ولادته :
قال عليّ (عليه السلام): «فإنّي ولدتُ على الفطرة وسَبقتُ إلى الإيمان والهجرة»[١].
ولِد الإمام عليّ (عليه السلام) بمكّة المشرّفة داخل البيت الحرام وفي جوف الكعبة في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة، ولم يولد في بيت الله الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته[٢].
روي عن يزيد بن قعنب أنّه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب وفريق من بني عبدالعزّى بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد اُمّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: ياربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جديّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الّذي بنى هذا البيت، وبحقّ المولود الّذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليَّ ولادتي.
قال يزيد: فرأيت البيت قد انشق عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد الى حاله والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عزّ وجلّ، ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)[٣].
وأسرع البشير إلى أبي طالب وأهل بيته فأقبلوا مسرعين والبِشر يعلو وجوههم، وتقدّم من بينهم محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فضمّه الى صدره، وحمله الى بيت أبي طالب ـ حيث كان الرسول في تلك الفترة يعيش مع خديجة في دار عمه منذ زواجه ـ وانقدح في ذهن أبي طالب أن يسمّي وليده «عليّاً» وهكذا سمّاه، وأقام أبو طالب وليمةً على شرف الوليد المبارك، ونحر الكثير من الأنعام[٤].
كناه وألقابه :
إن لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ألقاباً وكنىً ونعوتاً يصعب حصرها والإلمام بها، وكلّها صادرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شتى المواقف والمناسبات العديدة التي وقفها (عليه السلام) لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الرسول.
فمن ألقابه (عليه السلام): أمير المؤمنين، ويعسوب الدين والمسلمين، ومبير[٥]الشرك والمشركين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومولى المؤمنين، وشبيه هارون، والمرتضى، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم الجنّة والنار، وصاحب اللواء، وسيّد العرب، وخاصف النعل، وكشّاف الكرب، والصدّيق الأكبر، وذو القرنين، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة، والوالي، والوصيّ، وقاضي دين رسول الله، ومنجز وعده، والنبأ العظيم، والصراط المستقيم، والأنزع البطين[٦].
وأمّا كناه فمنها: أبو الحسن، أبو الحسين، أبوالسبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب.
الإعداد النبويّ للإمام عليّ (عليه السلام) :
كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يتردّد كثيراً على دار عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة، وكان يشمل عليّاً (عليه السلام)بعواطفه، ويحوطه بعنايته، ويحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه الى غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية[٧].
وكان من نِعَم الله عزّ وجلّ على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع الله له وأراده به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للعبّاس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : «يا عبّاس، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه، قال العباس: نعم.
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فضمّه إليه وكان عمره يومئذ ستة أعوام، وأخذ العبّاس جعفراً، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبيّاً، فاتّبعه عليّ(عليه السلام) فآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه[٨].
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن اختار عليّاً (عليه السلام): «قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليّاً»[٩].
وهكذا آن لعليّ (عليه السلام) أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث نشأ وترعرع في ظل أخلاقه السماويّة السامية، ونهل من ينابيع مودّته وحنانه، وربّاه (صلى الله عليه وآله) وفقاً لما علّمه ربّه تعالى، ولم يفارقه منذ ذلك التأريخ.
وقد أشار الإمام عليّ (عليه السلام) الى أبعاد التربية التي حظي بها من لدن اُستاذه ومربّيه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومداها وعمق أثرها، وذلك في خطبته المعروفة بالقاصعة: «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة[١٠]، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جَسده، ويشمّني عَرْفه[١١]، وكان يمضع الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولاخطلة[١٢] في فعل».
الى أن قال: «ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل[١٣] أثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً[١٤]، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء[١٥]، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة[١٦] الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يارسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أ نّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وأ نّك لعلى خير»[١٧].
من البعثة الى الهجرة
عليّ (عليه السلام) أول المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وآله) :
لقد نشأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قيم إلهية سامية كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: (وإنّك لعلى خلق عظيم)[١٨] ، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه وأخلاقه، فسلك منذ نعومة أظفاره خطّاً موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيّما شيخهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكان في قناعة الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّ هذا الخطّ لا يلتقي بقيم المجتمع الجاهلي، من هنا بدأ (صلى الله عليه وآله) بإنشاء نواة الاُسرة المؤمنة المتكونة منه وخديجة وعليّ (عليهم السلام).
وقرّر أن يشقّ مجرى التأريخ، وأن يفتح طريقاً وسط التيار العام، وأن يقاوم بتلك الاُسرة الانحراف السائد، وأن يُحدث موجاً هادراً يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى تيار جارف للوثنية والجاهلية من ربوع الأرض، إنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) والذي تربّى في حِجر الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يسجد لصنم قطّ، ولم يُشرك بالله طرفة عين. وعندما نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان عليّ (عليه السلام) الى جانبه، وكان أوّل من آمن برسالته (صلى الله عليه وآله) كما شهدت بذلك عامّة مصادر التأريخ.
وعن أنس بن مالك قال : اُنزلت النبوّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الإثنين وصلّى عليّ (عليه السلام) يوم الثلاثاء[١٩].
كما روي عن سلمان الفارسي أَنّه قال: أوّل هذه الاُمّة وروداً على نبيّها (صلى الله عليه وآله) الحوض، أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)[٢٠].
وعن العباس بن عبدالمطلب أنّه سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: في عليّ ثلاث خصال، وددت أنّ لي واحدةً منهنّ، كلّ واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، وذلك أنّي كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ ضرب النبي على كتف عليّ بن أبي طالب وقال: يا عليّ، أنت أوّل المسلمين إسلاماً، وأنت أول المؤمنين إيماناً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، كذب من زعم أنّه يحبّني وهو مبغضك[٢١].
