلف البلدان الإسلامية من خطوات إيجابية نحو التقارب والتوحيد. فها هوذا الأزهر الشريف يدرس في معاهده وكلياته العظمى الفقه الجعفري، وعقائد الشيعة الإمامية، جنبا إلى جنب مع مذاهب الإسلام المختلفة في العقيدة والشريعة، مؤكدا للمسلمين جميعا إن الإسلام فوق الفرق والشيع والمذاهب كلها، وأن معالم العقيدة الدينية مبرأة من التعقيد، وأن طبيعتها تقتضي إيجاد الحلول العملية الإيجابية التي تحرك الوجدان، وتستجيش الضمير، وتدفع بالطاقات البشرية إلى البناء والتعمير، على هدي من الفكر النير والمنطق السليم: فلا مكان في هذه التشريعات والعقائد للثرثرة الفارغة والجدل العقيم ! إن على علماء المسلمين اليوم - من أي مذهب كانوا - أن يستذكروا الكلمات الحلوة العذاب، التي توحد الصف، وتلم الشعث، وترأب الصدع، حتى نعتصم جميعا بحبل الله غير متفرقين.
وأود أن يعلم إخواننا من شيعة علي عليه السلام أن مكان الإمام من ابن عمه الرسول الكريم لا يجهلها مسلم، وأن الأحاديث النبوية التي تصف منزلته الخصيصة لا يحصيها المحصون.
ولكن الناس أعداء ما جهلوا كما قال علي كرم الله وجهه.
أن مما أفضى به الإمام إلى عشيرته قوله: " أما وصيتي: فالله لا تشركوا به شيئا، ومحمدا فلا تضيعوا سنته. أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين ".
ولما حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسد فواره من ينبوعه، وجدحوا بين علي وبينهم شربا وبيئا، أقبل الظالم منهم مزيدا كالتيار لا يبالي ما غرق، وأو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق، ولما رأي أول القوم قائدا لآخرهم، وآخرهم مقتديا بأولهم، يتنافسون في دينا دنية، ويتكالبون على جيفة نتنة، نبه الأتباع والمتبوعين وهتف بهم:
" عما قليل ليستبرَّ أن التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتز ؟ ؟ ؟ ؟ بالبغضاء ويتلاعنون عند اللقاء " بينما هتف بأصحابه يدعوهم إلى وحدة الكملة: " الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة، واقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين ".
بل أنشأ الإمام عليه السلام يصنف الناس في موقفهم منه أصنافا، تهدئة للمشاعر الثائرة، وكبحا لجماح النفوس: إنه هو الذي قال: " إن الناس من هذه الأمر إذا حرك على أمور:
فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها ".
وحتى يوم صفين لم يكن يشغل باله ويقلق خاطره إلا تفرق الأمة وضياع الدين، ففي خطابه لأصحابه يومذاك قال: " ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم ".
وكان يخشى على أصحابه - إن أفرطوا في حبه - أن يضيعوا دينهم، وعلى أعدائه - إن أفرطوا في بعضه - أن يخسروا كل شيء: " هلك في رجلان: محب غال، ومبغض قال ".
وفي خطابه للخوارج - لما أقام عليهم الحجة - أوضح هذا الكلام الموجز بعبارة مفصلة بليغة حين قال: " سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالا النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة ! فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا إلى مثل هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه ".
وبعد: فيا دعاة الوحدة بين جميع المسلمين:
" لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فمن سلك الطريق الواضح ورد الماء ومن خالف وقع في التيه ! "
بيروت، في ذكرى عاشوراء سنة ١٣٨٧ هـ.
صبحي الصالح