الباحث: الاستاذ المساعد الدكتور رائد منصور الركابي
صالح نهير الزاملي (ماجستير هندسة حاسبات كلية التربية / جامعة بغداد)
الفصل الأول: مشكلة البحث
يمثل الرجال الصالحون لأي أمةٍ من الأمم معيناً زاخراً يأخذ منه ابنائها كل مايحتاجونه وزاداً طيباً يرتشفون منه القيم النبيلة والمنهج المعرفي القويم الذي يكون عوناً لهم في اتخاذ الطريق السليم والوصول الى الغاية المنشودة. وأمتنا الاسلامية تزخر بالكثير من النماذج الطيبة والرائعة التي شغلت مساحة واسعة في تفكير الأمة وضميرها من خلال سيرتها العطرة وآرائها القيّمة ونصائحها السديدة وآرشاداتها المؤثرة، وذلك بامتلاكها المنهج السليم والرؤية الواضحة في الحياة وهذا المنهج وهذه الرؤية مرتكزتان الى العقيدة الإلهية الصحيحة.
ويُعدُّ الامام علي (عليه السلام) من أفضل الشخصيات الاسلامية بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عِلماً ومعرفةً وفقهاً ومقدرةً على الخطابة وأكثرهم درايةً بنصوص القرآن الكريم وأعلاهم مرتبةً في تفسيرهِ ومعرفةِ تأويلهِ، وكل هذه السمات التي انمازت بها شخصيته (عليه السلام) لابد أن تكون مرتكزة الى نظرةٍ معرفيةٍ ومنهجٍ واضح في التعرف الى الاشياء.
لذا جاءت هذه الدراسة المتواضعة لتسلط الضوء على آراء هذه الشخصية الفذّة في ميدان المعرفة أو في مبحث المعرفة، الذي يُعد مبحثاً مهماً وأساسياً في الفلسفة،والذي يمثل الاجابة عن تحديد مصادرالمعرفة وطبيعتها وحدودها،ونتيجةً لتعدد الاراء والمذاهب في هذا الميدان أصبح الانسان العادي والمختص في اغلب الاحيان لايستطيع أن يُميز أي الاراء صائب وأيُها خاطئ في هذا الميدان المهم والحيوي وربما لايستطيع أن يتبنى وجهة نظر معينة، أو تجده يتبنى رأياً معيناً لفترةٍ ثم يتبنى رأياً مغايراً بعد ذلك.
وبناءً على ذلك جاءت هذه الدراسة لتضع الباحث والمطّلع في ميدان الفكر على التصور الفكري والنظري الذي طرحه الامام علي (عليه السلام) من خلال خُطبهِ التي حاول من خلالها توجيه ابناء المجتمع الاسلامي لإتباع الطريق الصحيح في البحث عن الحقيقة والوصول اليها، ويعتقد الباحثان بأن المنهج المعرفي الذي وضع خطوطه العامة الامام علي (عليه السلام) للمسلمين في صدر الاسلام يصلح الان أن يتَّبِعه أبناء مجتمعنا ولاسيما خواصه (المثقفون منهم) في تحديد أي الإتجاهات الفكرية والمعرفية صحيح.
من خلال كل ماتقدم يمكن صياغة مشكلة البحث في التساؤلات الأتية:-
ما مصدر المعرفة من وجهة نظر الامام علي (عليه السلام) ؟ هل مصدرها الحواس أم العقل أم القلب أو كل ماسبق ؟ ما حدود المعرفة البشرية وأقسامها ؟
أهمية البحث
من السمات البارزة التي تميزت بها الفلسفة في القرون الاخيرة إسهاماتها الاساسية في مجال نظرية المعرفة، ونقصد بها تحديد مصادرالمعرفة ومنابعها الاساسية ومحاولتها استكشاف الركائز الاولية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية.
ان تحديد المصدر الأساسي للمعرفة الانسانية يعتبر نقطة الانطلاق الفلسفي وركيزة اساسية ومهمة في إقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم والحياة والانسان، فاذا لم تحدد مصادر المعرفة البشرية لايمكن القيام بأي دراسة فلسفية.
ولذلك فقد اختلف الفلاسفة منذ القِدَم وذهبوا مذاهباً وطرقاً شتى في تحديد مصدر المعرفة الانسانية وكيفية تحصلها عند الانسان.
هل الحس والتجربةِ فقط ام العقل ام كليهما معاً؟
ان اختلاف الفلاسفة في تحديدهم مصادرالمعرفة يعود الى اختلاف الايدلوجيات في المجتمعات البشرية والتي أدّتْ الى اختلافهم في الاهداف والغايات التي ينبغي الوصول اليها، وهذا الاختلاف في الايدلوجيات إنبثق من تعدد الرؤى الكونية التي انطلقت منها هذه الايدلوجيات، والسؤال هنا لماذا إختلفت الرؤى الكونية فيما بينها ؟ وجوابه أن ذلك ينبع من إختلاف المناهج المعرفية التي إتّبعتها المدارس الفكرية المختلفة لاستكشاف حقائق هذا العالم.
فالواقعيون يؤمنون بوجود عالَم مستقل عن الانسان وتفكيره وأن الاشياء موجودة بحد ذاتها وأن الكون ليس خدعة، بل واقع حقيقي وجوهري، وكل الاشياء المحيطة بنا موجودة وجوداً حقيقياً مستقلاً وليست أفكاراً في عقول البشر.
أما المثاليون فلا يعترفون بوجود شيء خارج العقل وإن معرفة الشيء ووجوده شيء واحد، وليس هناك أثنان (موجود في الخارج وصورة عقلية عنه) بل كل مافي الوجود هو نفس الصورة العقلية ولا شيء سواها.
بينما يقول البراجماتيون ان المعرفة هي أداة للعمل فأية فكرة لايترتب عليها محسوس فهي وهم وليست بمعرفة سواء طابقت الواقع أم خالفته، وعليه يكون العمل جزءاً مقوماً لطبيعة المعرفة عند هؤلاء.
ونجد عند الامام علي (عليه السلام)، هذا الرجل الذي توافرت له من الثقافة الالهية – النبوية ما لم يتوافر لأحدٍ غيره من المسلمين قط، رؤية خاصة في نظرية المعرفة ومصدرها وفي حدودها وطبيعتها، تمثلت في أقواله (علیه السلام) التي جمع معظمها الشريف الرضي في كتابه الشهير (نهج البلاغة).
لذا فقد اعتمد البحث في مضامينه العلمية الفلسفية على اظهار رؤية الامام علي (عليه السلام) في هذا الميدان المهم على ما ورد في نهج البلاغة للامام (عليه السلام).
