وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
نظرة موضوعية تحليلية لكتاب نهج البلاغة - الثاني

أهم الاعتراضات على كتاب نهج البلاغة
 

الاعتراض الأول : طول النصوص وتعذر حفظها
ويتضح هذا الاعتراض جليا عند دراسة الباب الأول من الكتاب والذي ضم كثيرا من الخطب الطويلة التي يعجز الرواة عن حفظها ونقلها شفهيا ، فذاكرة الإنسان لا تسعفه لحفظ نص من ثلاث جمل فكيف حفظ الرواة نصوصا يبلغ طولها عدة صفحات ؟

وقد أجاب المدافعون عن صحة نصوص الكتاب على هذا الاعتراض بجوابين :
١ – أن ذاكرة الرواة كانت قوية بشكل كاف لحفظ نصوص الخطب
٢ – وأن كثيرا من الرواة كانوا يكتبون نصوص الخطب عند سماعها فلم يكونوا محتاجين لحفظها في أذهانهم .
والجواب الأول غير صحيح على الإطلاق فقد وردت روايات متعددة تثبت عجز الرواة عن نقل الأحاديث القصيرة اعتمادا على الذاكرة واستئذانهم الأئمة في رواية الأخبار بالمعنى ، فقد قال الصادق (ع) : (إذا أصبت الحديث فأعرب عنه بما شئت) .

وقال لما سئل عن نقل الحديث بالمعنى : (إن أصبت فيه فلا بأس ، إنما هو بمنزلة تعال وهلم واقعد واجلس) ، وعن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبدالله (ع) : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال : (إن كنت تريد معانيه فلا بأس) . وقال رسول الله (ص) : (لا بأس في الحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه) ، وعنه (ص) : (لا بأس إن زدت أو نقصت إذا لم تحل حراما أو تحرم حلالا وأصبت المعنى) . وعن داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : إني أسمع منك الكلام فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجئ ؟ قال : (فتعمد ذلك) ؟ قلت : لا . فقال : (تريد المعاني) ؟ قلت : نعم . قال : (فلا بأس) . فهذا كله يثبت عجز الرواة عن حفظ أحاديث الأئمة القصيرة فضلا عن الخطب الطويلة ، ومما يزيد جوابهم هذا ضعفا أن إحدى خطب النهج محتوية على آية قرآنية منقولة بشكل خاطئ فيرد فيها على لسان الإمام أن القرآن الكريم يقول : (فيه تبيان كل شئ) مع أن الآية الصحيحة هي (تبيانا لكل شئ) ولو كانت ذاكرة الرواة كافية لحفظ الخطبة كما جاءت لكان حفظ الآية القرآنية أسهل عليهم .