وإذ اتّفق المؤرّخون على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أوّل الناس إسلاماً[٢٢]; فقد اختلفوا في سنّه حين أعلن اسلامه، والخوض في تحديد عمر الإمام (عليه السلام) حين إسلامه لا يُجدي نفعاً بعد أن عرفنا أنّه لم يكفر حتى يُسلم ولم يشرك حتّى يؤمن، ولقد قال سلام الله عليه: «ولدت على الفطرة»، ومن هنا اتّفقت كلمة المحدّثين جميعاً على احترام هذه الفضيلة وتقديسها بقولهم له حين ذكره «عليّ كرّم الله وجهه» فكان الإسلام في أعماق قلبه بعد أن احتضنه حجر الرسالة، وغذّته يد النبوّة، وهذّبه الخلق النبوّي العظيم.
قال الاُستاذ العقّاد وهو يتحدّث عن الإمام عليّ (عليه السلام): لقد ولد مسلماً على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح، لأنّه فتح عينيه على الإسلام، ولم يعرف قطّ عبادة الأصنام، فهو قد تربّى في البيت الّذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة، وعرف العبادة من صلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزوجته الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه واُمّه[٢٣].
علّي (عليه السلام) أوّل من صلّى :
عاش الإمام عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّ متغيّرات حياة الرسول الأعظم، فكان يرى في محمّد المثل الكامل الّذي يُشبع تطلعاته وعبقرياته، فكان يحاكيه في أفعاله ويرصده في حركاته ويقتدي به ويطيعه في كلّ أوامره ونواهيه قبل البعثة النبويّة الشريفة وحتى آخر لحظة من عمر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كما أجمع المؤرّخون على أنّه لم يردّ على رسول الله كلمة قطّ.
وقد صرّح الإمام (عليه السلام) بأنّه أوّل من صلى بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلاً:
«لم يسبقني إلاّ رسول الله بالصلاة».[٢٤]
كما روي عن حبّة العرني أنّه قال: رأيت عليّاً (عليه السلام) يوماً ضحك ضحكاً لم أره ضحك ضحكاً أشدّ منه حتى أبدى ناجذه، ثمّ قال: «اللّهم لا أعرف أنّ عبداً من هذه الاُمّة عبدك قبلي غير نبيّها(صلى الله عليه وآله)»[٢٥].
وجاء في تفسير قوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين)[٢٦] عن ابن عباس: أنّها نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ بن أبي طالب وهما أول من صلّى وركع[٢٧].
كما جاء عن أنس بن مالك: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صلّت الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبعاً، وذلك أنّه لم يرفع إلى السماء شهادة لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله إلاّ منّي ومنه»[٢٨].
أوّل صلاة جماعة في الإسلام :
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل بدء أمره إذا أراد الصلاة خرج إلى شعاب مكّة مستخفياً، وأخرج عليّاً (عليه السلام) معه فيصلّيان ما شاء الله، فإذا قضيا رجعا الى مكانهما، فمكثا يصلّيان على استخفاء من أبي طالب وسائر عمومتهما وقومهما، ثمّ إنّ أبا طالب مرّ عليهما فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): ما هذا الذي أراك تدين به؟
قال (صلى الله عليه وآله): «هذا دين الله وملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم، بعثني الله به نبيّاً إلى العباد، وأنت ياعمّ أحقّ من أبديتُ النصيحة له ودعوتُه إلى الهدى، وأحقّ من أجابني چاليه وأعانني عليه».
وقال عليّ (عليه السلام): «يا أبت، قد آمنت برسول الله (صلى الله عليه وآله) واتّبعته وصلّيت معه لله».
فقال له: يا بُنيّ، أما إنّه لم يدعك إلاّ إلى الخير فالزمه[٢٩].
وهناك موقف آخر لعمّه العباس رواه عفيف الكندي حيث قال:
كنت إمرأً تاجراً فقدمت الحجّ، فأتيت العباس بن عبد المطّلب لأبتاع منه بعض التجارة، فوالله إنّي لعنده بمنى إذ خرج رجل من خِباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّي، ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلّي، ثمّ خرج غلام راهق الحلم من ذلك الخِباء فقام معه يصلّي، فقلت للعبّاس: ما هذا يا عبّاس؟ قال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتى؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي وهو يزعم أنّه نبيّ، ولم يتبعه على أمره إلاّ امرأته وابن عمّه هذا الغلام، وهو يزعم أنّه سيفتح على اُمّته كنوزَ كسرى وقيصر[٣٠].
نعم، بعد أن تشكّلت نواة الاُ مّة الإسلامية المباركة من رسول الله وعليّ وخديجة، وأخذ خبر الدين الجديد يتفشّى في صفوف القرشيين، وطفق الذين هداهم الله للإيمان يتقاطرون على الإسلام، وأخذ عود المسلمين يقوى ويشتدّ أزره، وبعد عدّة سنوات تحوّل الى كيان قويّ وقادر على الإعلان عن نفسه على الجماهير والمواجهة والتحدّي من أجل الدين والعقيدة.. فأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) أن يصدع بما يؤمر، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل ذلك إذا أرادوا الصلاة يذهبون إلى الشعاب فيستخفون، فلما صلّى بعض الصحابة في الشعب اطّلع عليهم نفر من المشركين منهم أبو سفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما، فسبّوهم وعابوهم حتى قاتلوهم[٣١].