هذا النهج الذي تضمن المعاني الانسانية الخالدة والاسس والمفاهيم العلمية مما جعله موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر والعلم في كل عصرٍ وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف منطلقات جديدة لبناء الانسان بناءً سليماً صالحاً.
وتتجلى أهمية البحث بما يأتي:- أهمية الفكر العربي الاسلامي والممثل بفكر الامام علي (عليه السلام) في نظرية المعرفة الانسانية، فهو فكر منبثق من عالِمٍ خبير وينطلق من روح الاسلام ومعانيه وينسجم مع الاعراف والتقاليد والقيم التي تشكل ثقافة المجتمع الاسلامي.
منهجية البحث
اعتمد الباحثان المنهج التاريخي التحليلي – الاستنتاجي (التركيبي) لكونه أداة اساسية لتحليل وأستنتاج افكار وآراء الشخصية نطاق البحث من خلال ما تركته من تراث فكري.
أهداف البحث
يهدف البحث إلى: التعرف على رأي الامام علي (عليه السلام) في نظرية المعرفة الانسانية (مصدرها – أقسامها – حدودها).
حدود البحث
رأي الامام علي (عليه السلام) وأفكاره في تحديد مصدر المعرفة الانسانية وأقسامها وحدودها ضمن كتاب نهج البلاغة للشريف الرضي.
مصطلحات البحث
سيحدد الباحثان مصطلحي (النظرية، المعرفة) ومصطلح (نظرية المعرفة).
١. النظرية: نسق فكري ينظم مجموعة من المفاهيم والقوانين غير المترابطة وتفسركيفية تناسق الحقائق معاً وتجعلها ذات معنى[١].
٢. المعرفة: تبحث في مبادئ المعرفة الانسانية وطبيعتها ومصدرها وطرائقها وقيمتها وحدودها وفي الصلة بين الذات المدركة والموضوع المدرك وبيان الى أي مدى تكون تصوراتنا مطابقة لما يؤخذ فعلاً مستقلاً عن الذهن[٢].
٣. نظرية المعرفة: هي أحد فروع الفلسفة تبحث في أصل وبُنية ومناهج المعرفة[٣].
الفصل الثاني: نظرية المعرفة عند الفلاسفة
المبحث الاول: مصادر المعرفة
لقد دارت مناقشات حادة بين الفلاسفة القدامى والجُدد حول مصادر المعرفة وحدودها، أما الهدف من تلك المناقشات فهو تحديد الموازين والمقاييس التي يُعرف بها خطأ التفكير البشري من صوابه، والحقائق من الاوهام، ولايمكن القيام بأية دراسة إلا في ضوء مبدأ يعتبر المقياس الصحيح للقضايا التي تكون محلاً للإختلاف والأخذ والرد مهما كان نوعها ولونها.
فالسوفسطائيون: يرفضون أن يكون ثمة أصل لهذه المعرفة حساً كان أو عقلاً، إذ يرفضون البديهة والحس. ورأيهم أنه لامصدر للمعرفة أبداً، حيث لايمكن الوثوق بشيء يحصل منه العلم الصحيح[٤].
بينما نجد المذهب العقلي: يجعل العقل أساساً ومصدراً وحيداً للمعرفة، فأفلاطون انتهى الى ان أصل المعرفة وطريقها هو (التعقل المحض) وهو التذكر لما كانت عليه النفس ولما هو موجود فيها من عالم المُثل التي هي من طبيعته ولما نسيته من معلومات عقلية مجردة بسبب حلولها في البدن[٥].
فالمعرفة العقلية هي المعرفة الصادقة وما سواها ليس إلا ضلالاً للحقيقة بل أوهاما[٦].
والمذهب الواقعي: الذي يعتبر أرسطو المؤسس الحقيقي له، يرى ان مصدر المعرفة يكون عن طريق الحواس فهي تعالج الوجود على ما هو عليه فعلاً[٧].
ويرى المذهب الحسي: ان الاحساس أو التجربة هي الأصل الاول والمصدر الوحيد للمعرفة، فالأبيقورية: كمدرسة حسيّة ترى ان المعرفة تعود الى الاحساس، والفكرة السابقة تتكون بتكرر الاحساس، وكل احساس فهو صادق[٨].
والرواقية: تُرجِع المعرفة الى البديهية الحسيّة أو إلى الافكار الفطرية، بمعنى انها ليست مفطورة في العقل في نظرهم.[٩]
والتجريبية الحديثة: رفضت أن تكون ثمة أفكار فطرية أولية في العقل وسابقة على التجربة، فيرى جون لوك (ان أي فكرة تتولد في الذهن إنما ترتد الى مصدر واحد فقط هو التجربة أو الخبرة) والانسان يولد وعقله كالصحيفة البيضاء الخالية من أي معانٍ سابقة أو أولية، وعن طريق الاحساس فقط تبتدي الانطباعات الحسية المختلفة بالأنتقاش على صفحة ذهنه، وبهذا تتكون الافكار الشائعة، أو ما يسمى بالافكار الاولية[١٠].
أما المذهب النقدي: فيقوم على القول بأن مصدر المعرفة هو العقل والحس معاً، فبعض المعارف قبلية سابقة على التجربة، وبعضها لاحقة على التجربة. فقد جمع «كانت» بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي وجعلهما في مذهب واحد يعترف بدور كل من الاحساس والعقل في إكتساب المعرفة[١١].
والفلاسفة الإشراقيين: فإنهم يُرجعون المعرفة الى المعارف العقلية الاولية وهم بهذا لاينكرون الحس، إذ التصورات الاولية المأخوذة بطريق الحواس تمثل الأساس التصوري للذهن البشري، ويقوم الذهن بانتزاعها ليّولد المفاهيم الجديدة وبمعونة العقل الفعّال، وبعد ذلك يقوم العقل بعملية الاستدلال أو التفكير من أجل تحصيل المعرفة النظرية ولكن بالإستناد الى المعلومات الاولية أو البديهية، كما عند الفارابي وابن سينا[١٢].
ويرى الكندي: ان المعرفة تحصل بثلاثة طرق هي: الحواس، العقل، القلب. فالحواس موجودة في الانسان من أول خلقه وهي مرحلة وجود انساني أولي، أما العقل وهو مباين للحس والوجود الخارجي، وان العقل والحواس يعملان معاً في المعرفة، والقلب هو طريق للايمان يعمل فوق حدود العقل من الغيبيات وان كان لايتعارض مع العقل إلا أنه يتجاوزه فيما يعجز عنه هذا العقل[١٣].