ومن أخطأ في حفظ آية تتكرر مرارا وتكرارا فسيخطئ حتما في حفظ ما هو أطول منها مما لم يسمعه إلا مرة واحدة .
وأما الجواب الثاني فأضعف من الأول لأن كثيرا من الخطب ألقيت في ساحة الحرب أو في مواقف مفاجئة مما لا يتسع المجال فيه لإحضار الأدوات اللازمة للكتابة ، ولأنه ثبت في نصوص كثيرة اعتماد الرواة على الحفظ دون الكتابة في التحديث بأحاديث الأئمة ، وقد مر ذكر بعض هذه الأدلة في التعليق على الجواب الأول وهنا مزيد من الأدلة :
فقد روى الكليني في روضة الكافي عن علي بن أبي أسباط عن محمد بن الحسين قال : سمعت الرضا عليه السلام بخراسان وهو يقول : (إنا أهل بيت ورثنا العفو من آل يعقوب وورثنا الشكر من آل داود) . قال علي بن أسباط : وزعم محمد بن الحسين أنه كان فيها كلمة أخرى ونسيها ، فقلت له (أي قال علي بن أسباط لمحمد بن الحسين) : لعله قال "وورثنا الصبر من آل آيوب" ؟ فقال محمد : ينبغي ! فلو كان يقرأ من كتابه لما وقع في الوهم .
وروى ابن قولويه في كامل الزيارات عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (ع) قال : (من أنشد في الحسين بيتا فبكى فله الجنة) . قال صالح : وأظنه قال (أو تباكى) .
وفي محاسن البرقي عن داود الرقي قال : سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إفطارك في منزل أخيك المسلم أفضل من صيامك سبعين ضعفا ، أو قال : تسعين ضعفا .
وفي المحاسن عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) : كلوا الكراث فإن مثله في البقول كمثل الخبز في سائر الطعام . أو قال : الإدام . الشك مني .
ولم يقتصر الرواة على الشك والوهم في متن الروايات فحسب بل تعدى إلى الوهم في تذكر الرواة الذين نقلوا الرواية ، ومن الأمثلة على ذلك في الكافي : عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن بعض أصحابه أظنه محمد بن عبد الله بن هلال أو علي بن الحكم عن العلاء بن رزين . وفي الكافي أيضا : عن محمد بن موسى عن علي بن الحسن الهمداني عن محمد عن محمد بن عمرو بن إبراهيم عن أبي جعفر أو أبي الحسن عليهما السلام . الوهم من محمد بن موسى .
فهذه الروايات تثبت أن الرواة كانوا يعتمدون على الحفظ لا الكتابة في رواية الأحاديث وهي طريقة ضعيفة جدا في توثيق النصوص خصوصا مع إذن الأئمة لهم بنقل الأخبار بالمعنى مما لا يبقي قيمة لغوية للنص المنقول .
الاعتراض الثاني : وجود تصحيفات متعددة في نسخ الكتب التي نقل منها الشريف الرضي النصوص
وهذا اعتراض يواجه معظم نصوص البابين الأول والثاني لأن مؤلفي الكتب كانوا يتصرفون في نقل النصوص من الكتب المتقدمة عليهم ولا ينقلونها بشكل حرفي بسبب سوء النسخ وتشوهها عبر الزمن ، وعلى سبيل المثال فقد جمع أحد رواة الشيعة وهو صفوان بن يحيى البجلي (توفي عام ٢١٠هـ) عددا من الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) ومن بين هذه الأحاديث وصية الإمام علي بن أبي طالب في أملاكه بعد موته ، فنقل الشريف الرضي هذه الوصية في النهج (النص رقم ٢٤ من الباب الثاني) ونقلها الكليني في كتابه الكافي والشيخ الطوسي في كتابه التهذيب كلهم عن صفوان بنصوص مختلفة بزيادات ونقص وتصحيفات متعددة مع أنهم ينقلون من نفس الكتاب ، وأيضا فقد رويت الوصية في مصنف عبد الرزاق الصنعاني بصيغة أخرى تختلف عن صيغها في النهج والكافي والتهذيب مما يتعذر معه تحديد النص الأصلي الذي قاله الإمام .
ومن الملاحظات المنهجية على الشريف الرضي أنه يعمد إلى هذه النصوص التي وقع فيها التصحيف أو التي نقلت بصورة مشوهة مختلفة عن النص الأصلي فيقوم بتحريفها إلى صورة جديدة ويدعي أنها تحتوي على بلاغة لفظية رفيعة ، وقد تكرر منه هذا التصرف في عدة مواطن منها ما ورد في الوصية المذكورة في الفقرة السابقة حيث أوصى الإمام ابنه الحسن بالحفاظ على نخيله في بعض القرى (وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى "يسد أرضها غراسها") . فصحفها الشريف الرضي إلى (وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى "تشكل أرضها غراسا") ثم قال الشريف الرضي : (وقوله عليه السلام "حتى تشكل أرضها غراسا" هو من أفصح الكلام ، والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها) . فالبلاغة لم تصدر من النص وإنما من التصحيف الذي وقع فيه الشريف الرضي .
ونقل الآجري في كتاب الشريعة أن علي بن أبي طالب لما عزم على حرب الخوارج وقيل له "إنهم قد عبروا جسر النهروان" فقال : (مصارعهم دون النهر) . فنقلها الشريف الرضي في الخطبة رقم ٥٩ من الباب الأول مع تصحيفها إلى (مصارعهم دون النطفة) ثم قال الشريف : (يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا) .
وروى الآمدي في غرر الحكم عن الإمام علي (ألا وإن الدنيا دار لا يُسلم منها إلا بالزهد فيها) فنقلها الشريف الرضي (ألا وإن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها) وأسهب ابن أبي الحديد في شرح هذه العبارة وتفسيرها مع أنها مصحفة عن نصها الأصلي .
وهذه التصحيفات المتكررة تورث الشك في أصالة صدور أي نص منقول في النهج لأن احتمال التصحيف قائم ، والنص الذي ينجو من التصحيف قد لا ينجو من التغيير والوهم بسبب اتكال الرواة على الذاكرة في نقل النصوص .
الاعتراض الثالث : ثبوت بعض هذه النصوص عن قائلين آخرين
وهذا الاعتراض يبدو واضحا في نصوص القسم الثالث من الكتب (قصار الحكم) ، فكثير منها منسوب في مصادر أصلية متقدمة على النهج إلى أشخاص آخرين غير الإمام علي دون أن يوجد مصدر آخر ينسب هذه النصوص إلى الإمام علي قبل ظهور النهج ، ومن هذه النصوص :
١ – (كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب) . وهذا حديث مروي عن الرسول الأعظم (ص) رواه الإمام الحاكم في مستدركه (انتهى من تأليفه المستدرك قبل عام ٣٧٣هـ) . وقد زعم مؤلف (مصادر نهج البلاغة) أن أبا حيان التوحيدي نسب هذه العبارة إلى علي بن أبي طالب في كتاب الإمتاع والمؤانسة وهذا كلام لا يمت للحقيقة بصلة ، فقد نسبها أبو حيان في كتابه المذكور إلى حذيفة ، وهو الراوي الذي نقلها عنه الحاكم في مستدركه .
٢ - ( اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم ويتكلم من خرم) وهذه العبارة – على ركاكتها وأخطائها - منقولة عن ابن سماك كما في البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (توفي قرابة ٣٨٨هـ).
٣ – (خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا عليكم) وهذه العبارة مروية عن الأصمعي أن جده أوصاهم بها عند موته ونقلها عنه ابن أبي الدنيا (توفي عام ٢٨١هـ) ، ونسبها الشيخ الصدوق في الفقيه إلى الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لابنه محمد بن الحنفية ولكن الوصية جاءت بصيغة الجمع وابن الحنفية فرد واحد مما يقوي نسبتها إلى جد الأصمعي .
٤ – (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر)
٥ – (ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) . أوردهما المعافى بن زكريا (توفي عام ٣٩٠هـ) في خطبة لأبي جعفر المنصور بعد قتل أبي مسلم الخراساني بلفظ : (لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر) و (إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره) .
٦ – (من جرى في عنان أمله عثر بأجله) . رواها الراغب الأصفهاني (ولد عام ٣٤٣هـ واختلف في سنة وفاته) عن الرسول الأعظم في محاضرات الأدباء بلفظ (من جرى في عنان أمله فعاثر لا شك بأجله) .
٧ - (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وهذا حديث مشهور عن الرسول الأعظم (ص) ومذكور في مصادر كثيرة جدا ، وقد تعصب مؤلف (مصادر نهج البلاغة) في الدفاع عن الشريف الرضي وأكّد بأن الشريف الرضي وقف على مصدر آخر ينسب العبارة إلى الإمام علي فقال : (ونحن لا نشك – علم الله – أن الرضي روى ما رأى وأورد ما وجد) وهذا دفاع متحيز جدا لأن الشريف الرضي أورد نفس هذه العبارة بعينها ونسبها إلى الرسول (ص) في كتابه المجازات النبوية ، ولاحظ مجازفة صاحب المصادر أنه يُشهد الله على أن الشريف الرضي اطلع على هذا المصدر المفقود مع أن تصرف الشريف الرضي لا يعدو أن يكون وهما في أحسن أحواله .
٨ - (إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره) وهذه الرواية مشهورة عن الإمام سلمة بن دينار واعظ أهل المدينة وقد أثبتها عنه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر والسامري في كتاب فضيلة الشكر بإسنادين صحيحين .
٩ – (أفضل الزهد إخفاء الزهد) أثبتها أبو بكر الدينوري (توفي عام ٣٣٠هـ) من كلام وهيب بن الورد في كتاب المجالسة .
١٠ – (الحذر الحذر فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر) أثبتها الراغب الأصفهاني – على ركاكة ألفاظها - في محاضرات الأدباء من كلام ابن السماك بلفظ (ولقد ستر حتى كأنه غفر) .
١١ – (من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون) . نقلها أبو بكر الدينوري عن بعض أهل المدينة في كتابه المجالسة .
١٢ – (من أطال الأمل أساء العمل) نقلها ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري في كتاب قصر الأمل .
١٣ – (لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه) أثبتها أبو بكر الدينوري في كتاب المجالسة من أقوال الحسن البصري .
فهذه ثلاثة عشر نصا ثبت نسبتها إلى أشخاص غير الإمام علي مع عدم وجود مصادر تثبتها من قول الإمام قبل ظهور النهج ، وقد عثرت عليها ضمن أول أربعين نصا من نصوص الباب الثالث ونستنتج بذلك أن قرابة ثلث النصوص المفحوصة في الباب الثالث في النهج ثابتة النسبة إلى قائلين آخرين غير الإمام علي . وحتى لو لم تتم نسبة بعض من هذه النصوص إلى قائلين آخرين فإن الجزم بنسبة أي نص من هذه النصوص إلى قائل معين أمر متعذر ، وترتيب النتائج عليه بوصف القائل بالحكمة أو البلاغة قصور معرفي شديد . نعم بالإمكان وصف العبارات بالجمال والحكمة ولكن لا يمكن وصف قائل ما بمحتوى العبارة المنسوبة إليه بسبب جهالة ناقلي النص عنه .
الاعتراض الرابع : وجود أخطاء لغوية في كثير من نصوص نهج البلاغة
والسبب في وجود معظم هذه الأخطاء أن تركيز واهتمام مؤلف النص كان منصبا على المحسنات اللفظية مما تسبب في كثير من الأخطاء اللغوية المتعلقة بالمعنى أو تركيب الجمل ، والأمثلة كثيرة جدا على ذلك ومنها :
١ – في خطبة وصفها ابن أبي الحديد بأنها فاقت البلغاء وأخرست الفصحاء (!!) يقول : (أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقّت لكم الآجال وألبسكم الرياض وأرفغ لكم المعاش وأحاط بكم الإحصاء وأرصد لكم الجزاء) ، وجملة "أحاط بكم الإحصاء" خاطئة والصواب إما "أحاط بكم" أو "أحصاكم" .
٢ – في نفس الخطبة السابقة يقول : (وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عددا ووظف لكم مددا ، في قرار خبرة ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها) والضمائر في "مختبرون فيها ومحاسبون عليها" تعود إلى أكثر من مذكور فالضمير في "فيها" يعود إلى الدنيا وفي "عليها" يعود إلى النعم ، وهذا خطأ في استخدام الضمائر .
٣ – في نفس الخطبة أيضا في التخويف من الدنيا وخداعها للناس : (حتى إذا أنس ناكرها واطمأن نافرها قمصت بأرجلها وقنعت بأحبلها) فذكر الأرجل بالجمع وإنما يقمص الفرس برجليه الخلفيتين فقط .