ويعترف ابن رشد: بالوجود الحسي والعقلي وان المحسوس أو الواقع مصدر المعرفة، وان الحس والعقل يعملان معاً في المعرفة، فالحس إنما يدرك الصور من حيث هي شخصية، وأما العقل فانه من شأنه ان ينتزع الصورة ويتصورها مفردة على كنهها، وبذلك صح ان يَعقِل ماهيّات الاشياء[١٤].
المبحث الثاني: اقسام العلم والمعرفة
إتفق الفلاسفة على تقسيم العلم والمعرفة التي يحصلها الانسان الى قسمين أسايين هما: علم ضروري وعلم نظري.
العلم الضروري: هو علم يلزم نفس المخلوق لزوماً لايمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الإرتياب به.
وهذا العلم ليس من فعل الانسان وانما الله هو الذي يخلقه في الانسان. بخلاف العلم النظري فهو من فعل الانسان وكسبه، ويرى الغزالي ان العلم الضروري هو العلم الذي لايدري الانسان من أين حصل وكيف حصل، كعلم الانسان بأن الشخص الواحد لايكون في مكانين في آنٍ واحد[١٥].
العلم النظري: إذا كان العلم الضروري هو العلم الذي لا دخل للانسان في حصوله، فان العلم النظري أو المكتسب يعني كسب الانسان وهو «علم يقع بعقب استدلال وتفكر في حال المنظور أو تذكر نظر فيه، فكل ما أحتاج من العلوم الى تقدم الفكر والروية وتأمل في حال المعلوم فهو الموصوف بالعلم النظري»[١٦].
والفرق بين العلمين الضروري والنظري من جهة قدرة العالم على علمه المكتسب واستدلاله عليه ووقوع الضروري من غير استدلال منه ولا قدرة له عليه، وامكانية العلم النظري في الوصول الى المعرفة اليقينية: «فمن حكمه جواز الرجوع عنه والتشكك في متعلقه»[١٧].
وهو هنا على العكس من العلم الضروري الذي لايمكن الشك فيه ولا الإرتياب به.
المبحث الثالث: حدود المعرفة
إستناداً الى رؤيتهم في تحديد مصادر المعرفة الانسانية إختلف الفلاسفة حول حدود هذه المعرفة، فمنهم من قال ان المعرفة مطلقة ولا حدود لها ومنهم من قال بأن حدود المعرفة تفرضها عليها إمكانية وحدود مصدرها وآخرون يرون ان حدود المعرفة يرجع الى مدى تطهير النفس من شوائب الحياة المادية والشهوات الدنيوية فنجد ان المثالية المفارقة عند افلاطون: ترى ان لا حدود للمعرفة العقلية لانه حينما تكون النفس في الملأ الاعلى تكون مطلّعة على الصور المُثلى جميعها أي ان المعرفة التي مصدرها العقل يقينية وثابتة ومطلقة وتصلح لكل زمان ومكان[١٨].
بينما يرى ديكارت: وهو فيلسوف مثالي تصوره لوجود الاشياء في الخارج بنظرة ترجع الى الفكر لا الى الوجود الواقعي، اذ ان كل ما نستطيع ان ندركه في تصوره انما يرجع الى فكرة واضحة متميزة[١٩]. فالمعرفة عنده تتحدد في هذه الفكرة.
وواقعية أرسطو: تعطي الوجود الحقيقي للموضوع الحسي.
والاشياء موجودة وجوداً مستقلاً عن العقل، أي موجودة بحد ذاتها[٢٠].
لذا فان المعرفة محددة بما هو موجود فعلاً، وأن ثَمَّت عالماً حقيقياً واحداً مستقلاً هو العالم الذي نعيش فيه[٢١].
ويرى جون لوك (الذي يعتبر الممثل الشرعي للنظرية الحسية والتجريبية): ان المعرفة يبدأ الانسان باكتسابها منذ ان يولد، ويكون ذلك عن طريق التجربة، والتجربة عنده وان كانت هي السبيل الاوحد أو الاعظم الى المعرفة فهي مع ذلك معرضة للزلل، وان العقل نفسه يتكون عن طريق الحس، والاحساسات هي المصدر النهائي والمصدر الممتاز للمعرفة[٢٢] لذا فان المعرفة تتحدد بمقدار ما يمتلكه الفرد من احساسات.
والبرجماتية عند جون ديوي: فانه يضع العمل مبدأ مطلقاً للمعرفة، فمقياس الحقيقة ومعيارها العمل المنتج[٢٣] لذا فان المعرفة تتحدد في الواقع العملي الذي يؤدي الى خدمة الانسان في حياته العملية.
ويرى الكندي: ان انشغال الانسان بالامور الشهوانية والغضبية والتمتع بملذات الحياة الدنيوية، انما يعوق النفس عن بلوغ المعرفة الحقيقية، التي لايمكن ان يحصلها الانسان إلا بالتجرد من شهواته وملذاته الدنيوية[٢٤].
الفصل الثالث: نظرية المعرفة عند الامام علي (عليه السلام)
المبحث الاول مصادر المعرفة
لم يكن الامام علي (عليه السلام) فيلسوفاً أو مشتغلاً بعلم الكلام أو باحثاً عن الحقيقة ومصادرها ليزداد بها يقيناً وهو القائل «لو كُشف لي الغطاء ما أزددت يقينا»[٢٥] أو دارساً لعلوم السابقين، بل كان تلميذاً في مدرسة العلوم الالهية استقى العلم من مصدره وأستاذهُ سيد الكونين وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صار عليه أزكى وأكمل السلام «باب مدينة العلم» فمن أراد العلم فليأته من بابه. ولذلك لم يحصر الامام (علیه السلام) هذا العلم الجَم أو يحدده أو ينفرد بجانبٍ أو فرعٍ مُعيّن من فروع العلم وهو القائل «فاسألوني قبل ان تفقدوني»[٢٦] بل وضع (عليه السلام) للانسانية خطواتٍ ثابتة ومفاهيم واضحة وركائز في مختلف جوانب الحياة وعلومها، ففي الفلسفة والاقتصاد والتربية والاجتماع وعلم النفس والطبيعيات وغيرها كان (عليه السلام) عالماً بارعاً ومربياً فاضلاً ومُصلحاً اجتماعياً وقائداً عادلاً.
وفي اطار بحثنا عن نظرية المعرفة ومصادرها، نجد ان الامام علي (عليه السلام) لم يقف على مصدرٍ واحدٍ للمعرفة الانسانية فلم يجعلها موقوفةً على العقل أو على الحس والتجربة أو على الاشراق. بل حدد (عليه السلام) مصادر المعرفة تحديداً دقيقاً فبدأ بالعقل والتفكر ثم الحس وأوضح اهمية وأثر التجربة بعد العقل، وجعل الفطرة من مصادر المعرفة الالهية ولكنها غير مختصة بفئةٍ دون اخرى كما هو الحال بالنسبةِ للمعرفة عن طريق الوحي التي هي للخاصةِ من الناس، وقد جعل (عليه السلام) للقلب مكانةً خاصة وأعتبره مصدراً ذا أهمية عالية وبالغة الأثر وشديدة الأهمية في الربط بين العقل والحواس.
وسنوضح تالياً وبإيجاز رأي الامام علي (عليه السلام) في تحديده لمصادر المعرفة: فيقول (عليه السلام) «ثم نفخَ فيها من روحهِ فمثُلَت إنساناً ذا أذهانٍ يُجيلُها وفِكرٍ يتعرف بها وجوارحَ يختدمها وأدواتٍ يُقلِّبها ومعرفةٍ يَفرُق بها بين الحق والباطل والأذواق والمشامِّ والألوان والأجناس»[٢٧]. ومن خلال هذا النص يمكننا أن نقسم مصادر المعرفة عند الامام (علیه السلام) الى:
١. العقل: جعل الامام(علیه السلام) المعرفة العقلية سابقة على باقي مصادر المعرفة وذلك لأهمية العقل وميزته الفارقة بين الانسان والكائنات الحية الاخرى، فالانسان يُحرك قواه العقلية التي يصفها الامام (علیه السلام) في قوله السابق بالاذهان يتدبر بها الانسان ويتفكر ويُدرك الاشياء من حوله، وكذلك استعماله لافكاره التي مصدرها العقل فيستطيع ان يبني في ضوئها معارفه وعلومه التي يُحصِّلها في حياته.
٢. فإذا تمكن الانسان ان يدرك الاشياء بعقله فانه سيتمكن من معرفة الاشياء معرفةً أقرب ما تكون الى الصواب ويكون قوياً في اصدار الاحكام والجدل في القضايا، لانه يستند الى المصدر الوثيق الذي يكشف عن الامور كشفاً دقيقاً وفي ذلك يقول (عليه السلام) «ولا علمَ كالتفكر»[٢٨]، ويؤكد لنا الامام (علیه السلام) بان الانسان الغني غنيٌ بعقله وبقدراته العقلية وليس الغنيُّ غني المال فيقول (علیه السلام) «ولا غنى كالعقل»[٢٩] وقوله (علیه السلام) «لا مالَ أعود من العقل»[٣٠] كما ان فضل العقل على الانسان في ان يوضح له طريق الصواب من الخطأ وأن يحتَكِم للعقل كمرجعية يستند اليها الانسان في توضيح واختيار طريقه وفي ذلك يقول (عليه السلام) «كفاك من عقلك أوضح لك سبيل غيّك من رشدك»[٣١] وأما قوله (علیه السلام) «ليست الروّية كالمعاينة مع الابصار، فقد تكذبُ العيون أهلها، ولا يغشُّ العقل ُمن استنصحهُ»[٣٢] فهي دعوةٌ الى تحكيم العقل وتغليب أحكامه في ما يقررهُ الانسان وعدم الاتكال على المعرفة الحسيّة لأن فيها اخطاء كونها تستند الى الحدث المقابل دون أن تتأمل ما وراءه، وهذا يجعل معرفتنا مخطوءة وغير صحيحة لذلك من الضروري ارجاعها الى العقل لتصبح المعرفة لدينا متكاملة وصحيحة.
٣. الحس: يصِف الامام (علیه السلام) في قوله السابق اجهزة الحس في الانسان بالجوارح «وجوارحَ يختدِمها وأدواتٍ يُقلِّبها» ويجعلها مأمورة كالخدم يستعملها الفرد في خدمته استعماله للادوات التي يُقلّبها ويُحركها في العمل بها كيف يشاء، ثم انه (عليه السلام) يجعل هذا المصدر من المعارف بعد المعارف العقلية بمعنى انه (عليه السلام) لم يجعلها كمصدر أولي أو أساسي من مصادر المعرفة، وسبب ذلك يرجع الى استدراك الامام (علیه السلام) ان للحواس أخطاءً من الممكن ان تجعل المعرفة غير صحيحة بل غير حقيقية أحياناً ولا يمكن الاعتماد عليها كليةً فيقول (عليه السلام) في ذلك «فقد تكذب العيون أهلها» وقوله (علیه السلام) «ومن عَشِق شيئاً أعشى بصرهُ... فهو ينظُر بعينٍ غير صحيحةٍ »[٣٣] وقوله ايضاً «ولا كلُّ ذي سمعٍ بسميع...»[٣٤].
لكن هذا الاستدراك بتعرض المعرفة الى خطورة اخطاء مصادرها لم يكن مقتصراً على الحواس فقط بل شمل المعرفة العقلية فلم يجعل (عليه السلام) للعقل صفة الكمال المطلق في معرفة الحقائق فقد يكون العقل ناقصاً أو ضعيفاً عند ذلك تكون المعرفة مشوّشَة ولا ترى الاشياء على حقيقتها فيقول (علیه السلام) «لأغلف القلب المُقارب العقل»[٣٥]. لذا يُقرر الامام (علیه السلام) بأن المعرفة الصحيحة هي التي يجتمع فيها العقل والحس ولا ينفرد أحدهما دون الاخر مع الاحتفاظ بأسبقية العقل كما أشرنا الى ذلك سابقاً، وفي هذا يقول (علیه السلام) «...فإن الشقيَّ من حُرمَ ما أوتي من العقل والتجربة»[٣٦] بمعنى ان منهجنا في المعرفة يجب ان يعتمد على طاقات العقل وقدراته واستنتاجاته ممزوجةً بالمواقف والخبرات والتجارب التي نمرّ بها في حياتنا والتي تزودنا بها حواسنا. لذا فان طريق المعرفة الى اشياء الطبيعة التي نلمسها بالمشاهدة والتجربة هو الحواس والطريق الى معرفة ماوراء الطبيعة هو العقل، وان من شأن الحواس أن تدرك الظواهر والجزئيات فقط وشأن العقل ان يستكشف ما يكمن وراء هذه الظواهر.