وقد وقعت هذه الأخطاء الثلاثة في خطبة واحدة ، وقد تعسف ابن أبي الحديد لتبريرها وأتى بتأويلات بعيدة عن الصواب من أجل الدفاع عن هذه الخطبة التي فاقت البلغاء وأخرست الفصحاء على حد قوله !
٤ – يقول في الخطبة رقم (٢٢) : (والله ما أنكروا علي منكرا ، ولا جعلوا بيني وبينهم نِصْفا) والنصف كما ذكر الشراح (الميرجهاني والمجلسي والراوندي وابن الأثير والطريحي وغيرهم) بكسر النون وتسكين الصاد هو الاسم من الإنصاف والمعنى لا يحتمله كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد لأنه لا يصح أن يقول : "لم يجعلوا بيني وبينهم إنصافا" .
٥ – يقول في الخطبة رقم (٢٨) : (ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار) قال الشريف الرضي : (ومن أعجبِه قوله عليه السلام "ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، والسبقة الجنة والغاية النار" فإن فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرا عجيبا ومعنى لطيفا ) ولكن فات على الشريف الرضي ملاحظة الخطأ البياني الواضح في استخدام المقابلة بين الجملتين الأخيرتين (مقابلة الجملة للجملة تعني استخدام الكلمات المضادة في نفس الموضع من كل جملة) ، ويكمن الخطأ في أن القائل وضع الجنة مقابل النار وهذه مقابلة سليمة ووضع السَّبَقة مقابل الغاية وهذا استخدام خاطئ لأن السبقة نوع من أنواع الغايات وليست مضادة لها ، فالركاكة في هذا التعبير لا تختلف عن الركاكة في قول (الباب الأيمن مخصص للرجال بينما الباب الأيسر مخصص للكبار) ، وبسبب هذه الركاكة الظاهرة فقد أطنب ابن أبي الحديد جدا في تبرير هذا الخطأ ولكنه لم يأت بما يزيل الإشكال أو يرفعه بل زاد الطين بلة وأكد في نهاية الأمر عدم صحة وقوع المقابلة إلا بين الأضداد أو بين الكلمات المتغايرة وكلاهما غير متحقق في هذا السياق .
٦ – في الخطبة رقم (٣٢) وهي خطبة وصفها الشريف الرضي بأنها (كالذهب وكالماء العذب) . تقول الخطبة : (فالناس على أربعة أصناف : (١) منهم من لا يمنعه الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حدة ونضيض وفره ، (٢) ومنهم المصلت لسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورجله ... (٣) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر عن ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية ، (٤) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه ، فقصرته الحال عن حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة) ، وهذا التقسيم لا يُتصور صدوره من أديب مبتدئ فضلا أن يكون من كلام بليغ متصف بالحكمة لأن الأقسام المذكورة تتقاطع وتتداخل ولا تتباين وتتمايز ، فالقسم الأول داخل بكامله في القسم الرابع كما أن القسم الثالث والرابع مشتركان في التظاهر بالزهد . كما أن هذه الأقسام الأربعة لا تشمل جميع أصناف الناس فليس كل من ترك طلب الرئاسة يكون ضئيل النفس منقطع السبب بل إن أكثر الناس لا يطلبون الرئاسة رغبة عنها دون أن يتظاهروا بالزهد أو التقوى وهذا يدل على أن أكثر الناس غير مشمولين في هذا التقسيم المذكور .
٧ - الخطبة ٨٠ في صفة الدنيا : (ومن أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته) قال الشريف الرضي : (أقول وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام "من أبصر بها بصرته" وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ولا سيما إذا قرن إليه قوله "ومن أبصر إليها أعمته" . فإنه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحا نيرا وعجيبا باهرا) . ولا ينقضي العجب من مبالغات الشريف الرضي في وصف بعض نصوص النهج بالرغم من أخطائها الظاهرة ، فإن جملة "من أبصر إليها أعمته" غير صحيحة لأن العرب تقول "أبصر الشئ" ولا يقولون "أبصر إلى الشئ" فكان من المفترض أن يكون لفظ النهج "ومن أبصر بها بصرته ومن أبصرها أعمته" ولكن المؤلف كان منصرف الذهن إلى حشو الخطبة بفنون البديع مما أوقعه في الاستعمال الخاطئ لحروف الجر .
٨ – في نفس الخطبة السابقة : (قد أُمهلوا في طلب المخرج وهُدوا سبيل المنهج ، وعُمروا مهل المستعتب وكُشفت عنهم سدف الريب) فاستخدم السدف للدلالة على الظلام وهذا خطأ لأن السدف هو الضوء وليس الظلمة .
٩ – في نفس الخطبة : (جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها وأبصارا لتجلو عن عشاها) والصحيح "لتجلو عشاها" بدون استخدام حرف الجر "عن" .
١٠ – في نفس الخطبة : (بأبدان قائمة بأرفاقها وقلوب رائدة لأرزاقها) وهذا خطأ فالأبدان هي التي تطلب الرزق وليست القلوب .
١١ – في نفس الخطبة : (فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه وأنصب الخوف بدنه وأسهر التهجد غرار نومه) ، وهذا خطأ بيّن فالتهجد يسهر الإنسان نفسه وليس نوم الإنسان . وقد وردت هذه الأخطاء المتلاحقة في الخطبة ٨٠ من الباب الأول وهي الخطبة التي وصفها الشريف الرضي بالخطبة العجيبة وسماها الخطبة الغراء !
فهذه عينات لبعض نصوص الكتاب وما احتوته من أخطاء لغوية ومعنوية متكررة ، وقد تم التركيز أكثر على الخطب التي بالغ الشريف الرضي في مدحها وتفخيمها وذلك من أجل إثبات تحيزه وبعده الشديد عن الإنصاف ، وهذا التحيز لا يستغرب من مثل الشريف الرضي لأن علي بن أبي طالب هو جده العاشر من جهة الأب وجده التاسع من جهة الأم ، وقد افتخر بهذا النسب في مقدمة النهج ووضح أنه جمع نصوص نهج البلاغة كي يفتخر بكون قائلها أحد أجداده ، فقال : (وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق "أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع) . وبما أن الغرض الأساسي للشريف الرضي من تأليف كتابه هو الافتخار بجده فلا عجب أن يكون ظاهر الانحياز بعيدا عن الإنصاف .