٤. الفطرة: هذه المعرفة تشمل كل ابناء الجنس البشري دون استثناء ولا توجد فيها افضلية بين واحدٍ وآخر فهي تولد مع الانسان وتمثل القاعدة الاساسية التي يعتمد عليها الانسان في تمييزه بين الحق والباطل ما لم تشوبها وتؤثر فيها عوامل البيئة المحيطة والتنشئة الاسرية الاجتماعية وأشار الى هذا الموضوع في قوله السابق «ومعرفةٍ يَفرُق بها بين الحق والباطل» فهذه المعرفة هبة الله الى البشرية رحمةً وعدلاً بهم لكي لايكون للانسان على الله –عز وجل- رأياً في أنه خلقه ولم يمنحه القواعد والأسس التي يستند عليها وينطلق منها في التعرّف ثم التمييز بين الحق والباطل والاذواق والمشام والالوان والاجناس، ولكن أبت العدالة الالهية إلا ان تثبت وجودها وحجتها الدامغة ولا تترك للانسان سبيلاً في الاعتراض على نقصٍ أو خلل.
ان القاعدة الاساسية للفطرة هي توحيد الله فكل انسان يولد وهو موحِدٌ لله بالفطرة ويشير الامام لهذه القاعدة بقوله (علیه السلام) «وكلمة الاخلاصِ فإنها الفِطرة»[٣٧] وما يحدث بعد ذلك من تغيير للافكار وانحراف عن المنهج الرباني الصحيح فهو بفعل الانسان بنفسه.
٥. الوحي «معرفة الخواص من الناس»: ذكر الامام علي (عليه السلام) الوحي كمصدر من مصادر المعرفة ولكنه ليس لعموم الناس بل لخاصتهم وهم الانبياء والرُسل الذين إختصهم الله –عز وجل- بمخزون علمه ولم يَبُح لغيرهم بأن يطلّعوا عليه وذلك مما لا يتعلق بالاحكام الشرعية للاديان السماوية والى ذلك يشير (عليه السلام) في خطبةٍ يصف فيها الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فيقول «اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمدٍ عبدُك ورسولك... واعياً لوحيك حافظاً لعهدك... فهو أمينك المأمون وخازنُ علمك المخزون»[٣٨]. وأما طريق المعرفة بالوحي فهم الملائكة حيث يصفهم (عليه السلام) بقوله «جعلهم فيما هنالك أهلُ الامانةِ على وحيهِ وحَمَّلهم الى المرسلين ودائعَ أمرهِ ونهيهِ »[٣٩].
كما ان هناك معارفَ لخواص الناس وهم الراسخون في العلم وأهل البصائر ولكن ليس عن طريق الوحي فيقول (عليه السلام) «وأعلم ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن أقتحام السُّددِ المضروبةِ دون الغيوبِ »[٤٠] و قوله: (علیه السلام) ايضاً «قد انجابت السرائرُ لأهل البصائرِ»[٤١].
٦. القلب: كما ذكرنا سابقاً اختلاف الفلاسفة والمفكرون في تحديدهم لمصدر المعرفة، فبين قائل بالعقل أو قائل بالحواس قد انقسموا فريقين رغم كثرة مذاهبهم وعدم اتفاقهم على كثير من التفاصيل. وذهب بعظهم الى القول بالمعرفة او الكشف عن طريق القلب ولكنهم جعلوها مخصوصةً بين الناس، ذلك ان هذه المعرفة أو كما تسمى الكشف لدى بعضهم هي نورٌ يقذفه الله في القلب، وعلى هذا الاساس فان هذه المعارف إختصت في مجال محدد هو الالهيات، والى هذا الرأي ذهب الغزالي قديماً وكثيرون من نوابغ الفكر الحديث، منهم الفيلسوف الشهير «كانت» والكاتب الانكليزي «هكسلي» والالماني «وانز» والفرنسي «رومان» وغيرهم[٤٢].
ولننظر رأي الامام علي (عليه السلام) حول هذا المصدر من مصادر المعرفة:
في البداية نقول ان الامام (علیه السلام) لم يجعل المعرفة القلبية مقصورةً على جانب معين أو محدد من المعارف كما ذهب اليه بعض الفلاسفة والمفكرين كما أشرنا آنفاً، بل انه (عليه السلام) ربط المعرفة العقلية بالقلب وجعلهما بدرجةٍ عالية من الترابط والتكامل فيقول (علیه السلام) «ان العقل في القلب»[٤٣] وهذا ما أكده الدكتور (ادرو آرمور) حين طرح عام ١٩٩١ فكرة وجود «عقل صغير في القلب» يتكون من شبكة من الخلايا العصبية والناقلات الكيمائية والبروتينات والخلايا الداعمة التي تعمل باستقلالية عن خلايا المخ وتتولى عملية التعلم والتذكر والاحساس ثم ترسل المعلومات الى مراكز المخ المختصة بالادراك واتخاذ القرارات والمحاكمات القلبية.[٤٤]
لكن القلب لم يكن لينهي دوره عند العقل بل امتد ليتكامل مع الحواس وخصوصاً مع البصر الذي يعتبر من اكثر الحواس دقةً واستعمالاً للتعرف وتمييز الاشياء، فيصفه (عليه السلام) بقوله «القلبُ مصحف البصر»[٤٥] فهو اذن يقوم بعملية خزن ومعالجة المعلومات المستقبلة من البصر، وفي عام ١٩٩٩ أثبت معهد رياضيات القلب الامريكي ان القلب له نظامه العصبي الخاص به وهو نظام معقد يسمونه The brain in the heart اذ توجد خلايا عصبية داخل القلب، وهي خلايا معقدة جداً لم يعرف العلماء حتى الان طريقة عملها، ولكن هذه الخلايا مسؤولة عن تخزين المعلومات وتحميلها لخلايا الدم وبثها لكافة انحاء الجسم، فهو أشبه بذاكرة الكمبيوتر التي لايعمل بدونها، كما ان القلب يبث في كل دفقة دم عدداً من الرسائل والمعلومات لجميع انحاء الجسم، وله نظام كهربائي معقد وطاقة خاصة به ومجال كهرومغناطيسي أقوى بمئة مرة من الدماغ.[٤٦] ويضيف (عليه السلام) مهمةً اخرى يقوم بها القلب يصفها بقوله «وناظِر قلب اللبيب به يُبصرُ أمدهُ ويعرفُ غورَهُ ونجدَهُ»[٤٧] ان هذه المهمة جعلت القلب ليس مصدراً من مصادر المعرفة بل مركزاً مسيطراً على كل مصادر المعرفة، فيتعامل مع العقل في تنظيم المعارف ويساعده في ادراك المفاهيم البعيدة المدى والعميقة الأثر والتي لايمكن تلمسها على أرض الواقع وتعامله مع البصر فيحفظ ويعالج وينظم الرؤية البصرية ويُعيد للبصر ما حفظهُ فيُزيل عنه غشاوةَ وشك الاخطاء ليجعل البصر بالاشياء جلياً واضحاً.