فائدة متعلقة بالاعتراض الأخير
حيث ثبت في الاعتراض السابق أن وصف الشريف الرضي للإمام علي بالبلاغة لم يكن رأيا محايدا وإنما صدر عن هوى وعصبية كما ثبت أنه بالغ في الثناء على بعض النصوص التي تقترب من العي أكثر من اقترابها من الفصاحة والبلاغة لنفس السبب ، وهذا مثال إضافي يحتوي على مبالغة كبيرة منه :
في الخطبة (٢١) يقول النص : (إن الغاية أمامكم وإن وراءكم الساعة تحدوكم . تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم) . قال الشريف الرضي بعدها : (إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا ... فما سُمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا ، وما أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها من حكمة) ، وهذه مبالغة سامجة من الشريف الرضي لأن الغموض يكتف العبارة بسبب الجملتين الأخيرتين ويجعل المعنى لا يستقيم بأي وجه من الوجوه التي يذكرها الشراح .
ولتوضيح ذلك فالنص في بدايته صف الناس بأنهم في طريق سفر له غاية ينتهي إليها وهناك دافع يدفع الناس للمضي نحو هذه الغاية ، ثم ينصح الناس أن يتخففوا كي يلحقوا لأن من يصل أولا إلى الغاية سينتظر حتى يصل آخر شخص من القافلة ! ولمحاولة شرح هذا النص فقد ذكر الشراح أن الغاية هي (الجنة والنار) وأن الساعة هي (القيامة أو الموت) ، ولكن يقع الاضطراب كثيرا عند محاولة تفسير الجملتين الثالثة والرابعة فقد ذكر الشراح أن معنى "تخففوا تلحقوا" أن يتخفف الإنسان من الذنوب حتى يخف حمله وهذا تفسير غير مناسب لأن الإنسان يحمل حسناته وسيئاته معا ، ومن الواجب على الإنسان أن يستكثر من الحسنات مما يؤدي إلى زيادة متاعه وموازينه من الأعمال الصالحة مما يبطئ من سيره إن تم تشبيهه بالمسافر وتكون النصيحة بالتخفف مخالفة للتوجيهات الشرعية ، وذكر آخرون أن التخفف يكون من ملذات الحياة الدنيا المباحة وليس من المعاصي وهذا المعنى لا يستقيم أيضا لأنه يأمر أهل الدنيا بترك دنياهم حتى يصلوا بوقت أسرع إلى النار ! فهم أصلا لا يريدون الوصول فكيف يحثهم على الإسراع ؟ ثم إن الجملة الأخيرة تهدم المعنى بكامله فما فائدة الإسراع والتخفف إذا كانت القافلة ستنتظر وصول البقية المتأخرين ؟ إن هذه الأخطاء تثبت أن وصف النص المنقول بالفصاحة والإعجاز وصف تعسفي بعيد عن الحياد والإنصاف ، ولو كان النص فصيحا لما احتار الشراح في تفسيره كما يحتارون في تفسير الطلاسم والألغاز المبهمة .
الاعتراض الخامس : احتواء الكتاب على أخطاء علمية
وهذا الاعتراض يتوجه إلى أبناء الطائفة الشيعية لاعتقادهم بعصمة الإمام (ع) وإحاطته بجميع العلوم وأنه لا ينطق إلا بما يتوافق مع العلم الحديث حتى أنهم جعلوا مخالفة الرواية للعلم الحديث ضابطا في رد الحديث ووصفه بالضعف حتى لو صح إسناده ، وهذه بعض الموارد التي تخالف العلم الحديث مما ورد في نهج البلاغة :
١ – ذكر في الخطبة الأولى كيفية خلق السماوات والأرض وأن الله خلق الأرض أولا ثم فتق الأجواء وأجرى فيها بحرا متلاطما ثم أمر الريح أن تهب على البحر فتمخضه مخض السقاء حتى تهيج زبده ثم خلق السماوات السبع من زبد ذلك البحر . ولا يختلف هذا التصور عن كيفية نشوء السماوات عن الأساطير القديمة التي كانت تتداول في العصور الغابرة والتي أثبت العلم الحديث بطلانها .
٢ – في الخطبة (٨٩) وهي خطبة الأشباح تقول الخطبة عن السماء : (وذلل للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها ، ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها ، وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها وأقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها ، وأمسكها من أن تمور في خراق الهواء بأيده وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها وقمرها آية ممحوة من ليلها ... ورمى مسترقي السمع بثواقب شهبها) ، وهذا تصور بدائي للكون وأن الأرض هي مركزة أو أنها هي قرارة الذي يتكئ عليه وأن السماوات مبنية فوقه وأن الشمس تضيء السماوات في النهار ، وقد أثبت العلم الحديث بطلان كل ذلك .
٣ – في الخطبة السابقة يقول النص عن الملائكة : (وأمدهم بفوائد المعونة وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة) ثم وصف الله بأنه : (عالم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين ... ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب) والملائكة ليس لهم قلوب لأنهم مخلوقون من نور كما أن الأمشاج لا تخرج من الأصلاب كما يرد في الأساطير القديمة .
٤ – في الخطبة ١٥٣ التي تصف الخفاش : (وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها ... فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها ، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها ، فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته .... تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها يقع إذا وقعت ويرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتى تشتد أركانه ويحمله للنهوض جناحه) وهذا وصف غير صحيح فالخفافيش لا تستطيع الرؤية في الظلام وإنما تعتمد على الموجات فوق الصوتية لتحسس طريقها كما أنها تفارق أطفالها عندما تخرج للبحث عن الطعام .
٥ – تصف إحدى خطب النهج الطاووس وصفا جاء فيه أنه رأى كيف تتلاقح الطواويس في موسم التزاوج وأخبر أنه اطلع على ذلك بمعاينة وليس بنقل عن آخرين ، وهذا مخالف للسياق التاريخي لحياة الإمام علي حيث عاش في المدينة وفي الكوفة وليس فيهما طواويس وقد احتج ابن أبي الحديد قائلا : (لم يشاهد أمير المؤمنين عليه السلام الطواويس بالمدينة بل بالكوفة وكانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شيء وتأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق ، ورؤية المسافدة مع وجود الذكر والأنثى غير مستبعدة) وهذا كلام غير صحيح فالكوفة لم تكن تجبى إليها ثمرات أي شيء خلال ولاية الإمام علي على العراق بسبب الحروب والفوضى التي وقعت في أيامه .
٦ – في الخطبة الثانية من الكتاب والتي ألقاها بعد انصرافه من صفين يقول في آخرها : (لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ... ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة . الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله) . فالنص يوحي بأن الأمر قد استقام أخيرا لعلي بن أبي طالب وهذا يخالف الثابت تاريخيا أنه انصرف من صفين وقد دبت الفوضى في جيشه وكثر نزاعهم واختلافهم عليه .
٧ - في خطبة تذكر عجيب صنع الأرض يقول النص : (وأرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر والقمقام المسخر .. فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا ، فوق بحر لجي راكد لا يجري وقائم لا يسري ، تكركره الرياح العواصف وتمخضه الغمام الذوارف) وهذه المعلومات الواردة عن الأرض والبحر الذي يحمله والذي تنغمس فيه السحب لتحمل منه الماء لا أساس لها من الصحة حسب معطيات العلم الحديث .
الاعتراض السادس : تواضع المستوى اللغوي لكثير من نصوص الكتاب
فمعظم نصوص النهج متوسطة الجزالة والبلاغة لا يعجز الأدباء عن ابتكار مثلها أو أجمل منها والمتصفح لكتب التراث العربي يجد عشرات الألوف من النصوص المماثلة ، فمن النصوص المتواضعة أدبيا وبلاغيا في نهج البلاغة :
١ – في وصف الجرادة : (وإن شئت قلت في الجرادة ، إذ خلق لها عينين حمراوين وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي وفتح لها الفم السوي وجعل لها الحسن القوي ، ونابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض ، ويرهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستقدة ، فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ويعفر له خدا ووجها ، ويلقي بالطاعة إليه سلما وضعفا ويعطي القياد رهبة وخوفا ، فالطير مسخرة لأمره أحصى عدد الريش منها والنفس وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدر أقواتها وأحصى أجناسها فهذا غراب وهذا عقاب وهذا حمام وهذا نعام ، دعا كل طائر باسمه وكفل له برزقه) فهذا نص متواضع تستطيع العثور على مثله في معظم كتب الأدب .
٢ – في الخطبة (٢٠٨) ذكر أصناف الناس في تلقي الأحاديث وهي خطبة متواضعة جدا تجدها في مستوى المقالات الصحفية في الجرائد اليومية .
٣ – في إحدى الخطب يتحدث النص عن البشر بأنهم : (عباد مخلوقون اقتدارا ومربوبون اقتسارا ومقبوضون احتضارا ومضمنون أجداثا وكائنون رفاتا ومبعوثون أفرادا ومدينون جزاء ومميزون حسابا) وهذا وصف بالغ الضعف وبالإمكان ملء الصفحات من مثله لأن أوصاف الناس لا تنتهي . فالناس مخلوقون اقتدارا ومأمورون امتثالا ومنهيون اتباعا ومسقيون شرابا ومطعمون طعاما ومستنفسون هواء وساكنون خياما ولابسون حذاء وذابحون خرافا ونائمون مساء ومستيقظون صباحا .. إلخ !
٤ – في كتابه إلى أهل البصرة : (وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ودعيتم فأجبتم) .
٥ - في النص الخامس من الباب الثاني في الكتاب الموجه للأشعث بن قيس : (إن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعى لمن فوقك ، ليس لك أن تفتات في رعية ولا تخاطر إلا بوثيقة ، وفي يديك مال من مال الله عز وجل وأنت خزانه حتى تسلمه إلي ، ولعلي أن لا أكون شر ولاتك لك والسلام) .
٦ - وفي النص ٢١ من الباب الثاني : (فدع الإسراف مقتصدا واذكر في اليوم غدا ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك ، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين ، وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين ، وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم والسلام) .
ومن العبارات الواردة في الباب الثالث :
٧ – أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم
٨ - أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم
٩ - من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب .
١٠ - يابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره .
١١ - كن سمحا ولا تكن مبذرا ، وكن مقدرا ولا تكن مقترا .
١٢ - لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض .
١٣ - وقال (ع) لبعض أصحابه في علة اعتلها : جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك فإن المرض لا أجر فيه ، ولكنه يحط السيئا ويحتها حت الأوراق .
١٤ - يرحم الله خبابا فلقد أسلم راغبا وهاجر طائعا وقنع بالكفاف وعاش مجاهدا
١٥ - الصبر صبران صبر على ما تكره وصبر عما تحب .
١٦ - لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا .
١٧ - إن لله ملكا ينادي في كل يوم : لدوا للموت واجمعوا للفناء وابنوا للخراب .
١٨ - ما شككت في الحق مذ أريته .
١٩ - الرحيل وشيك !
٢٠ - وقال وقد سئل عن مسافة ما بين المشرق والمغرب : مسيرة يوم للشمس .
فهذه النصوص قد تحتوي على تجربة معينة أو على حكمة مفيدة ولكنها لا ترتقي أن تكون نصا أدبيا بليغا يعجز الأدباء عن الإتيان بمثله ، ولهذا قد يصح أن تُجمع في كتاب نهج الحكمة ولكن ليس في كتاب نهج البلاغة .
لاعتراض السابع : تواضع المستوى اللغوي للنصوص الشعرية المنسوبة إلى الإمام علي
ومن هذه النصوص الشعرية :