وسنذكر بعض الابحاث التي اجريت اواخر القرن العشرين لتأكيد ما قاله الامام علي (عليه السلام) قبل اكثر من ١٤٠٠ سنة، فمن الابحاث الغريبة التي أُجريت في معهد (رياضيات القلب) الامريكي Heart Math عام ١٩٩٩ أنهم وجدوا ان المجال الكهربائي للقلب قوي جداً ويؤثر على من حولنا من الناس، أي ان الانسان يمكن ان يتصل مع غيره من خلال قلبه فقط دون ان يتكلم، كما وجدوا ان دقات القلب تؤثر على الموجات التي يبثها الدماغ، فكلما زاد عدد دقات القلب زادت الترددات التي يبثها الدماغ، وفي بحث أجراه الباحثان Mike Atkinson، Rollin Mc Craty وعُرضَ في اللقاء السنوي للمجتمع البافلوفي عام ١٩٩٩، جاء في نتيجتة هذا البحث ان هنالك علاقة بين القلب وعملية الادراك، حيث وجدوا ان عملية الادراك تتناسب مع اداء القلب، فكلما كان اداء القلب أقل كلما كان الادراك أقل[٤٨]، وفي عام ٢٠٠٢ نشر الدكتور[٤٩]، العالم في المناعة النفسعصبية ومؤلف كتاب «شيفرة القلب» نتائج بحثه الذي استغرق ١٠ سنوات وشمل ٧٤ شخصاً زرعت فيهم اعضاء، منهم ٢٣ زراعة قلب. وأحد هذه النتائج ذكر انه (في تجربة أجريت لمعرفة التأثير المتبادل ما بين القلب والمخ فقد وجد عند تلامس شخصين او اقتراب احدهما من الاخر ان الموجات الكهربائية التي تصدر من مخ احدهما تتغير بالتزامن مع موجات قلب اخر) ويذكر ايضاً ان القلب يحس ويشعر ويتذكر ويرسل ذبذبات تمكنه من التفاهم مع القلوب الاخرى، ويساعد على تنظيم مناعة الجسم ويحتوي على معلومات يرسلها الى كل انحاء الجسم مع كل نبضة من نبضاته[٥٠].
ونرجع الى الامام علي (عليه السلام) فقد اسند مهمةً جديدة اخرى للقلب لها أثر عظيم ودور خطير في حياة الانسان، ألا وهي الايمان (التصديق بوجود خالق لهذا الكون و توحيده، تنزيهه عن التعدد والصفات...الخ) وغير ذلك من الالهيات التي اشتغل بها الفلاسفة قروناً وحاولوا جاهدين ان يصلوا الى مراحل اليقين (الايمان) عن طريق العقل أو الحواس أو الجمع بينهما ولكنهم لم يلتفتوا الى ان اليقين والايمان في الالهيات مركزه القلب، بل ان المعرفة الحقيقية تجدها فيه، فيقول في ذلك الامام علي (عليه السلام) «الايمان معرفةٌ بالقلب...»[٥١] وهو بذلك قد قطع الطريق على المشتغلين بالبحث والتفكير والتأمل للوصول الى المعرفة والايمان بغير القلب.
ولكن وللأسف الشديد ان كنوز العلم هذه لم تجد لها آذاناً صاغية ولا عقولاً واعية ولا عيوناً مبصرة لتكشف ما فيها، وفيها علمٌ جم. وحتى عام ٢٠٠٨ حيث نشرت جريدة (ديلي ميل) قصة تؤكد بشكل كبير ان القلب له دور حاسم في الايمان والكفر والمشاعر والادراك ايضاً. وخلاصة القصة: ان شاباً متزوجاً انتحر بمسدس في رأسه بسبب ضغوطات نفسية ومعاناة ناجمة عن إلحادهِ المُفرِط وكُفره الشديد (حسب زوجته) ولكن قلبه الذي بقي يعمل نُقل الى شخص آخر يعاني من فشل القلب (وهذا الشخص كان من أهل الخير والصلاح) وبعد فترة عندما رأى الشخص (الذي نقل اليه القلب) أرملة الشاب المنتحر أحسّ وكأنه يعرفها منذ زمن ويحمل لها مشاعر من الحب والمودة لم يستطع أن يخفيها ولكن الأمر الأكثر إثارةً للانتباه هو ان هذا الشخص بعد نجاح العملية قد تحول بعد فترة من حال الصلاح الى المجاهرة بالكفر والالحاد ولم يعد يحتمل الحياة فأنتحر بالطريقة ذاتها التي انتحر بها الشاب صاحب القلب الاصلي، وذلك انه اطلق رصاصة على رأسه فمات على الفور[٥٢].
لقد وقف العلماء ومعهم كل التقنيات وتكنلوجيا الثورة المعلوماتية عاجزين عن تفسير ومعرفة ماهيّة وأساليب وطرق عمل القلب ودوره كمصدر وكموّجِه ومُنظم لمصادر المعرفة ومسيطر على قراراتها، نجد ان الامام علي (عليه السلام) يقول فيه مقولات ويفصل تأثيره ودوره ويضع أساس معرفةٍ جديدة لم يتمكن العلماء حتى يومنا هذا ان يتوصلوا الى هذه الحقائق أو يفسروها بشكل دقيق ومؤكد. ونختم هذه الفقرة من مصادر المعرفة القلبية بمهمةٍ اخرى جديدة للقلب فيصفهُ الامام (علیه السلام) بأنه مُحرِك ودافع مؤثر على سلوك الانسان وتصرفاته وذلك بحكم احتواءه وامتلاكه على المعارف والحِكَمْ المرتبطة بصفات الانسان وخصائصه فيقول (عليه السلام) «لقد عُلِّقَ بنياط هذا الانسان بضعةٌ هي اعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك انَّ له موادٌّ من الحكمةِ وأضدادٌ من خلافها. فان سنخَ له الرجاء أذلّهُ الطمع وان هاجَ به الطمعُ أهلكهُ الحرص... فكلُّ تقصيرٍ به مُضرٌ وكلُ افراطٍ له مفسدٌ»[٥٣].
المبحث الثاني: أقسام العلم والمعرفة
قسّمَ الامام علي (عليه السلام) العلم الانساني الى نوعين معتمداً في هذا التقسيم على مصدر العلم إذ يقول (عليه السلام) «العلم علمان، مطبوعٌ ومسموع، ولا ينفع المسموع اذا لم يكن المطبوع»[٥٤]. فالعلم حسب قول الامام (علیه السلام) قسمان هما:
١. علم مطبوع.