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ***** أن السلامة منها ترك ما فيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة ***** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم مدائن في الآفاق قد بنيت ***** أمست خرابا وأفنى الموت أهليها
إن المكارم أخلاق مطهرة ***** الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ***** والجود خامسها والفضل ساديها

 

وروي عنه أنه خاطب السيدة فاطمة عندما وقف ببابه مسكين يسأل فقال :

 

فاطم ذات المجد واليقين ***** يابنت خير الناس اجمعين
اما ترين البائس المسكين ***** قد قام بالباب له حنين
يشكو الى الله ويستكين ***** يشكو الينا جائعا حزين
كل امرئ بكسبه رهين ***** وفاعل الخيرات يتسعين
موعده جنة عليين ***** حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين ***** تهوى به النار الى سجين

 

وفي نفس القصة قال شعرا آخر عندما طرق بابه يتيم يسأل :

يا فاطمة بنت السيد الكريم ***** بنت نبى ليس بالزنيم
قد جاءنا الله بذا اليتيم ***** من يرحم الله فهو رحيم
موعده فى جنة النعيم ***** قد حرم الخلد على اللئيم
يساق فى النارالى الجحيم ***** شرابه الصديد والحميم

وفي نفس القصة أيضا قال شعرا آخر عندما طرق بابه أسير يسأل :

فاطمة بنت النبى احمد ***** بنت نبى سيد مسود
هذا اسير للنبى المعتدى ***** مكبل فى غله المقيد
يشكو الينا الجوع والتشدد ***** من يطعم اليوم يجده فى غد
عند العلى الواحد الموحد ***** حتى تجازى بالذى لا ينفد

 

وقال عند مسيره بالفواطم إلى رسول الله (ص) :

وليس إلا الله فارفع ظنكا ***** يكفيك رب الناس ما أهمكا

 