٢. علم مسموع.
العلم المطبوع على وفق مصادر المعرفة يكون على نوعين:
أ. المعرفة الفطرية: وتمثل كما ذكرنا سابقاً القواعد الاساسية والركائز الثابتة التي يستدل بها الانسان على طريق الحق والباطل وعلى الاذواق وغيرها. فهي قاعدة البيانات الاساسية والكاملة لبرنامج معارف الانسان وحياته.
ب. والنوع الاخر من هذا القسم من العلوم والمعارف يُقصد به توفر الاستعداد للعلم والتعلم عند الانسان، وهذا الاستعداد يتمثل بالعقل الكامن (العقل بالقوة)، فهو اذن قدرة الانسان على اكتساب المعلومات اعتماداً على مقدار استعداده الفسيولوجي الوراثي.
أما العلم المسموع. فهو كل ما أستدل عليه الانسان وتمكن من استقباله وتحليله وفهمه عن طريق الحواس والعقل.
لكن الامام (علیه السلام) في آخر قوله يضع شرطاً لتكامل العلم والمعرفة والتصاقها مع بعضها وان هذا التقسيم ليس للفصل والتحديد بل للوقوف والتعرف على مصادر العلم والمعرفة ومقدار التيّقن بها. فالمطبوع أصيل وله أثره الكبير في حياة الانسان ولا يرقى اليه الشك ومع هذا قرنهُ الامام (علیه السلام) بالمسموعِ من العلم وهو ما استقبلته الحواس وعرضهُ العقل للتحليل والتصنيف والقبول أو الرفض أو الاضافة ولكنه لوحده لايكفي لان يصل بالانسان الى مراحل اليقين ما لم يرفدهُ المطبوع ويتطابق معه لتصبح عند ذلك الاشياء والحقائق واضحة الرؤيا والمفهوم ومتكاملة المعاني والمعارف.
المبحث الثالث: حدود المعرفة
بالاستناد الى مصادر المعرفة فقد حدد الامام علي (عليه السلام) لكل مصدرٍ منها حدوداً واقعيةً علميةً وعملية، بمعنى يمكن التاكد منها واقعاً، باستثناء المعرفة الفطرية والوحي فانها من مصدرٍ ومعينٍ لا حدود له، ويرجع هذا التحديد للمعرفة الى كون المخلوقات جميعها لها قدرة وقابلية محدودة في جميع المجالات.
فيجعل (عليه السلام) للعقل قدرة محدودة على ادراك واستيعاب المفاهيم وهذا ما أكدته الدراسات والبحوث الفسلجية، لذلك ينهي الامام (علیه السلام) عن الخوض في أمور يصعب على العقل استيعابها والاحاطة بها لمحدودية امكاناته عن الخوض في مسائل لا طاقة له فيها فتؤدي به الى هلاكه ولذلك يقول (عليه السلام) «ولا تُقدر عظمة الله سبحانه على قدرِ عقلك فتكون من الهالكين»[٥٥] وحفاظاً على الرأي السديد والفكرة الصائبة الصحيحة التي هي ناتج اشتغال العقل بشكل سليم واستعماله وفقاً لقدرته المحدودة يقول الامام (علیه السلام) «فلا تستعملوا الرأي فيما لا يُدرِكُ قعرهُ البصرُ ولا تتغلغلُ اليه الفِكَرُ»[٥٦].
وتنعكس محدودية العقل في ادراكه واستيعابه سلباً على محدودية فهم القلب، وهذا يسمى في العلم الحديث بالتغذية الراجعة السلبية Negative Feedback، وكما ذكرنا سابقاً في قدرة القلب على توجيه وتنظيم المعارف العقلية السليمة، يوضح الامام علي (عليه السلام) هنا قاعدة علمية ينعكس فيها تأثير العقل على القلب، فان اي نقص او ضعف في العقل ينتج عنه معلومات ضعيفة وناقصة ومشوشة تسبب تأثيراً سلبياً على قدرة القلب على فهم وتفسير هذه المعلومات مما يجعله ضعيفاً وقاصراً في توجيهه وتنظيمه وأحكامه حول هذه المعارف فيقول (علیه السلام) «لأغلف القلب المقاربُ العَقلِ»[٥٧].
ولكن ماذا لو كان القلب غير قادر على تجميع قدراته في توجيه وتنظيم المعارف العقلية، هل ينعكس ذلك على قدرة العقل على الفهم والتفسير المنطقي للمعلومات ؟
في الحقيقة هذا الربط الشائك والمعقد بين القلب وسائر الاعضاء وخصوصاً العقل لم يذكره أحد بهذا التفصيل الدقيق سوى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام) فيجعل محدودية القدرات العقلية مؤثرة ومتأثرة بقدرة القلب على التوجيه والتنظيم والعكس بالعكس فنجده (عليه السلام) هنا يقول «وتائهُ القلب متفرِّقُ الُّلبِّ»[٥٨] فمن كان قلبه مشتتاً حائراً لم يستطع ان يجمع شتات عقله ولا ان يوحّد افكاره ومعلوماته فهو في حيرةٍ من أمره، كمن يقف في مفترق طريق ولا أحد يُعينهُ أو يُرشدهُ على معرفة الطريق الذي يوصله الى هدفه وغايته.
أما حدود المعرفة الحسية فيصفها الامام (علیه السلام) بقوله «ولا كلّ ذي سمعٍ بسميع ولا كلّ ناظرٍ ببصير»[٥٩] والقولُ واضح المعنى جليُّ المفهوم، حيث يختصر الامام (علیه السلام) ببضع كلمات وخيرُ الكلام ما قلّ ودلّ، يصف قدرة الحواس المحدودة على استقبال المعلومات والمنبهات ثم تفسيرها والحكم عليها.
وليس بالغريب ان يضع الامام (علیه السلام) حداً جديداً للمعرفة الانسانية لم يسبقه اليه من سبقه ولم يَفطِنْ عليه من لحقه وجاء بعده، حداً لا دخل فيه للتكوين البايلوجي للانسان. حداً هو بحد ذاته أحد مقومات العلم وبقاءه واستمراره ألا وهو العمل، اما كيف ذلك فيتوضح الامر من قول الامام (علیه السلام) «العلمُ مقرونٌ بالعملِ، فمن علمَ عَملَ والعلمُ يهتفُ بالعمل، فإن أصابه وإلا ارتحل عنه»[٦٠] فمتى علمتَ وجبَ عليك العمل بما علمت، فالعلم مخصوص لانه يتحدد بالشخص الذي تمكن من الوصول الى المعرفة والعلمُ بها ولكن أثره عام وفي مختلف جوانب الحياة الاجتماعية منها والاقتصادية والتربوية وغيرها، ولا يظهر هذا الاثر إلا بالعمل به ولكن عندما يُفارق العلمُ العمل يصبح العلمُ جامداً محدوداً حتى في أثره وواقفاً على صاحبه متى ارتحل عن الدنيا ارتحل معه ولا أثر لهُ بعده.