فهذه نصوص شعرية ضعيفة المستوى هزيلة التركيب تعاني من إقواء ولحن وكسر مما يجعل من المستحيل عقلا أن يوصف قائلها بالتقدم والبراعة في مستواه اللغوي ، وقد ذكر الشيخ النمازي في الجزء الخامس من مستدرك سفينة البحار عدة نصوص أخرى .
الاعتراض الثامن والأخير : ورود نصوص مخالفة للقرآن أو الآداب العامة أو مشهور المذهب .
ومن هذه النصوص :
١ – نصت الخطبة الأولى في الكتاب على إمكانية نسخ القرآن بالسنة فتقول : (وبين مثبَت في القرآن فرضه ومعلوم في السنة نسخه) وقد وقع الخلاف بين علماء الطائفة في مسألة نسخ السنة للقرآن والأكثر على نفيه ، ولو كانوا يعتقدون بصحة مرويات النهج لكانت هذه الرواية حاسمة لقطع الخلاف .
٢ – في الخطبة رقم ١٩ أن الأشعب بن قيس قال له كلاما أغضبه فرد عليه قائلا : (عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك منافق بن كافر) ، وهذا مخالف للذوق العام لأن تعيير الناس بمهنهم أو مهن آبائهم سفه وقلة عقل .
٣ – ورد ذم النساء في عدة مواضع من النهج منها : (المرأة شر كلها وشر ما فيها أنه لا بد منها) وإذا كانت المرأة شر كلها فهل كانت السيدة فاطمة الزهراء شرا كلها ؟ وهل كانت كذلك فاطمة بنت أسد أو أم سلمة أو السيدة خديجة أو آمنة بنت وهب ؟
٤ – وفي نص آخر في ذم النساء في الخطبة رقم ٧٨ : (معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان نواقص الحظوظ نواقص العقول ... فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر) .
٥ – في الكتاب الثاني من القسم الثاني تم ذكر كتابة كتاب شرط لابتياع بيت ، ولم تكن كتابة الكتب معروفة في القرن الأول عند بيع وشراء البيوت ، فهذا النص مدسوس في أقوال الإمام بسبب العامل التاريخي .
فهذه هي جملة الاعتراضات المتوفرة الآن وقد يظهر مزيد من الاعتراضات عند دراسة بقية نصوص الكتاب لأن هذه الدراسة مقصورة على قرابة ٢٠% من النص الأصلي فقط .
بقيت ملاحظة أخيرة تتعلق بالاحتجاج بأقوال ابن أبي الحديد لإثبات بلاغة نصوص نهج البلاغة ، فلقد مدح ابن أبي الحديد نصوص النهج في طيات شرحه بمدائح جليلة في مواضع متعددة وهو لغوي بارع وشهادته معتبرة عند أهل الفن فلماذا لا تقبل في حق النصوص الواردة في نهج البلاغة ؟
والجواب عن ذلك أن الظروف المحيطة بأبي الحديد تثبت أنه كان بعيدا عن الإنصاف والحياد في تقييمه لهذا الكتاب ، فلقد ولد في المدائن ونشأ على المذهب الاثني عشري في بداية حياته . كما أنه ألف كتابه للوزير محمد بن أحمد بن العلقمي (الذي تنسب إليه كارثة هجوم التتار عام ٦٥٦هـ) ووصله الوزير ابن العلقمي بمال ومتاع بعد انتهائه من تأليف الكتاب ، وقد بلغ الأمر بابن أبي الحديد إلى أن يذكر في كتابه قصة فيها ذم شديد للخليفة الثالث عثمان بن عفان حيث ذكر قصيدة للوليد بن عقبة (أخ عثمان بن عفان لأمه) يتظلم بعد مقتل عثمان وفيها يقول : (قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه * كما غدرت يوما بكسرى مرازبه) فرد عليه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بقصيدة يقول في أحد أبياتها : (وشبهته كسرى وقد كان مثله * شبيها بكسرى هديه وضرائبه) قال ابن أبي الحديد بعدها : أي كان (عثمان) كافرا كما كان كسرى كافرا !
وقد صرح ابن أبي الحديد بأن محبته الشديدة لعلي بن أبي طالب تؤثر في مدى تفاعله مع النصوص الواردة عنه ، فيقول بعد ذكر إحدى المواعظ المنسوبة للإمام علي في النهج (ج١١ ص١٥٣) : (وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة وأثرت في قلبي وجيبا وفي أعضائي رعدة ، ولا تأملتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودي .. وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي ، فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية قائلة صالحة ويقينه كان ثابتا وإخلاصه كان محضا خالصا فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ) ، فهو يصرح أن المعاني تتكرر ولكن مشاعره لا تستجيب إلا لما قاله الإمام علي (ع) وهذا اعتراف يقدح في قيمة شهادته الأدبية للنصوص الواردة عن الإمام .
ومن نظر في التعليقات التي أودعها ابن أبي الحديد في كتابه فسيندهش لما تحتويه من كم واضح من المبالغات والتهويلات ، فعلى سبيل المثال ذكر الخطبة رقم (٨٢) والتي تقول : (الحمد لله الذي علا بحوله ودنا بطوله ، مانح كل غنيمة وفضل وكاشف كل عظيمة وأزل ، أحمده على عواطف كرمه وسوابغ نعمه ، وأؤمن به أولا باديا وأستهديه قريبا هاديا ، وأستعينه قاهرا قادرا وأتوكل عليه كافيا ناصرا) قال ابن أبي الحديد بعد أن بين مواطن البديع في هذه المقدمة : (وهذه اللطائف والدقائق من معجزاته عليه السلام التي فات بها البلغاء وأخرس الفصحاء) ومن نظر إلى مقدمة ابن أبي الحديد نفسه لوجدها لا تقل عن مستوى هذه المقدمة .. وفي التراث العربي من أمثالها الآلاف ولكنك حبك الشيء يعمي ويصم .
ومن أغرب المبالغات التي وقع فيها ابن أبي الحديد في شرحه أنه قارن بين بلاغة الخطب المنسوبة إلى الإمام علي وبلاغة خطب ابن نباتة الفارقي (توفي سنة ٣٧٦هـ) الخطيب المشهور الذي قال ابن خلكان عن خطبه : (وقع الإجماع أنه ما عمل مثلها) ومع ذلك فقد قال ابن أبي الحديد : (إن سطرا واحدا من نهج البلاغة يساوي ألف سطر من كلام ابن نباتة وهو الخطيب الفاضل الذي اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه) . وكان من المعقول والمقبول أن يقارن ابن أبي الحديد بين خطبة وخطبة ويحكم بأفضلية الخطبة المنسوبة للإمام علي على غيرها ولكن من غير المعقول أن يكون سطر واحد من كتاب أفضل من ألف سطر من خطب إمام أجمع النقاد على تقديمه والثناء عليه .
وقام ابن أبي الحديد في موضع آخر بمقارنة الخطبة (٨٢) من النهج والتي تحث على الجهاد بأفضل خطبة وجدها من خطب ابن نباته الفارقي ، وقال بعد ذلك معلقا على خطبة ابن نباتة : (هذا آخر خطبة ابن نباتة فانظر إليها وإلى خطبته (ع) بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليها ك**** بالنسبة إلى فحل ، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ .
ألا ترى إلى فجاجة قوله "كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ) إلى آخر كلامه العجيب .
ويقول في موضع آخر في شرح النهج ج٦ ص٢٧٨ : (وذلك لأن فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ ومركباتها ، فأما المفردات فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية ولا معقدة وألفاظه عليه السلام كلها كذلك ، وأما المركبات فحسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض ...

ولا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبة وكتبه مبثوثة متفرقة في فرش كلامه عليه السلام وليس يوجد هذا الأمران في كلام أحد غيره) وهذه لا تعدو أن تكون مبالغة أخرى لأنه يسلب الفصاحة عن جميع العرب ويبقيها حكرا على الإمام علي وهذا مما لا يصح تصوره فضلا عن تصديقه .
ولم تقتصر المغالاة بابن أبي الحديد إلى تقديم الإمام علي (ع) في علوم اللغة فحسب بل ادعى تقدمه في جميع العلوم ومنها علوم الفقه فيقول في المقدمة : (ومن العلوم علم الفقه وهو (ع) أصله وأساسه وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (ع) وقرأ جعفر على أبيه (ع) وينتهي الأمر إلى علي (ع) ، وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي وقرأ ربيعة على عكرمة وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب) ، وهذا الادعاء إما أن يكون مبالغة سامجة من ابن أبي الحديد أو أن يكون جهلا مدقعا بالتواريخ ، والثاني مستبعد على مثل ابن أبي الحديد .

انتهى .

****************************