الفصل الرابع: خلاصة البحث
استنتاجات البحث
من خلال ما تقدم في مجريات البحث توصل الباحثان الى جملة من الاستنتاجات منها:-
١. ان هناك رؤية واضحة وتصور شامل للامام علي (عليه السلام) بخصوص كيفية تحصل المعلومات لدى النفس الانسانية وهذه الرؤية مستمدة من الفهم الواعي للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
٢. ان مصادر المعرفة متعددة بحسب رؤية الامام (علیه السلام) منها العقل والحواس والفطرة والقلب والوحي.
٣. ان معارف الانسان محدودة سواءً كانت منها العقلية أم الحسية... أم غيرها، وذلك لان طاقات الانسان محدودة والمعرفة جزء من هذه الطاقات.
٤. تَنبّهَ الامام علي (عليه السلام) الى الدور المهم والاساس للقلب باعتباره مصدراً مهماً من مصادر المعرفة وموجهاً للمصادر الاخرى كالعقل والحواس.
٥. كذلك ربط الامام (علیه السلام) المعرفة التي مصدرها الحواس بالعقل، اذ لا قيمة لها اذا لم يعطي العقل فيها رأياً (أي يمحصها ويدققها).
٦. قسّمَ الامام علي (عليه السلام) العلم الى قسمين: مطبوع ومسموع، وجعل العلم المطبوع أساساً للمسموع.
٧. سبق الامام (علیه السلام) العلماء والفلاسفة والمفكرون في تحديده الدقيق لتأثير القلب وتأثره بقدرات ومحدودية المصادر الاخرى للمعرفة كذلك تأثيره على السلوك الانساني والمشاعر والقرارات والاحكام التي يصدرها، وهذا ما توصلت اليه البحوث الميدانية المعاصرة المتخصصة حول المهام والعمليات التي يؤديها القلب.
توصيات البحث
من خلال ما تقدم من استنتاجات للبحث يمكن للباحثان ان يوصيا بالآتي:-
١. الاهتمام بآراء الامام علي (عليه السلام) في ميدان المعرفة والوقوف عندها وقراءتها قراءة واعية، واعتمادها كمنهج في هذا الميدان.
٢. ضرورة اطلاع المعنيين بالشأن التربوي والتعليمي على آراء الامام علي (عليه السلام) في هذا المجال لانها تُعينهم في اداء عملهم بصورة صحيحة.
٣. بناء المناهج التربوية والتعليمية في ضوء التصور المعرفي الذي توصل اليه البحث بخصوص اكتساب العلوم والمعارف عند الانسان.
مقترحات البحث
استكمالاً للبحث الحالي يقترح الباحثان مجموعة من المقترحات منها:-
١. اجراء دراسة مقارنة بين آراء الامام علي (عليه السلام) في هذا الميدان وآراء الفلاسفة القدماء (الاغريق).
٢. اجراء دراسة مقارنة بين آراء الامام علي (عليه السلام) في هذا الميدان وآراء الفلاسفة في العصر الحديث (الغربيين).
٣. اجراء دراسة مقارنة بين آراء الامام علي (عليه السلام) في هذا الميدان وآراء المتكلمين المسلمين لتبيان تأثرهم بآراء الامام (علیه السلام).
قائمة المصادر المراجع
١. ابراهيم، زكريا (١٩٦٨)، دراسات في الفلسفة المعاصرة، ط١، مكتبة مصر، القاهرة.
٢. ابن ابي الحديد (١٩٦٣)، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، ج١٨،دار احياء الكتب العربية، سوريا.
٣. اسلام،عزمي (١٩٦٨)، جون لوك، دار الثقافة، القاهرة.
٤. امين، احمد،زكي نجيب محمود (١٩٦٧)، قصة الفلسفة الحديثة، ط٥، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
٥. انظر:
http://www.٥٥a.net/firas/arabic/index.php?page=show-det&id=٤٠٨.
٦. الجعفري، ماهر اسماعيل واخرون (١٩٩٣)، فلسفة التربية، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد.
٧. الحسيني، خالد فرج حسن (٢٠٠٠)،نظرية المعرفة عند المتكلمين والفلاسفة، رسالة ماجستير في تخصص الفلسفة وعلم الكلام –جامعة صدام (سابقا) للعلوم الاسلامية.
٨. الحيدري، كمال (٢٠٠٥)، مدخل الى مناهج المعرفة عند الاسلاميين، ط١، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
٩. الشريف الرضي (١٩٨٦)، نهج البلاغة من كلام سيدنا امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، شرح الشيخ محمد عبدة، ج١-٤، منشورات مكتبة النهضة، بغداد.
١٠. الشماع،صالح (١٩٦٠)، مشكلات الفلسفة من حيث نظرية المعرفة والمنطق، ط١، شركة الطبع والنشر الاهلية، بغداد.
١١. فرّوخ، عمر (١٩٧٢)، تاريخ الفكر العربي الى ايام ابن خلدون، ط١، دار العلم للملايين، بيروت.
١٢. مغنية، محمد جواد (د.ت)، معالم الفلسفة الاسلامية، ط٢، دار القلم، بيروت.
١٣. ملتقى البيان لتفسير القران (١٠ / ٤ / ٢٠٠٨)،هل للقلب علاقة بالعقل والتفكير.
١٤. منتديات نسيج(٤ /٥ / ٢٠٠٨)، المنتديات الاسلامية، القلوب وما ادراك ما القلوب، بالاشتراك مع موقع الشبكة الاسلامية.
(mht.الادراك في القلب ام العقل/القلوب وما ادراك ما القلوب الارشيف – منتديات نسيج /:mhtml:file://F)
١٥. موقع التقنية، اكبر تجمع للمهندسين العرب(٢١/ ٤ / ٢٠٠٩)، قسم تقنية الاتصالات –الموجات الكهرومغناطيسية..الانسان،فاطمة العمري. www.TKNE.net
١٦. نجاتي، محمد عثمان (١٩٩٣)،الدراسات النفسية عند العلماء المسلمين، ط١، دار الشروق، القاهرة.
نجاتي، محمد عثمان (٢٠٠١)، مدخل الى علم النفس الاسلامي، ط١، دار الشروق، القاهرة.